Almanara Magazine

«عطيَّة الدَّعوة الكهنوتيَّة». أبعاد تنشئة الكهنة

الخوري دانيال زغيب

مقدَّمة

   عَرَضَ القرار المجمعيّ في التَّنشئة الكهنوتيَّة (Optatam totius)، الصَّادر عن المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، أبْرَزَ الخطوط العريضة للتَّنشئة الكهنوتيَّة، وشدَّد -بشكلٍ أساسيٍّ- على أهمّ العناصر الَّتي تتعلَّق بمختلف جوانب الإنسان الَّذي هو هدف هذه التَّنشئة. ومن بعده، أوضح البابا يوحنَّا-بولس الثَّاني، في الإرشاد الرَّسوليّ أُعطيكم رعاة (Pastores dabo vobis)، بشكلٍ منهجيٍّ وموسَّع، موضوع أبعاد التَّنشئة الكهنوتيَّة ومقاييسها([1]). وما بين هاتَين الوثيقتَين، نجد وثائق كنسيَّةً عديدةً وهامَّةً صَدَرَتْ عن مجمع التَّربية الكاثوليكيَّة تطرَّقَتْ إلى بعض الجوانب الخاصَّة المرتبطة بهذه الأبعاد في حياة الطَّالب الإكليريكيّ([2]). وها هي الشُّرْعة الجديدة للتَّنشئة الكهنوتيَّة([3]) الَّتي صَدَرَتْ، بتاريخ 8 كانون الأوَّل 2016، بالعنوان الآتي: عطيَّة الدَّعوة الكهنوتيَّة([4])، تُفرِدُ فصلًا كاملًا وهو الفصل الخامس (الأعداد 89-124) لتُعالج الأبعاد الخاصَّة في حياة المدعوِّ إلى الكهنوت، ولتقترح لكلِّ بُعدٍ منها تنشئةً خاصَّةً به. إذ تُـمَكِّن هذه التَّنشئةُ الـمُتعدِّدةُ الأبعاد الطَّالبَ الإكليريكيّ، خلال سنوات التَّنشئة الأساسيَّة وما بعدها، من أنْ يبلغ إلى نضْجٍ إنسانيٍّ لكي يرعى خراف المسيح بكلِّ اتِّزان (البُعد الإنسانيّ)، وإلى كفاءةٍ فكريَّةٍ وعلميَّةٍ وثقافيَّةٍ تُـمَكِّنه من مواجهة تحدِّيات العصر الفكريَّة (البُعد الفكريّ)، وإلى خبرة حياةٍ روحيَّةٍ تجعله في شركةٍ مع الثَّالوث ومع إخوته البشر، وتحصِّنه ضدَّ إمكانيَّة الجفاف والفتور الرُّوحيَّين (البُعد الرُّوحيّ)، وإلى تَـمَكُّنٍ من بعض الوسائل والأساليب من أجل عملٍ راعويٍّ ناجحٍ ومثمر (البُعد الرَّاعويّ). 

   تتضمَّن هذه الشِّرْعة ثمانية فصولٍ، بالإضافة إلى مقدَّمةٍ وخاتمة. أمَّا عناوين الفصول فهي الآتية: القواعد العامَّة، والدَّعوات الكهنوتيَّة، وأُسُس التَّنشئة، والتَّنشئة الأساسيَّة والـدَّائمة، وأبعاد التَّنشئة، والمسؤولون عن التَّنشئة، وتنظيم الدُّروس، والمقاييس والمعايير.

   نتوقَّف، في مقالنا هذا، على الفصل الخامس من هذه الوثيقة، الَّذي يحمل العنوان الآتي: أبعاد التَّنشئة (Les dimensions de la formation)، والَّذي يحتوي على توجيهاتٍ وتوصياتٍ عديدة. ويُظهِر هذا الفصل، بشكلٍ مفصَّل، كيف أنَّ الأبعاد الَّتي تتطرَّق إليها هذه الشِّرْعة هي جوانب أساسيَّةٌ من شخصيَّة الإنسان، كلِّ إنسان، ولا سيَّما شخصيَّة الطَّالب الإكليريكيّ، وليست أبعادًا ترتبط بالتَّنشئة والتَّربية فحسب. لذلك، تشدِّد الشِّرْعة على أهمِّيَّة الوحدة في مسار التَّنشئة والتَّربية، أي ألَّا يكون هذا المسار مُـجَزَّءًا ومقسَّمًا، وكأنَّ كلَّ جزءٍ منه لا يرتبط بما سبقه من مراحل أو بما سيليه؛ وكلُّ ذلك من أجل البلوغ “إلى الإنسان المكتمل، إلى مقدار قامة ملء المسيح” (أف 4: 13). لذا، تسعى التَّنشئة المتكاملة (formation intégrale) إلى أنْ تطاول الإنسان بكلِّيَّته وبتمامه؛ فالإنسان، بما هو عليه من طبْعٍ وبما لديه من طاقاتٍ وقُدرات، يتكرَّس لخدمة الرَّبِّ والجماعة الكنسيَّة. وعلى هذه التَّنشئة المتكاملة أنْ تسعى، من ناحيةٍ أخرى، إلى بُنيان الشَّخص المدعوِّ إلى الكهنوت “لكي يبلغ إلى وحدةٍ داخليَّةٍ تغيب عنها الانقسامات والازدواجيَّات”([5]). وتؤكِّد الشِّرْعة على وجوب إيجاد نموذجٍ تربويٍّ ملائمٍ يخدم هذه الغاية؛ وتورد، في هذا الشَّأن، الآتي:

“من أجل تحقيق هذا الهدف، من الضَّروريّ أنْ تتبنَّى (الإكليريكيَّة) نموذجًا تربويًّا مُدْمَـجًا (intégré)، أي مسارًا تتمكَّن فيه الجماعة التَّربويَّة من أنْ تتعاون وعمل الرُّوح القدس، ومنْ أنْ تضمن اتِّزانًا صحيحًا ما بين مختلف أبعاد التَّنشئة”([6]).

   في الواقع، من أبرز المخاطر الَّتي تواجه المربِّين أو المرافقين عندما يعرضون التَّنشئة بأبعادها الأربعة الَّتي أشرْنا إليها أعلاه، هي أنْ يعتَبروها تنشئةً مقسَّمةً إلى مراحل متوازيةٍ أو متتابعةٍ لا لحمة في ما بينها. لذا، ينبِّه القرار المجمعيّ في التَّنشئة الكهنوتيَّة من خطر تجزئة حياة الطَّالب الإكليريكيّ إلى مراحل منفصلةٍ بعضها عن بعضها الآخر، ويطالب بتوحيد مسار التَّنشئة من خلال وضْع المسيح في الوسط، إذ هو في أساس كلِّ دعوة، وهو أيضًا غاية العمل الرَّسوليّ كلِّه. ونورد، هنا، بعض فقراتٍ من هذا القرار المجمعيّ، كالآتي:

“يجب أنْ تصبو تربية الطُّلَّاب الكاملة، إلى أنْ تجعل منهم رعاةً حقيقيِّين، على مثال سيِّدنا يسوع المسيح المعلِّم والكاهن والرَّاعي (…) يجب أنْ تؤول متناسقةً مقوِّمات التَّنشئة كلِّها، من روحيَّةٍ وعقليَّةٍ ونظاميَّة، إلى هذا الهدف الرَّعائيّ (…). يجب السَّهَر التَّام على وحدة التَّنشئة ورسوخها (…)”([7]).

   وهذا ما أشار إليه وشدَّد عليه الإرشاد الرَّسوليّ أُعطيكم رُعاة عندما أورد ما يلي:

“يجد الكاهن كنه هويَّته وملء حقيقته في أنَّه شريكٌ مميَّزٌ وامتدادٌ للمسيح نفسه الكاهن الأعظم والأوحد للعهد الجديد: إنَّه صورةٌ حيَّة ٌوشفَّافةٌ للمسيح الكاهن (…). الإشارة، إذًا، إلى المسيح وسيلةٌ لا بدَّ منها لفَهْم حقيقة الكهنوت (…). التَّنشئة الكهنوتيَّة كلّها هدفها إعداد المرشَّحين للكهنوت لأنْ يكونوا شركاء في محبَّة يسوع الرَّاعي الصَّالح”([8]).

   تشبه الحياةُ في الإكليريكيَّة حياة يسوع مع تلاميذه. إذ من خلال “العيش معًا” والإقامة مع يسوع (راجع يو 1: 39)، تمكَّن إندراوس من أنْ يقول لأخيه سمعان: “وجَدْنا مشيحا، أي المسيح” (يو 1: 41). وهكذا، يتمكَّن الطَّالب الإكليريكيّ، تلميذ المسيح يسوع، إذا أقام مع الرَّبّ ومكث معه، في قلب الإكليريكيَّة، من أنْ يحمل الإنجيل إلى العالم. ويورد الإرشاد الرَّسوليّ أعطيكم رعاة، في هذا الخصوص، ما يلي:

“العيش في الإكليريكيَّة، مدرسة الإنجيل، معناه العيش كالرُّسل في صحبة المسيح، والتَّربِّي على يده لخدمة الآب والنَّاس، وبهدي الرُّوح القدس، بل هو التَّصوُّر بصورة المسيح الرَّاعي الصَّالح لخدمةٍ كهنوتيَّةٍ أنجع وسط الكنيسة وفي العالم”([9]).

