Almanara Magazine

الشّهادة والاستشهاد في الكتاب المقدّس

الأخت باسمة الخوري[1]

يشهد التاريخ والمجتمع على أشخاص جسّدوا القيم السامية وعاشوا ما آمنوا به من قيم، بالكلام والأعمال، ودافعوا عنها حتى الموت أحيانًا. وقد رأى الناس في هؤلاء “الشهود” مثالاً أعلى، وتحوّلت أسماؤهم إلى منارات تذكّر بالقيم السّامية، فتشحذ الهمم، وتذكّر بالثمن الباهظ لمن يحمل لواء الحقّ.

تحوّل الاستشهاد في المفهوم العام إلى مرادف للتعذيب حتى الموت، فنسينا أنّ المعنى الحرفي للكلمة يدلّ على “الشهادة حتى الموت”، أمانة لمعتقد أو قضيّة أو شخص. وقد عرفت الديانات كافة شهداء عديدين، كما شهد التاريخ على شهداء من أجل حريّة بلادهم أو معتقداتهم…

فما هي الشهادة والاستشهاد في الكتاب المقدس، وما الذي يميّز الشهادة والاستشهاد المسيحيّين؟

لمعرفة ذلك لا بدّ من التذكير بأن من استحقّ اسم “الشهيد” بامتياز هو المسيح بالذات، وبأن من يسير في اتّباع المسيح يواجَهُ بالكذب، ولا بدّ له من الشهادة لحقيقة الله.

فما هي الشهادة وما هو الاستشهاد في الكتاب المقدّس؟

يستعمل الكتاب المقدّس العبري كلمة (عِ د) للإشارة إلى “شاهد” وكلمة (عِ د و ت) لــ “شهادة” و”وصيّة الله” أو “شرط معاهدة”. وقد استعمل العهد الجديد الكلمة اليونانيّة (martus-marturos)  للكلام عن الشاهد الذي يواجه المخاطر حتى الموت في الشهادة لإيمانه؛ بمعنى أن الإيمان يمكن أن يقود المؤمنين إلى نهاية مفجعة.

الشاهد قانونًا

في العهد القديم

يأخذ المعنى القانوني المساحة الأكبر في الكلام عن “الشاهد”. فالشاهد هو من “رأى” حدثًا ما، أو شهِدَ عقدًا أو معاهدة قانونيّة (بيع، شراء، التزام…) على ما نقرأ في أشعيا 8: 2[2]. في هذا الإطار يمكن للشاهد أن “يشهد”، عند الحاجة، أمام الآخرين أو أمام السلطة القضائيّة عمّا رأى أو سمع[3]. وهكذا يمكن للشاهد إذًا أن يكون مدّعيًا (تث 4: 26؛ دا 13: 21)، كما له يمكن أن يكون مدافعًا (أش 43: 9؛ ملا 2: 12).

استعمل العهد القديم كلمة “شاهد” للدلالة على الإنسان كما للدلالة على الله بالذات. وقد وضعت الشريعة، في حال العقوبة القصوى، شرط وجود “شاهدين”[4]، تعود إليهما مسؤوليّة رمي الحجر الأوّل عند تنفيذ الحكم بالموت رجمًا (تث 17: 7).

في العهد الجديد

حافظ العهد الجديد على هذا المعنى القانوني، لكنّه تعمّق في المعنى اللاهوتي لكلمة شاهد. فعبارة “martus” تظهر حوالي 35 مرة في العهد الجديد، للدلالة دائمًا على شاهدٍ رأى أو سمع شيئًا ترتكز عليه شهادته أثناء محاكمة ما[5]. لكن هذا المعنى الموروث في الكتاب المقدس العبري يدعم بشكل أساسي فكرًا كريستولوجيًا أكيدًا. فالشاهد هو أولاً شاهد على حياة يسوع وعمله، وبشكل أخصّ على موته وقيامته؛ ثمّ على “الخلاص” كأنّه حدث تاريخي يمكن للشاهد أن يشهد على حدوثه أثناء “المحاكمة”.

“شاهد ليسوع المسيح” و”شاهد للخلاص”

يعود استعمال عبارة “شاهد” بشكل أساسي للإنجيلي لوقا في كتابيه (الإنجيل وأعمال الرسل)، للدلالة على من سمع ورأى عمّا يشهد. يشهد الشاهد عن نفسه بشكل خاص، وشهادته تحمل حقائق موضوعيّة يمكن برهانها تاريخيًا (لو 24: 8؛ أع 1: 8). فالرسل هم “شهود” يسوع، وقد دعاهم بنفسه وأوكل مسؤوليّة الشهادة هذه (لو 24: 42؛ أع 8). ونقرأ في سفر الأعمال أنّ الله هو من جعل من الرسل “شهودًا” ليسوع[6].

يعتبر القديس لوقا أن “قيامة الرب” هي جوهر الشهادة ليسوع المسيح، ما يعني تغييرًا على مستوى “الشاهد” ومعنى الشهادة. فإن كان “الشاهد” عند لوقا هو “من رأى وسمع”[7] فإن هذا المعنى ليس المعنى الحصري. فلوقا يعتبر أنه يمكن للإنسان أن يكون “شاهدًا” للخلاص الذي أتى به يسوع بحياته وآلامه وموته وقيامته[8]، كما هي الحال مع بولس الرسول (1كو 15: 15).

في الفصل 22 من كتاب الأعمال ينقل لوقا خطبة لبولس الرسول، يتحدّث فيها الإنجيلي، في شهادة خاصّة، عن رؤياه ليسوع في هيكل أورشليم وعن حواره معه، واعترافه له بأنه كان مضطهِدًا للمسيحيّين، وبأنّه اشترك في قتل اسطفانوس: “عندما سُفك دم اسطفانوس شاهدك (شهيدك)، كنت حاضرًا… وكنت موافقًا…”

ما يُدهش في هذا النص، هو أن اسطفانوس لم يعرف يسوع في حياته، تماماً كما لم يعرفه بولس ولم يكونا من تلاميذه. عند قتل اسطفانوس، الذي يعتبره التقليد “أول شهيد”، كان بولس حاضرًا ومشاركًا بالأحداث. لقد كان إذًا “شاهد” عيان لرجم اسطفانوس المحكوم بالقتل لأجل قضيّة يسوع. والمفاجئ هو إن قتل اسطفانوس هو ما أدخل بولس في علاقة شخصيّة مع موت المسيح. في شهادته، أعلن بولس الشاهد – المشارك في “استشهاد” اسطفانوس، أن اسطفانوس هو “شاهد” ليسوع المسيح تمامًا كما التلاميذ والرسل الذين عايشوه وشهدوا صلبه. وبأسلوب روائي تفسيري مرتبط بدخوله حدث الخلاص، يجعل لوقا من بولس “شاهدًا”، وبالتالي رسولاً على المستوى عينه كما الاثني عشر (أع 22: 15؛ 26: 16). إن من يشهد للخلاص بالمسيح، يشهد لحياة يسوع وموته وقيامته أيضًا.

