المطران مارون ناصر الجميِّل[1]
1 – من أين يبدأ زمن الانتشار الماروني، ومن أي يبدأ إكرام الكنيسة المارونيَّة لمريم “أمِّ الإله، الحنونة، وكنز الرحمة والمعونة؟”. هل يُحصر فقط بزمن الهجرة الأولى المتعارف عليها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أم هل يعود إلى زمن البدايات التبشيريَّة للكنيسة المارونيَّة، يوم انطلق تلامذة مار مارون حاملين إنجيل السيِّد وإكرام أمِّه، يوم كان ديدنُهم مسحنةُ مَن استمرَّ على وثنيَّته في سهول سوريَّا وفي الجبل اللبناني والجوار؟ لأنَّه عندما تستقيل المسيحيَّة عن دورها الرسولي تدخل في انحطاط روتيني قد يؤدي إلى اضمحلالها إذا لم يُستدرك الأمر سريعًا.
سأحاول، إذًا، أن أقوم بجولة تاريخيَّة شاملة تطال الماضي العريق مع التركيز على الانتشار في خلال القرنين الفائتين؛ إذ لا بدَّ من أن نأخذ بالاعتبار مكتسبات الماضي العريق والخبرات الرائدة التي اتَّخذها تلامذة مار مارون الذي عاشوا المسيحيَّة استقرارًا ورسالة على السواء. وما يهمُّنا هو التركيز على الفترة الزمنيَّة الحديثة وإبراز تعلُّق الموارنة بمريم وبابنها واصطحابهما إيَّاهما حيثما هُجِّروا وتهجَّروا وحيثما نزحوا وانتشروا. سَيبقيان الثابتين الوحيدين في حلِّهم وترحالهم.
*******
2 – نشأت المارونيَّة في زمن كانت المسيحيَّة قد عمَّت السواحل والمدن ولم يبق سوى بعض جيوب وثنيَّة تعتنق “ديانة الأجداد” عصيَّةً على المسيحيَّة. واتَّخذت نسبتَها من راهب ناسك يدعى مارون، آثر التنسُّك في مكان قفر بجوار أنطاكية، مدينة الله. أمَّا انتشارها الأوَّل فكان في النطاق البطريركي الأنطاكي القريب من نهر العاصي وعلى امتداد السهول والجبال المجاورة. ارتبطت بالحضارتين: السريانيَّة في الداخل والهلِّلينيَّة على السواحل، وانطلقت من تعليم لاهوتي اتَّخذه المجمع الخلقيدوني (451) وقَبِلَهُ رهبان دير مار مارون وانتشر بين المؤمنين في الجوار؛ وما عتَّم أن شكَّلوا جبهة منيعة تجاه مَن لم يقبل بتعاليم أفسس وخلقيدونية. وبطبيعة الحال، أدَّى خيارهم إلى ظهور خلافات لاهوتيَّة كريستولوجيَّة ومريميَّة انعكست سلبًا على تفاعل القوميَّات ونزعاتها.
ومع انتشار المسيحيَّة في مطلع القرن السادس وتغلُّبها على سواها من الأديان تحوَّلت المعابد الوثنيَّة للآلهات الوثنيَّات هياكل لإكرام مريم. فمعابد أفقا وأدونيس وعشتروت باتت سيِّدة أفقا ويانوح وإيليج وحوقا وقنُّوبين وبكركي وحريصا… لقد حجب إكرام مريم والدة الإله عبادة عشتروت وأفروديت وﭬـستا وسواها!
وإثر دخول الإسلام مسرح الأحداث في الشرق الأوسط، تأسست البطريركيَّة المارونيَّة وانتشر مؤمنوها في النطاق البطريركي الأنطاكي. وبعد إعادة بيزنطية احتلال شمال سوريَّا في القرن العاشر، اتَّخذ البطاركة الموارنة، من جبل لبنان، مركزًا ثابتًا لهم في الصوامع والأديار والمناسك. فمِن صومعة مار مارون في العراء، مرورًا بمناسك العاصي، وصولاً إلى محابس جبل لبنان وأدياره المنيعة، في الجبال والأودية، لكي تستقرَّ البطريركيَّة المارونيَّة، أخيرًا، في بكركي (شتاءً) وفي الديمان (صيفًا).
