Almanara Magazine

الشّهادة والشّهداء مقاييس ومقاربة لاهوتية

الخوري ريمون باسيل[1]

مقدمة عامة

لقد جاء في المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة نور الأمم (عدد ٤٢)، في طرق القداسة ووسائلها، ما يلي : “ولمَّا كانت المحبة رباط الكمال وكمال الشريعة (كولوسي ٣ / ١٤؛ روما ١٣ / ١٠) فإنَّها توجِّه كلّ وسائل القداسة وتعطيها روحها وتقودها إلى غايتها. إذًا محبة الله والقريب هي التي تميِّز تلميذ المسيح الحقيقي. ولمَّا كان يسوع، ابن الله، قد أظهر محبته بِبَذلِ ذاته من أجلنا، لا يمكن لأحدٍ أن يحبَّ أكثر، إلاّ ذلك الذي يبذل ذاته من أجل المسيح ومن أجل إخوته (١ يوحنا ٣ / ١٦؛ يوحنا ١٥ / ١٣). فإلى شهادة الحب السامية هذه، التي تُؤدَّى أمام الكل ولاسيما أمام المضطهدين، قد دُعِيَ بعضٌ من المسيحيين وذلك منذ الساعة الأولى، والبعض الآخر سيُدْعَون دومًا إليها. لهذا فالاستشهاد الذي فيه يُصبح التلميذ شبيهًا بمعلّمه الذي قَبِلَ الموت بكلّ حرية لأجل خلاص العالم، والذي يُصبح شبيهًا به في إهراق دمه لتعتبره الكنيسة عطيةً ساميةً، وامتحان المحبةِ المُطلق. وإذا كان هذا لم يُعط إلا لعددٍ قليلٍ، إنَّما على الكل أن يكونوا على استعداد ليعترفوا بالمسيح أمام الناس، وليتبعوه على درب الصليب عبر الاضطهادات التي لا تفتقدها الكنيسة أبدًا. وتتغذى قداسة الكنيسة بنوعٍ خاص بالمشورات، تحت أشكالها المتعددة، تلك التي عرضها الرب في الإنجيل كي يُمارسها تلامذته”.

في كتابي الأوّل[2] الذي صدر مؤخرًا وفيه أعالج لاهوت الشهادة والشهداء عند الموارنة، انطلاقًا من ألحان البيت غازو الماروني [3] ، الذي كان قد نشر ترجمته إلى اللغة العربية عن الأصل السريانيّ، قدس الأب العام يوحنا تابت الجزيل الاحترام، صاحب الفضل الكبير في التنقيب والكشف عن كنوزنا ومصادرنا الليتورجيّة واللاهوتية. سعيت جاهدًا، من خلال البحث العلميّ، الغوص في مضمار لاهوتيّ، قد يكون من المواضيع الأكثر تعقيدًا ودقةً وحساسيّةً. هو بالإضافة إلى ذلك، يندرج ضمن المواضيع اللاهوتية الأقدم في فكر الكنيسة ومن الثوابت الأساسيّة الضامنة لرسالتها. لنا في رسائل أغناطيوس الإنطاكي ، وفي موشحات سليمان، وكتابات ترتليانوس وقبريانوس، وأوريجانوس، ويوحنا الذهبيّ الفم، وسواهم الكثير الكثير من كتابات الآباء، خير دليل وخير شاهد، ولنا في الزمن المعاصر ومن تاريخ الكنيسة في الشرق والغرب، من المسابكيين في دمشق، إلى رهبان تبحرين في الجزائر وصولاً إلى الخوري جاك هامل في فرنسا، ولن يكون الأخير في هذه القافلة التي لا تحصى من الشهود، مادة كافية ودسمة للبحث والتأمل والسعي للعيش بمقتضيات الإنجيل. على حدّ تعبير رؤيا القديس يوحنا هذه الغمامة من الشهود هي “مِنْ كُلِّ الأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَالأَلْسِنَةِ، الوَاقِفة أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الحمل”(رؤيا ٧/١٤).

لكن، لابد من الإجابة عن بعض التساؤلات التي تطال موضعنا اليوم: من هو الشهيد؟ ما محتوى رسالة الشهيد؟ وما الفرق بين الشهيد والضحيّة والبطل ؟ أسئلة كثيرة سنحاول الإجابة عنها في هذه العجالة.

