Almanara Magazine

إِحراقُ كتُب الموارنة: مهمّةٌ رسوليّة أم جريمةٌ سياسيّة؟

انطوان افرام سلامه[1]

      أُسوَةً بسائرِ الشّعوبِ والجماعات الاثنيّة والعرقيّة والدينيّة، عرفَ الموارنةُ في تاريخهم الطويل حقباتٍ متعدِّدة، توزّعت بينَ الازدهارِ والانفتاح، والاضطهادِ والانحطاط. ففي النّصف الثّاني من القرن السّادس عشر، أَضرمَ قاصدٌ رسوليّ ومبعوثٌ بابويّ النّيران في كتب الموارنة ومخطوطاتهم الليتورجيّة، ماحيًا لاهوتًا يرقى إلى مارون “الكاهن والنّاسك”، ويوحنّا مارون “الحبر”، وإلى مدارِسِ انطاكيا والرّها، وايليج وميفوق…

الكرسيّ المُقدّس والموارنة

      يَتمحورُ نشاطُ الكرسيّ الرسوليّ منذ النّشأة، في رعاية “خراف المسيح” المنتشرةِ في أطرافِ المسكونة، عملاً بقولِ السيِّد المسيح لأمير الرّسل بطرس: “إِرعَ نعاجي” (يوحنّا21/15-17)، ويتلخَّصُ هذا العمل في إيفادِ بعثاتٍ بابويّة إلى بلدٍ مُحدَّد أو أُمَّةٍ مُعيّنة للوقوفِ على شؤونها الروحيّة والزمنيّة، ورفعِ التّقارير اللازمة إلى الحبر الأعظم، بُغية الكشف والمُساعدة. والعلاقةُ بينَ روما والكنيسة المارونيّة قديمة، تشهدُ عليها الرِّسالة الموجّهة سنة 517، من “رؤساء الأديار والرُّهبان الآخرين في سوريا الثانيّة” إلى البابا هورميسْداس يُعلِمونهُ بالمذابح التي ارتكبها البطريرك المُونوفيزيّ[2] ساويروس الانطاكيّ[3]. ومع حقبات الاضطهاد البيزنطيّ والفتح الاسلاميّ، تُطمَسُ هذه العلاقة، حاجبةً معها كلّ أثرٍ موثوقٍ يشهدُ عليها أو ينفيها، لحينِ مجيءِ الصّليبيِّين أو الفرنج، حيثُ تبلغُ أوجَها في الرسائل المُتبادلة وحركة الزّائرين الرسوليين والموفدين البابويين، وزيارات البطاركة المُنتَخَبين إلى “المدينة الخالدة” أو موفديهم بُغية الخضوع والتماس درع التثبيت أو “الباليوم” (Palliom)[4]. وتستَمِرُ هذه القربى في زمن الاحتلال المملوكيّ والعثمانيّ، مُتجليَّةً بحضورِ العديدِ من القُصّاد لمجامِعَ مارونيّة أثّرت في تدبير شؤون الطّائفة. ومع الوقت تنظّمت الارساليات البابويّة من موقتة إلى مفوضيّة رسوليّة دائمة، فإلى قصادة رسوليّة، ثمَّ رُفِعَت بعدَ استقلال البلاد إلى درجة “سفارة رسوليّة”[5]. وكانَ مُمَثلو الكرسي الرسوليّ رهبانًا من حرّاس الأراضي المقدّسة الفرنسيسكان أو من اليسوعيين، لغاية القرن التّاسع عشر، حيثُ لم يعد يُوفِدُ الكرسيّ الرسوليّ إلاّ الأساقفة[6].