لم يبق للموارنة من تلك الفترة الأولى سوى بعض الكتابات المبعثرة في المخطوطات هنا وهناك[2]؛ حتى دير مار مارون في وادي نهر العاصي، وعلى الضفة اليمنى منه، ضاعت معالمه. عدا الكأس الفضِّي العائد للدير[3]، الذي وصفه المسعودي، والمكتشف بنهاية القرن العشرين[4]، وحدها صورة سيِّدة إيليج، التي تعود إلى القرن العاشر، كما دلَّت الأبحاث بشأنها، قد تكون أقدم أثر ماروني موجود. وما كان هذا ليكون لولا معونة العذراء مريم التي معناها سيِّدة البحر، أو المرتفعة، أم الكلمة المتجسِّد.
والدة الإله! ابنها إذًا هو الإله! فإذا كان الموارنة يؤمنون بالتجسُّد وبأنَّ الإله صار بشرًا، شأنهم شأن سائر المسيحيِّين، فهذه المرأة هي حقًّا والدته. فالصِلات والتواصل ما بينها وبين الإله ابنها هي نفسها ما بين أمٍّ وابنها، مع فارق أساسي وهو أنَّ الابن اختار أمَّه وزيَّنها بكلِّ المحاسن، فصارت أمًّا وظلَّت بتولة.
مع كلِّ موجة اضطهاد ونزوح وانتشار، رافق إكرامُ مريم المؤمنين الموارنة وتأسَّست على اسمها كنائس وأديار لا تُحصى في الشرق وبعيدة عنه؛ قاسمُها المشترك حبُّ مريم العذراء والتعلُّق بها. ومريم التي “تحفظ كلَّ هذه الأمور وتتأمَّلها في قلبها” (لو 2: 51) تبادل المؤمنين بدورها الحماية والرعاية والحنان؛ فهي الأم الأمينة و”سبب سرورنا“، و”كرسي الحكمة“، وشافية المرضى، تخفِّف الحزن عن المؤمنين، وتلبِّي سريعًا نداءات أولادها متى دعوها.
3 – ما يهمُّنا أن نقول هو أنَّ التصاق اسم مريم بالموارنة ترافق مع مسيرتهم الكنسيَّة، وفي حَلِّهم وترحالهم، شأنهم شأن سائر المسيحيِّين. ولكن قد يكون إكرامها عندهم لافتًا أكثر من عند سواهم. فتيمُّنًا باسمها دَعَوا، أوَّلاً، مراكز إقامة بطريركهم: فمن سيِّدة يانوح إلى سيِّدة إيليج، فسيِّدة هابيل، فسيِّدة قنُّوبين، فسيِّدة مشموشة، فسيِّدة بكركي؛ ومزاراتهم: ومن مزار سيِّدة حوقا ومدرستها، إلى مزار سيِّدة الحصن، وسيِّدة الغسَّالة، وسيِّدة الحقلة، وسيِّدة البسمة، وسيِّدة الفرح، وسيِّدة الريف، وسيِّدة أمّ المراحم، وسيِّدة حريصا حيث “سيِّدة لبنان”، لبنان الرمز، لبنان الكتاب المقدَّس. ولم تكن هويَّة مريم العذراء غريبة أيضًا عن أبرشيَّاتهم: من أبرشيَّة سيِّدة لبنان في لوس أنجلس، إلى أبرشيَّة سيِّدة لبنان باريس للموارنة، وأبرشيَّة سيِّدة البشارة في إيبادن. أمَّا حصَّة رعايا “سيِّدة لبنان” والمؤسَّسات الرهبانيَّة والتربويَّة المارونيَّة فلا تُحصى ولا تعدّ، فهي بنسبة كبيرة في رعايا الكنيسة المارونيَّة ومؤسَّساتها في دنيا الانتشار حيث تمتزج الهويَّة السياسيَّة بالهويَّة الدينيَّة.
