Almanara Magazine

قراءة في الدستور والتعددية والحياد

بقلم المحامي الدكتورانطوان ز.صفير

في غمرة التطورات الإقليمية ومع  وصول الأوضاع في لبنان إلى مرحلة الانهيار المالي وتصاعد النقمة بعد انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول 2019 تبرز من جديد طروحات متناقضة تتناول مسألة النظامين الدستوري والسياسي تبغي الوصول إلى تغيير جذري في البنية اللبنانية الممأسسة. وقبل الولوج إلى تلك الطروحات وتبيان فحواها وبعض من غاياتها ، لا بدَّ من التوقف عند مسار لبنان الكبير الذي سيحتفل بذكرى مئوية الأولى، مثقبًا بالتجارب الداخلية والخارجية المريرة ومثقلاً بقضايا تتخطّى مساحته الصغيرة وتتناقض مع دوره الرسالي عبر التواصل بين الأمم في هذه المنطقة الجيوسياسية الحساسة.

  1. مفهوم لبنان الكبيرالتعددي 

إعلان لبنان الكبير العام 1920 لم يشكل حدثًا إعلانيًّا يشرّع حالة دستورية وسياسية بقدر ما كان منعطفًا تاريخيًا توّج نضالًا استمر لعقود وعقود ، وقد دفع اللبنانيون ثمنه مرة ومرات عبر مثابرة لم تكل أدّت إلى استثمار اللحظة التاريخية وتكريس لبنان الكبير كيانًا سياسيًا و قانونيًا في القانون الدولي .

والبطريركية المارونية لم تخترع الكيان القانوني الجديد ، بل ناضلت من أجل لبنان “الطبيعي”، بحيث تشكل السهول الخصيبة عمقًا استراتجيًا له ، بعدما عانى أهل جبل لبنان من الافتقار إلى المواد الأساسية، فحصدت المجاعة ثلث أهل الجبل وحملت ثلثًا آخرعلى الهجرة إلى بلاد بعيدة .

والخيار “البطريركي” لم يكن مطروحًا من قبل الدول الفاعلة وقتذاك ، بشكل حصري بين لبنان الكبير الذي أعلن وبين الإبقاء على جبل لبنان وضمّ مساحات “مسيحية” من الساحل السوري ، بل كان الخيار لا بل الأرجحية خصوصًا بعد محادثات فيصل في باريس، ذاهبة نحو تكريس حكم ذاتي للجبل على أن يكون ضمن سلطة حكومة فيصل في دمشق. ورفض البطريرك الحويك تحويله إلى كيان تابع جاء بعدما عانى أهلنا الأمرّين من الحكم المملوكي ومن ثم العثماني خصوصًا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

وقد تلقفت بكركي التوقيت المؤاتي بعيد انتصار الحلفاء في الحرب الكونية الأولى، وشكّلت حاضنة للمطالبة اللبنانية التاريخية بالاستقلال الناجز والتام دون تبعية من أي نوع. وتجدرالإشارة في هذا السياق، إلى أن الانتداب الذي قررته عصبة الأمم على لبنان ليس احتلالًا بالمعنى التقني ولا استعمارًا بالمعنى القانوني، بل هو من نوع من وصاية دولية على كيان وليد، وقد أولج للدولة الفرنسية الخارجة مع الإنكليز منتصرة في الحرب الكبرى. وهذا الانتداب شكّل تطبيقًا قانونيًا دوليًا للاتفاقات السياسية بين بريطانيا وفرنسا، والتي كانت اتفاقية سايكس- بيكو إحدى تجليتها.

ولبنان الكبير في فلسفة البطريرك الحويك لم يكن مساحة في الجغرافيا السياسية أو نظام حكم من الأنظمة الدستورية ، بل مساحة رسالية تتفاعل فيها الأديان والمذاهب والثفافات في مساحة حرية هي بمثابة الحصن الحصين للحريات من كل نوع. وهذا الحصن هو كيان تعددي بالمعاني السياسية والقانونية والاجتماعية، إذ أنّه لا يمكن لأي مكّون ان يختصر الكيان اللبناني او أن يختزل بقية المكونات ، مهما عظمت قوته واشرأب ساعده وتلقى دعمًا من خارج الحدود القريبة أوالبعيدة .

