الأب يونان عبيد م.ل.
كثير من الناس في أيامنا، لديهم شعور عميق بكرامة الإنسان وحقوقه وحريته. وهذا ينعكس على رغبته في تحديد مصيره بنفسه وفي توقه الى الحرية، وفي المطالبة بالعدل والسلام وصيانة الخليقة. ومن بين الفلسفات المتعددة، والآراء المتشبعة، والأديان المختلفة، نكتشف ان المؤمنين المسيحيين، يشهدون في إيمانهم ويستشهدون.
ان السؤال عن كيان الانسان وأصله وغايته، يجد جوابه الأخير عند الله، بأنه هو الذي خلقه، وهو الذي يخلّصه بيسوع المسيح، ويحرّره ويمنحه موعد الملء النهائي في مجد السماء. وما الحرية بكل بساطة سوى اتّباع يسوع وسماع ندائه في انه هو الحق والحياة والحرية. إذًا نحن مدعوون الى حرية يسوع الحقيقية، على الرغم من ان العالم يعرض لنا صورة فوضوية غير مفهومة عن الحرية. بينما حرية يسوع هي حرية الحب والفرح والخير والمسؤولية والرحمة، مفتاحها عيش الانجيل: المربي البارع للحرية.
ميزات حريّة يسوع
كانت حريّة يسوع، متجذّرة في علاقته مع أبيه، وفي مهمّته التي سلّمه إيّاها لفداء البشرية. وقد عبّر عن ذلك بوضوح في صلاته: ” لتكن مشيئتك”، وفي قوله: “طعامي ان أعمل إرادة من أرسلني”. إنّ حريّة يسوع ليست في إطار “تثبيت الذات”، إنّها أعمق بكثير، لأنّها من ضمن كينونته بأنه إنسان “حرّ”. لكنّه خارج إطار العلاقة مع أبيه، فهو حرّ ومستقلّ في بقيّة الأمور، خاصة وأنّ الحريّة، كانت ولا تزال من القيم الأكثر أهميّة في حياة البشرية، وهي التي تعطي قيمة لوجود الانسان المؤمن والملتزم.
برزت حريّة يسوع في الحالات التالية:
- تجاه عائلته:
كان ليسوع عائلتان: الأولى: الهية، أي إنه مولود من الآب، قبل كل الدهور، والثانية: بشريه، مولود من أمه مريم. هذا يعني أن يسوع في السماء، مولود من أب دون أم، وعلى الأرض، مولود من أمّ دون أب. وفي كلتا الحالتين، وضع يسوع رسالته، ودعوة أبيه السماوي له، فوق كل اعتبار. كذلك، كان في حياته مع مريم ويوسف “خاضعًا” لهما. وحفظت أمّه هذا كلّه في قلبها”(لو2: 51 – 52). ممّا يدلّ على أن هذا الابن، كان انسانًا حقًا ينمو في القامة والحكمة والنعمة أمام الله والناس. وعلى الرغم من طاعته لوالديه، كان يتفرّد أحيانًا بقراراته، وأبرزها، عندما فقداه في الهيكل، ثمّ وجداه بعد ثلاثة أيام. فقال لهما معاتبًا: “لماذا بحثتما عني؟ أما تعرفان أنه يجب أن أكون لأبي؟” (لو2: 50). هذا العتاب ينمّ عن وضع “مسافة” بينه وبين والديه. هذه المسافة طالت تلاميذه الذين لم يفهموا سرّه بسهولة. وفي عرس قانا الجليل، نرى يسوع يثبّت هذه الاستقلالية بقوله لمريم أمه:”مالي ولكِ يا امرأة، ما جاءت ساعتي بعد”(يو 2: 4). هذه العبارة تدلّ على تباعد في وجهات النظر. فيسوع لا ينظر فقط الى حاجة بسيطة في عرس، بل الى ساعته، ساعة الآلام والموت والقيامة، التي تتمّ بالنظر الى إرادة ابيه السماوي. كذلك رأينا يسوع، يكشف في مكان آخر، عن مدى حريته: فقال أمام الجموع وبحضور امّه: “مَن هُم أمّي وأخوتي؟ هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها”(متى 12: 48).
- تجاه تلاميذه
بانت حرية يسوع تجاه تلاميذه، في النقاط التالية:
- في حرية إختيارهم: “وكان يسوع يمشي على شاطىء بحر الجليل، فرأى أخَوين هما سمعان، وأخوه اندراوس يصطادان. فقال لهما:” إتبعاني فتركا الشباك وتبعاه”. ثم رأى اخوين آخرين هما يعقوب بن زبدى واخوه يوحنا، يصلحان شباكهما. فدعاهما… فتركا القارب وتبعاه… (متى 4: 18 – 22). هكذا سمع الأربعة النداء، فتركوا بحريتهم كلَّ شيء وتبعوا يسوع. وفي وقت لاحق رأى عشارًا اسمه”متى”. فقال له: “إتبعني فقام وتبعه”(9: 9). وبحسب انجيل يوحنا، نرى يسوع، يدعو فيليبس من بيت صيدا، ثم لقي فيليبس نتنائيل، وكلاهما تبعا يسوع (يو 1: 43 – 51).