4 – مراكز الحج هي أيضًا على اسم “سيِّدة لبنان”، لأنَّ “الأم بتلمّ“، والأم تنتظر حجَّ المؤمنين والتائبين والمصلِّين فتجدِّد فيهم الإيمان والعهود وتقودهم إلى ابنها. فلا حجَّ مسيحيًّا بدون مغفرة وصدقة وصلاة. ففي بلدان الانتشار الماروني نماذج من مراكز الحج هذه، لعلَّ أشهرها هو مزار سيِّدة لبنان في يانغستَون، أوهايو، في الولايات المتَّحدة الأميركيَّة الذي يستقطب المصلِّين والخاشعين فيعود بهم الحنين إلى حريصا والوطن. في نيَّة راعي أبرشيَّة سيِّدة لبنان باريس للموارنة إقامة مزار “سيِّدة أم الرحمة”، في “سان بي دي بيغور” (Saint Pé-de-Bigorre) بالقرب من لورد، أسوة بما تميَّزت به الكنيسة اللاتينيَّة من إقامة مزارات مريميَّة غدت عالميَّة: كسيِّدة غوادلوب في المكسيك، وسيِّدة لورد في جنوب غربي فرنسا، والأيقونة العجائبيَّة، ولاساليت، وسيِّدة فرنسا في البوي أن فولي (Puy-en-Velay)، وسيِّدة فورفيار في ليون، وسيِّدة بومّين التي انتقل تمثال منها إلى سيِّدة بشوات في البقاع اللبناني، وسواها من المزارات. كلا السيِّدتين، سيِّدة لورد وسيِّدة لبنان ستتشاركان في تثبيت الكنيسة برئتيها الغربي والمشرقي، وفي الإصغاء إلى توسُّلات الحجَّاج وهمومهم وإرشادهم إلى ابنها، ميناء الخلاص، له المجد أبد الدهور.
5 – ولا نكتفينَّ بذكر الكنائس الحجريَّة أو أماكن العبادة فقط، بل ما يهمُّنا هو التركيز على تعلُّق المؤمنين بمريم العذراء والدة الإله وبابنها وبسبحتها كونها المحامية والشفيعة والمساعدة والوسيطة. والأدهى من ذلك، إنَّهم لا يكتفون بممارستها وحدهم بل يحاولون إشراك سواهم بهذه الممارسات التقويَّة حيث حطَّت بهم الرحال.
دعوني أتوقَّف عند نموذجين اثنين: واحد يدلُّ على الحس التبشيري والإرسالي لدى الموارنة، ويؤكِّد أنَّ ارتباطهم بمريم ذا “عدوى” تطال آخرين وتفعل فيهم فعلاً حسنًا:
أ – في أثناء زيارتي الرعويَّة إلى الجالية المارونيَّة في مدينة ليل (Lille) الفرنسيَّة، عيد الشعانين من العام 2018، أطلعتني إحدى السيِّدات المارونيَّات على حدث جلل جرى بينها وبين جيرانها في الحي الذي تقيم فيه. وهذا الحدث الذي يتكرَّر مع الكثيرين والكثيرات من “جماعة بيت مارون” يستأهل تدوينه ونشره. وهو يتلخَّص كالتالي: في شهر أيَّار، اعتادت هذه السيِّدة الفاضلة في خلال طفولتها في لبنان أن تتلو سبحة العذراء والطلبة والزيَّاح و”يا أم الله” في عائلتها ومع الجيران. وبانتقالها إلى فرنسا استمرَّت على هذه العادة الحميدة. ففي شهر أيَّار من سنة 2017، أتت بتمثال لمريم ووضعته في صدر حديقة المجمَّع، وانتصبت أمامه تصلِّي وحدها لأنَّ زوجها يقيم خارج البلاد بداعي العمل. وإذ رأتها إحدى جاراتها في هذه الوقفة غير المألوفة، لا بل المستهجنة بتأثير من جوّ العلمنة المستشري بقوَّة، اقتربت منها بحشريَّة واستفسرت عن الأمر. ولمَّا أتاها الشرح مركِّزًا على عادة الموارنة الصلاة للعذراء مريم طوال شهر أيَّار، طلبت إليها إذا كانت تستطيع أن تشاركها الصلاة هي أيضًا مع زوجها. وما عتَّم أن تنادت جميع عائلات المجمَّع للصلاة، رجالاً ونساءً، كلَّ يوم في الوقت المحدَّد، في حديقة المبنى، أمام تمثال العذراء، طوال ذلك الشهر المبارك. والغريب في ذلك أنَّ “العدوى” انتقلت إلى المجمَّع المجاور، حيث كان يُفتح شبَّاكُ نافذة وقت الصلاة، ويُقفل بعد الانتهاء. كانت وراءه سيِّدة متقدِّمة في السن، مسمَّرة على سريرها، وَجدت متنفَّسًا لها في الصلاة لمريم في شهرها المبارك.
ليست عادة تقدمة الصلاة للعذراء في الشهر المخصَّص لإكرامها وقفًا، بالطبع، على المؤمنين الموارنة وحدهم بل تتجلَّى أيضًا عند مؤمني بلدان انتشار عدَّة، أمثال المكسيك والولايات المتَّحدة وفرنسا وسواها. وعادة يقضي تمثال العذراء ليلةً في منزل العائلات المشاركة، بكلّ احترام، ثمَّ يُنقل من بيت إلى بيت، حيث تجتمع العائلة مع الجيران والمعارف لإحياء الصلاة، بحضور كاهن أو بدونه.