فمسألة التعددية بالنسبة للبنان ليست واحدة من خصائص بل هي الروح والأساس، وأي كلام عن “انصهار” او”بوتقة” يقع في خانة الضغط الفكري الذي لا طائل منه لأنه يناقض العلم والطبيعة معاً، فالعلم ليس شموليًا والطبيعة تعددية الأوجه والأدوار… 

ولبنان الكبيرهو ضمانة الحريات الدينية والتربوية والاقتصادية،  وهو الذي لا يمكن أن يكون إلا مدنيًّا  ومحايدًا، وإلا سقط في سياسات قاتلة كالتي عشناها وعايشناها منذ نكبة 1948، وأحداث 1958، ونكسة 1967، وانفلاش السلاح الفلسطيني ليشكّل دولة أكبر من الدولة، وصولاً إلى إتفاقية القاهرة 1969 التي كرّست هذا الوجود المسلح وأعطته غطاءً قانونيًا، إلى أحداث 1973، وصولاً الى الحرب اللبنانية بدءًا من 13 نيسان 1975حين سقط الحصن وأصبح مشرعاً دون حدود جغرافية أو معنوية أو قانونية … واهتز مفهوم لبنان الكبير، إذ طمس جزء من تاريخه وهجرت مناطق وهاجر مئات الألوف وحلّت أفواج من المسلحين من كل صوب ، واستوطن لاجئون ونازحون  ومهجرون…

لكن بكركي ظلت أمينة على هذا “اللبنان” إذ ناضلت باستمرار وطالبت باحترام خصوصية الكيان اللبناني ورفعت الصوت كلما اهتزت ثوابت هذا الكيان. وقد عارضت بعض القيادات المسيحية التوجهات البطريركية وفي أكثر من مرحلة من التاريخ الحديث، لأن بكركي لم تكن لتتفاعل مع “اللحظة” وقد أخذ البعض عليها ذلك،  ولكن عندما يتعلق الأمر بالثوابت، فليس أكثر حسما من قرار بكركي، ولا أجرأ من صوتها، ولا أكثر مثابرة منها على حفر الجبل برأس الإبرة حتى يبان فجر آخر. وأمثولات التعددية التي كرسها لبنان الكبير والصيغة اللبنانية تجلت باستياء البطريرك عريضة من كيفية إدارة انتخابات أيار 1947. وقد أعلن معارضته زيادة عدد النواب كما نوت عليه الحكومة سنة 1949 منذ البداية، ورغم الادعاء بأن الموارنة حكموا لبنان بعد الاستقلال، يكشف عما ناضل من أجله البطريرك عريضة لاكتساب الوطن والمواطنية، ومن أجل تعديل قوانين المحاكم الدينية وقضايا التعليم الديني في المدارس الرسمية، كما يلفت الكتاب إلى النضال الوطني الذي قاساه البطاركة المعاصرون في جبه الدعوات الانفصالية التي واجهت نشوء دولة لبنان الكبير في عهد البطريرك الحويك. بعدما انتقد البطريرك المعوشي بقسوة نتائج الانتخابات النيابية العام 1964 والتجاوزات التي رافقتها. ثم أيّد في عهد شارل حلو حلفًا سياسيًا وانتخابيًا جمع 3 زعماء موارنة هم كميل شمعون وبيار الجميّل وريمون إده بينما ناوأ الوجود الفلسطيني المسلح و”اتفاق القاهرة” العام 1969.[1] ولا بد من التذكير أن روحية لبنان الكبير والصيغة اللبنانية قد تجلت في فتح البطريرك صفير صالون بكركي للعزاء بمفتي الجمهورية حسن خالد الذي استشهد في 16 أيار 1989.