   أنْ يكون المسيحيّ تلميذًا يعني أنْ يكون في حالة نموٍّ دائمٍ، وأنْ يعيش خبرةً ديناميَّة. فحياة التِّلميذ تنمو وتتطوَّر كلَّما زدادَتْ معرفته بشخص يسوع، وتعمَّق إيمانُه به، وكلَّما أحبَّه حبًّا كبيرًا؛ ويبان هذا النُّموُّ عبر المحبَّة الأخويَّة الَّتي يُظهِرها تلميذ المعلِّم لإخوته البشر، وعبر التزامه الرَّسوليّ والرِّساليّ. فإنْ سعى التِّلميذ إلى تبنِّي مقاييس التَّنشئة الكهنوتيَّة، وعمد إلى تفعيلها في حياته الشَّخصيَّة، عندها تنطبع فيه صورة المسيح الَّذي بذل حياته من أجل خرافه، ويبان ذلك من خلال اهتمامه بالأكثر فقرًا وعوزًا وتهميشًا من البشر إخوته. وتقدِّم الشِّرْعة الحياةَ الجماعيَّة على أنَّها المكان المميَّز والأهمّ للتَّنشئة ولتَبَنِّي فكر المسيح، إذ تورد الآتي:

“إنَّ الحياة الجماعيَّة في الإكليريكيَّة هي الإطار الأنسب لتكوين أُخوَّةٍ كهنوتيَّةٍ حقيقيَّة، وهي البيئة الخاصَّة لكي تتمكَّن فيها الأبعاد، الَّتي سيرد ذكرها أدناه، من أنْ تتعاون وتتفاعل عبر تناغم بعضها مع بعضها الآخر وعبر إندامجها ببعضها (…). إنَّ تُربة الدَّعوة إلى الخدمة الكهنوتيَّة هي الجماعة (…). وهي مثل الفكرة الأساسيّة والـمُوجِّهة (fil conducteur) الَّتي تؤآلِف أبعاد التَّنشئة الأربعة وتوحِّد بينها”([10])

   سنسعى، من بعد هذه المقدَّمة الَّتي تناولَتْ موضوع التَّنشئة المتكاملة، إلى عرض الخطوط العريضة للفصل الخامس (الأعداد 89-124) من شِرْعة التَّنشئة الكهنوتيَّة الجديدة. ويتطرَّق هذا الفصل إلى أبعادٍ أربعةٍ أساسيَّةٍ ترتكز عليها تنشئة الكهنة، الأساسيَّة والدَّائمة، وهي الآتية: البُعد الإنسانيّ والبُعد الرُّوحيّ والبُعد الفكريّ والبُعد الرَّاعويّ([11]). ونورد، هنا، النَّصّ الَّذي يربط هذه الأبعاد بعضها ببعضها الآخر، ويبيِّن تكاملها في شخصيَّة الطَّالب الإكليريكيّ، كالآتي:

“إنَّ الأبعاد الَّتي تتفاعل معًا في مسار (iter) التَّنشئة وفي حياة الـخُدَّام المرسومين، هي أربعة: البُعد الإنسانيّ الَّذي هو “الأساس الضَّروريّ والدِّيناميّ” للحياة الكهنوتيَّة بأَسْرِها؛ والبُعد الرُّوحيّ الَّذي يُحدِّد نوعيَّة الخدْمة الكهنوتيَّة؛ والبُعد الفكريّ الَّذي يقدِّم الأدوات العقليَّة الضَّروريَّة لفَهْم القِيَم الخاصَّة الَّتي تُـحَدِّد ماهيَّة الرَّاعي، بطريقةٍ تمكِّن (الكاهن) مِنْ أنْ يجسِّدها في الحياة اليوميَّة، ومِنْ أنْ ينقل محتوى الإيمان بطريقةٍ مناسِبَة؛ والبُعد الرَّاعويّ الَّذي يؤَهِّل لخدْمةٍ كنسيَّةٍ تتميَّز بالمسؤوليَّة والخصوبة”([12]).    

  1. البُعد الإنسانيّ

   تُقدِّم الشِّرْعة المسيحَ، الإنسان الكامل، مثالًا ومبدأً للطَّالب الإكليريكيّ. وهي تدعو هذا الأخير إلى أنْ يطوِّر شخصيَّته ويُنمِّيها بالاستناد إلى هذا المثال. كما تطلب من التَّنشئة الكهنوتيَّة أنْ تقدِّم إلى المدعوِّ إلى الكهنوت الوسائل المناسبة لكي يتمكَّن مِنَ البلوغ إلى النُّضْج المطلوب، ومِنْ أنْ يقوم -في ما بعد- بخدمته الكهنوتيَّة كما يجب ويليق. وتشير هذه الوثيقة إلى أنَّ العهد الجديد وآباء الكنيسة قد شدَّدوا على معايير أهليَّة الخدَّام المكرَّسين، وعلى أهمِّيَّة أنْ نأخذ بعين الاعتبار البُعد الإنسانيّ لديهم. واستشهدت الشِّرْعة بتوما الأكوينيّ الَّذي قال إنَّ النِّعمة لا تحلّ محلَّ الطَّبيعة، بل على العكس هي تستلزم وجودها وتقودها إلى الكمال([13]). فالتَّنشئة الإنسانيَّة هي في أساس التَّنشئة الكهنوتيَّة كلِّها، وهي الَّتي تمكِّن من أنْ تصوغ الأبعاد الأخرى. وتورد الوثيقة، بعض الصِّفات الإنسانيَّة الواجب توفُّرها في الطُّلَّاب الإكليريكيِّين، كالآتي:

“من الضَّروريّ، إذًا، أنْ ينمِّي (الطَّالبُ) لديه التَّواضعَ، والجرأة، والحسَّ العمليّ، ورأفة القلب، واتِّزان الرَّأي والتَّصرُّف، والتَّمييز، والتَّسامح والشَّفافيَّة، وحبّ الحقيقة والنَّزاهة”([14])

   بالإضافة إلى هذه الخِصال، نجد في الإرشاد الرَّسوليّ أُعطيكم رعاة، خِصالًا حميدةً أخرى يوصي الإرشاد الكاهنَ بتبنِّيها، وهي الآتية:

“يقتضي ذلك ألَّا يكون الكاهن متعجرفًا ومماحكًا، بل أنْ يكون دمِثًا رحب الصَّدْر مُخلِصًا في كلامه وقلبه، فطنًا رزينًا سخيًّا مستعِدًّا للخدمة، أهلًا لأنْ يُقيم مع الغير ويبعث لدى الجميع أواصر صداقةٍ وأخويَّة، سريعًا إلى التَّفهُّم والمسامحة والتَّعزية”([15]).

   من ثمَّ تُعَدِّد الشِّرْعة النَّواحي الَّتي يجب أنْ يعمل عليها الطَّالب الإكليريكيّ من أجل نموِّه الإنسانيّ المتكامل. فتشير إلى النَّاحية الجسديَّة، أي إلى كلّ ما يتعلَّق “بالصِّحَّة والغذاء والنَّشاط الجسديّ والرَّاحة”. وتتطرَّق إلى النَّاحية النَّفسيَّة، إذ تسعى التَّنشئة “إلى تكوين شخصيَّةٍ مستقرَّةٍ تتميَّز ببُعدٍ عاطفيٍّ مُتَّزِنٍ، وبالتَّحكُّم بالذَّات، وببُعدٍ جنسيٍّ مُدْمَج”. وتهدف التَّنشئة، في المجال الخُلُقيّ، إلى بناء الضَّمير الخُلُقيّ ممَّا يساعد الطَّالب الإكليريكيّ “على أنْ يصبح إنسانًا مسؤولًا وقادرًا على اتِّخاذ قراراتٍ صائبة، ومتمتِّعًا بحكمٍ مستقيمٍ وبرؤيةٍ موضوعيَّةٍ تجاه الأشخاص والأحداث”، فيُقدِّر ذاته حقَّ قدرها، ويعيَ مواهبه وطاقاته لكي يضعها في خدمة شعب الله([16]).

    من ناحية أخرى، تشدِّد هذه الوثيقة -من أجل نجاح التَّنشئة وبلوغها إلى غاياتها أي تكوين إنسانٍ ناضجٍ ومسؤولٍ وواعٍ لخدمته المستقبليَّة- على أنْ تتميَّز العلاقة ما بين الـمُنشِّئين والطُّلَّاب بالصُّدْق والصَّراحة وبطابعٍ تشارُكيٍّ بَيِّنٍ. إذ على هؤلاء أنْ ينفتِحوا على منشِّئيهم وأنْ يشاركوهم في ما يحملونه من ماضيهم وتاريخهم العائليّ والعاطفيّ والعلائقيّ. ونورد، هنا، مقتطفاتٍ ممَّا ورد في النَّصّ، كالآتي:

“لكي يكون العمل التَّربويّ مثمرًا، من المهمّ أنْ يكون كلُّ طالبٍ إكليريكيٍّ، من ناحيةٍ أولى، واعيًا تاريخه الشَّخصيّ، وكيفيَّة عيش طفولته وفترة المراهقة، وواعيًا التَّأثير الَّذي تمارسه عليه عائلته وبعض وجوه الأهل، كما عليه أنْ يعيَ إذا كان قادرًا أو لا على بناء علاقاتٍ ناضجةٍ ومُتَّزنةٍ ما بين أشخاصٍ عديدين، وإذا كان قادرًا أيضًا على أنْ يتدبَّر -بشكلٍ إيجابيّ- أوقات الوَحدة؛ وعلى هذا الطَّالب، من ناحيةٍ أخرى، أنْ ينفتح على الـمُنشِّئين في ما يختصّ بكلِّ هذه النَّواحي”([17]).

   كما تشير الشِّرْعة إلى أنَّ إحدى علامات النُّضج تكمن في الطَّريقة الَّتي يحيا فيها المدعوُّ إلى الكهنوت علاقاته مع الآخرين، مع الرِّجال والنِّساء، إنْ على مستوى حياته العاطفيَّة وإنْ على المستوى الرَّاعويّ. ويلفت النَّصّ الانتباه إلى الدَّور الأساسيّ الَّذي تؤدِّيه المرأة في علاقتها بالطَّالب الإكليريكيّ، وذلك في قلب العيلة وفي النَّشاطات الرَّسوليَّة ومن خلال شهادة الحياة المكرَّسة النِّسائيَّة([18]). وتربط الوثيقة التَّنشئة الإنسانيَّة بمهمَّة الأنْـجَلَة الَّتي توكل إلى كهنة الغد، فتورد الآتي:

“إنَّ التَّنشئة الإنسانيَّة ضروريَّةٌ ولا مفرَّ منها من أجل الأنْـجَلَة، لأنَّ إعلان الإنجيل يمرُّ عبر الشَّخص نفسه، عبر إنسانيَّته”([19])

   وتقدِّم هذه الشِّرْعة عنصرًا جديدًا ومهمًّا من عناصر التَّنشئة الكهنوتيَّة، عندما تؤكِّد أنَّ نموَّ شخصيَّة الطَّالب يفترض أنْ يأخذ على محمل الجدّ العالمَ الرَّقميّ. وإذا ما دعانا المسيح إلى نقْل البشارة إلى أقاصي الأرض، فإنَّ هذه “الأقاصي” قد توسَّعَت وتمدَّدَتْ بفعل وسائل الإعلام ووسائل التَّواصل الاجتماعيّ:

“من وجهة النَّظر هذه، فإنَّ استخدام وسائل الإعلام والتَّنَـبُّه إلى العالم الرَّقميّ يُعتبران جزءٌ لا يتجزَّأ من نموِّ شخصيَّة الطَّالب الإكليريكيّ وتطوُّرها”([20]).

