Almanara Magazine

شهداء المؤسسة العسكرية

                                                                                              ليا العاقوري

ما الذي يدفع إنسانًا ما، إلى المضي قدمًا في طريق يعرف أنه قد يؤدي به إلى الموت المحتم، فيمضي إلى نهايته غير نادم وغير هياب.


هل هو السأم من الحياة؟ أم هو البحث عن معنى” أكثر سموا” لها، لا يمكن إدراكه إلا بتقبل نقيض الحياة نفسها، أي الموت.
هذا السؤال يطرح نفسه أمامنا كلما سمعنا بخبر عن شهيد جديد.

فنحن نحيا في وطن أثخنت ذاكرته جراح الحروب، بأهوالها ومآسيها، فلا يكاد يخلو بيت فيه من شهيد أو من صلة قربى بشهيد.

هل كل من قتل في حرب أو نزاع مسلح يصح وصفه بكلمة شهيد؟


إن معيارنا في الإجابة عن هذا السؤال بسيط، فعندما تكون القضية التي دفعت بإنسان ما إلى السير في طريق نهايته الموت، قضية نبيلة” ومحط إجماع من مختلف شرائح المجتمع والوطن، مهما تعدّدت منطلقاتهم الثقافية والدينية ومهما تباعدت قناعاتهم وعقائدهم السياسية، عندما يتحقق هذان الشرطان أي نبل القضية والإجماع حولها، يرتقي الموت الى مرتبة الشهادة ويصح وصف من قتل في حرب مشروعة بالشهيد.


في لبنان عشرات الألاف من الأسر التي ترفع صور شهدائها وتفخر بهم، منهم من سقط في حروب ضد عدو خارجي، أو في نزاع أهلي داخلي واحيانًا في صراعات ذات طابع عشائري.


يحق لكل من فقد عزيزًا أن يحاول رفع ظروف وفاته إلى مرتبة الشهادة لكي يبقى في ذاكرته حيًا بشكل من الأشكال.


هذا دافع عاطفي مفهوم من قبل ذوي كل من سمي شهيدًا وهذا دافع جدير بالاحترام، فهو احترام للذات الإنسانية التائقة الى التحقق المادي في الحياة والمعنوي في الموت.


لكن الموضوعية تفرض علينا أن نحدد بوضوح الشهادة التي تستقطب بالفعل إجماعًا عارمًا لدى اللبنانيين جميعًا دون الانتقاص من قيمة الشهادة التي تأخذ صفتها ومعناها من بيئة مناطقية أو اجتماعية أو طائفية محدودة.
لا يختلف اثنان في لبنان على أن شهيد الجيش هو شهيد الوطن كل الوطن.


ما الذي يدفع جنديًا في الجيش في مقتبل العمر، إلى المضي في أداء واجبه العسكري والوطني غير آبه بالموت، مصرا” على تنفيذ مهمته المقدسة أو الشهادة في سبيلها؟


فيا أيها الضابط والرتيب والجندي والمجند في صفوف جيشنا الوطني، يا أيها البطل الذي غدوت شهيدًا من تكون؟


هل كنت تدرك بعقلك وقلبك أنك حين خرجت للمرة الأخيرة من بيتك، لن تعود إليه إلا شهيدا”؟


فأنت لطالما كنت في مختلف مراحل حياتك العسكرية مشروع شهيد قابل للتحقق في أي لحظة. أي قوة روحية ومعنوية هائلة، جعلتك تجابه الموت بعينين مفتوحتين وأجفان غير مرتعشة؟ ما هي الأفكار التي راودتك والصور التي ارتسمت في مقلتيك لحظة أغمضت عينيك وأسلمت الروح، تاركًا وراءك حياة لم تعشها بعد وأيامًا وسنوات واعدة بين أهل وعائلة وأصدقاء لم يكتب لك أن تحياها؟ من يدري؟ ربما كنت في لحظاتك الأخيرة تشاهد أبواب الفردوس الأعلى تنفتح لك، فلا تكترث بالرصاص الذي يمزق جسدك. لا شك أن القوة الروحية المعنوية الكبرى التي تدفع بالجندي الى الموت والشهادة بثبات وثقة، هي مزيج من الايمان الديني العميق والولاء الوطني الكامل.