  • خصائص دستور 1926 

إستطاع آباء لبنان الكبير إرساء أسس الدولة اللبنانية بالمعنى التقني والمؤسساتي، فأنشئت مؤسسات كرئاسة الجمهورية ، ومجلس النواب، وترّسخ دور القضاء حتى أضحى مضرب الأمثال. وأبرز النتاج كان إقرار الدستور اللبناني سنة 1926، والذي عدّل بشكل واسع بعد سنة ليتلاءم مع المُستجدات المختلفة وقتذاك.

والدستور اللبناني هو مدني بامتياز، إذ لم يجعل مصدر التشريع مستندًا الى أي دين أو مذهب ولم يفاضل بين المكوّنات الوطنية بل ارتكز على قواعد العلم الدستوري الذي كان سائدًا. وقد شكل هذا النص وثبة أكثر من نوعية على صعيد اعتماد دستور متكامل لكيان تعددي بتركيبته، رسالي بفلسفته وميثاقي بنشأته.

والدستور المدني لا يعني أنّه لا يُقر بوجود الطوائف كعائلات روحية وبحقوقها، وينظم بالتالي تفاعلها من خلال المؤسسات الدستوريّة. وفي هذا السياق مكن المشترع رؤساء الطوائف من تقديم طعون أمام المجلس الدستوري في المسائل المتعلقة ب….

أمّا وجود القيد الطائفي المكرّس بموجب العرف الدستوري عبر الصيغة اللبنانية المعتمدة منذ الاستقلال عن الإنتداب الفرنسي، فما هو إلا قيدًا ضامنًا لمدنية الدولة، بحيث أنّ التعددية هي الركن الأساس للطابع المدني للنظام الدستوري، وإن حصل أن أُلغي هذا القيد الطائفي بشكل اعتباطي غير مدروس وغير مقترن بآليات حديثة لنظام حكم فاعل ومنتج ومحافظ على التعددية، وقعنا في المحظور وفي النزاعات، بحيث تكون التعددية قد سقطت والمدنية قد أقضت مضاجعها، وأضحى نظامنا اللبناني الفريد فارغ المحتوى، وغير قادر على تشكيل نموذج تفاعلي حقيقي.

وخصائص الدستور اللبناني تتبلور من خلال الفصل بين السلطات والتعاون فيما بينها في ظل نظام شبه برلماني يحتاج إلى إعادة نظر تقنية تعيد إليه دينامية منتجة ومطلوبة، خصوصًا بعد مرور ثلاثة عقود على إقرار التعديلات الدستورية بعيد اتفاق الطائف.

الجدير ذكره، أنه وأثناء وضع الدستور اللبناني سنة 1926، طالبت البطريركية المارونية بالحياد اللبناني، ونتيجة لذلك طلب المفوض السامي الفرنسي هنري دو جوفانيل من السلطات الفرنسية أن تُرسِل إليه نسخة من الدستور السويسري الذي يقر الحياد بعدما وجده مناسبًا للتركيبة اللبنانية.

الدستور اللبناني، في الفقرة “د” من المقدّمة، يعلن انّ ” الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة، يمارسها عبر المؤسسات الدستورية “. في هذه الفقرة يعلن النوّاب، ما هو صحيح في الأنظمة الديمقراطيّة، “أن الشعب هو السيّد وهو مصدر السلطات”. وعليه، يجب الاعتراف بأن الشعب هو وحده الذي يحدّد ما إذا كان  يريد، في موضوع من الموضوعات، أن يعبّر عن إرادته فيه مباشرة. وإذا ظهر من التحرّكات الشعبيّة التي تنقلها وسائل الإعلام أن ارادة الشعب هي برأي معيّن، فعلى المؤسّسة التي أنشأها الشعب بإرادته (السلطة التشريعيّة أو السلطة التّنفيذية) أن تنصاع لتلك الإرادة. ومن الأفضل أن يصار، بموافقة الشعب، إلى تنظيم شكليّات تعبيره عن إرادته[2].