١. تحديد لغويّ : من هو الشهيد ؟

إنّ تحديد الشهيد لغوياً وبحسب محيط المحيط، القاموس المطوّل للغة العربيّة الذي وضعه المعلّم بطرس البستاني، هو “الشاهد والأمين في شهادته والذي لا يغيب عن علمه شيءٌ وهو القتيل في سبيل الله […]. قيل سميّ القتيل في سبيل الله شهيدًا لان ملائكة الرحمة تشهده. أو لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له في الجنّة. أو لأنه ممن يستشهد يوم القيامة على الأمم الخالية. أو لسقوطه على الشاهدة أي الأرض. أو لأنه حيّ عند ربّه حاضرٌ. أو لأنه يشهد ملكوت الله وملكه. والشهيد في الأصل من الشهود أي الحضور”[4].

             لذلك يمكننا القول بأن الشهيد هو نوعيّة حضور أمام الله يُترجم بنوعيّة حياة ومسلكيّة عالية تقتضي الأمانة والرسوخ في حفظ رسوم الله، في وجه كلّ التحديات، مهما كبُرت ومهما علا شأنها وعظمت ! الشهيد في المفهوم المسيحيّ، هو الإنسان الذي يشهد ما عاينه من رحمة ومحبة ورأفة مصلوبة في شخص يسوع المسيح : “أَنَا لَمَّا أَتَيْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَتَيْتُ لَيْسَ بِسُمُوِّ الْكَلاَمِ أَوِ الْحِكْمَةِ مُنَادِيًا لَكُمْ بِشَهَادَةِ اللهِ، لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئًا بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا” (١قورنتس ٢/١-٢). شهادة المُرسل تتمّ أمام الإخوة وعلى مرأى من الجميع، إنها شهادة معلنة صريحة وواضحة.

أساس الكلمة يونانيّ “martys” نقل الى اللغة السُريانية “سُهِد / ܣܗܶܕ ” ويعني في اللغة العربيّة شهد أو شاهد. هذه الكلمة هي كلمة مسيحيّة بامتياز، أوجدها المسيحيون الأول لينقلوا اختبارهم الشخصيّ عمَّن شاهدوا في حياتهم ولدى مماتهم أيّ المسيح الفادي والمخلّص. في العهد الجديد الكلمة مستعملة في أعمال الرسل وفي رؤيا القديس يوحنا. أما الأناجيل ورسائل القديس بولس فلقد تداولوا الكلمة اليونانيّة ليس بالوتيرة عينها كما في الكتب المذكورة آنفًا. لربما علينا أن نجد صدى هذه الكلمة في دعوة يسوع للرسل : “سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ” (أعمال الرسل ١/٨). تلاميذ يسوع المسيح لم يشكلوا جماعة مُخبرين (Propagandistes) أو أصحاب دعاية، بل جماعة شهودٍ (Témoins) ومبشرين. من هنا أهميّة الفارق الكبير الذي يكمن بداية ما بين المُخبرٍ والشاهد. فالمُخبر يقصد الدعاية لكلمة ما، يريد أن يتبناها أكبر عدد وأكبر شريحة ممكنة من البشر. ليس بالضروري أنّ يؤمن بها أو بمفاعيلها في حياته وفي حياة الآخرين. بينما الشاهد هو من ينشر الكلمة ولكنه يَضمنُها ويَضمنُ صحّتها ومصداقيتها وفاعليتها في حياة الآخرين وليس فقط في حياته واختباره هو. ينقل الكلمة بعد اختبار معمّق لها وخبرة. لذلك، يمكننا القول بأن الفرق شاسع ما بين الكلمتين. إنّ التلميذ-الشاهد (Disciple-Témoin) ليسوع المسيح يحمل مشروع حياة وليس مشروع موت ويشهد للحقيقة الثابتة والراسخة، عنيت بها حدث موت وقيامة يسوع المسيح من بين الأموات. لربما تبقى شهادة بطرس هي الأجمل في العهد الجديد: “يَسُوعُ هذَا أَقَامَهُ اللهُ، وَنَحْنُ جَمِيعًا شُهُودٌ لِذلِكَ” (أعمال ٢/ ٣٢). قبل الغوص في مقاربة أخرى ما بين الشاهد والشهيد والبطل والضحيّة، كمصطلحات ممكن الركون إليها في قول من ماتوا في سبيل قضيّة ما، محقّة ومشرّفة، ولكن لم يكونوا شهودًا للمسيح يسوع باعتراف علنيّ صريح، دعونا نتوقف ولو لبرهة حول محتوى الشهادة.