الله هو الشاهد

في العهد القديم يدعو الله البشر ليحكموا أو “يشهدوا” ضدّ تصرّفات شعبه؛ فنقرأ في أشعيا 5: 3 شكوى الله أمام عقم كرمه، وهي بالأحرى صورة لدعوى بين الله واسرائيل. وفي إرميا 6: 10 صرخة لوم يوجّهها الله لشعبه: “من يسمع إذا تكلّمتُ وأنذرتُ؟”.

أمام تعنّت اسرائيل في الشرّ يُظهر إرميا الله وكأنّه بلا “شهود” وبلا “قضاة” يقبلون شهادته في المحاكمة مع اسرائيل، فتأتي صرخته كشهادة ضدّ غياب الشهود. إنّ إله الأنبياء هو إله يحتج ويطلب محاكمة عادلة في خلافه مع شعبه.

في هذا السياق يندرج خبر شخص يسوع وعمله في العهد الجديد، وكأنّه قراءة جديدة لهذه الدعوى بين الله والبشر. فالعهد الجديد يقدّم يسوع على أنّه “الشاهد” الأكبر لله. وشهادته لله هي ما ولّد الخلاص الذي أدّى به إلى الموت. إنه “شاهد الدفاع”، لكنّ يوحنا الانجيلي يقدّمه “كشاهد ادّعاء” ضدّ مسؤولي اسرائيل الذين اعتبروه مجدّفًا يجب محوه، عبر شبه محاكمة صوريّة. اعتبر تلاميذه أنهم المسؤولون عن استئناف هذه المحاكمة لتبيان الحقّ انطلاقًا من كلمة يسوع: “تكونون لي شهودًا في أورشليم…” (أع 1: 8) فكان على التلاميذ أن يبرهنوا، أمام الله والناس، الظلم الذي لحق بيسوع يوم حُكم عليه بالموت زورًا. في هذا السياق تأتي القيامة وكأنّها الاستئناف الذي قدّمه يسوع فرفضه الناس، وقبله الله وأقرّه. وبانتظار الدينونة الأخيرة، يشهد التلاميذ وأصدقاء يسوع أنه “الشاهد الأمين لله”، كما فعل الرائي في سفر الرؤيا (رؤ 2: 13).

شهود “الشاهد الأمين”

في دعوى المسيح يظهر المسيحيّون وكأنّهم مدعوّون لأداء شهادة غير معهودة. ففي هذه الدعوى ليس المسيحيّون محامي الدفاع عن يسوع ولا عن إنجيله؛ ولا يعتبرون الناس، الذين يتوجّهون إليهم، محكمةً أو قضاة يترافعون أمامهم، فشهود يسوع ليسوا مدافعين عنه. الشهادة هنا هي بالأحرى خطاب غير مباشر. فأمام المحكمة التي سيق إليها يسوع، يتوجّه المسيحيّون إلى الله، القاضي الأوحد، إله يسوع المسيح. إن شهادتهم هي في جوهرها إعلان إيمان، وطريقة خاصّة بالاستسلام لله في نهاية الطريق، لأنّ “الشاهد” المسيحي يمكن أن يتحوّل إلى “شهيد” في كلّ لحظة، لأنّه لا يحوّر شهادته بحسب المصالح الآنيّة.

كل من يشهد للحقيقة بالكلام أو بالأعمال هو بالحقيقة “شاهد – شهيد” (martus)، لكنّ التقليد درج على اعتبار أن الشهيد/ة هو من يشهد للحقيقة و”سرّ التقوى” أمام الاضطهادات العظام حتى سفك الدم (1تيم 3: 16). هذا ما كتبه أوريجانوس في القرن الثالث في تفسيره لانجيل يوحنا 2: 21، وهو ما يقود إلى التفكير في موضوع الشهادة والاستشهاد في الكتاب المقدّس. فإن كانت التعابير martyréo – martyria – martys  تعود بالأصل إلى المعجم القانوني، في إطار البرهان العلنيّ، فقد بدأ استعمالها، منذ القرن الثاني، للدلالة على الشهداء في الاضطهاد الذي طال المسيحيّين في ظلّ الامبراطورية الرومانية، كما نقرأ في “أعمال الشهداء” Acta” “Martyrum.

في السبعينيّة، كما في العهد الجديد يأتي فعل martyréo، وما يرادفه، بمعنى “الشاهد والشهادة”، كما الجذر العبري عِ د (شاهد).

في إنجيل مرقس[9]، كما في إنجيل متى[10] لا تستعمل عبارة martyria إلاّ في الإطار القانوني؛ أما في إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل فتأخذ بُعدًا أوسع لتطال الشهادة ليسوع[11]؛ وللقيامة[12]. في الإنجيل الرابع تدلّ العبارة على رسالة يسوع وبالتالي على رسالة الرسل. فالفعل martyréo يتكرّر ثلاثًا وثلاثين مرّة للتعبير عن شهادة يسوع للآب (يو 5: 36)، وشهادة الآب ليسوع (يو 8: 18)، وعن شهادة يسوع للحقيقة (يو 18: 37) وللنور (يو 1: 7-8)، لكن يسوع لا يوصف أبدًا على أنّه “martys”.

يبقى أنّ المهم هو الغوص في حقيقة الشهادة – الاستشهاد وجوهرها: الشهادة العلنيّة التي يقدّمها المؤمنون عن إيمانهم بالله وبيسوع المسيح، ويتمسّكون بها حتى بذل الحياة.

ومن اللافت أن الكتب المقدّسة قد وضعت الشهداء منذ الأجيال الأولى، أمثلة للإيمان الحق، بكونهم استمراريّة لقافلة شهود الإيمان منذ العهد القديم. 