القصَادَةُ الأولى

      غداة وفاة البطريرك موسى العكّاري سنة 1567، أُلزِمَ الحبيس ميخائيل الرزّي الجلوس بطريركًا على كرسيّ انطاكيا لتدبير شؤون الكنيسة المارونيّة، لكنَّ الظروف الأمنيّة والاقتصاديّة النّاتجة من احتلال العثمانيين للبلاد وحصارهم لجزيرة قبرص، أَخّرَت وصول موفَدي البطريرك إلى روما لالتماس البركة ودرع التثبيت، كما المشاكل الداخليّة، ومنها اتِّهام البطريرك باليعقوبيّة[7]، لأنَّ أصله من قريّة بقوفا التي تبعَ أغلبَ سكّانها اليعقوبيّة[8]. ومع جلاء الأمور وكشف الحقيقة من قِبَل مُوفَدي البابا، رقىّ البطريرك ميخائيل إلى الدرجة الأسقفيّة سنة1577 القس جرجس البسلوقيتي وأرسله إلى روما مع الخوري إقليموس الإهدناني لأجل طلب البركة ودرع التثبيت ورئاسة الكرسي الانطاكيّ، وأرسلَ معهما بعض المكاتيب إلى الكاردينال كارفا (Carva) المسؤول عن الكنيسة المارونيّة[9].

      ومع وصول الموفدين إلى روما، قابلا البابا غريغوريوس الثّالث عشر (1572-1585) الذي سلّمهما مكتوب بركة وتثبيت إلى البطريرك[10]، يحُثُّهُ فيه على احتمال المشقّات والثبات في الايمان، وعدم إضافة “اصطلبت حلُفَين” على التقديسات الثلاثة، وضرورة تجديد الميرون وتقديسه في كل عام، كما تثبيت رؤساء الكهنة في رعاياهم، وعدم مناولة الأطفال قبل بلوغم السبع سنوات، ومنع تحليل الزّيجات إلاّ فوق الأربعة أقانيم[11]. وليختبر أكثر عن أمانة وسلوك الموارنة، أرسلَ إلى لبنان مع الوفد البطريركيّ، راهبين من الرّهبانيّة اليسوعيّة هُما الأب جوان باطيشتا اليانو(Jean Baptiste Eliano) وتوما برون(Thomas Bron) ، وأرسلَ معهما أواني كنسيّة لتقديس الأسرار[12].

      أواسط شهر حزيران سنة 1578، وصل الوفد البابويّ إلى مرفأ طرابلس، وسبقهما المطران البسلوقيتي والخوري الاهدني إلى قنّوبين لاعلام البطريرك بالحفاوة التي لقياها في روما وتسليمه الهدايا الثمينة من البابا ومن الكاردينال كارفا[13]. وبعدَ أنْ ارتاحا مدّة في طرابلس، صَعدَ الوفد المكوّن من الأب اليانو والأب برون ومُساعدهما الأخ ماريو أماتو Mario)      (Amato إلى قنّوبين، وسلّموا الرّسائل إلى البطريرك الذي انشرح صدره عند اطلاعه على مضامين الخطوط الحبريّة والبراءة البابويّة، وصرخَ عندَ سماعها قائلاً: “ليحيَ الحبر الأعظم الذي يُخيّلُ إليَّ انّي أراه وأسمع صوته من خلال هذه البراءة”[14]. ثُمَّ أبدى رغبةً صريحة في تنفيذ جميع الأوامر الرسوليّة، مُظهرًا للأبوين الزّائرين كل دلائل العطف والاكرام والمحبّة[15].