٢. محتوى الشهادة المسيحيّة 

  “التلميذ-الشاهد” هو المدعو لنقل بشرى الحياة التي عاشها يسوع المسيح بيننا كاختبار فريد لحضور الله وسط شعبه. بحيث أنّ الله نزِل الى عالمنا، شاركنا في كلّ شيء، ما عدا الخطيئة، وكشف لنا عن جوهره “الله محبّة” (١يوحنا ٤/٨). أخذ الله وجهًا من خلال وجه يسوع المسيح ! وما قيامة يسوع المسيح من بين الأموات إلا تأكيد بأنّ الحياة لها الكلمة الفصل، لها الكلمة الأخيرة على الموت الساكن فينا. لذلك “إنّ الله لا يدع قدوسه يرى الفساد” (مزمور ١٦/١٠). “التلميذ-الشاهد” هو المخوّل ليس فقط بنقل كلمة خارجيّة عنه وعن تاريخه وجغرافيته، بل هو مولجٌ بنقل اختبار معيوش شاهده بأمّ العين، وهذا ما يسمى بالحقيقة اللاهوتيّة “La vérité théologique”. يبقى السؤال: كيف يتمّ ذلك؟ يتمّ هذا الأمر من خلال أقوال وأفعال يسوع، حيث إنّ الله كان حاضرًا وفاعلاً ومشاركًا بكليّته في عمل يسوع المسيح الخلاصيّ. سرّ الفصح الذي عاشه المسيح وسط بشريتنا، يدمغ عيني “التلميذ-الشاهد” بهذه الحقيقة المطلقة: محبة الله اللامحدودة لبشريتنا الخاطئة والضعيفة. لذلك نرى يسوع يوكل رسله وتلاميذه وشهوده أن يتّكلوا دومًا على عناية الروح القدس، روح الآب والابن، كي يأتي هو لمعونة الضعف الساكن فينا ولكي يأزرهم في كلّ مهمّة تبشيريّة[5]. ولكن لماذا قرّ القرار على حمل اسم الشاهد-الشهيد (Témoin-martyre) للإشارة إلى الرسل بعد موت المسيح؟ الاختيار ليس اعتباطيًا، لكنّه يتضمن محرّكين أساسيين:

أولاً: عبارة “شاهد / Témoin” تأتي من المصطلح القانوني. كما هو معروف، يذكر الكتاب المقدس في العهد القديم هذا الأمر لدى قوله: ” لا يقوم شاهدٌ واحدٌ على أحدٍ في أيّ إثمٍ وأيّة خطيئةٍ يرتكبها، ولكن بقول شاهدين أو ثلاثة شهودٍ تقوم القضيّة” (تثنية الإشتراع ١٩/١٥). على الشاهد أن يقول كلمة حقٍّ ومقارنتها مع كلمة شهودٍ آخرين، أمرٌ ملحٌ وضروري، خصوصًا أمام المعضلات الكبيرة والشائكة.