أما الانجيلي مرقس، فقد أعلمنا ان المسيح” صعد الى الجبل ودعا الذين أرادهم فحضروا إليه. فأقام منهم إثني عشر، سمّاهم رسلًا يرافقونه”(3: 13). هؤلاء الرسل، اختارهم يسوع بملء حريته من بين سائر الناس. بينهم الصّياد والعشار والفريسي والمحازب… وتركوا كلّ شيء: هذا شباكه، وذاك جبايته، والآخر جماعته، ليكونوا معه، رفاق دربه الأخصّاء.
- في حرية إختبارهم:
“سأل يسوع تلاميذه: مَن هو ابن الانسان في رأي الناس؟ فاجابوا: بعضهم يقول:”المعمدان، وبعضهم يقول إيليا أو إرميا أو أحد الأنبياء. وأضاف: ومن أنا في رأيكم أنتم؟”(متى 16:16).
يبدو من هذا الحوار ان يسوع أراد إختبارهم،فأختبأوا خلف ما يقوله الناس، وما أرادوا أن يأخذوا موقفًا. مع العلم أن يسوع يريدهم ألّا يتهرّبوا. وحده بطرس أعطى الجواب، لا بقوّة ادراكه، إنما بوحي إلهي، ولم يفهمه إلّا على ضؤ القيامة. من جهة ثانية كان يسوع يتحمّل اخطاءهم ويصلحها. عندما ضرب بطرس خادم رئيس الكهنة وقطع أذنه، قال له يسوع:”كفى لا تزيدوا”. ولمس اذن الرجل فشفاها(لو51:22). هذا يعني أن روح العنف ما زالت عند التلاميذ. لكنَّ يسوع منعهم منه، وشفى ذلك العبد، لأنه جاء ليحرّر المرضى من وجعهم.
مَثل آخر رواه الانجيلي لوقا: “ووقع بينهم جدال في مَن يكون أكبرهم، فقال لهم يسوع:” ليكن فيكم الأكبر كالأصغر، والرئيس كالخادم”(لو 27:22). نتعلّم من جواب المسيح هذا، أن على تلميذه، أن يكون مثله، مستعدًا لأن يبذل نفسه في خدمة غيره من دون أن يطلب شيئًا لنفسه. لأن شعار المسيح هو التالي: “وأنا أضع نفسي عن الخراف”(يو11:10).
وإذا أعطى يسوع تعليمه فلكي يحرّر تلاميذه من منطق المسيح الظافر عسكريًا، ويؤكد لهم بأنه هو الخادم. و”من له أذنان فليسمع” (متّى 11: 15)، أي من كانت له أذنان داخليتان قادرتان على سماع الأمور الروحية وإدراكها والعمل بها.
- في حرية التمييز: التلاميذ الإثنا عشر، الأقربون إليه، اختارهم يسوع بحرية بعد ليل قضاه في الصلاة لله، وسمّاهم رسلًا(لو12:6-13).هو الذي أعطى بعضًا أن يكونوا رسًلا، وبعضًا أنبياء، وبعضًا مبشرّين، وبعضًا رعاة، وبعضًا معلمين. لكن بعد ثلاث سنوات من التلمذة ليسوع المعلم والمربّي،ومستندًا على الأمانة والكفاءة والجهوزية والثبات،نراه يسَلّم بطرس رئاسة الكنيسة:”أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي وسأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات…”(متى18:16-19). بهذا التكليف حمّل يسوع المسؤوليه الى بطرس. بينما على الصليب، نرى يسوع يطلب من يوحنا الذي كان يحبه، أن يأخذ أمّه الى بيته: “هذه أمّك” (يو 19: 27). فصارت أمّ الكنيسة، التي هي جسد المسيح.
- في حريته تجاه أخطائهم، نذكر منها:
- نكران بطرس: قال له يسوع:”قبل ان يصيح الديك اليوم، تنكرني ثلاث مرّات” (لو 22: 61). يسوع يشهد للحق، وبطرس ينكر يسوع الذي هو الحق.
- خيانة يوضاس: بعد أن ناول يسوع اللقمة لسمعان الاسخريوطي، قال له: “إعمل ما أنت تعمله ولا تبطىء”(يو 13: 27). إن الشيطان هو الذي ألهَمَ يهوذا، فتصرّف بحرية تامة بعد أن سقط في التجربة. كان الرب يسوع عالمًا بالضبط بما سيحدث من يهوذا ومن بطرس. لكنّه لم يغيّر الموقف، كما لم يكفّ عن أن يحبهما. أما يهوذا فلم يقدر أن يدرك هذا فانتهت حياته بصورة مأساوية مفجعة. بينما أدرك بطرس ذلك. وبرغم تقصيراته، انتهت حياته بصورة رائعة، لأنه لم يتزعزع عن إيمانه.