ب – نموذج ثان جرى في مدينة إيسي لي مولينو حيث أصبح للموارنة كنيسة ورعيَّة جديدة (ضواحي باريس). سيِّدة مارونية لبنانية تقيم منذ زمن في مدينة “إيسي لي مولينو”. عند اقتراب شهر العذراء بدأت تستعدُّ لإحياء هذه المناسبة. فكنيسة سيِّدة لبنان في باريس، رعيَّتها، التي تحتفل كلَّ يوم بالقدَّاس المسائي وبزيَّاح العذراء، بعيدة نسبيًّا عن مكان سكنها، ولا تتناسب مطلقًا مع دوام عملها. فوجدت التعويض بأن “دعت جيرانهاوأنسباءها” (لو 15: 9) لمشاركتها في الصلاة لمريم العذراء في شهر أيَّار، في بيتها. وهكذا صار، تشكَّلت بهذه المناسبة “رعيَّة بيتيَّة” لإكرام مريم، خصوصًا على مدى شهر أيَّار.
حاليًّا، وبعد إنشاء الرعيَّة الجديدة، تجنَّدت هذه السيِّدة لإحياء الصلاة الدورية في كنيسة الرعيَّة، بدل البيوت. فالكاهن يحضر وعدد المشاركين والمشاركات على اطِّراد دائم.
6 – مرتكزات صلوات المنتشرين: نعمل جاهدين، في أبرشيَّات الانتشار وفي كلِّ مكان، على ألاَّ تكون صلاة المؤمنين وممارساتهم الدينيَّة سطحيَّة وروتينيَّة. فصلاة الورديَّة إنَّما هي صلاة تأمُّليَّة مع مريم ليسوع؛ وهي مختصر للإنجيل والتذكُّر الدائم لحياة يسوع بكلِّ مراحلها: من تجسُّده، إلى حياته العلنيَّة، وموته، وقيامته. وبدون التأمُّل بالورديَّة تكون الورديَّة جامدة وناقصة ويشكِّلُ تردادها خطرًا وعُقمًا. أمَّا السبحة فهي الآلة والوسيلة الحسيَّة التي تنظِّم صلاة المؤمنين. وإذا كان المسيح هو الطريق فمريم هي الطريقة.
فالورديَّة هي، إذًا، صلاة الكنيسة. هي صلاة الفهماء والبسطاء، والمرضى والأصحَّاء، والخطأة والتائبين، والبالغين والأطفال؛ هي في الواقع صلاة الجميع. هناك من يقول أنَّها صلاة آليَّة تبعث على الضجر؛ لكنَّها في الواقع ليست كذلك. ففي كلِّ ظهورات مريم، في لورد الفرنسيَّة (سنة 1858) أو في فاطيما البرتغاليَّة (سنة 1917)، بدت العذراء تحمل السبحة، مطلقة على نفسها اسم سيِّدة الورديَّة.
وَليَعرِف المؤمنون أنَّهم يسيرون على خطى قدِّيسين ومؤمنين “كبار” أحبُّوا صلاة الورديَّة، وصلُّوها بحرارة، أمثال برنردوس، وفرنسيس دي سالس، وألفونس دي ليغوري، وغرينيون دي مونفور، وخوري أرس، وشربل مخلوف، والبابا يوحنا الثالث والعشرين، والبابا يوحنا بولس الثاني، وغيرهم من الرجال العظام أمثال الجنرال لوكليرك، محرِّر باريس في آب 1944، وروبير شومان، أب أوروبا، والجنرال فوش، المنتصر في الحرب العالميَّة الأولى. مثلهم أحبُّوا مريم واستعذبوا رفقتها، وتجلَّى حبُّهم بتقديم الصلوات لها وتلاوة فرضها وسبحتها. وما أعذب نشيد “يا أم الله” بأصواتهم الشجيَّة الذي غدا “نشيدها الوطني” تحت كلِّ سماء. مريم توحِّد وتجمع الأحياء والموتى، وتقودهم نحو يسوع ابنها فيطلبون منها أن تقول له من جديد أن “ليس عندهم خمر” (يو 2: 3)، ليُغدق عليهم السلام في أوطانهم والتوفيق في أعمالهم ويُبعد عنهم شبح الحروب. ويساعدهم على لعب دورهم والشهادة لإنجيله وتعليمه.
