اعداد: درب عكار
السياحة في لبنان بين الماضي والحاضر….
نهدف من خلال هذه المقالة، ليس الإضاءة على أهمية السياحة البيئية وحسب؛ بل أيضًا تسليط الضوء وتوضيح أمور عديدة، سياحيةً بالدرجة الأولى، لها علاقة بمنطقة منسيّة من مناطق لبنان، منطقة تقع على طرف وطننا الشمالي، وهي منطقة عكار.
” السياحة البيئية شمالاً، بوابة للتنمية المستدامة ! “، مقالتنا هذه ترمي إلى ما هو أبعد. ترمي إلى وضع أسس، وتقديم نظرة جديدة حول السياحة البيئية أو الريفية، وتحديدًا في منطقة تعاني الحرمان والنسيان، وما زالت. هي منطقة عكار.
يُعتبر لبنان بمقوماته الطبيعية والجغرافية والبشرية الغنية؛ بلداً تجتمع فيه مقومات السياحة الواعدة. فقد نجح هذا القطاع رغم الأزمات المتكررة في أن يكون عاملاً أساسياً في الإقتصاد الوطني، ولكن القطاع السياحي لم يتحوّل بعد الى صناعة متطورة تكون محركاً أساسياً في عملية التنمية الإقتصادية، وصولاً الى تنمية مستدامة.
لقد ارتبط مفهوم السياحة لدينا بالمفهوم التقليدي الذي يتمحور حول أنواع محددة فقط. ولعل أبرزها هي السياحة الثقافية التي اشتهر بها لبنان وتتضمن ارتياد المواقع الأثرية والتاريخية والطبيعية، فضلاً عن السياحة الدينية، والسياحة البحرية اضافة إلى سياحة الاصطياف والمؤتمرات.
كل ما ذكرناه يدخل في خانة الميول التقليدية للقطاع السياحي في لبنان، ومع التوجه العالمي نحو سياحة مسؤولة ونظيفة تُراعي النُظم البيئية وتحترمها. برزت أصناف جديدة من السياحة الى الواجهة وأخذت تتوسع وتنتشر بشكل كبير. ولعلّ أبرزها السياحة الريفية او ما تُعرف بالسياحة البيئية وما يُشبهها من سياحة مغامرات، سياحة علاجية، سياحة رياضية، سياحة تضامنية،الخ…
استطاعت السياحة تحقيق نموّ اقتصادي في العديد من المناطق اللبنانية، وكانت سبباً في البحبوحة الاقتصادية في بعضها. ولكن الميول التقليدية للسياحة حرمت مناطق الأطراف من اي تنمية حقيقية، بخاصةٍ مناطق شمال لبنان وعكار. بالرغم من الغنى الطبيعي والأثري لهذه المناطق؛ فكانت حصتها من المساهمة في القطاع السياحي شبه معدومة، لغاية تبدل الميول المحلية المدفوعة بتبدل الميول الاقليمية والعالمية للسياحة، فاذا بالسياحة البيئية هي الأمل والمستقبل الواعد لتبدأ تلك المناطق، وبخاصةٍ منطقة عكار، بالنهوض تدريجيًا من كبوتها.
1 تعريف بالسياحة البيئية أو الريفية:
تُعرف السياحة الريفية او السياحة البيئية انها السياحة المسؤولة التي تعود بنا الى كنف الطبيعة، فيعيش السائح تجربة المجتمع ويُشارك اهله تقالديهم وعاداتهم ومأكلهم ومشربهم. ونلاحظ بذلك، أنَّ نقاط ضعف القرى تحولت الى نقاط قوة، وعادت للتقليد والتراث القروي هيبته التي تحولت الى مصدر دخل، يكبر تدريجيًا ويزداد، مع زيادة الإقبال المحلي عبر المجموعات السياحية وحتى الاقبال من الخارج ايضاً. فما هي مقومات السياحة البيئية في عكار ؟
2 مقومات السياحة البيئية في عكار:
تعتبر عكار _ وهي اليوم إحدى محافظات لبنان، بعد أن كانت مجرد قضاء ضمن محافظة لبنان الشماالي _ وجهة مثالية للسياحة البيئية. ذاع صيت محافظة عكار في السنوات الأخيرة، بسبب مقوماتها الرائعة من طبيعة جميلة، وأثار رائعة ومجتمع مضياف ومُتعاون.
وإذا أردنا التكلم بلغة الأرقام؛ نجد أنَّ مساحة الغابات في عكار تبلغ أكثر من 12 الف هكتارأي حوالي 20% من مساحة محافظة عكار الإجمالية. وهذه الغابات تضم اكثر من 70% من مجموع التنوع الطبيعي الموجود في وطننا لبنان. هذا ما جعلها الوجهة المفضلة للراغبين بالإستمتاع برياضة المشي في الطبيعة، وممارسة رياضات الهواء الطلق، فضلاً عن الأنشطة المختلفة من مراقبة الطيور والحيوانات البرية او دراسة النباتات والازهار وغيرها الكثير.