   ويجد الإنسان المعاصر نفسه أمام مساحاتٍ عامَّةٍ جديدة، وأمام أشكالٍ جديدةٍ لمفهوم الجماعة. وتتكلَّم هذه الوثيقة على «الضَّواحي الرَّقميَّة» معتبرةً إيَّاها “«أمكنةً» جديدةً يرتادها، يوميًّا، أشخاصٌ عديدون (…)؛ ويجب أنْ تُقدَّم فيها ثقافة اللِّقاء الأصيلة، باسم يسوع، لكي يتمكَّن هؤلاء الأشخاص مِنْ أنْ يشكِّلوا شعب الله، الواحد”([21]). غير أنَّ هذا العالم الرَّقميّ قد يحمل إلى الطُّلَّاب مخاطر جمَّة، أهمُّها التَّعلُّق المفرط به. لذا، من الضَّروريّ أنْ يوفَّر لهم الدَّعم الرُّوحيّ والنَّفسيّ. ويجب أنْ يصبح استخدام وسائل التَّواصل الاجتماعيّ جزءًا من الحياة اليوميَّة في الإكليريكيَّة، ولكن عبر استعمالٍ يقظٍ وواضحٍ وإيجابيّ. ويتمّ كلّ هذا المجهود من ضمن رؤيةٍ تربويَّةٍ تضمن نموَّ الطَّالب ولا تستثني أيَّ مكانٍ من الأمكنة الَّتي يعيش فيها المدعوُّ إلى الكهنوت علاقاته وتواصله مع الآخرين. ونورد، هنا، نصًّا يُلقي ضوءًا على هذه النَّاحية من التَّنشئة، كالآتي:

“من الضَّررويّ التَّقيُّد بالحيطة والحذر اللَّذَين يفرضان نفسهما في ما يتعلَّق بالمخاطر الَّتي لا مفرَّ منها والَّتي تنجم من جرَّاء التَّردُّد إلى العالم الرَّقميّ، ومن بينها أشكال التَّعلُّق الـمُتعدِّدة (…). ومن المناسب أنْ ينمو الطُّلَّاب الإكليريكيُّون في هذا السِّياق، وهم مدرِكون أنَّ الإكليريكيَّة هي مدرسةٌ في الإنسانيَّة ومدرسةٌ في الإيمان، وهي مولجةٌ أنْ تُنَضِّجَ تَـمَاثُلَهم (conformation) بالمسيح الَّذي يجعل من نفسه قريبًا من الإنسانيَّة بأسرها”([22]).            

  • البُعد الرُّوحيّ

   إنَّ الجملة الَّتي تفتتح بها الشِّرْعة هذا البعد الثَّاني من أبعاد التَّنشئة الكهنوتيَّة، قد أصبَحَتْ هي المفتاح الَّذي يُـمَكِّننا من أنْ نفهم محاور التَّنشئة الرُّوحيَّة كلّها؛ وهذه الجملة هي الآتية: “تهدف التَّنشئة الرُّوحيَّة إلى أنْ تغذِّي الشَّركة مع الله ومع الإخوة وأنْ تدعمها، عبر الصَّداقة مع يسوع، الرَّاعي الصَّالح، وعبر موقف الطَّواعية للرُّوح”([23]). والغاية منها أنْ يتكوَّن قلب الإكليريكيّ ليصير مُشابِـهًا لقلب الفادي الإلهيّ، فيصير قلبًا ينبض حبًّا وعطاءً وتضحية، وقلبًا قادرًا على عيش المحبَّة الرَّاعويَّة([24]). إنَّ محور التَّنشئة الرُّوحيَّة([25]) هو، إذًا، الاتِّحاد الشَّخصيّ بيسوع المسيح. يولد هذا الاتِّحاد ويتغذَّى من الصَّلاة الصَّامتة والطَّويلة، والإصغاء إلى كلمة الله، ومن المشاركة في الحياة الطَّقسيَّة، ومن تقاسم الحياة الجماعيَّة المشتركة. وهكذا، يتعلَّم الطَّالب الإكليريكيّ أنْ يتَّحد بالله، عبر اقتدائه بيسوع الَّذي سعى، في كلِّ أيَّام حياته، إلى أنْ يعمل مشيئة أبيه([26]). وفي هذا السِّياق، تشير الشِّرْعة إلى ضرورة تسليط الضَّوء على السَّنة الطَّقسيَّة الَّتي تمكِّن الطَّالب من أنْ يبني حياةً روحيَّةً حقيقيَّة، وتورد ما يلي:

“طوال مسار التَّنشئة، تُقدِّم السَّنةُ الطَّقسيَّة التَّربيةَ الميستاغوجيَّة الخاصَّة بالكنيسة، ممَّا يمكِّن الطَّالب الإكليريكيّ مِنْ أنْ يتعلَّم الرُّوحانيَّة ويكتشفها عبر استبطان النُّصوص البيبليَّة والصَّلوات الطَّقسيَّة”([27]).  

   ومن ثمَّ تشير هذه الوثيقة إلى مكانة كلمة الله في مسار النُّضج الرُّوحيّ، إذ هي المرجع الرَّئيس في حياة التِّلميذ، وهي الَّتي تساعده على التَّشبُّه بالمسيح الرَّاعي الصَّالح. فلا بُدَّ، أوَّلًا، من أنْ نستقبل الكلمة في قلبنا لكي نتمكَّن -في ما بعد- من إعلانها والكرازة بها وتفسيرها. وتُشدِّد الشِّرْعة على دور القراءة الرَّبِّيَّة (lectio divina) الَّتي هي وسيلةٌ مميَّزةٌ للدُّخول إلى علاقة بكلمة الله والتَّأمُّل فيها واستبطانها، فتتحوَّل هذه الكلمة الإلهيَّة، الَّتي تُقرَأ وتُفسَّر، إلى صلاة. ونجد، في نصّ الوثيقة، ما يلي:

“في مسار النُّضوج الرُّوحيّ، يجب إفراد مكانةٍ بارزةٍ للعلاقة بكلمة الله (…). ويحتاج الطُّلَّاب الإكليريكيُّون إلى أنْ يُقادوا تدريجيًّا إلى معرفتها عبر طريقة القراءة الرَّبِّيَّة. فالتَّأمُّل اليوميّ والـمُطوَّل الَّذي يُـمارَس بأمانةٍ وورع، والَّذي يتحقَّق فيه التَّوافق المثمر ما بين الدِّراسة والصَّلاة، يمكن أنْ يضمن لهؤلاء الطُّلَّاب مقاربةً متكاملةً تطاول العهدَين القديم والجديد معًا”([28]).

   بعد ذلك، تتطرَّق الوثيقة إلى سرَّيّ القربان والتَّوبة، وإلى الصَّلاة الطَّقسيَّة الخورُسيَّة (أو ليتورجيَّا السَّاعات). وتعتبر الوثيقة أنَّ القُدَّاس اليوميّ هو وسيلةٌ فعَّالةٌ تساعد المدعوّ إلى الكهنوت على أنْ يطابق حياته وحياة المسيح، وإلى أنْ ينمو اتِّحادُه بالمسيح ويتعمَّق، أكثر فأكثر. كما تعتبر أنَّ سرَّ التَّوبة “هو مناسبةٌ للطَّالب الإكليريكيّ لكي يعترف بأوهانه وخطاياه، بكلّ تواضع، وبخاصَّةٍ لكي يفهم ويختبر الفرح النَّاتِج عن شعوره بأنَّه محبوبٌ من الرَّبّ ومسامحٌ من قبَلِه”([29]). أمَّا ليتورجيَّا السَّاعات فهي حقًّا “مدرسةٌ للصَّلاة”([30])، إذ يسمح الاحتفال بها للطَّالب من أنْ يفقه غنى صلوات الكنيسة وعمقها، فتُدخِلُه بعلاقةٍ وثيقةٍ والرَّبّ.     

   وفي ما يختصّ بالإرشاد الرُّوحيّ، تورد الشِّرْعة أنَّه “الوسيلة المميَّزة لنموّ الشَّخص المتكامل (…). وتساهم نوعيَّة المرافقة الرُّوحيَّة، في الواقع، في إنجاح مسار التَّنشئة بأسره”([31]). وتؤكِّد على أهمِّيَّة أنْ يختار الطَّالب الإكليريكيّ مرشده بكلِّ حرِّيَّة. وتلفت النَّظر إلى وجوب أنْ تكون اللِّقاءات ما بين المرشد والـمُستَرشد بشكلٍ دوريّ ومنظَّم، لا ظرفيَّة ومتقطِّعة. كما تُضيء هذه الوثيقة على أهمِّيَّة الرِّياضة الرُّوحيَّة السَّنويَّة والوقفات أو الخلوات الدَّوريَّة الَّتي يشارك فيها الطَّالب الإكليريكيّ، إذ تساهم في أنْ تصوغ قلبَه، وأنْ تجعله قادرًا على تقوية رغبته في عيش المحبَّة الرَّاعويَّة وفي تثبيتها، من دون حساب([32]).

   وتتوسَّع الشِّرْعة في شرْح المشورات الإنجيليَّة، ومدى أهمِّيَّتها في حياة الطُّلَّاب الإكليريكيِّين وكهنة الغد. فعبر الطَّاعة يتعلَّم المدعوّ إلى الكهنوت أنْ يكرِّس إرادته الخاصَّة لخدمة الله وخدمة الإخوة. وتورد الوثيقة، في هذا الشَّأن، ما يلي:

“تقود الطَّاعةُ إلى المشاركة في حكمة الله الَّتي تبني الكنيسة، والَّتي تحدِّد لكلِّ فردٍ مكانته ورسالته. وبالتَّالي، يعود إلى الـمُنشِّئين أنْ يُربُّوا الطُّلَّاب الإكليريكيِّين على الطَّاعة الحقَّة والنَّاضجة، عبر ممارسة السُّلطة بفطنة، وعبر تشجيع الطُّلَّاب على تقديم موافقتهم الجليَّة والصَّادقة، حيث القلب يلتزم أيضًا”([33]).

   وتُقدِّم هذه الوثيقة تفكُّرًا مميَّزًا في شأن مشورة “العفَّة الَّتي تسمح بنموِّ نضْج الإنسان، والَّتي تجعله قادرًا على أنْ يحيا حقيقة جسده وعاطفته بحسب منطق العطاء”([34]). كما تسلِّط الضَّوء على العزوبة المكرَّسة باعتبارها “عطيَّةً خاصَّةً من الله”، فلا تصبح “العفَّة في العزوبة، بالنِّسبة إلى الطَّالب، ضريبةً عليه أنْ يؤدِّيها إلى الرَّبّ، بل تصبح عطيَّةً موهوبةً من لدن رحمته”([35]). ويقود هذا النَّضْجُ العاطفيّ الطَّالبَ إلى أنْ يُقدِّر قيمة الحياة الزَّوجيَّة. وتورد الشِّرْعة نصًّا هامًّا يربط النَّضْج العاطفيّ بالسِّيامة الكهنوتيَّة، وتورد الآتي:

“إنَّه لَمُتَهوِّرٌ جدًّا أنْ يتمَّ قبول السِّيامة الكهنوتيَّة لطالبٍ إكليريكيٍّ لم يبلغ بَعدُ إلى مستوًى عاطفيٍّ ناضجٍ وواضحٍ وحرّ، وعفيفٍ وأمين، في العزوبة. ويحوز الطَّالب على هذه العفَّة في العزوبة من خلال التَّمرُّس بالقيَم الإنسانيَّة والكهنوتيَّة، ومن خلال الانفتاح على بُعدِ الشُّكران؛ ولا يمكنه أنْ يحوزها بمجرَّد فَرْض الإمساك، بشكلٍ إراديّ”([36]).