السيادة في مجال العلاقات الدولية لا تعني على الإطلاق امتناع لبنان عن الالتزام بمعاهدات متوازنة مع أيّة دولة أخرى على التعاون الصادق في شتّى المجالات دون التنازل، طبعاً عن سيادته، بل فقط امتناعه عن التذرّع بها بشكل عابر أو لمدة من الزمن في مجالات معيّنة لا تمسّ جوهر وجوده كدولة (السماح بأن يدخل أجانب إلى ممارسة السلطة الّتنفيذية)[3].  تجدر الإشارة إلى أنّ الموقف اللبناني شبه الجامع حول رفض التوطين هو من العوامل الجامعة بالنسبة إلى لبنان ما بعد الحرب، فضلاً عن أن الموقف الرافض للتوطين بات مسألة دستورية. كما يجدر التذكير أن بكركي رفضت انتخاب رئيس للجمهورية بصوت زائد واحد وأصرت على أن يتم انتخابه بأكثرية الثلثين كي يكون رئيس لأكثرية اللبنانيين وليس رئيس فئة، مهما اختلفت التفسيرات الدستورية  [4].  

  • منطوق الجمهورية والحياد

لم تكن الجمهورية أن تقوم لولا الإرادة المسيحية التي لاقت إرادة إسلامية في إطلاق عجلة الاستقلال عن دولة الانتداب. وهذه مفارقة ، إذ أنّ إعلان استقلال لبنان قد سبق رفع الانتداب عن سوريا، وحتى أنّه وفي العام 1945 أي بعد سنتين من استقلال لبنان، قامت جولات عنف في دمشق مع الجيش الفرنسي. 

وقد قامت الجمهوريّة اللبنانية مُكرّسة بالميثاق الوطني بعدم الولاء للفرنسيين (الغرب) ولا للشرق، مما يعني أن حالة الحياد السياسي قد تكرّست في معركة الاستقلال بين المكونات اللبنانية وهذا ليس بجديد إذ أنّ لبنان الذي قاوم الاحتلال الأسرائيلي والوصاية السورية أكد مرات عدة على أن هذا البلد هو رسالة حرية وحوار شرط رفع اليد غير اللبنانية.

وقد أكدت مذكرة “لبنان والحياد الناشط” التي صدرت عن بكركي في 17 آب 2020 على وجوب مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية وكل اعتداء عبر “تعزيز الدولة اللبنانية لتكون دولة قوية عسكريًا بجيشها ومؤسساتها وقانونها وعدالتها ووحدتها الداخلية وإبداعاتها لكي تضمن أمنها الداخلي من جهة وتدافع عن نفسها بوجه أي اعتداءٍ برّي أو بحري أو جوي يأتيها من العدو الإسرائيلي أو من سواه من جهة أخر. خلاصة القول في هذا المجال “إن لبنان لا يرتجي خيرًا من القوة وهو يرتجي  كل الخير من العدل والقانون الدوليين [5] .

الجدير ذكره أنّ البطريرك أنطون عريضة كان متوجسًا من استقلال لا يحقق الأهداف الوطنية بشكل يحفظ التعددية ، ولكنه دعم الالتزام بالحياد بين الشَّرق والغرب والذي أقره آباء الاستقلال وحكومته. وقد ورد في بروتوكول الاسكندرية سنة 1944 ، وذلك قبيل إنشاء الجامعة العربية، ما يؤكد التمسك بخصوصية وضع لبنان عبر “ضرورة احترام استقلال لبنان وسيادته”، كما أكَّدت الأوراق التحضيرية لميثاق الجامعة على أن ” لبنان هو دولة مساندة، وليس دولة مواجهة”.

وفي هذا تأكيد واضح على أن لبنان هو بلد التواصل بين العرب وليس بلد المحاورالعربية. وظل منطق الحياد أو التحييد أو النأي بالنفس راسخًا في المسار الوطني لفترات طويلة ووثقته بيانات وزارية ومؤتمرات حوارية وخطب رسمية  ومنها “إعلان بعبدا” بتاريخ 11 حزيران 2012 الذي نص على تحييدِ لبنان. وقد أُرسِلَ إلى الأمم المتَّحدة ، وتمَّ توزيعه كوثيقة رسميَّة من وثائق مجلس الأمن والجمعية العامة. وقد دعمه بشكل كامل البطريرك الراعي.