I– الشهود – الشهداء في العهد القديم

          أ. الشهادة والنبوّة

يؤكد التقليد اليهودي، كما نقرأ في “حياة الأنبياء المنحولة” التي كُتبت في نهاية حقبة الهيكل الثاني وقد نقلها المسيحيّون، عن أنبياء الحقيقة الذين اضطُهدوا حتى الموت، أن موت الشهداء بأبشع الطرق، تحوّل إلى ختم لحقيقة الرسالة النبويّة. فموتهم هو ذروة الشهادة لله أمام طغيان الوثنيّة وعدم طاعتها لإرادته القدوسة. هذا ما يشهد له اللاويون في سفر نحميا “أغضبوك وتمرّدوا عليك ونبذوا شريعتك وقتلوا أنبياءك الذين أنذروهم ليردّوه إليك، فكفروا بك كفرًا عظيمًا” (9: 26)، وما ردّده اسطفانوس في خطبته قبل رجمه: “يا قُساةَ الرِّقابِ والقُلوبِ ويا صُمَّ الآذانِ! أنتُم مِثلُ آبائِكُم، ما زِلتُم تُقاوِمونَ الرُّوحَ القُدُسَ. أما اَضطَهَدوا كُلَّ نَبيٍّ، وقَتلوا الّذينَ أنبأُوا بِمَجيءِ البارِّ الّذي أسلَمْتُموهُ وقَتَلْتُموهُ؟ أنتُم تَسَلَّمتُم شريعةَ اللهِ مِنْ أيدي الملائكةِ وما عَمِلتُم بِها” (أع 7: 51-53).

بدأ هذا التاريخ الطويل مع موسى “عبد الرب” (تث 34: 5) الذي قاومه شعب اسرائيل وخاصموه أثناء رحلتهم في الصحراء (خر 17: 1-7)، وقد اعتبر التقليد، كما دوّنه النبي هوشع، أنه أُذيق العذاب حتى الموت: “بِنَبيٍّ أصعَدَ الرّبُّ بَني إِسرائيلَ مِنْ مِصْرَ، وبِنَبيٍّ حَفِظَهُم سالِمينَ.” (هو 12: 14)

لكنّ استشهاد الأنبياء أصبح مؤكدًا واضحًا مع النبي إيليا في منتصف القرن التاسع ق.م. أثناء هربه من إيزابل الملكة إلى جبل الله حوريت. سأله الرب: “ماذا تفعل هنا يا إيليا؟” فأجابه: “غيرة غرت لربِ الجنود إله الكون، لأنّ أولاد إسرائيل نبذوا عهدك وهدموا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف، وبقيت أنا وحدي معك وها هم يطلبون حياتي” (امل 19: 9-10، 13-14).

واجه الأنبياء الموت بسبب معارضتهم للسلطات السياسيّة الوثنيّة، التي استعبدت دائمًا الفقراء اجتماعيًا واقتصاديًا. جعل الأنبياء من المطالبة بالعدل، والوقوف إلى جانب كلّ مظلوم، والشهادة لسلطة الإله الأوحد التي تعلو كلّ السلطات، واجبهم الأوّل فأعلنوا إيمانهم ولو على حساب بذل الحياة. في هذا الإطار يذكر الكتاب المقدّس أوريا (إر 26: 20-23)، وزكريا الذي ذكره يسوع أيضًا[13].

نتوقّف عند نموذج حياة إرميا النبي الذي عاش بين القرن السابع والثامن ق.م. كانت رسالته بمجملها وكأنّها سلسلة متواصلة من الآلام والاضطهادات. تعارضت كلمة الله التي أعلنها وكانت له “عارًا ومهانة ليل نهار”(إر 20: 8) مع إرادة السلطات الروحيّة (إر 18: 18) فشعر بنفسه “وكأنه خروف وديع يُساق إلى الذبح” (إر 11: 18). جلده “الكاهن فشحور رئيس القيّمين على هيكل الرب “بسبب تنبّؤه” “بهذه الكلمات”، “وحبس رجليه في القيود” (إر 20: 2)، إلى أن أوقِف وحُكم عليه بالموت بعد نبوءته حول الهيكل، لكنّ الحكم أُحبط في اللحظة الأخيرة (إر 26). وكما فعل زكريا عند ساعة موته (2 أخ 24: 22)، طلب إرميا من الله أن ينتقم له (إر 15: 15)، لكن الله لم يتدخّل لصالحه ضدّ أعدائه، ما أوصل النبي إلى هاوية اليأس. قارن نفسه مع أنبياء الكذب، ورأى كيف أنّ صدق نبوءته لم يظهر للعيان أبدًا، فأُحرق كتاب كلماته (إر 36: 1-26). رُمي في حفرة موحِلة بهدف قتله (إر 38: 1-12)، ثمّ سيق إلى مصر مُشاركًا في خطيئة شعبه (إر 43: 1-7).

في الأوقات العصيبة، بدا الله وكأنّه قد ترك نبيّه، ورفض شهادته، لكن إرميا بقي أمينًا في شهادته لله إلى آخر لحظات حياته، وينقل التقليد، الذي يعتبره شهيدًا، أنّه مات رجمًا على أيدي شعبه في مصر (حياة الأنبياء 2).

الشاهد، عبد الرب

في مسيرة الشهادة والاستشهاد في الكتاب المقدّس تبرز صورة “عبد يهوه” الغامضة، الذي يصفه أشعيا النبي في أناشيد عبد يهود الأربعة، أواسط القرن السادس ق.م. الميلاد[14]. هي نصوص عميقة ومعقّدة، كَثُرت تفسيراتها عبر الأجيال. اعتبر البعض أنها صورة مسيحٍ فردٍ أخذ مكانه في التقليد اليهودي، وتبنّاه التقليد المسيحيّ؛ في حين اعتبر البعض الآخر أنه صورة لشعب الله وقد اعتُبر شخصيّة نبويّة في دعوى قضائيّة مع الأمم (أش 43: 3). في هذا الإطار نفهم كلام الرب القاطع الذي يتكرّر مرارًا ثلاثة: “أنتم شهودي” (أش 43: 10، 12؛ 44: 8). والشهادة الأساسيّة التي يجدر بالشعب تأديتها للرب هي الثبات في الأمانة، بخاصة في حالات الآلام القصوى. وأمام تقاعص الشعب يبقى اسرائيل “عبد الرب” (أش 43: 10) ثابتًا ليعطي شهادة علنيّة عن إيمانه غير المتزعزع وسط الاضطهادات.  