   ولقد أوردَت الوثيقة مقطعًا خاصًّا بالطُّلَّاب الإكليريكيِّين الشَّرقيِّين الَّذين يتنشَّأون في الإكليريكيَّات اللاتينيَّة، وجاء فيه الآتي:

“في ما يتعلَّق بتنشئة الطُّلَّاب الإكليريكيِّين التَّابعين للكنائس الشَّرقيَّة والموجودين في الإكليريكيَّات اللاتينيَّة، على العزوبة أو على الزَّواج، فليُحافَظ على المعايير والعادات الخاصَّة بالكنائس الشَّرقيَّة الَّتي ينتمون إليها”([37]).

   ويشدِّد النَّصّ على وجوب تنمية روح الفقر لدى المدعوِّين إلى الكهنوت، وذلك اقتداءً بالمسيح الَّذي افتقر ليُغنينا (راجع 2 قور 8: 9)، وتشبُّهًا بالرُّسُل أيضًا “الَّذين دعاهم المسيح إلى أنْ يودِعوا ذواتهم العناية الإلهيَّة، «من دون أنْ يأخذوا أيّ شيءٍ للطَّريق» (مر 6: 8-9)”([38]). وتدعو الشُّرْعة أيضًا هؤلاء المدعوِّين إلى أنْ يهتمُّوا اهتمامًا خاصًّا بالفقراء والمهمَّشين وبالأكثر ضعفًا؛ فيؤدُّون بذلك شهادةً حسنةً في حياةٍ بسيطةٍ وقشفة، ويكونون روَّادًا في دعم عدالةٍ اجتماعيَّةٍ حقيقيَّة. ونستشهد، هنا، بنصٍّ رائع، ورد في الإرشاد الرَّسوليّ أعطيكم رُعاة، وهو الآتي:

الفقر الإنجيليّ (…) [هو] «إخضاع جميع الخيرات للخير الأسمى -أيّ الله- وملكوته» (…). وليس الفقر احتقارًا ونبْذًا للخيرات المادِّيَّة، بل هو استعمالٌ حرٌّ لهذه الخيرات، وهو في الوقت نفسه زهْدٌ بها يغمره فرحٌ وطواعيَّةٌ باطنيَّةٌ لله ولمقاصده”([39]).

   وتوصي الشِّرْعة بتشجيع تقوى بنويَّةٍ وصحيحةٍ تجاه العذراء مريم، فهي شخصٌ بشريٌّ تجاوب ودعوة الله إيَّاه، وذلك عبر المشاركة في الاحتفالات اللِّيتورجيَّة أو في بعض الأعمال التُّقويَّة. وأشارَتْ أيضًا إلى وجوب التَّعرُّف إلى آباء الكنيسة لأنَّهم يُشكِّلون مكوِّنًا أساسيًّا من مكوِّنات البُعد الرُّوحيّ، إذ قدَّموا جِدَّة الحياة المسيحيَّة لأبناء عصرهم، وشكَّلوا -في قلب الجماعات المسيحيَّة النَّاشئة- “«حيَويَّة متفجِّرة»، وغيرةً رساليًّا، ومناخًا من المحبَّة دفع بالنُّفوس إلى عيش البطولة (heroïsme) في الحياة اليوميَّة”([40]). وأخيرًا، تضيف هذه الوثيقة وجوبَ أنْ ينمِّي الطُّلَّاب الإكليريكيُّون بعض الفضائل الَّتي تتعلَّق بالخدمة الرَّاعويَّة. وتستشهد، بشكلٍ حرفيّ، بالإرشاد الرَّسوليّ أُعطيكم رُعاة (العدد 26)؛ وهذه الفضائل هي الآتية:

“الأمانة والتَّمالك والثَّبات والفطنة ورحابة الصَّدر للجميع والدَّماثة ولين الجانب والحزم في الشُّؤون الجوهريَّة والتَّنزُّه عن الاعتبارات الذَّاتيَّة والتَّرَفُّع عن المصالح الشَّخصيَّة وطول الأناة، والكلف بالمهام اليوميَّة، والثِّقة أخيرًا بنعمة الله الخفيَّة الَّتي تتجلَّى عند البسطاء والفقراء”([41]).      

  • البُعد الفكريّ

   تسعى التَّنشئة الفكريَّة، بحسب الشِّرْعة الجديدة، إلى أنْ ينال الطُّلَّاب الإكليريكيُّون “كفاءةً متينةً على المستويَين الفلسفيّ واللاهوتيّ، وإعدادًا ثقافيًّا عامًّا على حدٍّ سواء”([42]). أمَّا أهداف هذه التَّنشئة فهي إعلان بُشرى الإنجيل في عالم اليوم بطريقةٍ صادقةٍ ومقنعةٍ ومفهومة، وإقامة حوارٍ مثمرٍ وبنَّاءٍ مع عالمنا المعاصر، ومساندة حقيقة الإيمان، في ضوء العقل. وتورد الشِّرْعة، في هذا الشَّأن، ما يلي:

“تهدف المعرفة الفلسفيَّة واللاهوتيَّة إلى «أنْ تُـمَيِّز وتشرح الكلام الـمُتنوِّع الَّذي يتداوله عصرنا، وأنْ تحكم عليه في ضوء الكلام الإلهيّ. وما ذلك إلَّا لتُدرَكَ الحقيقة الـمُوحاة وتُفهَم فهمًا مُتزايدًا فتُعرَض بشكلٍ أكثر ملاءمة»”([43]).

   لذا، ليست التَّنشئة الفكريَّة تجميعًا لِكَمٍّ من المعلومات والمعارف، ولكنَّها جزءٌ أساسيٌّ من تنشئة الكاهن المتكاملة، ولها تداعياتٌ على التَّنشئتَين الإنسانيَّة والرُّوحيَّة؛ وهي تُعطى من أجل الخدمة الرَّاعويَّة. “فإنَّ تنمية قدرات الإنسان وأبعاده، بما فيها عقله (…)، تساهم في نموِّ الكاهن الَّذي هو خادم الكلمة والشَّاهد لها، في الكنيسة وفي العالم”([44]). لذا، ترافق التَّنشئة الفكريَّة الكهنة، طوال فترة خدمتهم، وتدفعهم وتؤهِّلهم إلى الإصغاء الـمُتنبِّه والـمُتيقِّظ لكلمة الله، وإلى الإصغاء أيضًا للجماعة الكنسيَّة ولحاجاتها، بغية تمييز الواقع وإيجاد حلولٍ مناسبةٍ لآلام النَّاس، وبُغية تفحُّص علامات الأزمنة.

   وتشدِّد الشِّرْعة على وجوب أنْ يدرس الطَّالب الإكليريكيّ الفلسفة واللاهوت دراسةً معمَّقة، وذلك بهدف أنْ يمتلك “ذهنيَّةً (forma mentis) تُـمَكِّنه من أنْ يواجه المسائل والتَّحدِّيات الَّتي تعترضه في ممارسة خدمته، ومن أنْ يفسِّرها في عين الإيمان”([45]). كما تلفت النَّظر إلى أنَّ تتميم الطَّالب لواجباته الجامعيَّة ولدروسه لا يمكن أنْ يُعتَبَر المعيار الوحيد الَّذي يُحدِّد مدَّة تنشئته من أجل الكهنوت. إذ مهما كانت الدُّروس أساسيَّةً ومهمَّةً فهي تمثِّل جانبًا واحدًا من جوانب التَّنشئة المتكاملة الَّتي يحتاجها طالب الكهنوت. ونلجأ، هنا، إلى الإرشاد الرَّسوليّ أُعطيكم رعاة الَّذي تطرَّق إلى موضوع هامٍّ جدًّا ألا وهو: الصَّرامة العلميَّة لعلم اللاهوت وغايته الرَّاعويَّة، ونورد منه الآتي:

“هناك معضلةٌ أخرى نقع عليها خصوصًا في المعاهد الأكاديميَّة (…): هي معضلة التَّوفيق بين الصَّرامة العلميَّة لعلم اللاهوت وغايته الرَّاعويَّة، وهي من ثمَّ معضلة الطَّابع الرَّاعويّ في علم اللاهوت. والحقيقة أنَّنا بإزاء اتِّجاهَين في اللاهوت وطريقة تعليمه، لا يتناقضان بل يتكاملان ويُساهمان، كلٌّ على طريقته، في “فهم الإيمان”، فهمًا كاملًا. فمن الثَّابت أنَّ الطَّابع الرَّاعويّ في علم اللاهوت (…) يعني أنَّ اللاهوت يؤهِّل كهنة الغد لأنْ يُبشِّروا بالإنجيل طبقًا للقرائن الثَّقافيَّة المعاصرة، وأنْ يفهموا العمل الرَّاعويّ انطلاقًا من رؤيةٍ لاهوتيًّةٍ صحيحة (…). ويتَّضح لنا، من جهةٍ أخرى، أنَّ كلَّ تحسُّسٍ لدى كاهن الغد، لمهمَّته الرَّاعويَّة، يُؤجِّج فيه الرَّغبة في الإقبال على درس اللاهوت بطريقةٍ جدِّيَّةٍ وعلميَّة”([46]).    

   وتترك هذه الوثيقة المجال واسعًا للشِّرْعة الوطنيَّة، الَّتي يجب أنْ تضعها الكنائس المحلِّيَّة، لكي تُحدِّد أهمّ عناصر التَّنشئة الفكريَّة، وتورد الآتي:

“يعود إلى الشِّرْعة الوطنيَّة (Ratio nationale) في أنْ تتوسَّع في العناصر الأساسيَّة للتَّنشئة الفكريَّة الَّتي عرَضَتْها هذه الشِّرْعة الأساسيَّة (Ratio fundamentalis)، آخِذةً بعين الاعتبار خصوصيَّات البلد التَّاريخيَّة والثَّقافيَّة”([47]).  

   ويهمُّنا، في هذا السِّياق، أنْ نسلِّط الضَّوء على ما ورد في الإرشاد الرَّسوليّ أُعطيكم رعاة، عن أهمِّيَّة التَّنشئة الفكريَّة الَّتي تُـمَكِّن كهنة المستقبل من أنْ يبشِّروا بإنجيل المسيح في عالمٍ متغيِّرٍ يطغى عليه الطَّابع العلميّ والتِّكنولوجيّ، ويعتبر أنَّ العقل لا يمكنه أنْ يفسِّر الحقائق الإيمانيَّة ويوضِّحها. ونقتطف، من هذا الإرشاد، المقطع الآتي:

“الأوضاع الرَّاهنة ممهورةٌ بطابعٍ عميقٍ من اللامبالاة الدِّينيَّة، وبشيءٍ من الرِّيبة والشَّكّ في قدرة العقل على بلوغ الحقيقة الرَّاهنة والشَّاملة، وبالمعضلات والأسئلة الجديدة النَّاجمة عن الكشوف العلميَّة والتِّكنولوجيَّة. كلُّ هذا يستدعي مستوًى عاليًا من التَّنشئة الفكريَّة يتيح للكهنة، في مثل هذه القرائن، أنْ يبشِّروا بإنجيل المسيح الَّذي لا يتغيَّر، ويُبيِّنوا مصداقيَّته تجاه العقل البشريّ ومتطلِّباته المشروعة”([48]).