- ان صلب المسيح هو حقيقة ساطعة، ناتجة عن فعل حب حرّ: “ما من أحد ينتزع حياتي، بل أنا اضحّي بها راضيًا، فلي القدرة أن أضحّي بها، ولي القدرة أن أستردّها”(يو 10: 18). في هذا التصريح الصريح، يشدّد الانجيلي على حرية يسوع التامة في بذل حياته: هو الذي ذهب الى الموت، ولم يجبره أحد على ذلك، وهو أراد بذلك أن يكشف عن رضاه، ليؤكد على محبته للآب، وبالتالي على محبته للبشر.
- بعد اختيار التلاميذ وإختبارهم وتحمّل أخطائهم، نرى المعلّم يختم رسالته، بتكليف تلاميذه بمتابعة رسالته، التي اصبحت رسالتهم: “إذهبوا وتلمذوا وعمّدوا… وها أنا معكم طوال الأيام الى انقضاء الدهر”(متى 28: 19 – 20).بعد حدث القيامة وتضليل رؤساء اليهود، يأتي هذا الظهور كخاتمة للإنجيل وبداية لإنجيل حياة جديدة. فيسوع هو محور الحدث، وهو سيّد العالم الكلّي القدرة. إنه مفتاح معرفة العالم الإلهي، ومبدأ الكنيسة وأساسها. وكما كان الرب مع الآباء الأولين، كان يسوع مع الرسل. وما قيل عنه في اشعيا، بأنه” العمانوئيل”، صار الآن حقيقة لا في وقت محدّد، بل حتى انقضاء العالم.
- تجاه الشريعة والأخلاق والمؤسسات
لم يسْعَ يسوع، لزعزعة التقاليد الموروثة، ولا إلى إزالة شريعة الوصايا، ولا لإعلان الثورة على الأخلاق، لكنّه في نفس الوقت، تبنّى موقفًا حرًا بقوة، من كلّ هذه الأمور. هذه بعض الأمثلة:
تجاه الشريعة: كيهودي صالح، كان يسوع يشارك في الصلوات، وفي مسيرات الحجّ، “إذ كان يدخل المجمع يوم السبت كعادته، وقام ليقرأ” (لو 4: 16). جعل يسوع من هذا النصّ الذي لم يختَره، ينبوع تعاليمه وعمله الخلاصي. وكل هذا بفعل الروح الذي حلّ عليه في العماد. قال للشاب الغنيّ: “إذا أردت أنّ تدخل الحياة، فاعمل الوصايا (متى 19: 17). والحياة هنا تعني ثلاثة أمور: الحياة الأبدية، الدخول الى ملكوت السماوات، والخلاص. وكان يسوع يحترم ما يقوله الكتبة والفريسييون. فقال لتلاميذه : “إفعلوا كلّ ما يقولونه لكم، واعملوا به” (متى 23: 3) وقال للأبرص أنّ يذهب إلى الكاهن، حسبما تأمر الشريعة (متى 8: 4). وعلى الرغم من كل ذلك، فإنّه أخذ له “هامش حريّة”، خوّلته أنّ يتنصّل من بعض الأمور التي تعرقل رسالته التحريريّة، ومنها:
- مفهوم يوم السبت: بالنسبة إلى اليهود إنه يوم راحة تامّة وصلاة، يبدأ مع غروب شمس الجمعة، وينتهي مع غروب شمس السبت. ويُعتبر من أهمّ محاور الشريعة، ويجب المحافظة عليه بدقّة. تجاه هذا التشدّد، نرى يسوع يتنصّل ويعمل بحريّة. فترك لتلاميذه حرية الحركة والتصرف: “فأخذوا يقطفون سنابل الحقل وهم سائرون. وإزاء إعتراض الفريسيين، قال لهم :” الله جَعَل السبت للإنسان، وما جعل الإنسان للسبت، فإبن الإنسان هو سيّد السبت أيضًا (مر 2: 23 – 28). هو يسوع نفسه، يؤكد حريته وسلطته، على نظام ديني هو السبت. وهكذا صار فوق الشريعة، لأنّه ابن الله. وبذات الوقت، سقط تفسير الهيرودوسيين وما فيه من حكم على المؤمنين الضعفاء. وللوقت خرج الفريسيون وتشاوروا مع الهيرودوسيين ليقتلوا يسوع، الذي حوّل السبت إلى يوم يُصنع فيه الخير. فيسوع، يملك حريته، فجاء لخير الانسان وعمل الإحسان له، من خلال: إشباع الجياع، شفاء المرضى، وتحرير المسكونين بالأرواح الشريرة.