لكنّ أناشيد “عبد الرب” تصف في الوقت عينه نبيًّا فردًا، أفيض عليه روح الرب وأوكلت إليه رسالة “العهد للشعب وهداية الأمم” (أش 42: 1؛ 6). لكن هذه الرسالة تبدو وكأنها قد فشلت فشلاً ذريعًا، فقد رُفض النبي بسبب شهادته لكلمة الله، وقاسى الاضطهاد والعنف. ومع ذلك نراه واثقًا بالله، مستعدًا للشهادة أمام المحكمة وأمام الأعداء (أش 50: 4-9). في النشيد الرابع، يصل “العبد” إلى ذروة الهوان والألم، حتى صار “رجل أوجاع متمرّس بالآلام” (أش 53: 3) محكوم عليه بالموت عنفًا وظلمًا مع الأشرار (أش 53: 8-9)، وكأنه “حمل صامت” سيق إلى الذبح “ولم يفتح فاه” (أش 53: ). لكن موته كان ذبيحة تكفير عن خطايا الشعب، ومساهمة في تحقيق مشروع الله الخلاصي. أما “ثمرة تعبه”، مع ظاهرها المهين، فستظهر للعيان نجاحًا لمشيئة الرب على يده، فيكون نورًا يهدي الكثيرين، وشفيعًا لتبرير الخاطئين (أش 53: 11-12).

أظهر الكتاب المقدس في قصة هذا الشاهد-الشهيد المجهول، وثباته أمام سلطات هذا العالم حتى الموت طوعًا، قيمة التكفير عن خطايا الشعب، كما أعلن أنّ البركة تطالهم جميعًا دون استثناء، بما فيهم قاتليه الذين أقرّوا بأنّه “… مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل خطايانا… بجراحه شفينا” (مت 53: 5). حَمَل “عبد الرب” خطايا العديدين. وأخذ عنفهم على عاتقه ليضع نهاية للعنف في العالم. أخذ عنهم الظلم الذي تحمّله منهم ليشفع بهم أمام الرب الإله، ويطلب لهم الرحمة والغفران.

من الواضح أنّ يسوع قد فهم رسالته ودعوته من هذا المنظار، كما فهم حياته والنهاية العنيفة التي تنتظره على ضوء صورة “عبد الرب”. هذا ما أعلنه لتلاميذه قبيل توقيفه بقوله: “يجب أن تتمّ فيّ هذه الآية: وأحصوه مع المجرمين” (أش 53: 12؛ لو 22: 37). وهكذا صارت صورة “عبد الرب” مرجعًا في كلّ تأمّل وشرح لمفهوم الشهادة – الاستشهاد في المسيحيّة.

شهادة المكابيّين

في بداية القرن الثاني ق.م.، شهد التاريخ المقدّس حقبة الاضطهادات الهلّلينيّة، وشهادة بعض المؤمنين لمحبّة الله والأمانة لشريعته… حتى الاستشهاد. نقرأ عن شهادتهم في كتب المكابيّين كما في كتاب دانيال، وقد تحوّلت هذه الشهادات إلى مثال يُحتذى أثناء الاضطهادات التي تعرّض لها المسيحيّون تحت الامبراطوريّة الرومانيّة، فأُدخِل الشهداء المكابيّون في عداد الشهداء المسيحيّين.

كان أنطوخيوس الرابع (175-164 ق.م.)، ملك سلالة السلاجقة، قد أعلن اضطهادًا عنيفًا ضدّ اليهود الذين عارضوا دخول الممارسات الوثنيّة إلى اسرائيل. وأمام إعلانه إلغاء التوراة، واستبدال عيد المظال بمهرجانات الـــ bacchanalia، المرتبطة بتكريم ديونيسيوس والتي تحوّلت إلى طقوس سكر وعربدة؛ وإدخاله طقوس الإله زوس إلى الهيكل، وهو ما كان بالنسبة إلى المؤمنين اليهود “رجاسة الخراب”[15]، نظّمت سلالة المكابيّن الكهنوتيّة مقاطعة اقتصاديّة شاملة، أرفقتها بإعلان “حرب مقدّسة” بقيادة يهوذا المكابي. ارتكزت هذه المعارضة الوطنيّة على أسس دينيّة حتى صارت نموذجًا للشهادة والاستشهاد، على ما نقرأ في كتب المكابيّين: “لم يقاوموهم، ولا رموهم بحجر ولا سدّوا مخابئهم بل قالوا لهم: دعونا نموت أبرياء، والسماء والأرض شاهدتان بأنكم تقتلوننا ظلمًا (1 مك 2: 36-38). لكنّ جنود الملك هجموا عليهم يوم السبت وقتلوا مواشيهم وألفًا من رجالهم ونسائهم وأطفالهم” (2 مك 6: 23-31).

لكنّ الشهادة المؤثّرة جدًا تبقى شهادة الأم وأبنائها السبعة، الذين أعلنوا استعدادهم للموت ولا الحياد عن شريعة الآباء (2 مك 7).

عانوا العذاب والموت العنيف الواحد تلو الآخر دون أن يتراجعوا في شهادتهم لحضور الله القادر على تعزيتهم وإعطائهم الحياة الجديدة الأبديّة لأنه “خير للإنسان أن يُقتل بأيدي الناس، آملاً أن يقيمه الله من الموت” (2 مك 7: 14).

كذلك الأمر مع أليعازار عالم الشريعة الذي ذهب طوعًا إلى العذاب والقتل شاهدًا تحت الضربات: “الرب يعلم أنّي كنت قادرًا على النجاة من هذا العذاب الأليم المميت، ويعلم أيضًا أنّي تحمّلته الآن مسرورًا لأجل مخافته” (2 مك 6: 30-31). وقد شرح سفر دانيال النبي معنى هذه الشهادة – الاستشهاد، فقرأ أحداث المسبيّين في بابل على ضوء هذه الأخبار التاريخيّة، مماثلاً بين الشهداء المكابيّين والفتيان الثلاثة الذين رماهم نبوخذنصّر في الأتون (دا 3: 8ي). رأى دانيال في الانتفاضة المسلّحة محاولة يقوم بها البشر، “ينالون قليلاً من العون” (دا 11: 33، 35) لكنّهم يظلّون عاجزين عن إيقاف الاضطهاد بسبب عدم إيمانهم بالعون الحقّ الآتي من الله (دا 2: 43؛ 8: 25). صحيح أن “الحكماء الذين يبيّنون الأمر للكثيرين” هم في الحقيقة شهود لله، لكنّهم يسقطون تحت السيف واللهيب والسبي والنهب… ويكون سقوطهم سببًا لتمحيص الشعب وتنقيته وتطهيره إلى أن يحين الوقت الذي حدّده الله” (دا 11: 33، 35). وبسبب رجائهم الثابت بالقيامة، يعلن دانيال أن العقلاء “يضيئون كضياء الأفلاك في السماء، والذين هدوا كثيرًا من الناس إلى الحق يضيئون كالكواكب إلى الدهر والأبد” (دا 12: 3).