      بعد استئذان البطريرك، انصرفَ القاصدان الرسوليان إلى الفحص عن أحوال الموارنة وايمانهم وكتبهم وطقوسهم، فوجدا بعد اثني عشر يومًا من العمل أنَّ هذه المهمّة بحاجة إلى مزيدٍ من الوقت، وقرّرا زيارة الأراضي المقدسة التي أمضيا شهرًا فيها، وعادا إلى لبنان بصحبةِ  شمّاسٍ مارونيّ، تعرَّفَ عليه الأب اليانو في القدس، ليستعين به في أعماله، كونه يُتقِنُ السريانيّة والعربيّة والايطاليّة[16]. في الطريق، درسَ القاصدان إمكانيّة فتح مدرسة إكليريكيّة في طرابلس، لكنّهما فضّلا روما خوفًا من ظلم الحكّام والأوضاع السّائدة[17]. ثمّ ترك الأب اليانو رفيقيه في طرابلس، ليهتم الأب برون بشؤون التّجار الافرنج الروحيّة، واستصحب معه الشمّاس المارونيّ المذكور إلى قنّوبين[18]، حيثُ شرع بالتدقيق في كتب الموارنة وعاداتهم، لتمكّنه من اللغة العربيّة وقراءة الخط الكرشوني، ممّا أفرحَ البطريرك الذي كتب بدوره رسالة إلى الأساقفة ورؤساء الأديار ليستقبلوا الأب اليانو بإكرامٍ ويُطلعوه على ما يجب، كما أرسلَ معه أخاه المطران سركيس الرزّي والقس جرجس يونان للمُرافقة[19].

      استمر الأب إليانو في جولته حوالي سنة كاملة، مُتفقِّدًا الأديار والكنائس، وفاحِصًا الكتب الليتورجيّة، حيثُ صحَّحَ بعضًا منها وأحرقَ بعضها الآخر في السّاحات العامّة بحجّة احتوائها على الهرطقة[20]، كما صنعَ لنفسه ثلاثة دفاتر يكتب في الأوّل ما يراه من أخطاء، وفي الثّاني ما يلزم استشارة البابا فيه، وفي الثّالث ما يلزم الكهنة والشّعب  التنبيه إلى حفظه[21]. وفي أوقات فراغه، عرَّبَ الأب اليانو رتبة الميرون، وقوانين المجمع التريدنتيني، والتعليم الصّغير، وكتاب الاعتراف والمناولة، وحاولَ التوفيق بين السيِّد البطريرك وبعض الأساقفة والرّهبان، وفكَّرَ في عقدِ مجمعٍ ملّي لاصلاح شؤون الكنيسة المارونيّة وأنظمتها[22]. لكن بسبب تفشّي الطّاعون في سواحل الشّام[23]، وبطلبٍ من الرئيس العام للرهبانيّة اليسوعيّة غادر المُرسلان مع الأخ المُساعد إلى روما في 25 شباط سنة 1579، وأرسلَ البطريرك معهم عريضة إلى البابا ورسالة إلى الكاردينال كارفا، كما أرسل معهم شابين هُما جبرائيل الأدنيتي وكسبر القبرصيّ ليقتبسا العلوم في روما[24].

القصادَةُ الثانية

      فورَ وصوله إلى روما، عرضَ الأب اليانو تقريره على قداسة البابا، مُخبِرًا إيّاه عن تعلُّق الموارنة بالكرسيّ الرسوليّ والتزامهم بالايمان، وعن انتشار بعض العقائد غير الممدوحة بينهم بسبب مُخالطتهم للأمم الغريبة…[25]. وشرعَ يُعِدُّ لجولته الثانية، بتحضير كتب التعليم المسيحيّ، ورتبة القداس اللاتينيّ، وكتب روحيّة أُخرى، كما سلّمه الكاردينال كارفا عددًا وافرًا من كؤوس القداس والحلل البيعيّة والأواني الكنسيّة[26]، وأرسل البابا معه للبطريرك درع التثبيت ورسالة[27]، يُشدِّدُ فيها على حذف عبارة “يا من صُلِبتَ لأجلنا” على التقدّيسات الثلاثة، وعلى ضرورة تجديد الميرون وتكريسه كل عام يوم خميس الأسرار، وعلى حصر سر التثبيت بالأسقف، وعدم مناولة الأطفال، وعدم تحليل الزّيجات إلاّ فوق الأربعة أقانيم[28].

