منذ الدعوة الأولى بدأ الإنسان الانسلاخ عن أرضه وذهب إلى أرض جديدة. سعى مجازفاً، شقى مجتهداً وتاق مكتشفاً حتى اتّسعت مهمّته. فكانت دعوة إبراهيم: «انطلق من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك؛ إلى الأرض التي أريك» (تك 12/1).
منذ نشأتها تسلّمت الجماعة المسيحيّة الأولى مهمّتها للتحرّك والذهاب حاملة بُشرى القيامة، ناشرة بذار الإيمان، عاملة في كرم الربّ. انطلقت القافلة ولم تزل تشدّ الرحال إلى أماكن وأماكن ترسي أُسُس الفرح والرجاء وهي تكشف مخابئ النّعمة وتسبر غور العطايا وتنثر عبير المحبّة. لقد نفخ الربّ يسوع في تلاميذه «وقال لهم خذوا الروح القدس» (يو 20/22)؛ «كما أرسلني الآب أرسلكم أنا أيضاً» (يو 20/21). «فذهب أولئك يبشّرون في كلّ مكان» (لو 16/20).
منذ نهضة الحياة المسيحيّة حجّ المؤمنون إلى أماكن مقدّسة يتوقون إلى اتباع من هو «الطريق» إلى الآب، ويتشبّهون بمن هو ذاهب لعند الآب (راجع يو 14/2، 6)، مستلهمين همسات الروح، جادّين في سُبُل الصلاة وهم يخرجون ليس فقط من أرضهم بل وأيضاً من ذاتهم ليبلغوا الوعود بالراحة والسلام والنعمة. فتأسّست رحلات الحجّ إلى أورشليم والأراضي المقدّسة وغيرها من الأماكن التي تتحلّى بميزات الروح وتتلوّن باختبارات الرسالة المسيحيّة. هذا ما حمل الكنيسة إلى تعيين الأماكن المخصّصة للزيارات الدينيّة وتخصيص البلدان للسياحة الدينيّة.
منذ الحراك الديني المعروف «بالسياحة الدينيّة» نشطت الرحلات الدينيّة والسياحة الدينيّة واتّسعت رقعة السفر وبلغت أرض لبنان «أرض القداسة» و«وطن الرسالة». الأرض التي وطأها المسيح برفقة أمّه السيّدة العذراء مريم، والتي استخدم شواطئها الرسل. الوطن الذي انتشرت في ربوعه الجماعات المسيحيّة فاحتمت في وديانه ولجأت إلى جباله، تحافظ على إيمانها وتتمسّك بتقاليدها الروحيّة حتى غدت حياتها مثالاً في التقوى والتقشّف والعطاء فأنبتت القدّيسين العظام يفخر بهم أبناء الوطن كلّهم. لقد تعبّد أبناء لبنان، على تنوّع أديانهم ومشاربهم الإيمانيّة، فأنشأوا المزارات وبنوا المقامات الدينيّة والتقيّات على كلّ مساحته. وبحسب تقدير «مكتب مجلس السياحة الدينيّة Néos»، إنّ أكثر من ألف مزار للسيّدة العذراء، وثلاثة آلاف مقام ديني تغطّي مساحة لبنان الصغيرة بجغرافيّتها والغنيّة بخبرتها. يؤمّ السيّاح هذه المقامات بحثاً عن الغنى الثقافي والتاريخي فيها. يزورون كنيسة للتمتّع بمشاهدة أيقوناتها ومعاينة جدرانياتها القديمة. يدخلون المزارات سعياً للصلاة والتبرّك وطلباً للخلوة تشبّهاً بقدّيسيها من مزار مار شربل إلى رفقا والحرديني والأخ اسطفان والأب بشارة مراد وغيرهم. يمتزج في هذه الرحلات الحج الديني مع السياحة الترفيهيّة، فتلتقي كلّها في ما نسمّيه «طريق السعادة».
لقد شبّه الراهب في حواره مع عالم النفس مشوار السعادة بتسلّق القِمَم. «فالسعادة تشبه طريق الجبل صعوداً، فبقدر ما يعلو المرء يرى الأوسع»[1]. بقدر ما تخفّ مساحة الأرض تتّسع فسحات السماء وتقترب. إنّها الصورة الأوفر تعبيراً عن الحج الديني والسياحة الدينيّة. لأنّ زائر الأماكن المقدّسة يدخل في عمق المعنى وهو يخرج من مساحة الملموس؛ وعند اكتشاف الجمال ولمس الحقائق يغتني بالخبرة وينتعش بالفرح ويندفع بالرجاء.
لقد أدرج قداسة البابا فرنسيس لبنان على اللائحة الرسميّة للسياحة الدينيّة الكاثوليكيّة في سنة 2019، وتمّ إعلان الحدث في 13 تموز 2018 على مواقع الاعلام الرسميّة. وعليه، اختارت إدارة مجلة «المنارة» موضوع السنة «السياحة الدينيّة» لتعالجه من جوانب عدّة. يتناول العدد الأوّل مواضيع متنوّعة، ويتخصّص العددان الثاني والثالث بموضوع «السياحة الدينيّة».
ترجو إدارة المجلة أن تسهم هذه البادرة في إنعاش الحياة الروحيّة وتوطيد مفاهيم الانفتاح والجمال والعمق الروحي، وتكون فاتحة خير على الصعيدَين الوطني والكنسي.
إدارة التحرير
[1]– Amédée HALLIER et Dominique MEAGLE, Le moine et le psychiatre, entretien sur le Bonheur, ed. Bayard – Centurion, 1995.