إذًا، إن موقف يسوع تجاه السبت، يعبّر عن قناعته الحرّة، لأنّ هدفه الأول والأخير، هو تحرير الإنسان، وخير الإنسان، وفرح الإنسان وإنضاج الإنسان. بهذه الطريقة، أعطى يسوع للخلاص، وجهة نظر حقيقيّة تُترجم بحب الله وحبّ إخوته. وقد رفض أنّ يحكم على الظواهر، لأنّ “الإنسان ينظر إلى الوجه، بينما الله ينظر الى القلب” (1صمو 16: 7). واستنادًا إلى هذا الكلام، استقبل يسوع بكل رضى، الفقراء والخطأة، والغرباء. ففي كل واحد من هؤلاء المهمشين إجتماعيًّا ودينيًّا، كان يسوع ينظر إليهم ويحررهم من ظلم الشريعة. يقول “Noël colombier”: “غالبًا ما نبني حيطانًا بواسطة الكلمات، بينماالمطلوب أن نبني جسورًا”. ولأنّ يسوع كان إنسانًا حُرًا، فإنّه لم يترك نفسه “يُسجن”، بسلالة، أو بحزب، أو بذرية. ففي تصرفاته المنفتحة المرتكزة على تحرير الإنسان من قيود الشريعة المتزمتة، “خربط” يسوع كل الشكليات، وهدم الحدود والحيطان، والأحكام المسبقة. كل ذلك لأنه إنسان حرّ، ولا يقبل بشريعة، سوى شريعة الحبّ. وهذا يعني أن من يعيش هذا المبدأ، فهو ليس بحاجة إلى شريعة.
في هذا الإطار، يمكننا القول، بأن يسوع هو رجل “ثورة”، ترتكز ثورته على ثلاثة عناوين، هي:
الحبّ، الذي يجعلنا نَعبر من الشكليات إلى العمق بواسطة التوبة والإرتداد.
الحقيقة، تقوم على الإيمانبالمسيح، إيمانًا صحيحًا مؤسسًا على تعريف يسوع بنفسه: أنا الحق.
والحياة، لأنّ الإيمان الحقيقي، يمنح المؤمن، إمتيازات مباركة، تخوّلنا أنّ نقول مع بولس: “حياتي هي المسيح” (فيل 21:1)، لأنّ الهدف من وجودنا كمسيحيين، لا يتحقق بمعزل عن الحياة مع المسيح، الذي وظّف كل قدراته، وكل سلطانه، وكل حبّه في خدمة الله وإخوته البشر. فهو يؤمن أنّ الحبّ وحده، هو ينبوع السعادة، والقادر أنّ يحوّل عادات مجتمع مبني على الإلغاء والعنف والأنانيّة، مع العلم أنّه تحمّل الكثير الكثير، من الرذل والشجب كي يقدر الإنسان أنّ يعيش كما يريده الربّ، حرًا، سيّدًا، متحدًا بربه وبإخوته. ولكون يسوع، عاش حرًا، بالنسبة إلى العادات والشرائع، فإنّه عانى الكثير، لأنه بات يشكّل خطرًا على السلطات الدينية والزمنية. وكان الثمن الباهظ، موته على الصليب. والسبب يعود إلى أن يسوع هو إنسان حرّ، يريد أنّ يحرّر.
على الرغم من المحافظة على الناموس القديم، أراد يسوع، من جهة ثانية أن يعمل على بعض التعديلات. وما الموعظة على الجبل إلاّ تذكير للناموس وإحياء للعهد القديم مع الإضافات والشروح التي أعطاها يسوع، كلّما قال: “قيل لكم… أما أنا فأقول…”، فهو سمح لنفسه بأن يشرح الناموس أو بأن يزيد عليه، اذ هو المشرّع وواضع الناموس، وأكّد أن الناموس وُضع من أجل خدمة الانسان وصالحه (مر 2: 23 – 27). وإذا رتّب الله السبت ليكون يومًا للراحة والعبادة، لكنّه لم يمنع من مساعدة الآخرين، وبالتالي لا يريد أن يكون السبت وقتًا للاهتمامات الأنانية.
من ناحية الأخلاق: ما أراد أن يفعله المسيح في الموعظة على الجبل، هو إعادة القيمة للقانون وليس الإزدراء به. وقصد أيضًا الارتقاء بتلاميذه الى مستوى الصفح الشخصي وعدم الانتقام والتسليم للعدالة. أخيرًا، في الموعظة على الجبل، علّم يسوع أن يكون المؤمن حسّاسًا عند ارتكابه خطأ ما بحق غيره، ويعاجل في الاعتراف بخطئه والاعتذار عنه والتصالح مع أخيه، قبل أن تتطوّر الأمور.
أما من ناحية المؤسسات، فإن يسوع احترم الجهاز القضائي القائم. فنراه عند شفائه الأبرص، لم يُعطه شهادة براءة، بل أوصاه بأن يذهب الى الهيكل ليحصل على هذه الشهادة من الكاهن المفوّض بحسب ما أوصى موسى لإعطاء شهادات البراءة الصحية (لو 5: 14). كما أنّ يسوع يرفض أن يحكم في موضوع إرث عائلي (لو 12: 13 – 14)، كما نراه يعلّم الناس انه من الأفضل لهم تسوية مشاكلهم فيما بينهم، قبل أن تتطوّر الأمور فتقودهم الى المحاكم (متّى 5: 25 – 26). وما علينا معرفته هو ان المسيح، على الرغم من حريته المطلقة، كان يحترم القضاء القائم، ويؤمن بفصل الدين عن الدولة (متّى 22: 21).