      بعدَ زيارةٍ تفقديّة سريعة لجزيرة قبرص وموارنتها، وصل الأب اليانو مع رفيقه الجديد الأب يوحنّا برونو (Jean Bruno) والأخ المُساعد إلى مرفأ طرابلس في 29 حزيران سنة 1580، بعد تبلغهم خبر انقطاع الاصابات بمرض الطّاعون في مصر ولبنان وسوريا[29]. وقد ساعدهم في المرفأ، وجيهٌ مارونيّ يُدعى الشيخ يوسف حبيش، الذي سهّل أمورهم، وأبعد عنهم عمّال الدّيوان من يهود واتراك وغيرهم الذين تهافتوا على الأمتعة للتفتيش، ولم يُفقَدُ منها إلاّ كأسٌ مُذهَّبةً أخذها أحد الأتراك[30]. وكان الأب اليانو قد أرسلَ ساعيًا إلى البطريرك لابلاغه خبر قدوم البعثة، فأوفد غبطته المطران جرجس البسلوقيتي مع أحد الرّهبان إلى طرابلس لاستقبال الوفد ومرافقته إلى قنّوبين. وفي الطريق استقبله الأهالي بالتهليل للحبر الأعظم كما ذكرَ الأب اليانو في رسالة إلى رؤسائه[31]، ووصل الوفد إلى قنّوبين يوم الثلاثاء 9 تمّوز 1580، وتمّ تعيين يوم الخميس 21 تمّوز موعدًا لإجتماع الاكليروس وأعيان الطّائفة[32].

      وفي اليوم المذكور، دخلَ الأب اليانو مع مساعده إلى غرفة البطريرك حيثُ اجتمعَ بعض رجال الدين وأعيان الطّائفة، وشرحَ لهم أسباب البعثة وخلاصة رسالة قداسته إلى البطريرك، وسلّمهم كميّة من البلسم لتحضير الميرون مع الآنية اللازمة لحفظه وحفظ الزّيت المُقدّس، وكميّة من الكؤوس والحلل الكهنوتيّة وقوالب البرشان والف مسبحة ورديّة[33]. وفي 15 آب 1580 يوم عيد انتقال مريم العذراء، أُلبِسَ البطريرك درع التثبيت في احتفالٍ مهيب أُقيمَ في كنيسة الكرسيّ البطريركيّ في قنّوبين[34]. أمّا بشان صحّة المجمع المنعقد سنة 1580، فالبعض اعتبره مجمعًا رسميًّا في الكنيسة المارونيّة والبعض الآخر نفاه مُعتبِرًا إيّاه مُجرّد اجتماع، إذ لا صلاحيّة مُعطاة حينها للأب اليانو لعقد مجمعٍ، كما غابَ عنه الكثير من الأساقفة، ورفض آخرون توقيع المُقرّرات وعلى رأسهم شقيق البطريرك المطران سركيس الرزّي[35].

      تابعَ بعدها الأب إليانو زيارته للقرى المارونيّة، فاحِصًا الكتب، حارقًا الكثير منها خصوصًا تلك التي يراها غير منسجمة مع التعاليم الكاثوليكيّة، ومُشجِّعًا الكهنة على تعليم الأولاد وفتح المدارس الخاصة مجّانًا، وقد استمرَّ في زيارته نحو سنة[36]. وفي 21 أيلول 1581 توفي البطريرك ميخائيل الرزّي، ووصفه الدّويهي بأنّهُ كانَ فصيح القلم، حسن الخط، لين العريكة، كثير المبرّات… وفي عهده فُحِصَت عقائد الكنيسة المارونيّة ورتبها، على يد جيرونيموس من فوساتوس ورديان القدس، وجوان باطيشتا اليانو اليسوعيّ، “وانشهر الصدق من الكذب”[37].