ثانيًا: كلمة الشاهد لا تنبع منه، ليست ملكه الخاص، لكن الشاهد يشهد لحقيقة أكبر منه قد يكون شاهدها بأمّ العين، أو سمعها بأذنيه، أو لمسها بيديه، إلخ … إذًا كلمة الشاهد هي كلمة شهادة حقّ لا يمتلكها، لكنّ الكلمة، كلمة الحقّ تمتلك الشاهد. لذلك يمكننا القول بأن الشاهد لا يملك الحقّ في التفريط بهذه الكلمة، كنسيانها أو التلاعب بها أو تحويل وتحريف مدلولاتها ومكنوناتها. تقع على عاتق الشاهد مسؤولية قول هذه الكلمة كاملة، دون زيادة أو نقصان. إنّ الشاهد ليسوع المسيح هو الحامل كلمة آخر، بل علينا القول إنّه يحمل كلمة الآخر في المطلق. هذا ما يقوله لنا كتاب أعمال الرسل عن شهادة أصفياء الله التي لم يفهمها أعداء سرّ المسيح. لا يجب ألاّ يغيب عن بالنا بأنّ رسالة يسوع الخلاصيّة لاقت المقاومة والعداء. إنّ الرسل، ومن ثمّ فيليبس واسطفانوس وبولس، عبّروا عن علاقة وطيدة راسخة بهذا المسيح المصلوب والمرذول، مما جعل شهادتهم درب جلجلة لهم وعنوان ألم ورفض وتنكيل بهم: رُفضوا من المجامع، سيقوا إلى المحاكمات، سُجنوا، عُذّبوا…كمعلّمهم ومثالهم الأعلى. أصدق تعبير عن هذا العنف هو ما ذاقه إسطفانوس أمام مجمع اليهود (أعمال ٧). يؤكد خطاب إسطفانوس الدفاعيّ بأن تاريخ إسرائيل يشوبه اللاأمانة من قبل الشعب باتجاه الربّ. إسطفانوس إستفذّ المجمع بقوله هذا فاقتيد إلى خارج المدينة ورُجم. كاتب سفر أعمال الرسل ترجم لنا آلام الشماس الأوّل ونقلها لنا بدقّة وأمانة وكأنه يرويّ لنا آلام يسوع المسيح. لدرجة بأن صرخة إسطفانوس المدويّة لدى احتضاره: “ يَارَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هذِهِ الْخَطِيَّةَ ” (أعمال ٧/٦٠)، تشبه إلى حدٍّ كبير صرخت الناصريّ عندما قال: ” يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ ” (لوقا ٢٣/٣٤).

نستخلص القول، الشاهد لا يبحث عن المجادلات العقيمة ولكنه يدرك بأن شهادته سيكون لها وقعها في نفوس سامعيه، ستحرّكهم، ستزعجهم، ستحوّلهم “من – إلى”، … لذا على الشاهد أنّ لا يهرب أمام أوّل صعوبة تعترضه، بل عليه التسلّح بالأمانة وإن إضطره الأمر أن يصبح شهيدًا. لذا الشاهد للحقّ، يفضل المحافظة على الحقيقة أكثر من كلّ شيء وفوق كلّ شيء ويشهد لها بكلّ ما أوتي من قوّة ونعمة ويبذل نفسه في سبيل إعلاء شأنها. يصبح الشاهد عندها صورة حقيقيّة، أيّ أيقونة بهيّة، عن معلّمه وملهمه يسوع المسيح، الذي قال يومًا: ” إِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ” (يوحنا ١٥/١٨). قبل أن نستخلص العبر اللاهوتية، لا بد من الوقوف على ما أشرنا إليه في معرض كلامنا حول الفوارق التي تتضمّنها كلمة الشهيد بالنسبة لمن هم أبطال وضحايا الأزمات والظروف والثقافات والمناطق…

لن نطيل الكلام أكثر حول الشاهد والشهيد، لذلك سنسعى باختصار إلى الوقوف على مدلولات الكلمتين، عنيت البطل والضحيّة. منذ فجر التاريخ، عرفت البشرية أوجهًا كثيرة من أناس بذلوا نفسهم في سبيل قضيّة محقّة ومشرّفة أو من أجل أمرٍ نبيل وصادق، فهل هم يستحقون أن يطلق عليهم تسمية “شهيد”؟

إن عدنا بالذاكرة الثقافيّة إلى الحقبة اليونانيّة، يطالعنا ذكر سقراط الفيلسوف والمفكر اليونانيّ، الذي قتل بسبب أفكاره ومواقفه ويكون بذلك من أوائل الذين قتلوا وهم أبرياء وأصبح بذلك رمزًا وشعارًا كبيرًا للموت بكرامة وللموت دون فعل ثورة وللموت مع السيطرة المطلقة على الذات، باسم حقيقة أكبر من تلك المعيوشة والضيقة الأفق والمحدودة في الزمان والمكان. ولكن هنا يكمن كل التناقض في هذه المسألة بالذات. وكذلك تطالعنا صورة المكابيين في العهد القديم كرمز للمقاومة والبطولة الملحميّة.