- تجاه السلطة الدينية
في هذه النقطة، نكتفي بذكر موقف يسوع من المرأة الزانية بحضور رجال الدين (يو 8: 1 – 11). ” وفيما كان يسوع في الهيكل، يحضر فجأة رؤساء الكهنة ويأتونه بامرأة زانية، استخدمها رجال الدين لاصطياد يسوع. إزاء هذا “المأزق”، كان على يسوع أن يحزم أمره لينقذ نفسه وينقذ الضحيّة. في هذه اللحظة المصيرية المربكة، نرى المعلمّ بكل هدوء وثقة وحرية، يقول لرجال الدين: “من منكم بلا خطيئة فليرمها بأول حجر”. هذا الحكم الصائب النابع من سلطانه، كان كافيًا ليتفرّق رجال الدين والذين معهم. وهكذا يكون يسوع قد أفهم الجميع بأن الانسان يأتي بعد الله. فالانسان ليس مجموعة قوانين وشرائع وعادات، بل هو حياة تنمو يومًا بعد يوم، تؤثّر وتتأثّر. وفي نهاية اللقاء قال يسوع للمرأة: “اذهبي ولا تخطئي بعد الآن”. في هذه العبارة، ان الله لا يريد موت الخاطىء، بل ان يعود اليه ويحيا. بعد أن حارب يسوع الشرّ في الذين استعبدهم الشرّ، اهتمّ بتحرير الذين اعتبرهم المجتمع الديني خطأة. فحاول أن يدرك بنظر الله المُحبّ، الحقيقة العميقة لدى كلّ إنسان ويدعوه الى التوبة، ومنها الى حريّة أبناء الله.
- تجاه المرأة:
إنّ تصرّف يسوع تجاه المرأة كان إلى حدّ ما مذهلاً، لا بل صادمًا، حسب عقلية ذلك العصر. فقد انتقد ورفض كلّ موقف الغائي تجاه المرأة، وإليكم بعض الأمثلة:
- بحريته المعتادة، أخذ يسوع المبادرة، وتحدّث إلى السامرية (يو 4: 1 – 42)، متخطيًا الحدود الإجتماعية والدينيّة التي تشكل حاجزًا بين الناس. وقد توصل أنّ ينقلها من مستوى مادي ورفعها إلى مستوى روحيّ عندئذ اكتشفت فيه انه النبيّ ثم المسيح. انه رجل الله، السيّد والحرّ. له نظرة خاصة تجاه الأشخاص. يعرف ما في قلبهم. وفي نهاية الحوار، تركت جرّتها فارغة لكن قلبها كان “ملآنًا” بحب يسوع. وفي النهاية جعل منها رسولة.
- لقد خفّف الآلام الجسديّة والأخلاقيّة للنساء اللواتي الَتقَين به : حماة بطرس (مر 1 : 29- 31): أرملة نائين (لو 7: 11- 17) ، المرأة النازفة (مر 5: 25). كلّ ذلك، لأن نشاط يسوع يقوم على حمل الكلمة، تخفيف الألم، وتحرير الانسان. تلك هي علامات ملكوت الله الذي جاء يدشنه.
- استشهد ببعض النساء: المرأة التي فقدت درهمًا (لو 15: 8 – 10) والعذارى الحكيمات (متى 25: 1- 13). ان هذا المثل، يدلّ على الاستعداد الشخصي في عمل يومي، يجعل المصابيح مليئة بالزيت. من أضاع هذه اللحظة الحاسمة، سمع كلامًا قاسيًا: “لا أعرفكن”. فالمهمّ ان نبني بيوتنا على الصخر وليس على الرمل، فإن وُجد الزيت، كانت حياتنا نورًا للعالم.
- أثنى على إيمان بعض النسوة وثقتهن (يو 12: 11 – 8)، وبخاصة المرأة التي سكبت الطيب. لهذا أعلن يسوع الوجهة النبويّة لما فعلته هذه المرأة له قبل أن يموت. لأنّ ما فعلته يدل على تواضعها تجاه يسوع ومحبتها له.
- أما الأكثر تعجبًا، عند يسوع، هو قبول بعض التلميذات الرسولات في عداد فريقه الرسولي وهنَّ: المجدليّة، وحنّة، إمرأة خوزي، وكيل هيرودس، وسوسنّة وغيرهن كثيرات ممّن كن يساعدنهم بأموالهن ( لو8: 2- 3). رأينا المجدلية عند الصليب، وفي دفن يسوع، وعند القبر المفتوح، وستكون لاحقًا أوّل من يرى القائم من الموت. حنّة هي امرأة شريفة بسبب وظيفة زوجها. أما سوسنّه فلا نعرف عنها شيئًا. سوف نرى عمل مثل هذه النسوة في أعمال الرسل، وفي رسائل بولس. في كل الأحوال، يكفي المرأة شرفًا، ان يسوع بملء إرادته أتى من عذراء اسمها مريم، “الممتلئة نعمة”.