الإيمان الذي نشأ عليه في أسرته وبيئته الدينية والولاء الوطني الذي يجد خير تجسيد له في مؤسسته العسكرية الحاضنة بحب وانسجام مختلف الشرائح الاجتماعية على تنوعها الديني والمذهبي، حيث تغدو الجندية رسالة لا تقل سموًا عن الأديان السماوية ومعانيها الإنسانية .            

المسيحية والإسلام رفعا من قيمة الشهادة والشهيد.


ألم يقل السيد المسيح: “ما من حب أعظم من هذا: أن يضحي الإنسان بنفسه في سبيل أحبائه”(يو13/15). أو ما جاء في القرآن الكريم: “لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون.(سورة آل عمران الآية 169).


إن الاستعداد النفسي للموت في سبيل عقيدة سامية، تضرب جذورها عميقًا في تربة الإيمان الديني.


ولهذا الاستعداد الفطري محاذير عديدة، لأن الخطر يبقى قائمًا أن تقع أجيال الشباب تحت تأثير عقائد دينية متطرفة أو منحرفة أو مزيفة، تؤدي بهم إلى مهالك القتل المجاني ومخاطر الانزلاق إلى هاوية الإرهاب.


أما مؤسسة الجيش ونعني بكلامنا هنا الجيش اللبناني تحديدًا ،لأنه من أكثر جيوش العالم التصاقًا بشعبه المتعدد الأديان والمذاهب، فقد أثبتت قدرتها الباهرة على صقل عقائد العسكريين المنخرطين في صفوفها، ودمجها في عقيدة وطنية راسخة وموحدة، لا تتناقض مع عقائدهم الدينية، بل تحتضنها وتفتح أمامها آفاقًا إنسانية غير محدودة.

ه كذا يغدو شهيد الجيش اللبناني شهيد الوطن بأسره، لا شهيد شريحة محدودة منه.

إن الشهادة إذًا هي قيمة وطنية كبرى ومحطة فخر واعتزاز في تاريخ الوطن.

لكن هل هذا كل شيء؟ هل هي كذلك في التاريخ الشخصي والعاطفي لعائلة الشهيد وذويه؟

وماذا عن الجانب المأساوي من القضية؟ ماذا عن آلام الفقد والخسارة التي تشعر بها عائلة الشهيد ويعانيها ذووه؟

لكي تكون إجابتنا عن هذه الأسئلة موضوعية، قمنا باستطلاع آراء بعض من عائلات شهداء الجيش.

سألنا سونا وهي زوجة ضابط شهيد، كيف تلقت خبر استشهاده؟ وكيف واجهت الحياة بعد غيابه؟ وكيف هي حياتها الآن؟

أجابت سونا:”أخبروني أنه تعرض لحادث وأن حالته حرجة، ولكن لم يخطر في بالي تلك اللحظة أني غدوت زوجة شهيد.

زوجي نايف الذي خاض معارك البطولة على أرض الوطن، أبى إلا أن يسقط شهيدًا على أرض الاردن حيث مشى الشهيد الأول أي السيد المسيح على تلك الأرض. لقد ترك غياب زوجي غصةً عميقةً وألمًا يصعب الشفاء منه وجرحًا في قلبي وقلوب ولدينا وذويه.

لكنه ترك لنا بالمقابل كل أسباب الفخر والاعتزاز بشهادته.

حياتي الآن هي حياة امرأة فخورة بكونها زوجة شهيد.”


قصة أخرى مؤثرة ترويها زوجة ضابط طيار شهيد غدت أيضًا والدة ضابط طيار شهيد.