٣. موت البريء: ما بين مفهوم الضحية والبطولة

في مطلع القرن الأوّل، موت سقراط[6] شكل أمرًا هامًا في مسألة ومبدأ انعدام الرحمة والمسامحة في السياسة الداخليّة لمدينة أثينا وتداخلاً مخيفًا ما بين مفهوم الدين والدولة وعدم الفصل بينهما على صعيد السلطتين. نرى صدى هذه الحادثة في كتابات فلافيوس جوزيف، المؤرخ والمفكر اليهوديّ، لدى معرض كلامه عن اضطهادات الجماعة اليهوديّة في الإسكندرية[7]. وكذلك الأمر، نجد صدى لهذه الحادثة في كتاب أعمال الرسل، حيث يشدد الكاتب على مقارنة عمل بولس بمهمّة سقراط من خلال مثول رسول الأمم في حضرة الأريوباغس (أعمال ١٧/١٨-٢٤). لقد ثارت حفيظة المجلس على بولس كونه: “يبدو أنّه يبشّر بآلهة غريبة” (أعمال ١٧/١٩). ومن المعلوم بأن موت سقراط أصبح رمزًا لموت البريء ولموت الفيلسوف وللموت عامة كحبكة دراماتيكيّة أساسيّة في حياة كلّ مفكّر ومبدع. لذلك، كلّ خلاّق عليه أن يستعد أن يبذل ذاته من أجل شخص عزيز أو من أجل بلده أو من أجل قضيّة محقّة، وفي ذلك اكتمال لدعوته… لكن لا يمكننا تعليل موت البريء مهما كانت الدوافع وعلينا المجاهرة بأنّ هذه الطريقة السافرة هي ثمرة الجشع والطمع والحسد، التي تتملّك قلب وفكر الإنسان، ويصبح فيها المرء “ضحيّة” نظام مُطبق عليه، يمنعه من التمايز عن الفكر السائد أو المعمول به. لذلك، في كلّ مرّة يسقط فيها إنسانٌ، وهو يعيش بمقتضى قناعته وبما تمليه هذه القناعات من مستلزمات، يصبح فيها ضحيّة.

أما في المقلب الآخر من العالم اليونانيّ ومن ملحمة سقراط البريء الذي أصبح رمزًا للضحية الذي قرّب ذاته على مذبح الحريّة والكرامة، لدينا في موت أبناء الشعب العبرانيّ، رمزًا للبطولة في وجه كلّ تعسّف وتعنّت. لذلك اتّخذ مفهوم الموت، عند قسمٍ كبيرٍ منهم، مفهوم العبور إلى حياة أخرى. في كتاب المكابيين تلميح صريح ومعلن حول موت الأبطال ذودًا عن قناعة لاهوتيّة إيمانيّة هامة. يقول متتيا المكابي في معرض كلامه: “إنّه وإن أطاعت الملك جميع الأمم التي في دار ملكه وارتدّ كلّ واحد عن دين آبائه ورضي بأوامره، فأنا وبنيّ وإخوتي نسير على عهد آبائنا. فحاشى لنا أن نترك الشريعة والأحكام! لن نسمع لكلام الملك فنحيد عن ديننا يمنةً أو يسرةً” (١مكابيون ٢/١٩-٢٢). نفهم من خلال هذا القول بأن البطولة لا تكمن فقط بالقول بل في عيش التحديّ للنهاية ولاسيما بطولة المدافعة عن “الشريعة والأحكام” التي هي خلاصة التعليم. يصبح الموت عندها عملاً بطوليًا، أكثر منه اندثارًا واضمحلالاً. وهذا الموقف المشرّف، أصبح نمطًا متبعًا لدى الكثيرين خصوصًا الذين يرفضون بكلّ ما أوتوا من عزمٍ وشجاعة وشكيمة أنظمةً قمعيةً أو حكام طغاة.