      وفي اليوم التّاسع بعد وفاة البطريرك الرزّي، اجتمعَ الأساقفة ورؤساء الأديار والأعيان وانتخبوا المطران سركيس الرزّي (شقيق البطريرك المتوفّى) بطريركًا بحضرة قاصدَي البابا جوان باطيشتا اليانو ورفيقه جون برون[38]. وحاول الأب اليانو إقناع رؤساء الكنيسة المارونيّة بضرورةِ إصلاح تقويمهم السنويّ طبقًا لقواعد التقويم الغربيّ الجديد الذي قرّره البابا غريغوريوس الثّالث عشر، وذلكَ بناءً على طلبٍ من الكاردينال كارفا، لكن البطريرك لم يوافق خوفًا من إثارة نيران الاضطهاد، فيدّعي خصوم الموارنة عليهم بأنّهم تبعوا الافرنج، وتآمروا على الدولة العثمانيّة، ولم يدخل هذا التقويم الغربيّ إلى لبنان إلاّ في سنة 1606[39]؛ وفي سنة 1582، غادرَ الأب اليانو ورفقائه نهائيًّا لبنان[40].

فوضى واندثار

      تمّت القصادة الاليانيّة، مُخلِّفَةً السّاحة المارونيّة في بلبلةٍ وفوضى. البطريرك والأساقفة امتعضوا، طُلاّب المدرسة المارونيّة اليافعين في روما احتجّوا بعد وصول الخبر اليهم، الكتب والمخطوطات الأصليّة أُتلِفَت بِرُّمتها، البابا إقليمنضوس الثّامن اضطربَ فأرسلَ موفدًا يسوعيًّا آخر هوَ الأب ايرونيموس الدندينيّ ليُحقِّق من جديد في إيمان الجبليين وعاداتهم، وتسليمَ بطريركهم نسخَ كتاب القدّاس المطبوع حديثًا[41]. أمّا القاصد الجديد، فأعاد فحص ما تبقى من الكتب لينفي الأخطاء التي نسبها الأب اليانو إلى الموارنة[42]، والبطريرك الدّويهيّ ردَّ على المزاعم في كتابٍ دفاعيٍّ خاص “الاحتجاج”[43]، وكل المُفكّرين والباحثين ماضيًا وحاضرًا نفوا تلك التّهم المنسوبة، واعتبروا أنَّ الأب اليانو قد تجاوزَ الحدود التي رسمتها تعليمات الكاردينالين كارفا وسِرفيني، فجابَ الكنائس المارونيّة في لبنان وحلب، وحرقَ كلَّ الكتب التي بدت متَّهمةً بالهرطقة[44]. وكما اشترى، أحيانًا، بالمال الكتب من الذينَ يقتنونها، وحرقها أمام أعينهم، واعدًا بأن يُرسل لهم كُتُبًا أُخرى مطبوعة[45].

      أعمال الأب اليانو شوّهت قصادته وحرمته الذكر الطيِّب لدى الموارنة، فنسب البعض سوء عمله إلى أصوله اليهوديّة قبلَ ارتداده إلى المسيحيّة[46]، وسلّم بعضهم أنَّ الأب اليانو تعلّم حرق الكتب من أخيه الذي أحرق كتب التلمود في روما[47]… لتبقى قصادته في جدليّةٍ، فهل هيَ مهمّةٌ رسوليّة أم جريمةٌ سياسيّة؟

      لا ننفي عن قصادة الأب اليانو الروح الايمانيّة والغيرة الرسوليّة لإخوةٍ بالمسيح، كما لا ننفي عنها الصبغة السياسيّة، إذ نستطيع تحديد المهمّة الاليانيّة انطلاقًا من أعمال اجتماع أو مجمع 1580 الحاوية لمجموعةٍ من القرارات الهادفة إلى ليتنة الطقس المارونيّ وإلى افقاده خصائصه التقليديّة، كمنح العماد في اليوم السّابع بعد الولادة لا في تمام الأربعين، يَمنَح الأسقف أو البطريرك، لا الكاهن العادي، التّثبيت بين عمر ثماني أو عشر سنوات، يُصنَع الميرون المُقدّس من الزّيت والبلسم فقط، تُرجأ مناولة الأطفال إلى ما بعد سن الرّشد… فلو كانَ إليانو قاصدًا أو غيره، فالمنحى سيكون نفسه، لأنَّ الموفَد الثّاني، الدنديني، حصل على مُبتغى اليانو بلطفٍ ومحبّة، ليتضح أننا كنا ضحيّة  صدامٍ مزدوج، حضاريّ وثقافيّ، صدام العلاقات بين الشرق والغرب، حتى ضمن أبناء العقيدة الواحدة والكنيسة الجامعة، فدفعنا ثمن هويّتنا المارونيّة بلاهوتها وليتورجيّاتها وتراثاتها العتيقة المُتأصّلة في روحانيّة الكنيسة الاورشليميّة والكنيسة الانطاكيّة السريانيّة.

