رائحة «العطر الزكي» نادرة، غنيّة، لأنّ ثمنها أكبر من إطارها المادي، وأبعد من مدلولها المعنوي؛ إنّه تعبير الحبّ الكبير، «ليس لأحد حبٌّ أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبائه» (يو 15/13).
يعبق تاريخ الكنيسة بعطر القداسة من مآثر الشهداء الذين «أعدّوا طريق الربّ وجعلوا سبله قويمة» (راجع مر 1/3؛ أش 40/3) لقد جسّدوا «الحبّ حتى الأخير»، هم «الذين أحبّوا حتى النهاية» (قداسة البابا فرنسيس في 22 نيسان 2017). لقد أحبّوا الربّ الذي ملأ قلوبهم وملك على فكرهم ومكّن إرادتهم؛ فأحبّوا العالم الذي افتدوه بحنوّهم وعانقوا أهله بمثلهم وكرّسوا حياتهم حتى دمهم لنقاوته، فغدوا كنوزاً زاخرة بالحبّ على شبه معلّهم مثال الحبّ.
ما يميّز الشهيد في مفهومنا المسيحي هو «الحبّ»، «العطرالزكي» الذي يطيب في العطاء ويكتنز في التضحية، ويغتني في البذل، ولا يكون إلاّ سخياً في كلّ الاتجاهات، ولأجل الكلّ. ليس الشهيد بهذا المعنى «البطل» الذي يتحدّى أو يقاوم؛ «الفصيح» الذي يجاهر بالقوّة أو يتجبّر دون خوف أو قلق؛ «الجبّار» الذي لا يسمح لأحد أو لشيء ما أن يُخضِعه أو يثنيه عن عزمه.
يشبه الشهيد حبّة البخور، «العطر الزكي»، التي متى ألقيت في الجمر خاوت النار وتحوّلت إليها لتذوب فيها فتصعد رائحة زكية، ترتفع لترضي الله، لأنّها بطبيعتها تذوب حتى تفعل وتكون فعاليّتها بارزة وفاعلة.
فالشهيد هو هذا «العطر الزكي» الذي يحاصره العالم ويحاول إزالته، فإذا به يحتضن العالم من داخله ويحمله معه عطراً طيباً ليرفعه. لا يقدر على تحقيق هذه المعادلة الصعبة، معادلة النزول بالانحناء للصعود بالرفع والسموّ، إلاّ «الحبّ». إنّه الحبّ الذي جسّده الربّ يسوع، الحبّ الحيّ الذي يفيض ولا ينضب من أجل الحياة: «أما أنا فقد أتيت لتكون الحياة للناس وتفيض فيهم» (يو 10/10).
يسرّ إدارة مجلة «المنارة»، في هذا الجوّ العابق «بالعطر الزكي» أن تتابع موضوع «الشهادة والشهداء» في عدها الممتاز، لإبراز مفهوم الشهيد بكلّ أبعاده الكتابيّة، الروحيّة، الاجتماعيّة وغيرها. علّ أن تكون سنة «الشهادة والشهداء» زمن عودة إلى المنابع حيث تتهل قوّة الحبّ الذي يذهب إلى الأخير حتى يثمر في حياة أبديّة.
هيئة التحرير