تبدو هذه العناصر قريبة جدًا من المفهوم المسيحي للاستشهاد، مع فقدانها العنصر الأهم ألا وهو أن شخص يسوع المسيح وما عاشه، هو سبب حياة الرسل وموتهم.

وفي نصّ أخير كُتب قبيل الحقبة المسيحيّة،  نقرأ في سفر الحكمة عن مصير الأبرار والأشرار:

“أما نفوس الأتقياء فهي بيد الله فلا يمسّها عذاب. لكن الجهلاء يعتقدون خطأ أن الأتقياء إذا ماتوا يعانون الموت في شقاء عظيم، وأن رحيلهم عنّا نكبة، بينما هم في واقع الحال في سلام. ومع أنهم في نظر الناس يُعاقبون، فرجاؤهم أكيد أنهم خالدون. وإذا أصابهم التأديب، فهم يُجازون خيرًا كبيرًا… في يوم الحساب يضيئون كنار يتطاير شررها بين القصب، فيدينون الأمم ويحكمون الشعوب، ويملك ربّهم عليهم إلى الأبد (حك 3: 1-5، 7-8).

II– الشهود – الشهداء في العهد الجديد

لطالما قرِئ الاستشهاد في العهد الجديد من خلال استشهاد يوحنا المعمدان (مر 6: 17-29)، ورجم اسطفانوس (أع 7: 55-60) وصلب يسوع. ولكن إن كان الاستشهاد أمرًا واقعًا وواضحًا في حالة المعمدان واسطفانوس، فإن الأمر مغاير بما يخص يسوع. صحيح أن القراءة الإيمانيّة واللاهوتيّة قد رأت في حدث صلب يسوع “ذبيحة تكفير” (تث 26: 37؛ ابط 2: 24-25)، فصار بالتالي أساسًا لتمييز صحّة الاستشهاد المسيحيّ”، لكن موت يسوع كان الموت على الصليب، وهو “موت الملاعين” المناقض لكلّ ذبيحة مقبولة (غل 3: 13؛ تث 21: 23). معلّق بين السماء والأرض، مرفوض من الله والبشر على ما يقول أوريجانس (شرح إنجيل متى 27: 22)، ومحكوم عليه من السلطات السياسيّة والدينيّة.

  1. يسوع هو “الشاهد الأمين”

يطلق سفر الرؤيا على يسوع اسم “الشاهد الأمين” مرّتين (1: 5؛ 3: 14)، وقد ظهر فعليًا كذلك إبّان محاكمته كما يعلن القديس بولس: “ضحّى بنفسه فدى لجميع الناس. والشهادة على ذلك تمّت في وقتها” (1 تيم 2: 6).

فعنصر “الشهادة” يعيد إلى خبرة محاكمةٍ في دعوى خلاف تتطلّب حكم قاضٍ، فيستدعي كل طرف شاهده أو شهوده المخوّلين الكلام عمّا رأوا وسمعوا تحت القسم بقول الحق.

لكنّ يسوع كان أمام بيلاطس في موقف المتّهم، فكيف يتحوّل إلى شاهد؟

على هذا السؤال يجيب الإنجيلي يوحنا:

“الحق أقول لك: أننا انما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا” (يو 3: 11). أما فحوى كلامه وشهادته فيشير يسوع إليها بطريقة غير واضحة بكلامه عن “أمور الأرض”، وقدرته عن التكلّم بــ “أمور السماء” لأنه من السماء نزل:

“إن كنت قلت لكم الأرضيّات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟ وليس أحد صعد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء، ابن الانسان الذي هو في السماء.” (يو 3: 12-13). وليست أمور السماء إلاّ الله بالذات. فالابن جاء وسكن بيننا ليخبرنا عن الآب، وتأدية شهادة عن الآب، وعن ذاته أيضًا، من خلال علاقته به:

“نعم، أنا أشهد لنفسي عن كل شهادتي صحيحة لأني أعرف من أين جئت وإلى أين أذهب” (يو 8: 14).

فمنذ الأزل الآب هو ابن يسوع، ولا يمكننا أن نعرف الآب دون أن نعرف الابن. ولا يمكن ليسوع أن يُعرّف بالآب دون أن يكشف سرّه هو بالذات. يسوع هو شاهد علاقته بالآب، ورسالته تكمن يتعريفنا بهذه العلاقة وجعلنا شركاء فيها. هذه العلاقة التي كشفها يسوع هي “الحقبة”. يسوع هو الحقيقة بصفته الطريق الوحيد المُعطى للإنسان للوصول إلى الآب. لذلك نرى أن يسوع في تعاليمه يختفي ليُظهر الآب، لكنّه لا يتوانى أمام متّهميه عن تأكيد مصدر رسالته، فيقول لبيلاطس:

“وُلدت وأتيت إلى العالم لأشهد الحق (يو 18: 37). فتعليم يسوع يتمحور إذًا حول “الحق”، ويأخذ طابع الشهادة لأننا أمام محاكمة يشهد فيها متّهموه، ولا بدّ من كشف الكذب وإبراز الحقيقة. من هنا فإن عدم قبول شهادة يسوع يعني التواطؤ مع متّهميه.

لكن يمكن التساؤل مع بيلاطس: “ما هو الحق؟”، بمعنى كيف يمكن لإنسان أن يعرف حقيقة الله، في حين أنّ لا أحد بإمكانه الحكم في ما يتخطّاه.

ومع ذلك فإنّ الإنسان قادر على تمييز الحق من الباطل، والإنجيل، في كلّ كتبه، يشجب الموقف المزدوج للإنسان الذي لا يوضح موقفه من “الحق”. ففي كلامه عن يوحنا المعمدان، يسأل يسوع “هل معموديّة يوحنا هي من الله أو من الناس؟” فصمت معادوه لأنّهم إن اعترفوا بمصدرها الإلهي يدينون أنفسهم، وهم الذين لم يقبلوا شهادته عن يسوع! لم يعترفوا بمعموديّة يوحنا لكنّهم “كانوا يخافون الشعب الذي اعتبره نبيًّا” (مر 11: 32). في عدم اعترافهم بمعموديّة يوحنا يُظهر هؤلاء مدى ابتعادهم عن تعاليم موسى والأنبياء، وقد بدا واضحًا أن يوحنا هو وريثهم الروحي. فما يدينهم إذًا ليس عدم إيمانهم بيسوع، بل عدم أمانتهم لما يكرزون به (يو 5: 45). وهكذا فإن الشهادة للحقيقة هي في الوقت عينه شجبٌ للكذب، وهو ما يخلق الأزمة. إن كلمة الله تؤدّي إلى وعي الإنسان لتواطئه مع الكذب، وإلى الخروج من هذه الحالة. لكن من يرفض الخروج، يمعن غرقًا في الظلمات كي لا يظهر نفاقه للعلن، فينبذ من يكشف كذبه ويضطهده.