      كنيسة روما حيث خليفة القديس بطرس، ما انفكّت مهمّتها عبر العصور، السّهر على “القطيع الصّغير وسط الذئاب” وحماية “الوردة بين الأشواك”، وتثبيت هذه الحفنة من الرّجال “الأمناء الذين رفضوا أن ينحنوا قُدّام آلهة الأوثان (البعل)”[48]… لكننا نتبيّن في عملها الرسوليّ مع الموارنة أو غيرهم من المسيحيين المشرقيين، صورة الأُمّ الحنون والمُعلِّمة القاسية، يُقابلهما حرد الابنة وانقيادها. ما حصلَ مع الموارنة على يد الأب اليانو، قابله عملٌ موازٍ مع عمل البرتغاليين الذين في الفترة عينها، وعلى أثر مجمَعي غُوا (Goa) في العام 1585 وديانبِر (Diamper) في العام 1599، أَتلفوا الكتب الليتورجيّة القديمة للمسيحيين السُّريان الملبار على شاطىء الهند[49]. هناكَ إذًا زمنٌ غابر وفكرٌ سابق تجلّى بأوّليّة وأسبقيّة وتفوّق كلِّ ما هو لاتيني (عملاً بالمثل “من ليسَ معي أو مثلي فهو ضدي”)، وبغَيرَةٍ ينقصها التمييز، من أجل وحدة الكنائس، تزيد انقساماتها، كما عدم التنبّه لمفاهيم الاختلاف والتعدديّة والتنوّع والتمايز في الثّقافات واللغة والألفاظ والتعابير والتقاليد والممارسات والعادات المحليّة، التي اعتُبِرَت موضوع شُبهَةٍ أكثر منها موضوع احترام.

      نعم! ثمّةَ مخطوطاتٌ ليتورجيّة قديمة جدًّا أُتلِفَت، وجعلت كتابة التّاريخ الصّحيح للطقس المارونيّ وتدوين مراحل تطوّره معقّدة وشبه مُستحيلة (إلاّ باعتماد الدّراسات الليتورجيّة المُقارنة). لكنَّ هذا الاندثار أو التّلف الذي حصل على يدِ موفَدي الكنيسة الجامعة، يُذكِّرنا بأنَّ الفكر الانسانيّ هوَ واحِدٌ، في الدّين والدُّنيا، وفي أقاصي المسكونة، هناك دومًا نظرة قوّةٍ وضعفٍ، غرابة وجهالة، الأنا السّليم والآخر المُختلف… لربما قدّمت الكنيسة المارونيّة مخطوطاتها قُربانًا على مذبحِ نضجِ هذا الوعي وتطوّره مع تقدّم الزّمن، والبالغ رقيّه في مُقرّرات المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني سنة 1965 المُولي كل التقدير للكنائس الشرقيّة بمؤسّساتها وطقوسها وليتورجيّتها وتقاليدها ونظامها[50].

المراجع

– الجميّل، ناصر، “الرّموز المسيحيّة”، د.ن، بيروت، 2007.

– الحايك، ميشال، “كتابات في تاريخ الكنيسة المارونيّة وروحانيّتها”، ترجمة وإعداد دانيال زغيب، المطبعة البولسيّة، جونيه، 2009.

– حتّي، فيليب، “تاريخ سورية ولبنان وفلسطين”، ترجمة جورج حدّاد وعبد الكريم رافق، طبعة ثالثة، دار الثقافة، بيروت، د.ت.