- تجاه السلطة السياسية
عارض يسوع السلطة السياسيّة وحاول أن يذهب الى أبعد من ذلك، لأن مملكته، موجودة في قلب الكائن البشري، أي في قلب العالم. وإذا قال يسوع: “إن مملكتي ليست من هذا العالم” (يو 18: 36)، فهذا يشير الى أن ملك يسوع يتميّز عن ملك البشر، وإلاّ لكان استعمل العنف مثلهم. ولكنّه يحقّق ملكه، حين يشهد للحقّ مهما كلّفته هذه الشهادة. نلاحظ هنا أن لفظة “ملك” ترد سبع مرّات (رقم الكمال)، فتدلّ على كمال المُلك في مملكة المسيح. إذًا إن حرية يسوع هي من نوع آخر، لأنها تذهب الى قلب الوجود وتلمس أعماق الإنسان. فيسوع، لم يكتفِ بإظهار حريّته السياديّة، بل فَتَح طريق الحريّة لكل إنسان يريد الخلاص، وكأن الحرية صارت مرادفًا “للخلاص” “وإذا حرّركم الإبن، صرتم أحرارًا حقًا” (يو 8: 36). وهنا الفرق بين العبد وبين الابن. الابن هو في البيت، أما العبد فتفصله الخطيئة عن الله. الابن هو يسوع المسيح. وهو وحده يملك ملء الحريّة ويريد للمؤمنين أن يقاسموه هذه الحريّة.
- تجاه الألقاب الزمنيّة
نرى يسوع يرفض الألقاب الزمنيّة: فعلى أثر أعجوبة تكثير الخبز، يقول يوحنا: “لما رأى الناس هذه الأعجوبة، قالوا: “في الحقيقة هذا هو النبي الآتي الى العالم”. وعندما عرف يسوع أنهم يستعدّون لاختطافه، وجعلِه ملكًا، ابتعد عنهم ورجع وحده الى الجبل” (يو 6: 14-16). أفلت يسوع من حماس الناس وانتظارهِم لمسيح مظفّر، يرسله الله ليؤمّن التحرير الوطني لاسرائيل. عندئذ تمّت القطيعة بينه وبين أصحاب النظريات الشعبية حول مسيحانية زمنيّة. إذًا نستنتج من هذه الرواية، أن يسوع هو انسان حرّ، ويرفض أن يكون ملكًا زمنيًا، كما أراد الكثيرون. كذلك نجد نفس المنهجية، في رفض يسوع للتجربة الثالثة في البرية، من قِبَل إبليس الذي عرض عليه، “جميع ممالك الدنيا ومجدها” شرط السجود له، لأن السجود يدلّ على خضوع تام، له نتائجه الملموسة والمباشرة في حياة المؤمن. ولكن السجود الحقيقي لا يليق إلاّ بالله. فيسوع لا يريد عبادة الأصنام، كما فعل شعبه، لأنها في النهاية سجود للشياطين عندئذ، “تركه الشيطان وجاءت الملائكة تخدمه” (متى 4: 8). وهكذا يكون يسوع، قد رفض بملء حريّته إغراءات إبليس، ولم يشأ أن يستغلّ بنوّته الإلهيّة، من أجل مآرب شخصية.
أخيرًا، كان يسوع حُرًّا في مشاعره الإنسانية. لقد كان إنسانًا حقيقيًّا يحسّ بمشاعره كغيره من الناس. فتحنّن على المريض ولمسه وشفاه. وتحنَّن على أرملة نائين ومرتا ومريم، وقيلت فيه أقصر آية في الكتاب المقدّس: “بكى يسوع” (يو 11: 35). وكان يغضب عندما يرى أمورًا مشينة تحدث في بيت الله، فيدخل إليه ويطهّره من الباعة والتجّار، وقد ملأته غيرة مقدّسة لأجله (متّى 21: 12). وفي ليلة العشاء الأخير، عندما فاتح تلاميذه بأن أحدهم سيسلّمه: “اضطرب بالروح” (يو 13: 21)، ورأينا ان خيانة يهوذا أزعجت روحه. وفي بستان الزيتون قال لتلاميذه : “نفسي حزينة جدًا حتى الموت” (مر 14: 33 – 34). أمام كأس الموت، نادى أباه: “يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس” (متّى 26: 39). وهناك على الصليب، صرخ بصوت عظيم قائلاً: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني” (مر 15: 34). كل هذه الشواهد تؤكّد ان المسيح كانت له نفس إنسانية معرّضة لكل الصعوبات التي يتعرّض لها كلّ إنسان. فهو قبلَها كلّها بحريّة وتواضع.
فإن كان ابن الله قد تواضع وأخلى نفسه، وصار بحريّته، في شبه الناس، إلاّ ان الله عاد ورفعه وأعطاه إسمًا فوق كلّ إسم، لكي تجثو له كل ركبة ويعترف به كلّ لسان ربًا لمجد الله الآب” (فيل 2: 6 – 11).