هكذا نفهم موقف بيلاطس الذي لم يعطِ حكمه. فقناعته الشخصيّة لا تهمّ. في قراره انحاز إلى جانب المتّهِمين: “ملوك الأرض والعظماء ائتمروا معًا على الرب وعلى مسيحه”[16] ليُسكتوه إلى الأبد! لكن القيامة وولادة الكنيسة كانت الجواب الإلهيّ الذي انتصر كاشحًا الظلمات.

  • شهادة يسوع

كان يسوع، وهو جليليّ من الناصرة، قد جمع حوله جماعة من بعض الرجال الذين التزموا حياته الرحّالة وقد اعتبروه، مع العديد من المؤيّدين لأفكاره وطريقة عيشه، معلّمًا ونبيًّا، ولكن في ليلة السابع من نيسان سنة 30 حُكم عليه بالصلب!

كان هذا الحكم بمثابة فشل ذريع لرسالته، فأضحى عثارًا للإيمان به. إنّه “عثار الصليب” بحسب القديس بولس (1 كو 1: 23)، وبخاصة عندما بدأ مناصروه بإعلانه مسيح اسرائيل المنتظر، والابن الوحيد الذي أرسله الله لإعلان مجيء ملكوته.

يعلن الرابي اليهودي تريفون في حواره مع القديس يوستينوس: “نعلم أن على المسيح أن يتألّم ويُساق كالحملان (أش 53: 7)، ولكن أن يُصلب ويموت هذه الميتة المذلّة المشينة التي لعنتها الشريعة،  فذلك ما لا يمكن أن نتصوّره” (حوار مع تريفون 90: 1). هكذا يمكننا أن نفهم كيف أن بعض الفِرق المسيحيّة نفت موت يسوع على الصليب، وكيف اعتبر القرآن أن يسوع استُبدل في اللحظة الأخيرة برجل آخر، لأنه لا يمكن أن تكون هذه ميتة المسيح: “وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلاّ اتّباع الظنّ وما قتلوه يقينا بل رفعه الله وكان الله عزيزًا حكيمًا” (سورة النساء 57 – 158).

لكن الإيمان المسيحي شدّد على أن مَن صُلِب هو فعلاً يسوع المسيح الابن الوحيد الذي “رأى الله” (يو1: 18)؛ وأنه على الصليب “شهد للحقّ” (يو118: 37) محوّلاً الصليب من أداة قتل مهين ملعون إلى موقع المجد الأكبر، فأظهر أن موته هو شهادة. لفهم هذا المنطق غير المفهوم وهذه المفارقة، يجب التوقف عند سبب الحكم على يسوع بالصلب وكيف واجه يسوع هذا المصير العنيف الداهم. فإن كان “الألم ليس ما يصنع الشهداء، بل سبب الموت”، يجدر بنا التساؤل: ما كان السبب التاريخي الحقيقي لموت يسوع.

تؤكّد الأناجيل بشكل لا يقبل الجدل، أن موت يسوع لم يكن صدفة أو بسبب كارثة داهمة، فقد انتظر هو نفسه أن تكون نهايته كما نهاية كلّ الأنبياء، وعلى ما انتهت إليه حياة يوحنا المعمدان سنوات قليلة قبله، بسبب المعارضة الكبرى التي واجهته من السلطة الدينيّة، كما من السلطة السياسيّة. في الحقيقة كان يسوع قد وجّه تحذيرات قاسية يندّد بها بتصرفات من “يبنون قبور الأنبياء… فيشاركون مَن قتلوهم”[17]؛ كما وجّه رثاءً على أورشليم “قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها”[18]

تُرك يسوع حرًّا وسط حلقة بدأت تشدّ عليه الخناق في أورشليم، لكنه لم يهرب عائدًا الى الجليل، بل اتخذ من ساحات الهيكل مركزًا للتعليم والكرازة.

ذهب يسوع الى الموت بكامل حريته، محبّة بالناس: “كان قد أحبّ خاصّته الّذين في العالم، الى التمام أحبّهم” (يو13 : 1)، بعد أن قال “يجب” عليه أن يتألّم (مت 8: 13)، في عالم الظلم الذي يضطهد الأبرار حتى الموت، كما أكّد حكماء المؤمنين في سفر الحكمة الفصل الأول والثاني. وقد أظهر التاريخ ذلك حتى اليوم، فكانت كرازة “العطاش إلى البرّ” تُواجَهُ دومًا بالرفض والعداء. كان يمكن ليسوع أن يصمت ويتغاضى عن الظلم هربًا من العداء؛ لكنّه اختار الأمانة لإرادة الآب، وأكمل حياته متنقّلاً “يصنع الخير” (أع 10: 38). واجهته قوى السلطة الرومانية التي رأت فيه خطرًا يهدّد وحدانية سلطة الإمبراطور؛ وهاجمته قوى السلطة الدينية اليهودية التي لم تستطع مواجهة إرادة الله كما بشّر بها يسوع. وهكذا قَبِلَ يسوع المصالح البشرية التي أدّت إلى قتله، وحوّلها إلى ضرورة إلهيّة يحقِّق من خلالها إرادة الآب “بالمحبة إلى الغاية” ولو أدّى به ذلك إلى موت عنيف. إنّ قبول يسوع بهذه الميتة المأساوية مرتبط بإيمانه بالله الذي “يخلّص الأبرار، ولا يتخلّى عن أتقيائه، بل إلى الأبد يحرسهم” (مز 37: 28).

رأى يسوع بوضوح خاتمة رسالته المنتظرة لكنه أكمل طريقه واثقًا بالرّجاء الذي وضعه بالله الذي تعود إليه الكلمة الأخيرة. وهكذا كان: قام المسيح الابن الحبيب من الموت.

إنّ محبة يسوع وشراكته مع الآب ومع الإخوة والأخوات، كانت قوّته في مواجهة الالام والموت. عاش المحبّة بملئها فكانت محبته أقوى من الموت، وكانت قيامته برهانًا واضحًا أن ما عاشه من محبة كان شاهدًا على كلّ ما يجب أن يعرفه الإنسان.

