الشيخ د. سامي أبي المنى [1]
نلتقي حول السيدة مريم، مدركين عظَمةَ مكانتها في القرآن الكريم، وهي المرأة الوحيدة التي ذكرها، مؤكِّداً اصطفاءَ الله لها، من خلال بشارتِها بالسيّد المسيح، ومعجزةِ عيشها في كنفٍ إلهي، ومعجزةِ حملِها، ومعجزةِ وضعِها. وقد أسهبَ القرآنُ في سرد سيرتها الأولى معتبراً أنها السيدةُ المفضَّلة، فأُفرِدت لها الآياتُ والسور، وفي ذلك تأكيدٌ على السرّ الكبير الذي حملته، بولادتها لنبيٍّ الله عيسى (ع).
هناك إيمانٌ عميق بقدرة الخالق تعالى، أن يبعثَ معجزاتِه في مَن يشاء، وأن يُرسِلَ روحَه القُدُس ونعمتَه لتحُلَّ حيث يشاء: “الروح يهبُّ حيث يشاء”(يو3: 8)، وكيف لتلك الروح أن تهبَّ أو أن تَحُلَّ إذا لم تجد أرضاً خصبة مهيّئة، ونفساً مؤاتية؟ وهو ما عناه القرآنُ الكريم، بقوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” (الرعد، آ 11)؛ وتلك هي الحقيقةُ الواقعيةُ التي تعلّمناها في إسلامنا وفي توحيدِنا، أن يكون السعيُ من الإنسان، والتوفيقُ من الله، وأنَّ على الإنسان أن يُطهِّرَ نفسه لتُصبحَ قابلةً وقادرةً لاستقبال الحقيقة؛ وهذا ما يشبّهُه الأميرُ السيّدُ التنوخي، الرابضُ ضريحُه المبارَكُ فوق تلّة بلدة عبيه التاريخية منذ أكثرَ من خمسماية سنة، يشبّه ذلك الصفاءَ الإنسانيَّ بصفحة الماء الصافية النقيّة التي تعكس فيها كمالَ البدر ونورَه وعظَمتَه، على قدر ذلك الصفاء وتلك الطهارة. أمّا مَن يخدشُ صفاءَ مرآةِ قلبِه، ومن تتعكّرُ مياهُ نفسِه فليس بإمكانه أن يعكسَ صورةَ الله الكاملة فيه؛ وذلك ما يُفسِّر المنطقَ القائلَ بأن كلَّ إنسانٍ يحملُ من تلك النعمة على قَدر طاقته وصفائه. ومن الناس مَن يكفرُ بالنعمة ولا يحملُ منها أيَّ شيء، وهو ما ينبطق عليه المبدأُ القرآنيُّ القائل: “فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه”. (الزلزلة، آ 7-8)
من سيرة السيدة مريم يتعلّمُ المؤمنون الدروسَ والعِبر، ويتلاقى المسيحيون والمسلمون على قيم المحبة والسلام، ويكفي أن نُشيرَ إلى سورَة “آل عمران” لنتأكّد أن وجه مريم الذي يجمع بين القرآن والإنجيل يشكِّلُ دعوةً صارخة إلى عدم التفرُّق، يُضافُ إليها ما يمكن استلهامه من سِيَر الأنبياء والحكماء والصالحين من عِبرٍ وفوائد، وكم هناك من قيمةٍ روحيةٍ، إنسانيةٍ وأخلاقية، قالت بها الرسالاتُ السماوية، وأسّس لها أربابُ العقولِ النيِّرة، وكلُّها قِيَمٌ تساعدُ في التلاقي بين بني البشر وفي تقريب المسافات بينهم.