تقول حياة: “كان هادي طفلاً صغيرًا يكبر على ذكرى والده البطل الطيار جورج الذي استشهد خلال تأدية احدى المهمات الجوية. كان طفلي فخورًا مثلي بوالده، فوضع هدفًا لحياته لا يحيد عنه هو الانخراط في صفوف القوات الجوية اللبنانية ضابطًا طيارًا يكمل ما بدأه والده على درب الواجب والبطولة.

مضت السنوات وكان له ما أراد، فأصبح ضابطًا طيارًا لا يتأخر لحظة عن تلبية نداء الواجب، فأدى مهمات جوية لا تحصى، محلقًا في سماء لبنان، مستلهمًا كرى والده باستمرار.

لكن القدر كان ظالما” بحقه وحقي، فسقط ابني شهيدًا في إحدى المهمات وعلى مثال أبيه غادرني باكرا” محلقًا من فضاء لبنان إلى سماء أعلى وأسمى هي سماء الخلود، فاستحق لقب النسر الحالم.”

وهناك عائلة أخرى قدمت شهيدين هما الوالد والابن. تقول سوزان: “سهرت على تربيته بدموع العينين، في كل مناسبة كان هناك غصة بأن والده الشهيد ليس حاضرًا ليفرح بأولاده الاربعة.

كبر ميشال وغدا شابًا وانخرط في صفوف الجيش، كان شديد الفخر بوالده زكي الذي استشهد في معارك نهر البارد. وكوالده راح يندفع في تنفيذ المهمات الخطرة ،على درب الشرف والتضحية والوفاء.

وذات يوم وقع ما كنت أخشاه، فسقط ابني شهيدًا خلال تنفيذ مهمة مداهمة ضد عصابة من المجرمين. ورغم وجعي وآلامي فأنا فخورة كل الفخر بزوجي وابني الشهيدين.”


أما خلود فتقول: “لن أنسى ما حييت ذلك النهار، حين ودعته غير مدركة أنه الوداع الأخير. خرج من المنزل بحماس وروح معنوية عالية إلى أداء مهمته العسكرية، لكنه لم يعد إلا شهيدًا. شارك في معارك نهر البارد ببسالة وانضم إلى رفاقه الشهداء في الملكوت الأعلى. كنت حاملاً فلم يتمكن زوجي من مشاهدة ابننا محمد الذي ولد بعد استشهاده. رحت أواجه الحياة بصبر وأغالب الألم والوجع، فأكملت دراستي وانصرفت إلى تربية ابني، الذي أفخر أنا وإياه بشهادة والده.”

تقول كلود: “جورج هو الزوج والحبيب والصديق. بنينا سويًا عائلة من أربعة أطفال. كان طيلة حياته العسكرية، رجلاً مقدامًا تعرفه كل ساحات الشرف وميادين القتال. وكان مثقفًا توسع في العلم والمعرفة حتى نال الترقية إلى رتبة ملازم.

من كلماته المأثورة: “لن يقدر أحد أن يقتلني وجهًا لوجه، ولن يتمكن العدو من قتلي إذا قتلت إلا غدرًا. وهذا ما كان، فقد قتل غدرًا وجبنًا خلال معركة عبرا. إنه شهيد الوطن، وأنا وأولادي فخورون به، فذكراه تقهر آلام الفراق.”

هذه بعض الشهادات الحية من عائلات شهداء الجيش وجميعها تعكس روحًا معنوية واحدة عنوانها الفخر والاعتزاز.


ولكن خلف مشاعر الفخر والاعتزاز، يكمن تاريخ شخصي طويل من المعاناة القاسية.

كيف يمكن للأم التي سهرت الليالي حتى غدا طفلها رجلاً أن تتقبل فكرة موته المفاجئ مهما كانت القضية التي استشهد من أجلها نبيلة؟

كيف يمكن ألا ينفطر قلبها ألمًا وحسرة كلما وقفت أمام صورته وهو الذي غادر الحياة قبل أن يزف عريسا”؟

كيف يمكن لزوجة شابة خسرت حبيبها ورفيق دربها ومعيل أطفالها، أن تكمل حياتها بدون جروح وتصدعات نفسية عميقة؟

أي تعاسة يتركها الموت في نفوس الأمهات والآباء بعد إصابتهم بفلذات أكبادهم.