الى جانب ذلك، فإن تاريخ عكار الذي يعود الى آلاف السنين وتعاقب الحضارات المختلفة كان سبباً في غناها الأثري الكبير، من تلّة عرقة الأثرية التي تقع على الطرف الجنوبي الشرقي لسهل عكار الخصب، الى قلعة عكار العتيقة، وسرايا البرج. ونجد أيضًا في عكار، منطقة وادي السبع في بلدة اكروم وقلعة الحصين فوقها، وبلدة أكروم تحتوي العديد من الآثار الرومانية واليونانية القديمة، والتي تدل على توطن الشعوب القديمة فيها. نجد أيضًا في عكار، المقابر والنواويس الكنعانية في زبود، اضافة إلى الآثار الميغاليتية في منجز، وهناك لائحة طويلة جداً من المواقع الأثرية التي تُشكل عنصراً هاماً في جذب السياح، رغم الاهمال الشديد الذي تتعرض له هذه المواقع.
وفيما خص السياحة الدينية فإن لعكار نصيبًا جيدًا، فهي تضم عشرات المواقع الدينية الاثرية والتاريخية الهامة، من أديار وكنائس ومساجد تشكل فُسحة للمؤمنين من مختلف الطوائف. تبدأ هذه الآثار الدينية الهامة من بلدة القبيات وعندقت الى منجز الواقعة قرب الحدود السورية، وأيضًا يُمكننا إكمال المشوار الى عكار العتيقة، والى قرية الحويش وغيرها من البلدات العكارية التي تضم ارثاً ثقافياً ودينياً تتوارثه الأجيال.
3 مستقبل السياحة البيئية في عكار وتفعيلها
لا شك في ان السياحة البيئية في عكار يُعول عليها في تحقيق تنمية اقتصادية محلية، تدفع بعجلة اقتصادها الذي يرتكز على الزراعة التي تتراجع مع مرور الوقت، ومن هنا يبرز دور المجموعات الشبابية الناشطة على هذا الصعيد، وابرزها في المحافظة هي مجموعة “درب عكار”. فقد استطاعت هذه المجموعة وبفترة قياسية تحديد ورسم ما لا يقل عن ثلاثين درباً للمشي بطول مجموعة يتخطى الـ320 كلم ضمن الجبال العكارية. ومع تدفق رواد المشي ومحبي الطبيعة، وازدياد عدد الذين يمارسون هواياتهم على هذه الدورب انتعشت الحركة الإقتصادية، وزاد انتاج التعاونيات الزراعية المحلية، وعكس ذلك ايجاد فرصة لتصريف هذه المنتجات للسياح الوافدين.
وبذلك تكون مجموعة “درب عكار”، قد جعلت من هذه الجبال العكارية العالية والبعيدة والوعرة، والتي كانت على مرّ الزمان عصيّة أمام الغزاة؛ جعلتها أداة طيّعة، وحولتها لوحة جميلة ومفيدة لعكار، بدلت الصور والمفاهيم المأخوذة عنها سابقًا.
4 أماكن ننصح بزيارتها في عكار:
والآن سنعرض على القارىء مجموعة من الأماكن المفيدة والهامة، والتي تستأهل الزيارة والإستفادة من مناخها، ومّما تقدمه، في منطقة عكار:
غابة العزر:
تقع غابة العزر الى الشرق من بلدة فنيدق في منطقة جرد القيطع، أي في أعالي محافظة عكار، وذلك على ارتفاع بين 1300 و 1500 متر عن سطح البحر. وتبلغ مساحتها حوالي مليون ومئة ألف متر مربع تقريباً. تعود تسمية الغابة لكون الغالبية الساحقة من أشجارها هي لأحد أضخم أنواع السنديان المحلية المسمى بـ “العزر” (وليس العذر، بمعنى عذراء)، واسمه اللاتيني Quercus cerris. وقد يصل طول أشجارها لأكثر من 25 متراً، وكلمة ” العزر ” باللغة الآرامية تعني “العامود الرئيسي”، كما ورد في كتاب “اشجار لبنان” للمهندس خالد سليم، وذلك لضخامة جذعها وطوله.
نجد في غابة العزر ثروة نباتية لا يستهان بها تضم أكثر من ثلاثين نوعاً. فبالرغم من أن ظلال العزر تمنع النموّ لكثير النباتات بالنمو الا ان ازهار الباونيا وأنواع من السحلبيات والفطريات تجد في هذه الظلال مكاناً مناسباً لنموها.