هذا تأكيد على الحياد الإيجابي الذي أشارت اليه مذكرة “لبنان والحياد الناشط” في التمسك “بعدم دخول لبنان قطعيًّا في أحلافٍ ومحاور وصراعات سياسية وحروب، إقليميًّا ودوليًا، وامتناع أي دولة إقليمية أو دولية عن التدخّل في شؤونه أو الهيمنة عليه أو اجتياحه أو احتلاله أو استخدام أراضيه لأغراض عسكرية”.
ولم يفت بكركي التمسك بالدفاع عن القضايا العربية، إذ دعت المذكرة إلى “تعاطف لبنان مع قضايا حقوق الإنسان وحرية الشعوب ولا سيما العربية منها التي تجمع عليها دولها والأمم المتحدة”. وفي هذا تأكيد على استمرار لبنان في الدفاع عن الحق العربي السليب وبالتالي التمسك بحق العودة لأن لبنان الدولة والشعب قد دفع ثمنا باهظا في سبيل هذه الحقوق من كل نوع. وقد أشار البطريرك الراعي في المذكرة في هذا الصدد إلى أنّ “لبنان الحيادي يستلزم أن يصار إلى معالجة الملفات الحدودية مع إسرائيل على أساس خطّ الهدنة وترسيم الحدود مع سورية أيضًا، حيث إن نظام الحياد يؤمن الخروج من حالة النزاعات والحروب والأحداث الداخلية المتتالية”

أول ما يهجس به الرأي العام: هل محكوم على لبنان الذي يتحمّل بمفرده عبء الحرب مع إسرائيل أن يعاني كذلك من تعثر المفاوضات وذيولها، ولماذا؟  بديهي أن الجواب باستفاضة يخرج عن إطار الحلقة، بيد أنه يمكن الملاحظة بأن مجموع من العوامل ، كتكوين لبنان وموقعه، والشرخ بين الدول العربية وغموض سياسة بعضها وشطط منظمة التحرير ومكائد السياسة الإسرائلية وأهدافها المشبوهة ومناورات بعض الدول الكبرى، فضلاً عن مقتضيات الجيوبوليتيك، تفسّر إلى حدّ ما هذه الظاهرة [6].


تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الاحداث التي عصفت بلبنان أكدت بما لا يرقى إليه الشك أن أي مسّ بمنطوق الحياد يعرض الجمهورية ومكوناتها  لخطر داهم .  والأمثلة كثيرة ، وأبرزها المحاولة الناصرية في العام 1958 إلى تحويل لبنان إلى القطر الثالث من الوحدة المصرية – السورية المتجلية في الجمهورية العربية المتحدة. وقد لعب البطريرك المعوشي دورًا بارزًا في إعادة الأمور إلى مجاريها والانطلاق بمشروع الدولة من جديد، رغم أن عواطف المسيحيين كانت تميل إلى الزعيم الرئيس كميل شمعون
ثم عدنا إلى الأزمات مع انفلاش السلاح الفلسطيني الذي هز كيان الدولة، التي من المفترض أن تكون خارج الصراعات ، وهدد وحدتها وعمق الخلاف بين اللبنانيين، مما أدى إلى صراعات دموية عرفنا كيف بدأت ، ولكن لم نعرف حتى تاريخه كيف سننتهي من الحروب المتتالية وبأوجه مختلفة. ومن هذه الحروب الضارية ما وصلنا إليه من إنهيار مالي وافتقار اجتماعي لم يأت بالصدفة او فقط بسبب الفساد المستشري في نفوس الساسة عندنا، بل وبدون أدنى شك بسبب غياب اي أطار دولي سياسي وقانوني يمنع نهب ثروات الدولة والناس، إذ بقي الوضع دون رادع وكأنه مكتوب إو مخطط لنا أن نصل إلى هذا الدرك الخطير!  