نستخلص القول، إن الضحيّة والبطل هما وجهان عرفتهما البشريّة منذ البدايات ولكن هاتين الحقيقتين وبالرغم من تقاربهما من مفهوم الشهادة والاستشهاد إلاّ إنهما تبقيان قاصرتين عن قول الحقيقة المطلقة التي تنفرد بها المسيحية وهي نقل وترجمة وتجسيد فكر ومنطق وعمل المسيح من خلال شهادة صادقة لا غشّ فيها ولا رياء أو مواربة أو شائبة. فما هي خصائص الشهادة المسيحيّة التي تميّزها عن كونها ليست ضحيّة أو عملاً بطوليًّا كسائر الأعمال؟

٤. خصائص مفهوم الشهادة والاستشهاد في المسيحيّة

إنّ الشهادة والاستشهاد في المسيحيّة هما مديح لجمال الحياة مع يسوع المسيح وبه ومن خلاله وليسا وقوفًا على قباحة الموت وفظاعة أنواع التعذيب والتنكيل. الجمال يكمن في إنعكاس وجه يسوع على محيّا كلّ واحدٍ من الذين إرتضوا أنّ يتشبهوا بالمصلوب حتى الرمق الأخير : ” لَنَا هذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ ِللهِ لاَ مِنَّا. مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. مُضْطَهَدِينَ، لكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ. حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا. لأَنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِمًا لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا الْمَائِتِ” (٢قورنتس ٤/٧-١١). هؤلاء الذين ارتضوا أن يقولوا المسيح بكلّ تفصيل من تفاصيل حياتهم، من خلال شهادتهم يعززون ضمن الكنيسة أربعة أبعادٍ:

  • الشركة -Koinonia : هي حالة النعمة التي تعيشها الكنيسة باتحادها بسرّ الثالوث الذي هو شركة دائمة لا نزاع فيها ولا انقسام ولا خلاف. الشركة هي علامة انتماء كلّ معمّد إلى جسد واحد رأسه المسيح (١قورنتس ١٢/١٢-٣١). تقتضي الشركة الاتحاد بأسرار العماد والتثبيت والإفخارستيا، أيّ أسرار التنشئة المسيحيّة. وكلّ عمل شهادة يعزز هذا البعد ويغنيه بشهادة حياة مطابقة للدعوة الإنجيليّة.
  • الخدمة – Diaconia: هي التشبّه الدائم بيسوع الخادم الأمين الذي رآه آشعيا في وجه عبد يهوه المتألّم (آشعيا ٤٢ ؛ ٤٩ ؛ ٥٠ ؛ ٥٢ ؛ ٥٣ ؛الخ). الخدمة تقوم بحمل الآخرين “هوذا حمل الله، الحامل خطايا العالم” (يوحنا ١/٢٩). والشهادة الحقة تكمن في تجسيد حضور المسيح الخادم في الكنيسة ومن خلالها في حياة العالم.
  • الكرازة – Kerygma: هي إعلان جريء لسّر حضور الله الفاعل والقويّ من خلال كلمته المتجسد يسوع المسيح.  تتمحور الكرازة حول أبعاد ثلاث : الاعتراف بيسوع المسيح على أنّه ابن الله ومسيحه الأوحد، المجاهرة بقيامته من بين الأموات، والعمل الدؤوب على عيش التوبة والعودة إليه بروح منسحقة وندامة. يزخر كتاب أعمال الرسل بهذه الدعوة الكرازية (أعمال ٢/٢٢-٢٤ و٣٢و٣٨) كما لدى القديس بولس (١قورنتس ١٥/١-٨) ولنا الكثير من المراجع الكتابيّة التي تؤكد على هذا البعد الذي احتل حيّزًا كبيرًا في حياة الكنيسة الناشئة ونشاطها ورسالتها. يأتي فعل الشهادة ليقول بوضوح وجلاء ما يعجز الكلام عن قوله والفكر والمنطق. كون الشهادة هي الكلمة المكلّمة التي تترجم بقوة الفعل محبة المسيح المعلنة: “ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبائه” (يوحنا ١٥/١٣).  
  • الليتورجيا – Liturgia: أيّ بُعد الصلاة والبحث عن الاتحاد بالله. كما هو معلوم، الصلاة هي العمل الذي بواسطته تساعد الكنيسة أبناءها للبحث عن الله وتنقل بواسطته اختبارها الشخصيّ لحضور ولمحبة ولرحمة الله إلى بشريتنا. الليتورجيا الحقّة هي تلك التي تساعد الإنسان، كلّ إنسان، للالتقاء بالله والتواصل معه وتنقل المرء من الزمن الفاني إلى أبديّة الله. يقول المجمع الفاتيكاني الثاني بأنّ “الليتورجيا تعتبر بحقّ ممارسة لوظيفة يسوع المسيح الكهنوتيّة يعبّر فيها، بإشارات حسيّة، عن تقديس الإنسان الذي يتمّ وفاقًا لكلّ شخص، ويجري فيها جسد يسوع المسيح السريّ، رأسًا وأعضاء، عمل العبادة العامة الكاملة”[8].