على الصعيد البشري الذي نشهده، هناك بعض المؤمنين الذين يستخدمون الحرية “كعذر” للخطيئة. إن غاية هؤلاء هي جعل الخطيئة مرغوبة ومقبولة، مع التعلّق بها والاستمرار فيها، لتتحوّل عندهم الى عادة متسلطة، وبالأكثر لتتحوّل الى قناعة. عندئذ تُبرّر الخطيئة وتُبرّأ وتُموّه وتُعَطّل. وهذا ما يريده إبليس في مواجهة هذا النمط الخطير في التفكير والعيش،الذي حذّرنا الرسول بولس: “فأنتم يا إخوتي، دعاكم الله لتكونوا أحرارًا، ولكن لا تجعلوا هذه الحرية حجّة لإرضاء شهوات الجسد…” (غلا 5: 13). ويكرّر الرسول بطرس فيقول: “لأن مشيئة الله، هي أن تُسكتوا بأعمالكم الصالحة جهالة الأغبياء. كونوا أحرارًا، ولا تجعلوا من الحرية ستارًا للشرّ” (1بط 15 – 16). فبالرغم من كوننا أحرارًا، لا ينبغي أن نستخدم الحرية كفرصة لمتعة الجسد، أو “ستارًا للشر”. فالإنسان هو عبد للسيّد الذي يطيعه. هل يُعقل أن نكرّر الخطيئة، بينما أعطانا المسيح حياته ليحررنا من عبوديتها؟ يجاوب رسول الأمم: “إن أجرة الموت هي خطيئة، وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح” (رو 6: 23).
استنتاجات روحية
- الحرية: دعوة يسوع
المسيحية حرية كلها. من الحرية تنبع وفي الحرية تصبّ: “أيّها الإخوة إنما دعيتم الى الحرية” (غلا 5: 13)، وأيضًا قال: “لقد حرّرنا المسيح لكي ننعم بهذه الحرية…” (5: 1). ما يعني ان إله يسوع لا يفرض ذاته على مخلوقاته عنوة، بل يعرض حبّه بحرية للناس، لكي يتجاوبوا معه بحرية ويدخلون في وليمته ويحيون. لأنه لا يمكن للحب أن يكون عنوة. فيسوع في إنجيله يتوجه الى إرادة الناس وينتظر منهم جوابًا حرًا على دعوته: “من أراد أن يتبعني… ان شئت أن تدخل الحياة… ان شئت أن تكون كاملاً…”. هكذا يكتمل معنى الحرية في الإنجيل. فالحرية التي يدعونا المسيح إليها، هي أن نتحرّر به من قيودنا، ونتخطى بنوره كل ما يحدّ آفاقنا، ويحول دون تحقيق ملء وجودنا. هذه هي “الحرية الكبرى”، “حرية مجد أبناء الله” (رو 8: 21)، وهذه هي الحرية التي قال عنها يسوع: “تعرفون الحق والحق يحرركم” (يو 8: 32).
ان الحرية التي يدعونا إليها المسيح لا تنفصل عن الحياة، انها الحياة بملئها، لأنها حياة الله بيسوع المسيح. فالله يريدنا ان نحيا على الأرض أولاً، لنتذوّق لاحقًا طعم السماء. من أجل ذلك أتى يسوع “لتكون لنا الحياة بوفرة” (يو 10: 10).
- الحرية: فعل إيمان
ان تدخّل المسيح في حياتنا نحن المؤمنين، إذا أصغينا له، وامتثلنا به يخيّرنا بين أمرَين: العبودية بالانكفاء على الذات، والحرية، بالاتجاه الى الآخر. قال يسوع يومًا: “لا تستطيعون أن تكونوا عبيدًا لله وللمال” (متّى 6: 24). ونحن لا نستطيع أن نحيا فنحسن الحياة، إن كنّا مصرّين على تملّك المال، إذ المال هو الرمز الأكثر انحطاطًا لأسر الإنسان. إن التجارب التي خضع لها المسيح تختصر جميع تجارب الإنسان. وقد فَضَحها المسيح المنتصر وحوّلها الى مسالك للحريّة وللعمل المجاني: “اطمئنوا تمامًا، لقد غلبت العالم” (يو 16: 33). فالإيمان هو الجواب الحرّ عن دعوة الله الذي يقترح علينا ذاته لنتقبّله.
- الحريّة: فعل محبة
في آخر المطاف، يتأكد لنا ان لا غلبة في الحياة إلاّ للمحبة. وما الإيمان إلاّ خطوة أولى. نخطوها في اتجاه الآخر، وباتجاه محبته. وإيمان العذراء هو تغلّب على الخداع الذي قهر حواء. ان الحرية الفضلى التي نسعى إليها، إنما هي حرية البلوغ الى حالة المحبة. فالمحبة هي حالة صحوة للحرية الكامنة فينا. فالمسيح لا يتسلّط علينا بأوامره، بل يدعونا إليه. هو لا يفرض علينا مجموعات سلوكية مُلزمة، إنما هو يجتذبنا إليه، ويقترح علينا أن نصير مثله، فنتّحدّ به بإرادتنا الذاتية الحرّة. ولا شك أن في هذا، أعظم درجة من الحب المجاني. ويهمّنا أن نردّد هنا ان حياتنا بالمسيح هي حياة جديدة نحياها في الحرية والمحبة. والمحبة التي لا تنمو باستمرار، تزول.