هذه هي “شهادة يسوع”[19]، كما يعلنها الرائي في سفر الرؤيا، وهو ما جعل منه “الشاهد الأمين”[20]، الذي بصليبه المجيد، يعلّم تلاميذه كيفيّة مواجهة الاضطهادات والاضطرابات والآلام بسبب الإنجيل، بكلّ أمانة وبالتمسّك بالمحبّة.

  • الشهادة الرسوليّة

في قراءة غير معمّقة للكتب، يمكن أن نظنّ بأنّ الرسل، بعد أن رأوا القائم من الموت، جعلوا من القيامة وحدها موضوع شهادتهم. لكنّ العيش مع الرب، ورؤية قيامته لا يكفي لتحويل الإنسان إلى “شاهد”. فمع أن متيّا رأى القائم من الموت، فإنه لم يُعتَبَر شاهدًا إلاّ بعد انتخابه، على ما أعلن بطرس:

“فينا رجال رافقونا طوال المدّة التي قضاها الرب يسوع بيننا، منذ أن عمّده يوحنا إلى يوم ارتفع عنا، فيجب أن نختار واحدًا منهم ليكون شاهدًا معنا على قيامة يسوع” (أع 1: 21).

فحول ماذا تدور الشهادة إذًا؟

طبعًا ليس حول الحدث فقط، بل حول معنى هذا الحدث كما أعلن يسوع بحسب إنجيل لوقا: “جاء في الكتب انّ المسيح يتألّم ويقوم من بين الأموات في اليوم الثالث وتُعلن باسمه بشارة التوبة لغفران الخطايا إلى جميع الشعوب ابتداءً من أورشليم. وأنتم شهود على ذلك” (لو 24: 46-48).

اختار يسوع الاحد عشر ليكونوا شهودًا لمشروع الله، فحضّرهم وعلّمهم ليكونوا قادرين على إعطاء معنى لموته وقيامته: “وَنَحْنُ شُهُودٌ بِكُلِّ مَا فَعَلَ فِي كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَفِي أُورُشَلِيمَ. الَّذِي أَيْضًا قَتَلُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ. هذَا أَقَامَهُ اللهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَأَعْطَى أَنْ يَصِيرَ ظَاهِرًا، لَيْسَ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ، بَلْ لِشُهُودٍ سَبَقَ اللهُ فَانْتَخَبَهُمْ. لَنَا نَحْنُ الَّذِينَ أَكَلْنَا وَشَرِبْنَا مَعَهُ بَعْدَ قِيَامَتِهِ مِنَ الأَمْوَاتِ. وَأَوْصَانَا أَنْ نَكْرِزَ لِلشَّعْبِ، وَنَشْهَدَ بِأَنَّ هذَا هُوَ الْمُعَيَّنُ مِنَ اللهِ دَيَّانًا لِلأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ. (أع 10: 39-42).

وإن تساءلنا لماذا انكشف يسوع لمن اختارهم فقط، نقرأ الجواب في الإنجيل الرابع مؤكّدًا بأنّ يسوع اختار شهودًا واتّحد بهم: “بَعدَ قليلٍ لن يَراني العالَمُ، أمّا أنتُم فتَرَونَني. ولأنِّي أحيا، فأنتُم سَتَحيونَ. وفي ذلِكَ اليومِ تَعرِفونَ أنِّي في أبـي، وأنَّكُم أنتُم فيَّ مِثلَما أنا فـيـكُم. مَنْ قَبِلَ وصاياي وعَمِلَ بِها أحَبَّني. ومَنْ أحَبَّني أحَبَّهُ أبـي، وأنا أُحِبُّهُ وأُظهِرُ لَه ذاتي». فقالَ لَه يَهوذا، وهوَ غَيرُ يَهوذا الأسخَريوطيِّ: «يا سيِّدُ، كيفَ تُظهِرُ ذاتَكَ لنا ولا تُظهِرُها لِلعالَمِ؟» أجابَهُ يَسوعُ: «مَنْ أحبَّني سَمِعَ كلامي فأحَبَّهُ أبـي، ونَجِـيءُ إلَيهِ ونُقيمُ عِندَهُ”. (يو 14: 19-23).

في هذا النصّ يتكلّم يسوع عن كشفين، الأول خارجي وهو قيامته، والثاني داخلي في نفوس من يحفظون كلمته. أُعطي الكشف الأول لجيل التلاميذ الأول فقط، ولكن لقبول هذا الكشف لا بدّ من توبة تشكّل الكشف الثاني الداخلي، الذي من دونه لا يمكن للتلميذ أن يتعرّف إلى المسيح القائم من الموت.

من جيل التلاميذ الأول الذين تعرّفوا إلى المسيح بعد القيامة، اختار يسوع الاثني عشر وأَوكَل إليهم جماعته، ما يعني أنَّ لهم مكانًا فريدًا في الكنيسة. إنهم أعمدة الكنيسة وعلى كل أعضاء الكنيسة قبول شهادتهم.

إنّ عناصر الشهادة هي ثلاثة إذًا: أولاً حدث القيامة، ثانيًا مشروع الله الذي تجلّى في هذا الحدث، وثالثًا الشاهد ذاته الذي عرف أن القائم من الموت قد اختاره ليشاركه شهادته. وكما أكّد يسوع أنه طريق الحق الوحيد، أكّد الاثني عشر أنّ الخلاص يمرّ يالإيمان بكلمتهم، وبدخول الجماعة التي هم أساسها. كان من الطبيعي أن يكون مصيرهم مشابهًا لمصير معلّمهم؛ وأن تُواجه شهادتهم بشهادة مُعاديهم، فتفضح استقامةُ كلمتهم كذبَ هؤلاء، لأن الحقيقة التي تنيرهم تكشف الشهادات الباطلة:

“فَانْظُرُوا إِلَى نُفُوسِكُمْ. لأَنَّهُمْ سَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَتُجْلَدُونَ فِي مَجَامِعَ، وَتُوقَفُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ، مِنْ أَجْلِي، شَهَادَةً لَهُمْ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِالإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ. فَمَتَى سَاقُوكُمْ لِيُسَلِّمُوكُمْ، فَلاَ تَعْتَنُوا مِنْ قَبْلُ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ وَلاَ تَهْتَمُّوا، بَلْ مَهْمَا أُعْطِيتُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَبِذلِكَ تَكَلَّمُوا. لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلِ الرُّوحُ الْقُدُسُ. وَسَيُسْلِمُ الأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَالأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ الأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ. وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. وَلكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ” (مر 13: 9-13)، لكنّي “أعطيكم من الكلام والحكمة والحكمة ما يعجز جميع خصومكم عن ردّه أو نقضه” (لو 21: 15).