7 – أخيرًا، في المدى الأرحب خارج النطاق البطريركي الأنطاكي، أستطيع القول أنَّ وجود المؤمنين الموارنة قد فَرض تحوُّلاً جعل منهم “مريميِّين” بامتياز، مبشِّرين بإكرامها في المجتمعات التي أقاموا فيها. معهم انتقلت إلى فرنسا احتفاليَّات عيد بشارة مريم في 25 آذار من كلِّ سنة، التي بدأت خبرتها في مدرسة سيِّدة الجمهور في لبنان بين مسلمين ومسيحيِّين. فتجسَّدت هذه “الخبرة اللبنانيَّة”، منذ أربع سنوات، في مؤسَّسة إفيزيا (Ephésia) التي أخذت على عاتقها تنظيم لقاءات صلاة شبيهة يتخلَّلها ترانيم مسيحيَّة وإسلاميَّة، في بازيليك سيِّدة لونبون (Longpont)، برعاية المطرانين ميشال دوبوست ومارون ناصر الجميِّل. وجرت بعدها لقاءات أخرى عديدة في المكان عينه وفي مدن فرنسيَّة عديدة، ووصل بها الأمر أيضًا إلى الاحتفال بذلك في بلجيكا في العام 2018.
خاتمة
الكنيسة المارونيَّة كنيسة بطريركيَّة، بلغت العالميَّة عبر مؤمنيها الذين حملوا إرثهم الثقافي والإيماني والاجتماعي، وجابوا أربعة أقطار العالم لتأمين لقمة العيش ومستقبل أفضل، أو للدراسة، أو هربًا من قمع طاغية من هنا أو متسلِّطٍ من هناك. هي ذات قيادة واحدة، وفي شراكة مع الكرسي الروماني، وذات تراث ليتورجي خاص طابعه التوبة، وبعده مريمي، واستشهاد، واستعداد للنهاية. مع ذلك، تبقى كنيسة مرتبطة أيضًا بلبنان وبالعالم العربي ومنفتحة على الإسلام.
لذا، فموضوع “مريم العذراء في الانتشار الماروني” ما هو سوى حلقة صغيرة جدًّا لا يُفهم إلاَّ من ضمن مشروع الخلاص التي أتى به يسوع المسيح، آدم الجديد، بواسطة مريم العذراء. تستطيع الكنيسة المارونيَّة في بلدان الانتشار الواسع أن تحافظ على وديعة إيمانها فتجد دعوتها ورسالتها بالارتكاز على أصولها الأنطاكية السريانيَّة من جهة وعلى انفتاحها على كنيسة روما. وبمقدار جهوزيَّتها للانخراط في خدمة هذا المشروع بجانب الكنيسة الجامعة تستطيع أن تدفع باتجاه التحدِّيات المتنوِّعة كالحوار المسكونيَّ، والحوار بين الأديان وما سوى ذلك.
ويدرك الموارنة أنَّ مريم هي الشخصيَّة الفريدة التي يجتمع حولها المسيحيُّون والمسلمون وغيرهم من ديانات الشرق الأقصى، وهي أيضًا المخوَّلة إرشادهم إلى معرفة الآخر واحترامه، وبالتالي إلى الانفتاح على المطلق؛ إذ أنَّ لاهوتها يقود البشريَّة حتمًا إلى ابنها يسوع المسيح. ومن خلال ظهوراتها في أنحاء العالم كافَّة، تؤكِّد أنَّها لا تزال تعمل على أرض البشر وتصوِّب مسارهم، لكيلا ينقص الخمر في قلوبهم ولكيلا يغيب الفرح والسلام عنهم.
[1] راعي أبرشيَّة سيِّدة لبنان باريس للموارنة والزائر الرسولي على أوروبَّا.
[2] – للمزيد من التفاصيل، نحيل القارئ إلى كتابنا: تاريخ التراث العربي الماروني 2، المؤلِّفون الموارنة في العصر العثماني، الجزء الأوَّل، بيروت 2013.
[3] – كتاب “التنبيه والإشراف“، طبعة لندن، صفحة 153.
[4] – الدكتور جورج ف. نحَّاس، مكتشفات أثريَّة جديدة في سوريَّة الوسطى-الثانية، حماه عبر التاريخ 1، دار الفرقد، دمشق، 2007.