– نعمان، بولس، “نشأة الكنيسة المارونيّة وعلاقتها بالقدّيس مارون وبالوطن اللبناني”، المارونيّة في أمسها وغدها، دير سيدة النّصر، نسبيه – غوسطا، 1996.

– الدّبس، يوسف، “الجامع المفصّل في تاريخ الموارنة المؤصّل”، تقديم ميشال الحايك، طبعة رابعة، 1987.

– الدّويهي، اسطفان، “تاريخ الأزمنة”، تحقيق بطرس فهد، الخزانة التاريخيّة 3، دار لحد خاطر، بيروت، د.ت.

“زجليّات جبرائيل ابن القلاعي”، دراسة وتحقيق بطرس الجميّل، أصول ومراجع تاريخيّة 2، دار لحد خاطر، بيروت، 1982.

– شيخو، لويس، “الطّائفة المارونيّة والرّهبانيّة اليسوعيّة بين القرنين السّادس عشر والسّابع عشر”، طبعة ثانية، منشورات دار المشرق، بيروت، 2003.

– فهد، بطرس، “علاقات الطّائفة المارونيّة بالكرسيّ الرسوليّ المُقدّس”، مطبعة الكريم، جونيه، 1961.

المجمع الفاتيكاني الثّاني – دساتير – قرارات – بيانات، أشرف على التّرجمة وقام بالقسم الأكبر منها عن الأصل اللاتيني حنّا الفاخوري، منشورات المكتبة البولسيّة، جونيه، 1992.

– هاشم، ريمون، “دراسة تحليليةّ في تاريخ الموارنة في لبنان من النّشأة حتى الانتداب الفرنسيّ”، الجامعة الأنطونيّة، بعبدا، 2008.


[1]– أستاذ في جامعة القدّيس يوسف- بيروت، ومُعِّد لأطروحة دكتوراه فيها.

[2]– كلمةٌ يونانيّة الأصل، من اليوناني “واحد” (monos)، و”طبيعة” (phusis). كان المذهب المونوفيزي (القائل بالطبيعة الواحدة) أعظم انشقاقٍ تعرّضت له الكنيسة الشرقيّة بعد النسطوريّة. فأصحاب مذهب الطّبيعة الواحدة هم الذين لم يقبلوا بمبدأ الطّبيعتين الالهيّة والبشريّة في الشّخص الواحد للمسيح. وقد نُظِّمَت المونوفيزيّة في سوريّا من قبل يعقوب البرادعي، لذلِكَ سُمِّيَ أصحاب مذهب الطّبيعة الواحدة السوريين اليعاقبة (ويُعرَفون اليوم بالسّريان الأرثوذكس). راجع: حتّي، فيليب، “تاريخ سورية ولبنان وفلسطين”، ترجمة جورج حدّاد وعبد الكريم رافق، طبعة ثالثة، دار الثقافة، بيروت، د.ت، ص ص.412-413.

[3]– نعمان، بولس، “نشأة الكنيسة المارونيّة وعلاقتها بالقدّيس مارون وبالوطن اللبناني”، المارونيّة في أمسها وغدها، دير سيدة النّصر، نسبيه- غوسطا، 1996، ص25.

[4]– “هوَ قماش من الصوف تزيّنه ستة صلبان من حرير أسود مثَّبتة على الغفّارة بثلاثة دبابيس من ذهب. والصوف الذي منه يصنع قماش الباليوم هوَ من الحملان تقدِّمه كنيسة القدّيسة أنييس (Agnès) وتتولّى راهبات القدّيسة سيسيليا من تراستيفيري خياطته. يلبسه البطاركة الشرقيون، ومنذ العام 1978، أجازَ البابا بولس السّادس أن يرتديهِ أيضًا أساقفة المدن الكبرى”. راجع: الجميّل، ناصر، “الرّموز المسيحيّة”، د.ن، بيروت، 2007، ص66.

[5]– هاشم، ريمون، “دراسة تحليليةّ في تاريخ الموارنة في لبنان من النّشأة حتى الانتداب الفرنسيّ“، الجامعة الأنطونيّة، بعبدا، 2008، ص301.