ويعيش في الغابة حيوانات عدّة، وبخاصة السناجب التي بالامكان مشاهدتها تقفز فوق الاشجار.
تلعب الغابة دوراً اساسيّا ورئيسًا في جذب رواد المشي في الطبيعة إلى منطقة عكار، فألوانها التي تتبدل مع الفصول من الاخضر الى الاصفر الذهبي تشكل لوحات مُذهلة لا يمكن مشاهدتها الاّ في البلدان الاوروبية، لذلك تعتبر ركيزة للسياحة البيئية وما تتضمنها من نشاطات في الهواء الطلق، من مشي في الطبيعة وتخييم وغيرها من الرياضات.
لم تعلن غابة العزر كمحمية بعد، رغم وجود النوايا الحسنة تجاه هذه الخطوة من بلدية فنيدق _التي تتبع لها تلك الغابة – وفعاليات المنطقة، ولكنها تخضع تلقائياً لقانون حماية الغابات في لبنان، على امل اعلانها كمحمية في القريب العاجل.
منطقة القموعة:
تُعتبر القموعة احدى اهم المواقع الطبيعية في لبنان، وهي تقع في اعالي بلدة فنيدق – والتي سبق وتكلمنا عن موقعها أثناء تناولنا لغابة العزر_ ويحدها بلدات عكار العتيقة والقبيات وتاشع. وتشكل منطقة القموعة بمساحتها البالغة حوالي 11 كلم مربعاً، واحدة من اغنى المناطق من حيث التنوع النباتي وخاصة أشجار الشوح الكيليكي واللزاب والارز وانواع هامة جداً ونادرة من السحلبيات وازهار الباونيا او عود الصليب الكسرواني.
تتكامل منطقة القموعة مع غابة العزر لتشكل وحدة متكاملة يتخللها العديد من دروب المشي فضلاً عن درب الجبل اللبناني، وتغص هذه الدروب بمئات رواد المشي اسبوعياً.
غابات بلدة مشمش:
بدايةً، يجب لفت النظر إلى وجود بلدة أخرى تحمل إسم “مشمش” في أعالي بلاد جبيل في محافظة جبل لبنان. وبالطبع، هنا نتناول بحديثنا بلدة مشمش العكارية.
تعتبر غابات بلدة مشمش اكثر الغابات تنوعاً في لبنان وهي تضم ما لا يقل عن 60% من النباتات والأزهار الموجودة في لبنان، وهذا رقم كبير وهام، لا يُستهان به.
وتعتبر غابات اللزاب فيها الاكثر كثافة في لبنان، وهي تضم معظم الاشجار المتوسطية المعروفة في لبنان والتي تمتد من ارتفاع 600 ولغاية 1900 متر عن سطح البحر. واللزاب معروف أيضًا باسم العرعر العالي أو عرعر المرتفعات.
اكتُشفت مؤخراً في غابات بلدة مشمش أنواع جديدة من النباتات، والتي لم تكن معروفة في لبنان. ولذلك فإنَّ تلك الغابات تعتبر البوابة الاساسية لكل السياح الذين يرغبون بمراقبة النباتات، وطلاب الجامعات الذين يجرون ابحاثهم.
يبلغ المجموع العام لطول دروب المشي في بلدة مشمش حوالي 80 كلم وهي اطول مسافة لدروب المشي في بلدة واحدة ضمن لبنان، ودروبها تضم مختلف انواع المستويات من السهل جداً حتى الدروب المخصصة للمحترفين فقط.
وادي جهنم وصولاً الى عيون السمك:
يعتبر وادي جهنم احد اجمل المناطق في لبنان، وبالرغم من تسميته المرعبة الاّ انه يضم تنوعاً وجمالاً لا مثيل له، من الانهار والينابيع الى الأشكال الصخرية العظيمة التي يرتفع بعضها لاكثرمن 1000 متر، يبلغ الطول الاجمالي للوادي اكثر من 24 كلم وينتهي في منطقة عيون السمك التي تضم بحيرة هامة، إسمها أيضًا “بحيرة عيون السمك”. وبالرغم من التلوث الذي اصاب البحيرة الاّ ان للمنطقة رهبة وسحراً لا يوصفان.
علمًا بأن قرية عيون السمك، لا تتبع إداريًا محافظة عكار. بل تتبع قضاء المنية-الضنية، ضمن محافظة لبنان الشمالي، وليس ضمن محافظة عكار. وإلى جانب تلك البحيرة، في القرية نبع هام من المياه العذبة، هو نبع السكر، يصب في بحيرة عيون السمك، التي تناولناها سابقًا.