   يبان ممَّا أوردتْه الشِّرْعة أنَّ همَّ التَّنشئة الفكريَّة يبغي أنْ يصل بالطُّلَّاب الإكليريكيِّين إلى أنْ يتعلَّموا ويفقهوا أنْ يفكِّروا بطريقةٍ صحيحة، وأنْ يُواكِبوا النَّاس في أفراحهم وآلامهم، وأنْ يتعلَّموا كيفيَّة إيصال البشرى والرِّسالة بطريقةٍ واضحةٍ ومقنعةٍ ومنطقيَّة، وأنْ يُقدِّموا إجاباتٍ شافيةً واقتراحاتٍ جديدةً تطاول تساؤلات النَّاس الَّذين يعيشون في عالمٍ سريع التَّغيُّر والتَّحوُّل. ونجد من بين الأخطار الَّتي تواجه التَّنشئة الفكريَّة، بخاصَّةٍ دراسة الفلسفة واللاهوت، خطر أنْ يعتبرها الطُّلَّاب تراكمًا لمعلوماتٍ ودروسٍ لا رابط بينها؛ إذ من المهمّ أنْ نفقه أنَّ هذه الدُّروس ما هي سوى مسارٍ جدِّيٍّ ومنظَّمٍ وتدرُّجيٍّ يقود المدعوَّ إلى الكهنوت إلى أنْ يكتسب منهجًا واضحًا ومنظَّمًا في طريقة الدِّراسة، وإلى أنْ يؤدِّي دوره الفكريّ في مسيرة الكنيسة الفكريَّة وفي تطوُّر الفكر الإنسانيّ، لا أنْ يبقى على الهامش في مقاربته الفكريَّة. كما يجب أنْ تقوده هذه التَّنشئة إلى أنْ يُكَوِّن فكرًا نيِّرًا ومستنيرًا يُـمَكِّنه من أنْ يقدِّم حُكمًا صائبًا في الأمور، وأنْ يميِّز في الوقائع ويحكم ويبدي رأيًا، وأنْ يُقدِم على أيّ عملٍ أو خدمةٍ مدفوعًا بمحبَّةٍ راعويَّةٍ تملأ قلبه، شرط أنْ يكون قلبُه هذا قلب راعٍ لا قلب أجير.

   أمَّا المحور الأساس الَّذي يوحِّد عناصر هذه التَّنشئة الفكريَّة في حياة المدعوِّين إلى الكهنوت فيبقى سرُّ المسيح الَّذي يسعى الكاهن إلى أنْ يتشبَّه به. وفي هذا المجال، يورد المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، ما يلي: “بالحقيقة، لا تُلقى الأضواء الحقَّة على سرِّ الإنسان إلَّا من خلال سرِّ الكلمة الـمُتَجسِّد (…). فالمسيح (…) يُبيِّن للإنسان ما هو عليه بالذَّات كاشِفًا له عن سُـمُوِّ دعوته”([49]). وبفضل هذه التَّنشئة الفكريَّة، بأبعادها الفلسفيَّة واللاهوتيَّة والرَّاعويَّة، يتهيَّأ الطَّالب الإكليريكيّ ليصبح -على ما يقول البابا فرنسيس- “إنسانًا قادرًا على أنْ يقود الَّذين هم بقربه إلى أنْ ينموا ويَكْبُـروا في الإنسانيَّة، وقادرًا على أنْ ينقل الحقيقة الإلهيَّة المسيحيَّة من منظارٍ إنسانيٍّ حقًّا؛ فلا يصبح رجل فكرٍ تنقصه الموهبة، أو رجلًا شريعَويًّا (moraliste) يفتقر إلى الرَّأفة، أو موظَّفًا (bureaucrate) يهتمّ بما هو مقدَّس (…). فاللاهوتيُّون الصَّالحون، كما الرُّعاة الصَّالحون، هم الَّذين يعرفون رائحة الخراف ورائحة الشَّارع أيضًا، وبواسطة تَفَكُّرهم، يصبُّون الزَّيت والخمر على جراحات البشر”([50]).

  • البُعد الرَّاعويّ

   تبدأ الشِّرْعة، في المقطع المخصَّص لهذا البعد الرَّابع من التَّنشئة، بجملةٍ مهمَّةٍ هي الآتية: “تكمن الغاية من الإكليريكيَّة في إعداد الطُّلَّاب الإكليريكيِّين ليكونوا رعاةً على صورة المسيح”([51]). لذا، يجب أنْ تقود الحياة المشتركة في الإكليريكيَّة الطُّلَّابَ إلى أنْ تتكوَّن فيهم مشاعر المسيح نفسه تجاه خرافه، وأنْ يمتلئوا من المحبَّة الرَّاعويَّة، ويستشعروا أهمِّيَّة السَّعي إلى بناء ملكوت الله ونشره على مثال يسوع. وتشدِّد هذه الوثيقة على وجوب تقديم تنشئةٍ راعويَّةٍ مميَّزةٍ “تساعد الطُّلَّاب الإكليريكيِّين على اكتساب الحرِّيَّة الباطنيَّة الضَّروريَّة الَّتي تُـمَكِّنهم من عيش العمل الرَّسوليّ كخدمة (…). وإذا عاش الخادمُ المكرَّس النَّشاط الرَّاعويّ على هذا النَّحو، يصبح هذا النَّشاط عينه -بالنِّسبة إليه- مدرسةً دائمةً للأَنْـجَلَة”([52]).

   من ثمَّ تشدِّد هذه الوثيقة على وجوب أنْ يتهيَّأ الطَّالب الإكليريكيّ، خلال فترة التَّنشئة الأساسيَّة، “لأنْ يقود مجموعةً من الأشخاص، ويرافقهم ويكون حاضرًا معهم رافعًا لواء الشَّراكة، عبر الإصغاء إلى الأشخاص وتمييزٍ دقيقٍ لمختلف الحالات والظُّروف”([53]). كما ينبغي أنْ تشدِّد التَّنشئة أيضًا على إعداد المدعوِّين إلى الكهنوت لكي يتعاونوا والعلمانيِّين في العمل الرَّاعويّ، ولكي يُقدِّروا دور هؤلاء في الكنيسة؛ وعلى تعريفهم بالحياة المكرَّسة وبأسُسها الإنجيليَّة وبتنوُّع مواهبها ونشاطاتها.

   كما تدعو هذه الشِّرْعة الإكليريكيَّةَ إلى أنْ توفِّر تنشئةً راعويَّةً متينةً لطلَّاب الكهنوت، تمكِّنهم من أنْ يقتنوا حِسًّا راعويًّا، فيصير كهنة الغد “خبراء في فنِّ التَّمييز الرَّاعويّ، أي قادرين على فهم الظُّروف الواقعيَّة فهمًا عميقًا، وعلى القيام بحكمٍ صائبٍ في ما يتعلَّق بالخيارات الَّتي يطرحونها والقرارات الَّتي يتَّخذونها”([54]). وأضاء الإرشاد الرَّسوليّ أُعطيكم رعاة على هذه النَّاحية الأساسيَّة في تنشئة كهنة الغد، وأورد الآتي:

“الهدف من التَّربية الإكليريكيَّة أنْ يتعلَّم هؤلاء أنْ يقتنوا حسًّا راعويًّا، فيضطلعوا بمسؤوليَّاتهم اضطلاعًا واعيًا وناضجًا، ويروزوا الظُّروف والمعضلات ويُقيموا سُلَّم الأولويَّات، ويجدوا الوسائل لتحقيقها، كلّ هذا في ضوء الإيمان وطبقًا للمبادئ اللاهوتيَّة والرَّاعويَّة”([55]).

   وللنَّجاج في “فنِّ التَّمييز الرَّاعويّ” هذا على الكهنة أنْ يضعوا وسط حياتهم الإصغاء إلى كلمة الله، “فمن يصغي إلى الله وإلى إخوته يعرف -تمام المعرفة- أنَّ الرُّوح هو الَّذي يقود الكنيسة نحو الحقيقة كلِّها (…)، وأنَّ الحقيقة تنبت ببطئٍ في حياة الإنسان اليوميَّة وفي علامات التَّاريخ”([56]). كذلك تُنَبِّه الشِّرْعة الطَّالب الإكليريكيّ، الَّذي هو كاهن الغد، إلى ضرورة أنْ يتعلَّم ويتبنَّى أسلوب الإنجيل الَّذي يُحرِّره من تجارب عديدة، أهمُّها من تجربة أنْ يبقى عمله على المستوى النَّظريّ والتَّجريديّ، وأنْ يتحوَّل إلى نجمٍ، وأنْ يبحث بشكلٍ مفرطٍ عن راحته الشَّخصيَّة، ومن تجربة أنْ يكون رجلًا اختصاصيًّا بدلًا من أنْ يكون سامريًّا صالحًا. عندها يتعلَّم الرَّاعي الخروج من قناعاته الشَّخصيَّة الَّتي لا يحيد عنها، فلا تعود الخدمة الكهنوتيَّة، بالنِّسبة إليه، مجموعةً من المعايير والمقاييس الَّتي عليه أنْ يُطبِّقها على النَّاس، بل على العكس تصبح حياته كلّها وخدمته “«مكانًا» يستضيف فيه الله ويصغي إليه، ويستضيف فيه إخوته ويُصغي إليهم”([57]). لذا، عليه أيضًا أنْ يترك الرَّاعي الصَّالح يقوده، فتتكَّون لديه نظرةٌ فطنةٌ ومملوءةٌ رأفةً وتعاطفًا تجاه الآخرين، وهذا ما يسمح له بأنْ يفهم مختلف الظُّروف والأوضاع، ولا سيَّما تلك الأكثر تعقيدًا، من دون أنْ يقع في الشَّريعَويَّة والتَّصلُّب والتَّشدُّد والقَسوة.

   من ناحيةٍ أخرى، على الطُّلَّاب الإكليريكيِّين أنْ يتعلَّموا كيفيَّة الدُّخول في حوارٍ مع جميع النَّاس، من دون استثناء، ولا سيَّما غير الملتزمين وغير المؤمنين وحتَّى الَّذين هم من ديانةٍ أخرى؛ وأنْ يتعلَّموا أيضًا كيفيَّة “إعلان إنجيل المسيح للجميع؛ وعلى الـمُنشِّئين أنْ يعلِّموا كهنة الغد كيفيَّة خلْق “أروقةٍ” («parvis») جديدةٍ وفرصٍ راعويَّةٍ جديدة”([58]). وتُشدِّد الوثيقة هذه على أهمِّيَّة أنْ يدرس كهنة الغد اللاهوت الرِّعائيّ، وتورد في هذا الشَّأن ما يلي:

“لا تفترض التَّنشئة الرَّاعويَّة الصُّلبة التَّمرُّس في النَّشاطات الرَّاعويَّة فحسب، بل تفترض أيضًا دراسة اللاهوت الرِّعائيّ الَّذي عليه أنْ يستفيد، عند الضَّرورة، من إسهامات العلوم الإنسانيَّة، بخاصَّةٍ علم النَّفس والتَّربية وعلم الاجتماع”([59]).