أي حزن يكبر مع الأطفال الذين فقدوا آباءهم قبل الأوان؟

إنه الجانب المعتم من قصص عائلات الشهداء الذي لا يلقى الضوء عليه كثيرا”.

كم من عائلات الشهداء ما زالت رغم مرور السنين، رازحه تحت عبء المأساة وغير قادرة على تخطيها؟

إن الواجب الوطني يفرض على المجتمع الأهلي ومؤسساته إضافة الى مؤسسات الدولة بالتأكيد، الالتفات الى هذه العائلات وتقديم المساندة الدائمة لها معنويًا ونفسيًا لكي لا يشعروا أن دماء شهدائهم ذهبت سدى”.

لكن الانصاف يقتضي منا التنويه بدور الأجهزة المتخصصة في قيادة الجيش، التي لا تدخر جهدًا لمؤازرة هذه العائلات على مختلف الصعد.


رغم ذلك فإن عددًا كبيرًا من هذه العائلات تمكن من تجاوز الموت وتحويل المأساة الشخصية إلى طاقة إيجابية، فواصل الأبناء مدعومين بإصرار عنيد من أمهاتهم شق طريقهم في الحياة حتى تحقيق أهدافهم العلمية والمهنية بتفوق، يشكل تعويضًا معنويًا لخسارة الأم وإرضاء” لروح الأب الشهيد.

إن هذه الإرادة الصلبة لديهم هي التي تحول آلام الفراق إلى مشاعر فخر واعتزاز بمعنى الشهادة.

فهنيئًا للوطن بعائلات الشهداء، لأنهم يقدمون لنا الدروس كل يوم، كيف تصنع الحياة الجديدة من ذكرى الموت وآلامه.

ماذا نقول بعد عن الشهيد؟

هل هو يائس من الحياة أو زاهد بها ويرى في الموت المبكر خلاصًا من مشاكلها وصعابها؟

لا فهو خلاف ذلك تمامًا.

هو أكثر حبًا للحياة وأعمق فهمًا لها منا جميعًا.

معظمنا يحب الحياة ويتمسك بها مهما كانت ظروفها ولا يقدر أن يبذلها طوعًا من أجل الآخرين.

أما هو فمن شدة حبه للحياة، يبذلها طائعًا مختارًا من أجل أن ينعم بها أحباؤه الأقربون من عائلته الصغيرة، والأبعدون من عائلة الوطن الكبيرة.

أي شجاعة وأي نبل وأي إيمان، أن يقدم شاب في مقتبل العمر حياته برضا وقبول، من أجل أن يحيا الوطن!


ذروة العطاء أن يعطي الأنسان حياته، وذروة الإنسانية أن يفكر المرء بسواه قبل أن يفكر بنفسه .

الوطنية ليست خطابًا عالي النبرة، ولا كلامًا وجدانيًا مؤثرًا  يهز الأسماع والقلوب. إنها عمل صامت في دأب طويل، يجد خير تجسيد له في رسالة الجندية وعملها الذي لا ينتهي.

علينا جميعًا أن نستلهم المعاني النبيلة التي تكمن في الشهادة من أجل إعلاء قيم الشرف والكرامة والتضحية في حياتنا الوطنية.

لسنا دعاة موت واستشهاد، بل نحن دعاة حياة وأمل.

لكن حب الحياة يعني أن نحيا بكرامة، ولا يمكن الفصل بين الكرامة الوطنية والكرامة الشخصية.

هذا هو الدرس الذي نتعلمه من شهداء الجيش لأنهم شهداء الكرامة الوطنية.

الشهداء هم ضمير الجيش، والجيش ضمير الوطن.

فكم يجدر بنا الترفع عن صغائرنا والالتفاف الدائم حول جيشنا الوطني، فهو ضمانة وجودنا وحارس غدنا وأحلامنا.

Scroll to Top