لقد زخر التاريخ بالمحطات التي تجمع أهلَ الأديانِ على التقارب والاعتراف بعضُهم ببعض، وبالمواقف الإسلامية والمسيحية التي تُعزّزُ ذلك التقاربَ وتلك العلاقاتِ الأخوية، وليس آخرها قصص المودّة والتسامح في جبل لبنان، ومنها ما هو حديثٌ في بلادنا، لكنه بدأ منذ زمن التنوخيين والأمير فخر الدين ومشايخ الإقطاع من جنبلاطيين ونكديين وغيرِهم، الذين وهبوا الأراضي لأخوانهم المسيحيين لبناء الأديرة وللسكن في هذا الجبل والمساعدة في نهضته واستقلاله، واستُكمل بالمصالحة التاريخيةِ في الجبل التي تمّت في المختارة عام 2001، برعاية غبطة البطريرك صفَير، والتي نتعاون معاً لإنجاحِها يوماً بيوم.
ألا يجدر بالمتطرّفين العودةُ إلى تلك اللمعات المضيئة في العيش معاً وفي العلاقات الإسلامية المسيحية، والنهل من مَعين الآيات والأحاديث والأقوال الداعية إلى الرحمة والمحبة، بدلَ الغرقِ في آيات القتال والكراهية والحقد والإرهاب؟ ألا يشكّل ذكرُ مريمَ محطةً أساسية في ترسيخ التلاقي الإسلامي المسيحي، وفي تأكيد القيم الأخلاقية المشترَكة، التي تمثّلُ الغايةَ الواحدةَ للأديان؟ ألا يجدر بنا البناء على ما تمَّ إنجازه وتحقيقه عبر التاريخ؟ بدلَ إثارة الأحقاد والفتن، والتمترس وراء الأحداث الأليمة التي عصفت بنا مراراً دون أن نكون مسبِّبين لها، بل كنا دائماً متلقِّين متفاعلين، ووقوداً على نار مصالح الدول ونزاعاتها.
إنَّ وجهَ مريمَ يجب أن يعيدَ الناسَ، مسلمين ومسيحيين بعضهم إلى بعض، ليغوصوا عميقاً في الإنجيل كما في القرآن، فيتعلَّمون من سيرة مريم وسيَر الأنبياء والقدِّيسين دروساً في المحبة والرحمة والإنسانية، لعلَّهم يفقهون معنى الآية الكريمة” “… وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ” (المائدة 82). وإذّاك يحلو التلاقي وتحلو حياة العيش الواحد المشترك في إطار التنوّع في الوحدة، والتكامل والاندماج والشراكة، لا الانصهار والذوبان ونكران الهوية الذاتية.
سلاماً يا مُكرّمـةً
أمَّ المسيـح أيـا قدّيستي الكبرى إن لم أقـلْ فيكِ شعراً كافياَ عُذرا
فأنتِ أقدسُ من قـولٍ ومن لغـةٍ وأنتِ أكبـرُ من أشعارِنـا قَدرا
أمَّ المسيح سلامـاً يا مُفضّلــةً على النساءِ، ﭐصطفاكِ اللهُ بالبُشرى
مُذ بشّـرَ الربُّ بالمولودِ أسلَمَـه لراحتيـك، أطعتِ الحـقَّ والأمرا
طوبـاكِ سيّـدةً، طوبـاكِ والدةً وألفُ طوبى لأُمِّ تحمِـلُ الفَخرا..