   ومن أجل بلوغ الطَّالب الإكليريكيّ إلى مستوًى مقبولٍ من الخبرة الرَّاعويَّة من المهمّ أنْ يجد أمامه كهنةً-أمثلةً يكونون له قدوةً في حبّ العمل الرَّاعويّ ويُقدِّمون له يد المساعدة، ورعاةً حقيقيِّين يقودون أبرشيَّاتهم بتفانٍ رسوليٍّ مميَّز. كما يجب أنْ يتنشَّأ المدعوّ إلى الكهنوت على بُعد الكنيسة الشَّامل. إذ بالإضافة إلى محبَّة أبرشيَّته والانفتاح على حاجاتها الرَّسوليَّة والرَّاعويَّة، عليه -إذا طُلِبَ إليه ذلك أو إذا رغِبَ هو في ذلك- “أنْ يضع ذاته بسخاءٍ وإخلاص في خدمة الكنيسة الجامعة أو في خدمة كنائس خاصَّةٍ أخرى”([60]).

   وعلى التَّنشئة الرَّاعويَّة أنْ تأخذ بعين الاعتبار الأمكنة الَّتي يرتادها الطُّلَّاب لإتمام الخبرات الرَّاعويَّة، وتستشهد الشِّرْعة الجديدة بالإرشاد الرَّسوليّ أُعطيكم رُعاة، كالآتي:

“في اختيار الأمكنة والخدمات المطلوبة للخبرات الرَّاعويَّة، يجب أنْ تُخصّ الرَّعيَّة بالاهتمام: فهي الخليَّة الحيَّة لمختلف الخبرات الرَّاعويَّة، وفيها يواجه الـمُتَدرِّبون المعضلات الَّتي سيواجهونها غدًا”([61]).

   كما تلفت النَّظرَ الشِّرْعةُ إلى وجوب أنْ تتناول التَّنشئة الرَّاعويَّة أشكالًا جديدةً من المرافقة يحتاجها مجتمعنا اليوم: كراعويَّة الأولاد، والشَّبيبة، والأشخاص المرضى والمسنِّين، أو الأشخاص المصابين بإعاقة، والسُّجناء، والمهاجرين. وعلى هذه التَّنشئة أنْ تطاول، بشكلٍ خاصّ، راعويَّة العائلة. ويجب توفير أشخاصٍ أكفَّاء، كهنةٍ ومكرِّسين وعلمانيِّين، يتمتَّعون بخبرةٍ كافيةٍ ووافيةٍ ليُرافقوا كلَّ طالبٍ على حدة، ويوكلوا إلى كلِّ واحدٍ مهمَّةً محدَّدة، ويحدِّدوا له الآليَّات العمليَّة الَّتي يجب أنْ يطبِّقها في عمله الرَّاعويّ([62])

خُلاصاتٌ أوَّليَّةٌ بخصوص أبعاد التَّنشئة الكهنوتيَّة

  1. على الـمُنشِّئين والطُّلَّاب الإكليريكيِّين الَّذين يتلقَّون التَّنشئة، على حدٍّ سواء، أنْ يضعوا طاقاتهم وجهودهم وإمكانيَّتهم من أجل إنجاح التَّنشئة الإنسانيَّة والاستفادة من مضامينها، لأنَّها أساس أبعاد التَّنشئة الأخرى كلِّها. ففي الواقع الاجتماعيّ والثَّقافيّ الحاليّ، يُعاني الَّذين يلبُّون صوت الدَّعوة ويدخلون إلى الإكليريكيَّة من ذهنيَّةٍ تتميَّز بالاستهلاكيَّة والنَّفعيَّة، وعدم استقرار العلاقات العائليَّة والمجتمعيَّة، والنِّسبيَّة الخُلُقيَّة، ونظرةٍ خاطئةٍ إلى البُعد الجنسيّ في حياة الإنسان، وقلَّة أمانة في الحِفاظ على المواثيق والخيارات النِّهائيَّة والثَّابتة، وعدم وضوحٍ في سُلَّم القيَم والفضائل. لذا، على المنشِّئين أنْ يساعدوا الطُّلَّاب الإكليريكيِّين على البلوغ بإنسانيَّتهم إلى كمالها، لتُشكِّل هذه الإنسانيَّة المصقولة والمهذَّبة جيِّدًا الأساسَ الصُّلْب لعمليَّة ادماجٍ متناغمةٍ ومثمرةٍ تقود هؤلاء المدعوِّين إلى التزامٍ حرٍّ وفاعلٍ وسخيٍّ في قلب الكنيسة والمجتمع([63]).
  2. في ما يختصُّ بالتَّنشئة الرُوحيَّة، على المنشِّئين، بادئ ذي بدء، أنْ يسعوا إلى وضْع منهاجٍ واضحٍ أو خريطة طريقٍ واضحةٍ في الإكليريكيَّة، تقود الطَّالب إلى أنْ يتنشَّأ ليصير تلميذًا للمعلِّم الأوحد. وهذا ما سعَتِ الشِّرْعة إلى إبرازه وتسليط الضَّوء عليه عبر التَّقسيم الذَّي اعتمَدَتْهُ لمراحل التَّنشئة الأساسيَّة. لذا، نجد أنَّ الفترة الإعداديَّة الَّتي أصبَحت ضروريَّةً وإلزاميَّةً بحسب هذه الوثيقة الجديدة، يمكن أنْ تكون فترةً تُشدِّد على النَّاحية الرُّوحيَّة لِمَن لبَّوا صوت الرَّبّ. إذ تساعدهم على عيش مفاعيل معموديَّتهم وتُـجَدِّد التزامهم العماديّ، فيصير العماد الَّذي نالوه أساسًا متينًا يُـمَكِّنهم من السَّير بثباتٍ على دروب التَّنشئة الكهنوتيَّة، ومن التَّشبُّه بالمسيح الرَّاعي الصَّالح، في ما بعد. هذا من ناحية. أمَّا من ناحيةٍ أخرى، فعلى الإكليريكيَّة أنْ توفِّر مرافقةً روحيَّةً جيِّدةً تمكِّن الطَّالب الإكليريكيّ من أنْ يدمج ما بين كلمة الله وحياة الصَّلاة والتَّوبة والحياة الجماعيَّة المشتركة، فيعيش -في قلب الإكليريكيَّة- اختبار العنصرة، أي اختبار أنَّ الرُّوح القدس هو الَّذي يقود خطاه في مسيرة تكرُّسه، وهو الَّذي يكشف له ذاته ويمكِّنه من معرفة أسرار الملكوت([64]). وإذا لم يسمح الطَّالب للرُّوح من أنْ يغيِّر في حياته وأنْ يقوده فلن يتمكَّن من التَّشبُّه بالمسيح؛ وعندها تغدو التَّنشئة مجموعةً من التَّوجيهات الأكاديميَّة تمكِّنه من إداء وظيفةٍ إداريَّةٍ فحسب.
  3. ترتبط التَّنشئة الفكريَّة ارتباطًا وثيقًا بطبيعة الخدمة الكهنوتيَّة، إذ تقع على عاتق المدعوِّين إلى الكهنوت مهمَّة “الأنْـجَلَة الجديدة”، فخلاص إخوتهم وأخواتهم يُلزِمُهم تحصيل معرفةٍ أعمق للأسرار الإلهيَّة. وهذا ما يجعل الكهنة مستعدِّين للذَّود عن الإيمان وإقامة الدَّليل على ما يحملونه في قلوبهم من رجاء. وإزاء التَّطوُّر العلميّ والتِّكنولوجيّ، على الكهنة أنْ يكتسبوا مستوًى فكريًّا عاليًا يُتيح لهم أنْ يُبشِّروا بإنجيل المسيح ويُبيِّنوا مصداقيَّته تجاه العقل البشريّ. وتُجاه التَّعدُّديَّة الَّتي تُـمَيِّز اليوم المجتمع والكنيسة، على حدٍّ سواء، يجد الطُّلَّاب الإكليريكيُّون أنفسهم مُلزَمين بتنمية حسّ التَّمييز لديهم، وباكتساب معارف فكريَّةٍ جادَّةٍ ورصينة. 
  4. استنادًا إلى نصِّ هذه الشِّرْعة الجديدة، يبان لنا أنَّ المقاييس العامَّة محدَّدةٌ بوضوحٍ وبشكلٍ جيِّد، بيد أنَّنا لا نجد صيغًا أو أساليب محدَّدةً مسبقًا يمكن تطبيقها في المجال الرَّاعويّ. لذا، من الضَّروريّ أنْ تسعى التَّنشئة إلى أنْ تصوغ قلب طالب الكهنوت لكي يصير شبيهًا بقلب يسوع؛ أي يصير قلبُه رؤوفًا ورحومًا، ومُلتزمًا بالخدمة ومستسلمًا لمشيئة الآب، فينال منه بواسطة الصَّلاة والخدمة الكهنوتيَّة، الخلاص للبشر أجمعين. ومن الضَّروريّ أيضًا أنْ تُـمَكِّن التَّنشئةُ الطَّالبَ الإكليريكيّ من أنْ يتعلَّم كيفيَّة مُعاينة عمل الرُّوح القدس في قلب الكنيسة والرَّعيَّة الَّتي يخدم فيها، وكيفيَّة تمييز عمل الرُّوح هذا. ومن المهمّ تشجيع الطَّالب على الانخراط في المشاريع الرَّاعويَّة الخاصَّة بالأبرشيَّة والرَّعيَّة، بدلًا من الاهتمام بمشاريعه الخاصَّة والشَّخصيَّة. وأخيرًا، من المناسب أنْ يُعطَى الطَّالب تنشئةً راعويَّةً تقوده إلى إتقان فنِّ تحليل الواقع الكنسيّ الحاليّ، وإلى وَضْع مقترحاتٍ جديدةٍ تجيب على تحدِّيات الأنجلة الجديدة.
  5. وأخيرًا، نورد كلمةً في المنشِّئين والآباء المرافقين: لا يمكننا إعطاء تنشئةٍ مناسبةٍ للطُّلَّاب الإكليريكيِّين، بحسب الأبعاد الأربعة الَّتي تطرَّقنا إليها في هذا المقال، من دون منشِّئين ومرافقين قد سعوا هم، أوَّلًا، إلى أنْ ينمُّوا هذه الأبعاد في حياتهم الشَّخصيَّة؛ ومن دون منشِّئين يتمتَّعون بـ”قامةٍ” إنسانيَّةٍ غنيَّةٍ ومميَّزة، وبروحانيَّةٍ صلبةٍ ومتينة، وبكفاءةٍ عقيديَّةٍ ولاهوتيَّة، وبغيرةٍ راعويَّةٍ كبيرة([65]). لذا، لا تتمُّ التَّنشئة في هذه المجالات الأربعة عبر الدُّروس أو الوَعظ أو عبر تبادل الأفكار فقط، بل من خلال “العَدوى”، إذ ينقل الـمُنشِّئُ النَّارَ المضطرمة في داخله إلى الطَّالب الإكليريكيّ الَّذي يحيا وإيَّاه. فعلى الـمُنشِّئين أنْ يكونوا ناقلي بُشرى سارَّة ورُسُلًا، لا أنْ يكونوا أساتذة فحسب. ومن أهمِّ الصِّفات الَّتي تُـمَيِّزهم هي صفة الأُبوَّة، إذ لا ينجح المنشِّئ في خدمته إلَّا إذا عرف أنْ يكون أبًا صالحًا لأبنائه الَّذين ائتُمِنَ على تربيتهم وتنشئتهم ومرافقتهم. وهكذا تصبح هذه الأبعاد الأربعة في التَّنشئة الكهنوتيَّة معايير ومقاييس لاختيار المنشِّئين أنفسهم ولتنشئتهم وإعدادهم من أجل مهمَّة تنشئة كهنة الغد.