وما الانفلاش الفلسطيني المسلح، ودخول الجيش السوري، والاجتياحان الاسرائيليان في العامين 1978 و1982،  والنفوذ الإيراني المتعاظم وحضور دول عديدة بشكل فاعل على الساحة اللبنانية، إلا دليلاً قاطعًا على أن لا خلاص إلاّ بالحياد في السياسة والقانون. ولكن هذا لا يتحقق بشكل طلب تلقائي أو إجرائي إلا بتأمين حد أقصى من التوافق الوطني، والاستحصال على موافقة الدول المحاذية جغرافيًا ومن إقرار دولي واضح ومعلن. وإلاّ يكون الحياد موقفا على القطعة، أي حسب التوقيت العام الإقليمي والدولي، ويكون معرضًا للاهتزاز الدائم، كما حصل عندنا بعد العام 1969 بشكل خاص وحتى تاريخه.  والحياد القانوني يعني ان لبنان أضحى تحت حماية المجموعة الدولية، لأنه يكون قد أصبح تحت طائلة القانون الدولي في كل ما يتعلق بحدوده وحقوقه وكيانه.

ونذكر في هذا السياق قول البطريرك صفيرمرارًا، أننا لن نستطيع المطالبة الحاسمة بجلاء الجيش السوري إلاّ بعد خروج الاحتلال الإسرائيلي. وفي هذا السياق ناشد قادة الدول من أجل الضغط على إسرائيل للإنسحاب من لبنان “لكي ندعو بعدها إلى جلاء القوات السورية”.  ومن هنا أتى نداء المطارنة في 20 أيلول   2000، والذي وضعه البعض في خانة الرد على نتائج الانتخابات النيابية ، بينما هو أبعد من ذلك، إذ أنه شكل موقفًا استراتيجيًا مميزًا.

فبعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي في 25 أيار 2000 ، لم يعد من عائق أمام المثابرة على المطالبة بانسحاب الجيش السوري المرابض على جزء كبير من الأراضي اللبنانية وبات مسيطرًا بالتالي على القرار الوطني والاقتصادي.. وفي وقت كانت القيادات المسيحية تتخبط في فراغها وانقساماتها، حرص البطريرك صفير، رغم كل الظروف الضاغطة، على تأكيد مواقف بكركي من مجمل القضايا الوطنية ولا سيما قانون الانتخاب.

خلاصة : شطط وتصويب 

في قراءة للعقود العشرة الماضية، يرسو المشهد على الآتي: “في الممارسة السياسية، هناك شطط أحيانًا لدى رئاسة الجمهورية. وكان البطاركة الموارنة ، منذ لبنان الكبير حتى اليوم، يطلبون تصويب بعض المسارات في الدولة، ليس على مستوى اداء الرئاسة فحسب، إنما أيضًا على مستوى أداء المؤسسات الدستورية”، يشرح صفير. ببساطة، البطريرك هو ” ضمير كل لبنان، وعليه أن يقول كلمة الحق في وجه أي كان. وهذا ما مارسه البطاركة الموارنة، كل على طريقته وشخصيته، أيضًا وفقًا للظروف”.


عهود بطريركية… وتناقلت بأمانة، هذا تمايز بكركي في مواقفها، وصولاً إلى البطريرك الـ77 مار بشارة بطرس الراعي [7].    