أمَّ المسيـح سلاماً يا مُكرّمــةً وَلَدتِ للنـاسِ نوراً صافيـاً بَدرا
حملتِ بين الورى سـرّاً يُخلّصُهم أكرِمْ بأحشاءِ أُمٍّ تحمِــلُ الســرّا
طفـلاً يُبشّرنا بالحـقِّ في بشَـرٍ كما الشعـاعُ إلينـا ينقـلُ البِشْـرا
الربُّ أرسلـه ﭐبنـاً مـن أبوّتـه كالشمسِ تُرسل من أنوارها فجـرا
بين الإلـه وبين الخلـق سلسلـةٌ من روحه القُدُسيّ ﭐستمطرتْ عِطرا
كأنّهــا قـوّةُ التأييـدِ واصلـةً إلى ﭐبنِ آدمَ تَروي “كِلْمَـةَ” القُـدرة
هو المسيحُ؛ مسيحُ الحقِّ، يُرشدُنـا بما إليه الأبُ الرحمــنُ قد أجرى
بالمعجزات وحبِّ الناس منتصـرٌ وبالفداءِ ﭐرتقـى إذ حقّقَ النَّصرا
يا مريـمٌ قد غدوتِ الرمزَ يَجمعُنا في رحلة الحقِّ حتى نبلغَ الفِطـرا
تلك الرسالـةُ بالتوحيد قد نَبضتْ روحاً، وأنتِ حضنتِ الوعدَ والبذرا أمٌّ بأحشائها السـرُّ الكبيـرُ نَمـا وعداً، كنَسـغٍ تحدّى القهرَ والكفرا
غذّته طفلاً وصارت من فضائلِـه كالطفلِ، حبّاً، تُغذّي القلبَ والصَّدرا
تلك المبارَكةُ العصماءُ قد ظُلمِـتْ لكنّها جوهَرتْ في صبرها الصبـرا
عاشتْه سـرّاً جنينـاً، كم يُعذّبُهـا حلوَ العذاب، ففاضت بالرضى جَهرا
عاشته ظلماً، أيادي الشـرِّ تَصنعُه لكنّـه جاء عُسـراً وﭐنتهى يُســرا
ولازمته فتـىً طابـتْ سريرتُـه ما ﭐعتـاد يفتـحُ إلاّ للهُدى ثَغـرا
وصار نجماً تُضيءُ الكونَ طَلعتُه والأمُّ نبعُ الرجاء، ﭐستولدتْ نهـرا
من حوله أخوةٌ قد آمنـوا فمشَـوا دربَ المحبة حتى لـو بدتْ جمـرا
تهبُّ حيثُ تشـاءُ الروحُ، عاصفةً تُحطّمُ الصخرَ، روحاً، ترفضُ القبرا
أكرِم بأمٍّ لأبنـاءِ المسيـح غـدتْ أُمّـاً توزّعُ منها للمَلا ذُخــرا
ذكراكِ يـا أُمُّ عطرٌ في حدائقنـا من سـرّ ألغازه نَستنبتُ الزَّهـرا
سرُّ الأنوثـة عطـرٌ طاب مولدُه تَباركَ الربُّ كـم أوحى بـه فكـرا
سـرُّ الأمومة عطرٌ منكِ منتشـرٌ يفيضُ عطفاً ويسمو للعلى طُهــرا
سرُّ التواضعِ عطـرٌ من نسائمِه تُروى النفوسُ، ومنـه تُؤخـذُ العبرة
سرُّ الشفاعة عطـرٌ من لطائفـِه شذا حنانــِكِ، كم في صدقـه أبـرا
وسرُّ حبِّكِ روحُ العطر في جسـدٍ، ولدْتِهِ، صار خبزاً طيّبـاً، خمرا
يا وجهَ خيرٍ، وفيه المؤمنونَ رأَوا وجهَ السلام ولم يستغربـوا الأمـرا
عيناكِ في ألـمٍ والرأسُ في خجلٍ حانٍ، وثغرُكِ، كم في طُهـره أغرى
بالصمتِ منشغلٌ، والجَفنُ مكتحِلٌ بعِبـرةٍ قـد روت أهدابَهـا عَبـرة
حجابُكِ عصمةٌ والثوبُ من شرفٍ يحكــي البساطةَ والإيمانَ والفقـرا
رمزَ الشفاعةِ قد أضحيتِ، جالسةً حيثُ الإلـهُ بنــى من روحه قصرا
يكفيـكِ عـزّاً بأنْ نادتْـكِ أفئدةٌ وصوّرتـْكِ ملاكـاً يقبـلُ النــذرا
إن قُلتُ ما قُلتُ فالقـرآنُ أنطقَنـي بما اصْطُفيتِ به يا مريـمَ العــذرا
هو الكتابُ ووحيُ الله، مرجِعُنـا، يُحيي بماء السمـاء الأرضَ والقَفرا عليـكِ ألـفُ سلامٍ، والسلامُ بدا، من وجهك السّمْحِ، قطراً يملأُ البحرا
- ألقيت في أمسية شعرية بعنوان: “وجه مريم في السلام”، في جامعة سيدة اللويزة، زوق مصبح، بتاريخ 27/5/2010.
- [1] أمين عام مؤسسة العرفان التوحيدية ورئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز في لبنان.