- الحرية: فعل رجاء
ان مسيرة الانسان طويلة. ولطول هذه المسافة يعدل الكثيرون عن المواجهة والسير برجاء، لأنهم يُحجمون عن الجهاد بسبب الخوف من ظلمة طريق الحياة، لأنهم يتناسون ان النور لا ينبلج إلاّ في آخر الليل. وحينئذ يستخلصون من خبرتهم ان لا وجود للحرية. ولنسأل: ماذا ينقصهم يا ترى في حالتهم هذه؟ ما ينقصهم، هو الرجاء الذي لا يضعف أمام الأحداث، بل يواجهها ويجرّها وراءه في حركة تحرير تطالها هي أيضًا. ان هذا الإيمان القويّ، القادر على اكتساب الخلق الجديد الحرّ هو الرجاء “الذي لا يُخزى، لأن محبة الله قد أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه” (رو 5: 3 – 5).
- الحرية وربيع الحب
ان إيماننا بالمسيح الحرّ، ينبّهنا على حالة الحرية التي حصلنا عليها عند الخلق. إلاّ ان رجاءنا بالمسيح هو الذي سيقودنا الى تحريرنا الكامل والكلّي. وعمل التحرير هذا، يجرّ كل المخلوقات باتجاه كمال الحب الذي هو يسوع، الذي عرض علينا أن نعمل معه عمله المجانيّ. وبهذا يكون قد أيقظ فينا القدرة على ممارسة الحريّة الكامنة في داخلنا.
- ماذا يعني أن نكون أحرارًا ؟
مما تقدّم وعلى صعيد خبرتنا الإيمانية، الحرية هي حالة فيها نحقّق ذواتنا تحقيقًا كاملاً، من غير إكراه من غيرنا. هي حالة، فيها نعيش عيشًا مجانيًا تلقائيًا وطوعيًا. ونكون أحرارًا، إن حقّقنا ما تهيّأ لنا تحقيقه، وإن كنّا نعمل بمجانية، أو مارسنا المحبة. والمسألة الجوهرية في هذا الشأن هو ان الحرية الكاملة، هي ثمرة ينضجها تحرير ذاتنا. نكون احرارًا في وحدة المصير التي ارتضاها الله والانسان، وتهدف الى غايتَين، هما: إنسان يمارس حرّيته، وذريّة أناسها أحرار.
الخاتمة
نعيش حريّة يسوع بمطابقة إرادتنا لإرادته. عندئذ نتّخذ أحكامه قاعدة لحريّتنا، ووصاياه ومشوراته قاعدة لإرادتنا، ودليلاً لسلوكنا، وتصبح جميع قوانا تحت تصرّفه. ان مطابقة إرادتنا لإرادة الله، تجد كمالها بقبولها لكل ما يسمح به الله في حياتنا. فتجعلنا نُسَرّ في الأحزان كما في الأفراح، ونبتهل إليه ليعمل فينا كل ما يرضيه. لهذا قال الرب يسوع: “كلّ من يعمل مشيئة (إرادة) ابي الذي في السماوات، هو أخي وأختي وأمّي” (متّى 12: 50).
ان مطابقة إرادتنا لإرادة الله، تجد مكانها بقبولنا للحوادث المؤلمة، ولكل ما يسمح به الله في حياتنا. ما يعني ان الإمتثال لمشيئته هو واجب عدل وطاعة. فمطابقة إرادتنا لإرادة الله تجعلنا نبتهل اليه ليعمل فينا كل ما يرضيه. وهكذا تشتدّ عزيمتنا لمقاومة الآلم ونؤهّل لعيش أكبر الفضائل، لأن ما أفسَد طبيعتنا إنما هو أهواؤنا وتمسّكنا بارادتنا الذاتية. بيقى علينا، في كل الأحوال، ان نعتمد على ارادة الله، القادر على كل شيء، فنقول مع بولس:” اني استطيع كل شيء بيسوع الذي يقويّني”(فيل13:4). وحين نعمل ارادته، فهو يكافئنا باستجابة صلواتنا ومساعدة ضعفنا:” كل من يعمل مشيئة ابي الذي في السماوات، هو اخي واختي وامّي”. فكلّما كانت المطابقة تامّة، ننال من الله نعمًا أوفر، ونتقدّم كثيرًا في طريق القداسة.
صلاة
باركنا يا رب نحن المنتمين اليك شدّد ضعفنا، واهّلنا ان نعبدك بطهارة النفس والجسد، وصفاء القلب واتضاع الفكر. وأرشد سعينا كلّه على هدي الصبر والرجاء، لنجد الخير ونصنع السلام، فتكمل بنا ارادتك. آمين.