الأخت ماري وازن
إنّ صور العذراء في الشرق البيزنطي كثيرة وجميلة وقد تنافس الرسامون في إبرازها على أكمل وجهٍ، فصوّروها سيّدة كريمة، ملكة قديرة، والدة المسيح الإله، عليها من المهابة والحشمة ما يضفي على صورها مسحة رائعة من الجمال والجلال السماويَّين.
ثيوطوكس باليونانيّة Θεοτόκος هو مصطلح لاهوتيّ يُطلق على السيّدة مريم العذراء. هو مركّب من كلمتين باليونانية: Θεός وتعني الإله، وτόκος وتعني الولادة أو الوضع، ولذا فإنّ ثيوطوكس تعني والدة الإله. في سنة 431، اعترف مجمع أفسس (المجمع المسكوني الثالث) بهذا المصطلح على أنّه مصطلح صحيح وأنّ “مريم العذراء هي والدة الإله لأنّ ابنها يسوع هو شخص يجمع بين صفتَي الألوهيّة والبشرية”.
قانون كتابة إيقونات العذراء مريم:
- تصوير العذراء مريم مع ابنها الربّ يسوع المسيح:
التصوير البيزنطيّ ليس إلّا تجسيدًا لفكرة لاهوتيّة عميقة. وبما أنّ ذكر مريم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلاقتها بابنها الوحيد وبالأحداث الخلاصيّة التي كانت شاهدة لها، ولا ذكر في الإنجيل لمريم من دون إبنها (فالشخص المحوريّ هو يسوع المسيح)، لذلك لا يرسم التقليد البيزنطيّ والدة الإله بمفردها، هي دائمًا مع ابنها ونحن نكرّمها لأنّها والدة الإله، والدة يسوع، وهمّها أن تدفعنا إلى ابنها. إضافةً إلى أنّ الإيمان الشعبيّ قد غالى في مديحه لخصال مريم لدرجة أن عدّها البعض في مرتبة الألوهة. فأعلنت الكنيسة البيزنطيّة ضلال هذه الأفكار وفرضت على الرسّامين ألّا يصوّروا مريم وحدها وأن يكون المسيح حاضرًا في إيقوناتها. هناك فقط أربع إيقونات تُرسم فيها والدة الإله من دون السيّد:
إيقونة ميلاد السيّدة، حيث تُرسم طفلاً مقمّطًا في سرير
إيقونة دخولها إلى الهيكل؛ مع والدَيها يواكيم وحنّة
إيقونة القدّيسة حنّة؛ حيث تُرسم الطفلة، مريم، على ساعديها
إيقونة البشارة؛ تُرسم على الباب الملوكي للإيقونوسطاز إشارةً إلى أنّها الباب الذي دخل منه الله.
- ألوان ثياب والدة الإله:
أشادت كتابات آباء الكنيسة بطهارة مريم العذراء وصفاء روحها ووصفوها بأنّها أرفع من السماوات. لذلك يصوّر لنا الفنّ البيزنطيّ مريم تلبس ثوبًا أزرق وتتغطّى بوشاحٍ أرجوانيّ أحمر، أي بعكس ألوان ثياب المسيح. فالأحمر الأرجوانيّ يشير إلى الألوهة والأزرق إلى الطبيعة البشريّة.
- مريم العذراء الدائمة البتوليّة:
الخلافات اللاهوتيّة في قضيّة الطبيعتين في المسيح يسوع ولّدت بطريقة غير مباشرة جدالات في المسألة المريميّة. هل كانت مريم عذراء؟ أثناء الحمل، في أثناء الولادة، بعد الولادة؟… فأكّد آباء الكنيسة إنّ المسيح الكلمة دخل أحشاء العذراء وخرج من دون أن تفقد بكارتها، كما يمرّ النور من الزجاج من دون أن يكسره. وأعلن مجمع أفسس (431) أنّ العذراء “دائمة البتوليّة”. وهذا القرار يظهر جليًّا في الإيقونات. فعلى الوشاح الأرجوانيّ الأحمر ثلاثة نجوم: واحد على الجبين واثنين على الكتفين، علامة أنها عذراء قبل وأثناء وبعد الولادة.
أقرّ مجمع نيقية (325) أنّ مريم العذراء هي والدة الإله وسمّاها باليونانيّة ثيوطوكس. وفي الإيقونة بدل أن نرى اسم مريم العذراء، صاروا يكتبون “أمّ الله” Μητέρα του Θεού مدوّنة بأحرف الاختصار ΜΡ ΘΥ.
- مريم العذراء مغطاة الرأس دائمًا:
وتظهر مريم في كلّ الإيقونات مغطاة الرأس، فلا نرى شعرها. وتغطية الرأس وحجب الشعر سنّة يهودية. وحين تمثّل الإيقونة العذراء على هذا النحو، تبيّن لنا كم كانت مريم تحفظ الشريعة، وتسير سيرة نقيّة. تشذّ عن هذه القاعدة إيقونة واحدة اسمها ” معونة الضالّين”.