[6]– المرجع نفسه.

[7]– حول وجود اليعاقبة أو السريان الأرثوذكس في لبنان وعلاقتهم بالموارنة، يُمكن مراجعة: “زجليّات جبرائيل ابن القلاعي“، دراسة وتحقيق بطرس الجميّل، “أصول ومراجع تاريخيّة 2″، دار لحد خاطر، بيروت، 1982، ص ص.17- 21.

[8]– الدّويهي، اسطفان، “تاريخ الأزمنة”، تحقيق الأباتي بطرس فهد، الخزانة التاريخيّة 3، دار لحد خاطر، بيروت، د.ت، ص ص.429-435.

[9]– المرجع نفسه، 441-442.

[10]– من دون أن يُرسِل معهما درع التثبيت أو “الباليوم” للبطريرك ميخائيل.

[11]– الدّويهي، اسطفان، مرجع سابق، ص ص.443- 444.

[12]– المرجع نفسه، ص444.

[13]– فهد، بطرس، “علاقات الطّائفة المارونيّة بالكرسيّ الرسوليّ المُقدّس”، مطبعة الكريم، جونيه، 1961، ص36.

[14]– المرجع نفسه.

[15]– المرجع نفسه.

[16]– المرجع نفسه، ص37.

[17]– المرجع نفسه.

[18]– المرجع نفسه.

[19]– الدّبس، يوسف، “الجامع المفصّل في تاريخ الموارنة المؤصّل”، تقديم الأب ميشال الحايك، طبعة رابعة، 1987، ص189.

[20]– الحايك، ميشال، مرجع سابق، ص97.

[21]– الدبس، يوسف، مرجع سابق، ص189.

[22]– فهد، بطرس، مرجع سابق، ص36.

[23]– المرجع نفسه، ص40.

[24]– الدّبس، يوسف، مرجع سابق، ص189.

[25]– الدّويهي، اسطفان، مرجع سابق، ص444.

[26]– فهد، بطرس، مرجع سابق، ص91؛ شيخو، لويس، “الطّائفة المارونيّة والرّهبانيّة اليسوعيّة بين القرنين السّادس عشر والسّابع عشر”، طبعة ثانية، منشورات دار المشرق، بيروت، 2003، ص 46، 51.

[27]– الدّبس، يوسف، مرجع سابق، ص189.

[28]– المرجع نفسه، ص190.

[29]– فهد، بطرس، مرجع سابق، ص93.

[30]– المرجع نفسه.

[31]– المرجع نفسه، ص95.

[32]– المرجع نفسه، ص96.

[33]– المرجع نفسه.

[34]– المرجع نفسه، ص99.

[35]– المرجع نفسه، ص ص.101- 103.

[36]– فهد، بطرس، مرجع سابق، ص126.

[37]– الدّويهي، اسطفان، مرجع سابق، ص446.

[38]– المرجع نفسه.

[39]– فهد، بطرس، مرجع سابق، ص136.

[40]– المرجع نفسه، ص137.

[41]– الحايك، ميشال، “كتابات في تاريخ الكنيسة المارونيّة وروحانيّتها”، ترجمة وإعداد دانيال زغيب، المطبعة البولسيّة، جونيه، 2009، ص99.

[42]– المرجع نفسه، ص100.

[43]– فهد، بطرس، مرجع سابق، ص52.

[44]– الحايك، ميشال، مرجع سابق، ص97.

[45]– المرجع نفسه، ص ص.97- 98.

[46]– فهد، بطرس، مرجع سابق، ص26.

[47]– المرجع نفسه، ص76.

[48]– عبارات دوّنها بعض البابوات في رسائلهم واصفينَ بها الجماعة أو الكنيسة المارونيّة.

[49]– الحايك، ميشال، مرجع سابق، ص97.

[50]المجمع الفاتيكاني الثّاني: قرار في الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة، الرقم 1.

Scroll to Top