([1]) راجع البابا يوحنَّا-بولس الثَّاني، أُعطيكم رُعاة، العدد 43-59، ص 124-170 (اعتمدنا التَّرجمة العربيَّة الَّتي أصدرها المركز الكاثوليكيّ للإعلام، جلّ الدِّيب-لبنان. ولقد أخذْنا أرقام الصَّفحات من هذه التَّرجمة).

([2]) راجع مجمع التَّربية الكاثوليكيَّة، الشِّرْعة الأساسيَّة للتَّنشئة الكهنوتيَّة (6 كانون الثَّاني 1970؛ طبعةٌ جديدة، 19 آذار 1985)؛ تعليم الفلسفة في الإكليريكيَّات (20 كانون الثَّاني 1972)؛ توجيهاتٌ في شأن التَّربية على العزوبة الكهنوتيَّة (11 نيسان 1974)؛ تعليم الحقّ القانونيّ للمُرشَّحين إلى الكهنوت (2 نيسان 1975)؛ تنشئة كهنة الغد اللاهوتيَّة(22 شباط 1976)؛ رسالةٌ توجيهيَّةٌ في تنشئة دعوة البالغين (14 تمُّوز 1976)؛ توجيهٌ في شأن التَّنشئة اللِّيتورجيَّة في الإكليريكيَّات (3 حزيران 1979)؛ رسالةٌ توجيهيَّةٌ تتعلَّق ببعض الجوانب الأكثر إلحاحًا في التَّنشئة الرُّوحيَّة في الإكليريكيَّات (6 كانون الثَّاني 1980)؛ توجيهاتٌ تربويَّةٌ في شأن الحبِّ الإنسانيّ – سِماتٌ للتَّربية الجنسيَّة (1 تشرين الثَّاني 1983)؛ راعويَّة المهاجرين في تنشئة كهنة الغد (25 كانون الثَّاني 1985)؛ توجيهاتٌ لتنشئة كهنة الغد في شأن وسائل التَّواصل الاجتماعيّ (19 آذار 1986)؛ رسالةٌ توجيهيَّةٌ ترتبط بالدُّروس الخاصَّة بالكنائس الشَّرقيَّة (6 كانون الثَّاني 1987)؛ مريم العذراء في التَّنشئة الفكريَّة والرُّوحيَّة (25 آذار 1988)؛ توجيهاتٌ من أجل دراسة تعليم الكنيسة الاجتماعيّ وتعليمه في التَّنشئة الكهنوتيَّة (30 كانون الأوَّل 1988)؛ توجيهٌ في شأن دراسة آباء الكنيسة في التَّنشئة الكهنوتيَّة (10 تشرين الثَّاني 1989)؛ توجيهاتٌ لإعداد مربِّين في الإكليريكيَّات (4 تشرين الثَّاني 1993)؛ توجيهاتٌ في شأن تنشئة الطُّلَّاب الإكليريكيِّين على المسائل المرتبطة بالزَّواج والعائلة (19 آذار 1995)؛ توجيهٌ إلى المجالس الأُسقفيَّة في شأن قبول طلَّاب إكليريكيِّين في الإكليريكيَّة، آتين من إكليريكيَّاتٍ أو من عائلاتٍ رهبانيَّةٍ أخرى (9 تشرين الأوَّل 1986 و8 آذار 1996)؛ الفترة الإعداديَّة (1 أيَّار 1998)؛ توجيهٌ في معايير تمييز الدَّعوة في خصوص الأشخاص الَّذين يَشكُون من ميولٍ لواطـيَّةٍ في شأن قبولهم في الإكليريكيَّة وفي الدَّرجات المقدَّسة (4 تشرين الثَّاني 2005)؛ توجيهاتٌ من أجل استخدام علم النَّفْس في قبول طلَّاب الكهنوت وتنشئتهم (29 حزيران 2008).   

([3]) لمعلومات عن أبرز ما جاء في هذه الشُّرْعة من أفكارٍ رئيسيَّة، راجع دانيال زغيب، “«عطيَّة الدَّعوة الكهنوتيَّة»، شرْعةٌ جديدةٌ للتَّنشئة الكهنوتيَّة. خطوطها العريضة”، المجلَّة الكهنوتيَّة 48، 2 (2018) 393-411.

([4]) للاطِّلاع على التَّرجمة العربيَّة، راجع مجمع الإكليروس، عطيَّة الدَّعوة الكهنوتيَّة. المَنهَج التَّأسيسيّ للتَّنشئة الكهنوتيَّة، منشورات الإكليريكيَّة البطريركيَّة المارونيَّة بالتَّعاون مع المركز الكاثوليكيّ للإعلام، غزير، طبعة أولى، 2018. غير أنَّنا لم نعتمد نصوص هذه التَّرجمة العربيَّة، لأنَّنا كنَّا قد ترجمنا النُّصوص عن النَّسخة الفرنسيَّة قبْل صدور النَّسخة العربيَّة. فالصَّفحات الَّتي يجدها القارئ في الحواشي مأخوذة من الطَّبعة الفرنسيَّة. ويمكن القارئ أنْ يجد النَّصّ الفرنسيّ في Congrégation pour le Clergé, Le don de la vocation presbytérale. Ratio Fundamentalis Institutionis Sacerdotalis, Bayard-Cerf-Mame, Paris, 2017.

([5]) المرجع نفسه، العدد 92، ص 98.

([6]) المرجع نفسه.

([7]) المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، “قرارٌ مجمعيٌّ في التَّنشئة الكهنوتيَّة”، العددان 4، 17.

([8]) أُعطيكم رُعاة، العدد 12، ص 37؛ العدد 57، ص 163.

([9]) المرجع نفسه، العدد 42، ص 122.

([10])  Le don de la vocation presbytérale, n. 90, p. 96

([11])  يهمُّنا أنْ نشير إلى أنَّ شرْعة التَّنشئة الكهنوتيَّة في الكنيسة المارونيَّة قد أولَت هذه الأبعاد الأربعة أهمِّيَّةً قصوى، وتوسَّعَت في تبيان أهمِّيَّة تنشئة طلَّاب الكهنوت انطلاقًا من هذه الأبعاد، وأفرَدَتْ لكلٍّ منها بابًا خاصًّا به. كما أنَّ هذه الشُّرْعة الوطنيَّة قد تنبَّهَتْ إلى واقع خدمة الطُّلَّاب الإكليريكيِّين الموارنة عندما يُسامون كهنة، إذ سيعملون في مجتمعٍ متعدِّد الكنائس ومتنوِّع الأديان، إن في النِّطاق البطريركيّ وإنْ في بلدان الانتشار، لذا أضافَتْ إلى هذه الأبعاد الأربعة بُعدَين اثنَين هامَّين، ألا وهما: التَّنشئة المسكونيَّة والتَّنشئة الإرساليَّة. كما أفرَزَت بابًا خاصًّا عَنوَنَتْه: التَّنشئة في بلدان الانتشار، وذلك لأنَّ الموارنة -في غالبيَّتهم- يعيشون خارج النِّطاق البطريركيّ، أيّ في أوروبّا وأمريكا وأستراليا وكندا. كما نشير إلى أنَّ الباب الحادي عشر من هذه الشِّرْعة المارونيَّة يحمل العنوان الآتي: التَّنشئة على الحسّ الكنسيّ، “لأنَّ الهويَّة المميَّزة للكاهن وخدمته، إنَّما تتجلَّى ضمن الكنيسة من حيث هي سرّ شركةٍ ثالوثيَّةٍ في اتِّجاهٍ رسوليّ …” (عن هذه الأبعاد في التَّنشئة، راجع شرْعة التَّنشئة الكهنوتيَّة في الكنيسة المارونيَّة، منشورات الإكليريكيَّة البطريركيَّة المارونيَّة، غزير-لبنان، 2008، الأعداد 38-88، ص 43-106).   

([12])  Le don de la vocation presbytérale, n. 89, p. 95  

([13])  يتطرَّق المجمع البطريركيّ المارونيّ إلى أبعاد التَّنشئة الكهنوتيَّة الأربعة، أي الإنسانيَّة والرُّوحيَّة والفكريَّة والرَّاعويَّة، و”يوصي بأنْ تشدِّد التَّنشئة على النَّاحية الإنسانيَّة بالدَّرجة الأولى بحيث تُكَوِّن في الكاهن شخصيَّةً ناضجةً تسمح له بأنْ يكون «جسرًا بين النَّاس وبين يسوع المسيح»، لأنَّه هو «من يقوم في الوسط بين الله والنَّاس»” (المجمع البطريركيّ المارونيّ (2003-2006). النُّصوص والتَّوصيات، النَّصّ السابع: الكهنة (والشَّمامسة) في الكنيسة المارونيَّة، بكركي، 2006، العدد 56، ص 260).  

([14])  Le don de la vocation presbytérale, n. 93, p. 99    

([15])  أُعطيكم رعاة، العدد 43، ص 126.  

([16])  راجع Le don de la vocation presbytérale, n. 94, p. 100  

([17])  المرجع نفسه، العدد 94، ص 100-101.  

([18])  راجع المرجع نفسه، العدد 95، ص 101-102.  

([19])  المرجع نفسه، العدد 97، ص 103.  

([20])  المرجع نفسه.  

([21])  المرجع نفسه، العدد 98، ص 104.  

([22])  المرجع نفسه، العدد 99، ص 104-105.  