مواقف بكركي  لم تكن حيادية ولا متفرجة عندما يكون مصير لبنان في كفة الميزان، إذ لا حياد بين الخير والشر، ولا بين الحق والباطل، ولا بين الاستقلال والتبعية، ولا بين السيادة والاستبداد، ولا بين الحرية والعبودية. لذلك كان للبطاركة الموارنة مواقف واضحة وصريحة لا بل جريئة في زمن العثمانيين، وفي زمن الانتداب وفي زمن الوصاية. فكانت لهم مواقف من استقلال لبنان عام 1943 ومن جلاء الجيوش الاجنبية عن أرضه ومن العلاقات مع سوريا عندما فرضت القطيعة على لبنان بقصد تجويع شعبه ومن اعلان لبنان الكبير عام 1920، ومن انضمام لبنان إلى جامعة الدول العربية، فاشترطوا أن تتخذ القرارات الملزمة بالإجماع، ومن انتخابات 25 أيار عام 1947 المزورة ، ومن التجديد للرئيس بشارة الخوري، ومن حلف بغداد، ومن “المد الناصري” عندما بدا أنه يهدد لبنان بوجوده وكيانه وقد يذيبه في كيانات دول أخرى، ومن تدخل السلطة المكشوف في الانتخابات، وهي مواقف اتخذت لمصلحة لبنان وليس انحيازًا لأي فريق[8].

وكان لبكركي موقف من الوجود الفلسطيني المسلح، ومن الحروب الداخلية، ومن اتفاق القاهرة، ومن اتفاق الطائف وتحملت في كل هذه المواقف مسؤولية اتخاذها بضمير مرتاح. وكان لها موقف صريح ومعلن من انتخابات 1992 كونها جرت على أساس قانون غير عادل وغير متوازن ومخالف لاتفاق الطائف ، فكانت مقاطعة الناخبين الواسعة لتلك الانتخابات بحيث فاز فيها نواب بـ135 وبـ45 صوتًا… ورغم ذلك لم يعتبر المجلس النيابي المنبثق منها مجلسًا غير شرعي…ووقفت بكركي بجرأة وعناد ضد بقاء القوات السورية في لبنان خلافاً لما نص عليه اتفاق الطائف، ودعت الى تنفيذ القرار 1701 تنفيذًا دقيقًا كاملاً لأن تنفيذه هو السبيل الوحيد إلى قيام الدولة القوية القادرة وقيام جيش وطني لا سلاح إلا سلاحه ولا قوة غير قوته ولا حماية للوطن والذود عن حياضه الا به وبدعم من كل الشعب. ويقول قريبون من بكركي أن لا حياد عندما تتهدد الاخطار لبنان بكيانه ووجوده وهويته ونظامه[9].

أسئلة لا بد منها !

في غمرة الزمن الرديء الذي يعيشه لبنان، تطرح علامات استفهام مصيرية حول المستقبل، وهل أن نظامنا الحالي الذي اضحى متعباً يمكنه ان يشكل مع الوقت حاضنة سياسية ودستورية ومجتمعية لوطن جديد يحلم به الجيل الجديد،  بعدما قضت الحروب والنزاعات على ثلاثة أجيال؟.

منذ ما بعد لبنان الكبير؟

بالتأكيد أن نصوصنا الدستورية تحتاج إلى إعادة قراءة بغية تحديث الآليات الدستورية، وأصول التوازن بين السلطات القائمة دستوريًّا، ومن هذا الباب يمكن الاستنتاج أن النظام القائم بحاجة إلى تقييم فعلي لكي تحدد الخيارات علنا نرسو على جمهورية نحلم بها ومن أجلها استشهد من استشهد وشهد من شهد.


[1] هالة حمصي ، النهار16-11-2017.

[2] ادمون نعيم، كلمات وأمثلة من السيادة، اعمال المؤتمر الوطني 12-12- 1996، الحركة الثقافية- انطلياس.

[3] المرجع السابق.

[4]  إميل خوري، السلطة الرابعة، 12 شباط 2009.

[5] حميد فرنجية ، الجريدة الرسمية ، جلسة مجلس النوّاب ، 4 ايلول 1945.

[6] فؤاد بطرس، استقلال الدولة اللبنانية ومفاوضات السلام المحتمل ، 1999 الحركة الثقافية-انطلياس

[7] انطوان صفير في حديث الى النهار-16-11-2017 .

[8] اميل خوري ،السلطة الرابعة ،12 شباط 2009.

[9] المرجع السابق

Scroll to Top