  • كنيسة الشهداء

بنيت الكنيسة إذًا على الشهادة الرسوليّة، ولكن مع موت آخر الرسل لم يعد في الكنيسة هذا النمط من الشهود الذين اختارهم المسيح بذاته. فهل يمكن أن نقول عن المسيحيّين أنهم شهود؟

من الواضح أن الكشف الخارجي “رؤية القيامة أو القائم من الموت” غير متاح أبدًا لمن آمنوا على كلمة الرسل، لكن وُهب لهم نعمة “الكشف الداخلي” الذي من خلاله تُعرف حقيقة الشهادة الرسوليّة؛ وفيها يمكن تمييز صدى للشهادة التي شهدها يسوع للحق. بواسطة العماد الذي يرتبط به المؤمنون بالشهادة الرسوليّة، يتلقّون هم أيضًا دعوة الله ليكونوا شهودًا للحقّ. فأن نكون شهودًا لا يعني أن نؤكّد قناعاتنا، ولا أن نجاهد من أجل القيم السامية، بل أن نميّز الباطل على نور الحقّ، وأن نرفض التواطؤ مع الكذب أمانة للحقيقة الإلهيّة. ولهذا فإن نوعيّة الشاهد/ة لا تظهر فعليًّا إلاّ في حالات الدعاوى، عندما يتواجه الحق والباطل. في هذه الحالة يجدر بتلميذ/ة المسيح أن يتعرّف إلى الكذب ويكشفه، ويثبت في الأمانة بالرغم من الخطر الذي يتهدّده من أعدائه.

هذا كان موقف كلّ الشهود – الشهداء وراء المسيح، من اسطفانوس حتى أيامنا هذه!   

خاتمة:

يقول برونو جيوني: “إنّ الشهيد لا يختار الموت، بل يختار نمط حياة: حياة يسوع”. هذا ما يميّز الشهادة – الاستشهاد المسيحي، وهو ما نراه في شهادة المؤمنين بيسوع المسيح الذين يذكرهم العهد الجديد:

اسطفانوس الذي على مثال معلّمه وربّه، طلب قبيل موته، الغفران لراجميه (بو 23: 34؛ أع 6: 60).

يعقوب وقد قتل بسيف هيرودس اغريبا الأول (أع 12: 2) ابن اخ هيرودس أنتيبا الذي اضطهد يسوع (لو 23: 7 – 12). بطرس “الشاهد لآلام المسيح وشريك المجد الذي سيظهر” (ابط 5: 1). بولس، وقد أعلن بالإيمان أننا “نحمل في جسدنا دومًا موت يسوع، لتظهر حياة يسوع في أجسادنا” (2كو 4: 10). أنتباس الذي يعلن سفر الرؤيا، على لسان يسوع، أنه “شاهدي الأمين” (رؤ 2: 13). جمهور “الذين نجوا من المحنة العظيمة وقد غسلوا ثيابهم وجعلوها بيضاء بدم الحمل” (رؤ7: 14)، “وقد غلبوا بدم الحمل وبشهادتهم له، وما أحبّوا حياتهم حتى في وجه الموت” (رؤ12: 11).

عندما تصبح ذكرى المسيح حيّة وحقيقية وفاعلة، يصبح ممكنًا للمسيحيين أن يشربوا كأس الموت العنيف، كما قال يسوع ليوحنا ويعقوب (مر10: 38). هكذا نفهم أن الاستشهاد ليس مشروعًا يثير الحيرة، كما أنه ليس مشروعًا للقداسة، لكنّه هبة خاصة من الله بالمسيح يسوع. امتلك المؤمنون القناعة بأن الحياة هي للمسيح كما هو الموت، فامتلكوا القدرة على تقديم ذواتهم كاملة للمسيح، شهادة بأنّهم بإيمانهم قدّموا حياتهم للرّب لأن “محبته أطيب من الحياة” (مز 63: 4). هذا ما كتبه اغناطيوس الانطاكي في طريقه إلى الاستشهاد: “أصبح تلميذًا حقيقيًا للرّب عندما لا يعود العالم يرى جسدي، لأني بالاستشهاد أبدأ بأن أكون تلميذًا” (روما 4: 3، 5: 3).


[1] الأخت باسمة الخوري راهبة أنطونية مدبّرة عامة في جمعية الراهبات الأنطونيات المارونيات، حائزة على دكتوراه في لاهوت الكتاب المقدّس مديرة المكتب التربوي لمدارس الراهبات الأنطونيات، مديرة ثانوية الراهبات الأنطونيات مار ضومط – روميه، أستاذة الكتاب المقدس في جامعات ومعاهد عدّة في لبنان والشرق الأوسط، معدّة ومقدّمة برامج كتابية في أكثر من تلفزيون وإذاعة، لها عدّة كتب ومئات المقالات العلميّة والراعوية في تفسير الكتاب المقدس والتربية الدينية.

[2]  رج. إر 32: 10، 12، 25؛ را 4: 9.

[3]  خر 20: 16؛ 23: 1؛ لا 5: 1؛ 4: 26؛ دا 13: 21.

[4]  عد 35: 30؛ مت 17: 6؛ 1 مل 21: 10-13.

[5]  رج. مت 18: 16؛ مر 14: 63؛ أع 6: 13؛ 2كو 1: 23؛ عب 10: 28.

[6]  رج. أع 1: 22؛ 5: 32؛ 10: 41؛ 26: 16.

[7]  أع 10: 39؛ 13: 31.

[8]  أع 5: 30؛10: 39-42.

[9]  رج. مر 14: 55-56، 59، 63.

[10]  رج. مت 18: 16؛ 26: 65.

[11]  رج. لو 4: 22؛ أع 1: 8.

[12]  رج. لو 24: 48؛ أع 1: 22؛ 3: 15.

[13]  رج 2أخ 24: 17-22؛ مت 23: 35؛ لو 11: 51.

[14]  رج. أش 42: 1-9؛ 49: 1-7؛ 50: 4-11؛ 52: 13-53: 12.

[15]  رج. دا 9: 27؛ رج. 1 مك 1: 54؛ 2مك 6.

[16]  مز 2: 2؛ رج أع 4: 26.

[17]  رج. مت23: 19 – 31؛ لو 11: 47-48.

[18]  رج. مت 23: 27؛ لو 13: 34.

[19]  رج. رؤ 2:1، 9؛ 12 :17؛ 19: 10؛ 20 :4.

[20]  رج. رؤ 1: 5؛ 3: 14.

Scroll to Top