محمية كرم شباط وغابات القبيات:
لمحمية كرم شباط أهمية كبرى، ليس فقط على صعيد محافظة عكار وحسب، بل على صعيد لبنان بشكل عام. تتميز محمية كرم شباط بأنها اكبر تجمعات الأرز المعروفة في محافظة عكار. وهي المحمية الوحيدة في لبنان التي ينمو فيها الأرز على السفوح الشرقية وليس الغربية. تتكامل محمية كرم شباط مع غابات القبيات لتشكل واحدة من اغنى المناطق الطبيعية في لبنان واجملها.
غابات عكار العتيقة:
غابات الصنوبر والشوح في عكار العتيقة لها سحر ورونق خاص. فالمرور بين اشجار الشوح الهائلة في الوادي الاسود له نكهة خاصة، وتحديدًا عندما ينساب الضباب بين الاغصان، ويفترش تربة الوادي كمية هائلة من النباتات النادرة التي لا تنمو الا فيه.
وعكار العتيقة، هي بلدة تقع في محافظة عكار. وتقع هذه البلدة تحديدًا في أعالي محافظة عكار. وتعتبر المصدر الأساسي، الذي ينبع منه نهر أسطوان.
غابات بزبينا وعين يعقوب:
اعلنت هذه الغابات كغابة محمية وتضم اشجار السنديان والصنوبر والبطم وأنواعًا عديدة من النباتات والاشجار وفيها ينابيع عدة.
وبزبينا وعين يعقوب هما بلدتان تقعان ضمن محافظة عكار، وتتبعان إداريًا لتلك المحافظة.
وبعد عرضنا هذا، لأهم أماكن ومناطق السياحة البيئية، والتي ننصح بزيارتها في محافظة عكار؛ نشير إلى وجود مناطق أثرية ودينيّة هامة أيضًا في تلك المنطقة.
بإمكاننا الإعتبار أيضًا؛ بأنَّ زيارة الأماكن الدينيّة في محافظة عكار، تُعطي لتلك المنطقة طابع السياحة الدينية. وهذا الطابع يتماشى إلى حد ما مع السياحة البيئية كوجهين مختلفين لعملة واحدة، وهي: ” السياحة “. وبالطبع نحن نتكلم عن منطقة واحدة هي عكار.
5 المناطق الاثرية والدينية:
لا شك ان للمناطق الطبيعية رونقاً خاصاً يجذب محبيها، الاّ ان في عكار تكاملاً بين الطبيعة والتاريخ، وذلك لان المناطق الاثرية والدينية موجودة في وسطها تماماً.
وتاريخ عكار الممتد لآلاف السنين اوجد فيها العديد من آثار الحضارات المتعاقبة. من الاثار المكتشفة في تلة عرقة الاثرية والتي تعود الى العصر البرونزي الى الاثار الميغاليتية في بلدة منجز، وصولاً الى الاثار الكنعانية في زبود عكار العتيقة وقلعة الحصين في اكروم التي ترتبط جغرافياً بوادي السبع. أضف إلى ذلك كله، عددًا كبيرًا من الآثار والمكتشفات، والتي لا يمكن حصرها لا تكاد تخلو منها بلدة عكارية. ولكن، للاسف اصبحت طيّ الاهمال فأمعن الزمن في تخريبها.
بعض هذه الآثار أُعيدَت إلى الحياة من جديد، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: دير مار شليطا في وادي حلسبان في القبيات. هذا الدير قائم على انقاض معبد روماني. ولكن، هناك العديد من الاديرة والكنائس القديمة بقيت مجرد اطلال كما هو الحال في كنيسة مار سركيس وباخوس في عكار العتيقة والحويش. وبالطبع هناك أيضًا مساجد اثرية هامة لها قيمتها المميزة والفريدة، وهي تحمل بُعداً تاريخيًا كمسجد البيرة والبرج.
لقد اعادت السياحة البيئية لفت النظر الى هذه المقدرات الاثرية، واعادت الاهتمام بها لما لها من دور فاعل في جذب اعداد كبيرة من السياح، وفي الوقت عينه خلقت تكاملاً بين الطبيعة والآثار وهو امر قلّ حدوثه في الكثير من المناطق اللبنانية. وعليه، فإنَّ تلك المقالة، تقدم محافظة عكار على أنها نموذج هام وجديد للسياحة البيئية في لبنان، ومنطقة ومساحة واسعة وجديدة على خارطة السياحة البيئية في لبنان.
وختاماً فإن السياحة البيئية هي امل عكار في تحقيق النمو، ولكن لن يتحول الى تنمية مستدامة الاّ في حال وجود خطة استراتيجية على المدى الطويل للنهوض بهذا القطاع، وتلحظ وجود بنى تحتية ملائمة ومتجانسة مع البيئة المحيطة، وبذلك قد تكون عكار وجهة محلية واقليمية وعالمية للسياحة البيئية.