([23])  المرجع نفسه، العدد 101، ص 105-106.  

([24])  يتوسَّع الإرشاد الرَّسوليّ أُعطيكم رُعاة في شرْح ماهيَّة المحبَّة الرَّاعويَّة، فيورد الآتي: “المحبَّة الرَّاعويَّة هي المبدأ الباطن والحافز الَّذي يحرِّك الكاهن ويوجِّه حياته في محبَّته الرَّاعويَّة، وهبةٌ مجَّانيَّةٌ من الرُّوح القدس، وهي في الوقت نفسه التزامٌ ودعوةٌ إلى جوابٍ حرٍّ ومسؤولٍ من قبَلِ الكاهن. قوام المحبَّة الرَّاعويَّة، إنَّما هو بذل الذَّات بذْلًا كاملًا للكنيسة، على مثال المسيح وتشبُّهًا بتضحية ذاته” (أعطيكم رُعاة، العدد 23، ص 62).  

([25])  نلفت نظر القارئ إلى أنَّ شرْعة التَّنشئة الكهنوتيَّة في الكنيسة المارونيَّة قد خصَّتِ الباب السَّادس بـالتَّنشئة الرُّوحيَّة، وتوسَّعَت في التَّطرُّق إليها من مختلف نواحيها. لذا، ننصح القارئ بالعودة إليه، إذ يتناول المواضيع عينها الَّتي تطرَّقَتْ إليها الشِّرْعة الجديدة، ويستفيض في شرْحها. نكتفي، هنا، بذكر عناوين هذا الباب السَّادس، كالآتي: الدَّعوة والحياة الرُّوحيَّة، الحياة الرُّوحيَّة وواقع الإنسان، الحياة الرُّوحيَّة والدَّعوة إلى القداسة، الحياة الرُّوحيَّة وكلمة الله، الحياة الرُّوحيَّة والإفخارستيَّا، الحياة الرُّوحيَّة والتَّوبة، الحياة الرُّوحيَّة والصَّلاة، الحياة الرُّوحيَّة والقيَم الإنجيليَّة، مريم العذراء (راجع شرْعة التَّنشئة الكهنوتيَّة في الكنيسة المارونيَّة، الأعداد 46-55، ص 53-66).  

([26])  يُقدِّم لنا الإرشاد الرَّسوليّ أُعطيكم رُعاة تعريفًا مميَّزًا عن التَّنشئة الرُّوحيَّة، نقتطف منه الآتي: “الحياة الرُّوحيَّة هي وصالٌ مع الله واتِّحادٌ به (…). إنَّها عمل الرُّوح: تُـجَنِّد الإنسان بكلِّ طاقاته وتُدْخِلُه في شركةٍ حميمةٍ مع يسوع المسيح الرَّاعي الصَّالح، وتقوده إلى تطويع كلّ حياته للرُّوح، في خضوعٍ بنويٍّ للآب (…). إنَ التَّنشئة الرُّوحيَّة يجب أنْ تحتلّ، في حياة كلِّ مؤمن، محلًّا مركزيًّا وتُوَحِّد كيانَه وحياته بوصفه مسيحيًّا، أي خليقةً جديدةً بالمسيح (…). يجب أنْ تكون التَّنشئة الرُّوحيَّة، في حياة كلِّ كاهن، «القلب» الَّذي يوحِّد ويُـحْيي «كيانه» و«سيرته» الكهنوتيَّة” (أعطيكم رُعاة، العدد 45، ص 130، 131).  

([27])  راجع Le don de la vocation presbytérale, n. 102, p. 106  

([28])  المرجع نفسه، العدد 103، ص 107.  

([29])  المرجع نفسه، العدد 106، ص 108.  

([30])  المرجع نفسه.  

([31])  المرجع نفسه، العدد 107، ص 108، 109.  

([32])  راجع المرجع نفسه، العدد 108، ص 109.  

([33])  المرجع نفسه، العدد 109، ص 110.  

([34])  المرجع نفسه، العدد 110، ص 110.  

([35])  المرجع نفسه، العدد 110، ص 111.  

([36])  المرجع نفسه، العدد 110، ص 112.  

([37])  المرجع نفسه.  

([38])  المرجع نفسه، العدد 111، ص 113.  

([39])  أُعطيكم رُعاة، العدد 30، ص 84.  

([40])  Le don de la vocation presbytérale, n. 113, p. 114    

([41])  المرجع نفسه، العدد 115، ص 115.  

([42])  المرجع نفسه، العدد 116، ص 115-116.  

([43])  المرجع نفسه، العدد 116، ص 116.  

([44])  المرجع نفسه، العدد 117، ص 116-117.  

([45])  المرجع نفسه، العدد 118، ص 117.  

([46])  أُعطيكم رُعاة، العدد 55، ص 159، 160.  

([47])  Le don de la vocation presbytérale, n. 118, p. 117    

([48])  أُعطيكم رُعاة، العدد 51، ص 149.  

([49])  المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، “دستورٌ راعويٌّ حول الكنيسة في عالم اليوم فرح ورجاء“، العدد 22.  

([50])  وإلى القارئ الكريم النَّصّ في اللُّغة الإنكليزيَّة، كالآتي:«a person capable of building humanity around him, passing on the divine Christian truth in a truly human dimension, and not a talentless intellectual, an ethicist lacking in goodwill or a bureaucrat of the sacred (…). Even good theologians, like good shepherds, have the odour of the people and of the street and, by their reflection, pour oil and wine onto the wounds of mankind», dans: Pope Francis, «Letter to the Grand Chancellor of the «Pontificia Universidad Católica Argentina» for the 100th anniversary of the founding of the Faculty of Theology (3 March 2015)», consulté le 9/5/2018, sur le site internet suivant: https://w2.vatican.va/content/francesco/en/letters/2015/documents/papa-francesco_20150303_lettera-universita-cattolica-argentina.html

([51])  Le don de la vocation presbytérale, n. 119, p. 118    

([52])  المرجع نفسه.  

([53])  المرجع نفسه.  

([54])  المرجع نفسه، العدد 119، ص 119.  

([55])  أُعطيكم رُعاة، العدد 58، ص 166.  

([56])  Le don de la vocation presbytérale, n. 120, p. 119    

([57])  المرجع نفسه، العدد 120، ص 120.  

([58])  المرجع نفسه، العدد 121، ص 121.  

([59])  المرجع نفسه، العدد 122، ص 121.  

([60])  المرجع نفسه، العدد 123، ص 122.  

([61])  المرجع نفسه، العدد 124، ص 122-123 (راجع أيضًا أُعطيكم رُعاة، العدد 58، ص 166-167).  

([62])  راجع المرجع نفسه، العدد 124، ص 123.  

([63])  تورد الرِّسالة الرَّاعويَّة الَّتي وجَّهها بطاركة الشَّرق الكاثوليك إلى الكهنة في شأن تنشئة الكاهن الإنسانيَّة، ما يلي: “يبقى الإنسان في الكاهن أداةَ النِّعمة، بما فيه من صفات أو نقاط ضعف، فيما يحاول أنْ يُطوِّر ذاتَه بنعمة الله وبالتَّربية الَّتي يتلقَّاها قبل الكهنوت كما وبالتَّنشئة الدَّائمة بعده (…). وللتَّعامل مع الرَّعيَّة ومع النَّاس، هناك صفاتٌ يقدِّرها النَّاس بحقٍّ إذ تدعوهم إلى التَّجاوب والبناء معًا، وهي الطِّيبة والصِّدْق والقوَّة الأدبيَّة والثَّبات وحبّ العدالة واللُّطف والصُّمود والصَّبر في عمل الخير وصفاتٌ أخرى أيضًا عدَّدها القدِّيس بولس (…)” (مجلس بطاركة الشَّرق الكاثوليك، رسالةٌ راعويَّةٌ إلى الكهنة. «كما أرسَلَني الآبُ أُرسِلُكم أنا أيضًا» (يوحنّا 20: 22)، الرِّسالة الرَّاعويَّة السَّابعة، منشورات الأمانة العامَّة، بكركي، عيد انتقال سيِّدتنا مريم العذراء، 15 آب 2004، العدد 19، ص 23، 24).

([64])  نستشهد، في هذا المجال، بنصٍّ مأخوذٍ من شرْعة التَّنشئة  الكهنوتيَّة في الكنيسة المارونيَّة؛ هذا النَّصّ الـمُعَبِّر والغنيّ والَّذي يعتبر أنَّ هناك “صلةً وثيقةً بين واقع الإنسان والحياة الرُّوحيَّة فلا يرون [أي المعنيُّون بالتَّنشئة] فيها مجالًا من مجالات التّربية الكهنوتيَّة فحسب، بل أيضًا روح التَّنشئة أيضًا” (العدد 47، ص 55). ونورد، هنا، أبرز ما جاء في هذا الخصوص، كالآتي: “لا بدَّ للتَّنشئة الرُّوحيَّة مِنْ أنْ تُبنى على قناعةٍ ثابتةٍ مفادها أنَّ الحياة الرُّوحيَّة إنَّما هي ثمرة عمل الرُّوح في حياة المؤمنين وبخاصَّةٍ المدعوِّين إلى الكهنوت (…). وإنَّ كلَّ فصْلٍ للحياة الرُّوحيَّة عن الواقع يضعها في ازدواجيَّةٍ خطيرةٍ قد تقودهم إلى الانحراف” (شرْعة التَّنشئة  الكهنوتيَّة في الكنيسة المارونيَّة، العدد 47، ص 55).

([65])  يتطرَّق الإرشاد الرَّسوليّ أُعطيكم رعاة إلىدور الـمُرَبِّين وكيفيَّة اختيارهم والصَّفات الَّتي يجب أنْ يتحلَّوا بها، ويورد الآتي: “لا جرم أنَّ نجاح التربية منوط، إلى حدٍّ كبير، بشخصيَّة الـمُربِّين وما تتحلَّى به من نضجٍ ورسوخ، على الصَّعيدَين البشريّ والإنجيليّ. ولا بدَّ، من ثمَّ، من التَّدقيق، في اختيارهم وحثِّهم على المضيِّ دومًا في سبيل التَّأهيل للمهمَّة الـمُلقاة على عاتقهم (…). هذه المهمَّة لا بدَّ مِنَ أنْ يُنتَدَبَ لها كهنةٌ يتميَّزون بقداسة سيرتهم، ويملكون مجموعةً من الصِّفات: «النَّضْج الإنسانيّ والرُّوحيّ، الخبرة الرَّاعويَّة، الجدارة المهنيَّة، الثَّبات في دعوتهم، الأهبة للتَّعاون، التَّضلُّع من العلوم الإنسانيَّة (وبخاصَّةٍ علم النَّفس) الموازية لمهمَّتهم، الوقوف على أساليب العمل الجماعيّ»” (أُعطيكم رُعاة، العدد 66، ص 185-186، 186-187).  

Scroll to Top