- لا تلبس في رجليها صندلاً، كما هو الحال في إيقونات القدّيسين، بل تبدو قدماها شبيهتين بأقدام الملائكة، دلالة على سموّ مقامها.
نماذج إيقونات العذراء:
في القرن السادس استقرّت نماذج إيقونات العذراء في الفنّ البيزنطي. فإيقونات والدة الإله:
- صاحبة الجلالة: Kyriotissaالتي تصوّر مريم العذراء جالسة على العرش. تبدو العذراء صامتة ساكنة. ظهرها مستقيم، تنظر إلى المشاهد، وتحيط بيديها الطفل الجالس في حضنها كما على عرش. يمسك الطفل الإلهيّ بيده اليسرى لفافة ورق، بشرى الخلاص التي أعلنها للبشريّة، ويبارك باليد الأخرى. هذا ما عبّر عنه القديس يوحنّا الدمشقيّ في أحد أناشيده: “يداها تحملان الأزليّ وركبتاها عرش أسمى من الشاروبيم. إنّها العرش الملكيّ الّذي يتأمّل الملائكة عليه سيّدهم وخالقهم”. يرسم الفنانون عادةً صاحبة الجلالة في صورة كليّة (من الرأس حتى القدمين). وأفضل نشيد يفي بمعاني هذه الإيقونة هو نشيد “إنّ البرايا بأسرها” الذي يُقال في قداس باسيليوس الكبير.
- المرشدة: من أين لها اسم “المرشدة”؟ يُقال إنّ أمّ الّله ظهرت في القسطنطينيّة لأعميين، وأمسكت بيديهما وقادتهما إلى مزار فيه هذه الإيقونة، وأعادت إليهما البصر. ومنذ ذلك الحين، يأتي العميان وأصحاب العلل البصريّة ويغسلون وجوههم بماء النبع المجاور للمزار، لينالوا الشفاء. تبيّن هذه القصّة أنّ مريم تهدينا إلى طريق الّله، فسُمّيَت “Hodigitria” أي الّتي تشير (ترشد) إلى الطريق.
تشبه وضعيّة الطفل يسوع في هذا النمط من الإيقونات وضعيّته في إيقونات صاحبة الجلالة. إنّه يمسك لفافة ورق في يد، ويبارك باليد الأخرى. أمّا العذراء، فقد كانت تصوّر طوليًّا وهي واقفة. ومنذ القرن الثالث عشر، انتشرت عادة رسمها في صورة نصفيّة. وهي تميل برأسها غالبًا إلى طفلها وتنظر وإيّاه إلى المشاهد.
- المتضرّعة: تُصوَّر عذراء هذه الإيقونة طوليًّا في غالب الأحيان، وهي تدور إلى اليسار وتلتفت نحو المشاهد ثلاثة أرباع الالتفاتة. ظهرها محنيّ بعض الشيء وكأنّها تحمل ثقل عالم الآلام والخطيئة. تمدّ يدها اليمنى نحو الأمام مشيرة، وترفع اليسرى متضرّعة تتشفّع لمن وضعوا فيها رجاءهم. وتبدو فكرة الشفاعة بوضوح أكثر حين تحمل العذراء في يدها اليسرى رِقًّا مفتوحًا. ففي كنيسة سبوليتو الإيطاليّة، نجد على الرِّق حوارًا مع ابنها:
- لمَ تطلبين يا أمّي خلاص الفانين؟ لقد أغضبوني.
- ارحمهم يا بُنَيّ، لا تصرف وجهك عنهم، بل احفظهم بنعمتك.
- ليكن السلام لمن يتوبون بدافع المحبّة.
سنة 626، عند حصار الفرس للقسطنطينية ظهرت العذراء في السماء رافعةً يديها فحمت المدينة. وكُتب نشيد خاص لهذه المناسبة “نحن عبيدك”.
كما توجد إيقونات أخرى مستوحاة من إيقونة العذراء المتضرّعة، وعلى سبيل المثال:
* العذراء تحمل وشاحها أو تلبسه وتغطي به المؤمنين (في ظلّ حمايتك نلتجئ يا والدة الإله القديسة مريم فلا تغفلي عن طلباتنا عند احتياجنا إليكِ…)
* إيقونة الصلاة أو الشفاعة
* نراها هكذا في أيقونة الصعود
* العذراء المتضرّعة والطفل أو عذراء العلامة أو الأرحب من السماوات
- الأم الحنون: تظهر العلاقة العاطفيّة الحميمة التي تربط الأم بابنها. علامات الحزن بادية على وجه العذراء وتعابير الخوف في وجه الطفل. تعانق طفلها بالطريقة نفسها التي تعانقه بها في إيقونات الدفن. هناك علاقة بين الأمّ الحنون وإيقونات الألم تظهر في نبوءة سمعان: “وأنتِ سينفذ سيف في نفسك لتنكشف الأفكار عن قلوب كثيرة” (لو2/35).
إيقونات أخرى لهذا النمط موجودة في فن كتابة الإيقونات، فعلى سبيل المثال:
* إيقونة فلاديمير المنسوبة إلى أندريه روبليف (المدعوّة سيّدة الحنان في الغرب) Elousa
* إيقونة المعونة الدائمة