ختامًا، في كلّ مرّة نقف فيها أمام موت الشهداء يتحوّل الأمر إلى دعوة تحرّكها ديناميكية الإيمان والرجاء والمحبّة، مما سمح للمجمع البطريركيّ المارونيّ القول : ” قد تتحوّل الصعوبات والمضايقات التي يتعرّض لها المؤمنون الى اضطّهادات يذهب ضحيّتها أبرياء، فيصبحون شهداء. فما هو السبب الذي يدفع بهؤلاء إلى تحدّي العذابات ومواجهة الموت بجرأة وإقدام وتهليل؟ السبب الوحيد الذي تورده النصوص هو أنّ الروح عضدهم فاستشهدوا على رجائه: “سلّحت رسلك وشهداءك القديسين ليجاهدوا الجهاد الحسن… ويختموا إيمانهم الراسخ… إجعلنا شركاء آلامهم ومجدهم… لنتسارع إلى رجائك بتوسّطهم… ونتوقّع معونتك. وإليك نلتجئ. فكنْ لنا، يا ربّ، معينًا في الضيقات، ومعزّيًا في الشدائد، وملجأً من المضطّهدين، ومنقذًا من البلايا، وطبيبًا في الأمراض، وزادًا وقت الحاجة… فإنّك ملجأ وخلاص من يستغيثون بك” (ليل الأحد القومة الثانية للشهداء). علمًا أن القومة الثانية من صلوات الليل مكرّسة دائمًا للشهداء. إنّ الرجاء الذي يغمر قلوب الشهداء، قاد إلى اعتماد ذكرهم بصورة دائمة في الفرض المارونيّ الذي خصّهم بالمقطع قبل الأخير من أناشيد الصلاة الكنسيّة”[9].

لذلك رجاء الكنيسة لا يقوم على دماء ضحاياها وأبطالها وحسب، بل على شهادة حياة أبنائها وبناتها الذين يسعون جاهدين كلّ يوم للعيش وفق مقتضيات الإنجيل وارتدادًا دائمًا إلى قلب يسوع الأقدس الذي يؤيّد رسالتها: “الروح القدس ينزل عليكم فتنالون قوّة وتكونون لي شهودًا في أورشليم وكلّ اليهوديّة والسامرة، حتى أقاصي الأرض” (أعمال ١/٨).


[1] الخوري ريمون باسيل أمين سرّ أبرشية البترون المارونية. أستاذ محاضر في جامعة الروح القدس في الكسليك وفي جامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيين في بيروت. دكتور في اللاهوت العقائدي من الجامعة الكاثوليكية في ليون-فرنسا.

[2] Raymond Bassil, Le Beth-Gazo maronite ; Chants pour les martyrs (XIIème– XIII ème siècle) ; Essai de lecture théologique, Geuthner, Paris, 2016, 356 pages.

[3] Beth-Gazo, Add. 14. 703 (xiie-xiiie siècle), Chants pour les martyrs, Jean Tabet, introduction et traduction, dans Publications de l’Institut de liturgie à l’Université Saint-Esprit de Kaslik, (Sources liturgiques Maronites, no 3) Kaslik-Liban, 2002, 544 pages.

٢بطرس البستاني، محيط المحيط، قاموس مطوّل للغة العربيّة، مكتبة لبنان، ١٩٧٧، صفحة ٤٨٦ العامود أ  

[5] Paul Ricœur, Lecture III, Aux frontières de la philosophie, Seuil, Paris, 1994, 384 pages.

[6] Xénophon, Le Banquet. Apologie de Socrate, traduction de F. Ollier, CUF, Belles Lettres, Paris, 1961, Mémorables 1, 2.

[7] Flavius Josèphe, Contre Apion, traduction, traduction et commentaire de Th. Reinach et L. Blum, CUF rééd. Belles Lettres, Paris, 1972, 12, 262-268.

[8] المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور في الليتورجيا المقدسة (عدد ٧ )

[9] المجمع البطريركيّ المارونيّ – النصوص والتوصيات النصّ الأوّل : كنيسة الرجاء (٣ /٧-٨)

Scroll to Top