جناز المرحوم الأب اغناطيوس سعاده
دير المخلص – غوسطا، 17 كانون الثاني 2017
«لا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال، بل على المنارة » (متى 5/15)
1. هذه كلمة المسيح في عظة الجبل يوجّهها إلى كلّ مسيحي ليكون نور العالم.
اخترناها لتكون عنواناً شهادة يبقى في ذاكراتنا وقلوبنا جميعاً عن أخينا الأب اغناطيوس سعاده.
«المنارة» مجلة المرسلين اللبنانيّين اللاهوتيّة والفكريّة، أسّسوها سنة 1930، استمرّت حتى سنة 1950، وتوقّفت حتى سنة 1981 (31 سنة).
هو (الأب اغناطيوس) كان رائدَ تجديدها ومعيدَها إلى الوجود ورئيس تحريرها على مدى 25 سنة. قرأها صفحةً صفحة، نقَّح سطورها سطراً وسطراً، ورصف كلماتها كلمةً كلمة. اقترن اسمه بإسمها، لا بل كانت هي «المجلة – المنارة» وصار هو «الرجل – المنارة».
اليوم في وداعه يعزّ عليّ جدًّا أن أقول فيه كلمة افتخار – لا افتخاراً مبتذلاً، بل موضوعيًّا صادقاً: الأب اغناطيوس كان من كبار أبناء الجمعيّة على غرار المؤسّس والسبعلي وحرفوش وغيرهم من أهل القلم الكُريميّين. يحزننا جدًّا أن يصمتَ قلمُه هو الذي أعطى «المنارة» مئات المقالات المنارات. يؤسفنا كثيراً أنّنا لا نستطيع بعد اليوم إنتظار أنوار حِبره الذي طالما أتحف «منارة الكريم».
له في قلوبنا الكريميّة الكثير من الشكر لهذه رسالة القلم التي عاشها أمامنا، له أيضاً الكثير من عرفان الجميل «لمحبّة القلم» التي زرعها فينا. كلّنا أنسنا في لقاءاتنا معه بما اكتنز من الذكريات والاستشهادات والأقوال في التاريخ والفلسفة والشعر والأدب واللاهوت والسياسة وغيرها. كلّنا أخذنا من مثاله لحياتنا الرهبانيّة حبّ القراءة والبحث العلمي والروحي.
إلى جانب المنارة له أيضاً العديد من الكتب، تجاوز عددها الـ 14 مجلّد. يقول الرئيس الروسي غورباتشيف: «إن عشت الحياة ولم تكتب كتاباً أو تزرع شجرة أو تبني ولو حائطاً، إسأل نفسك إن كنتَ حقًّا عشت». أبونا اغناطيوس عاش الحياة غنيةً بكتاباته الكثيرة والمفيدة وساهم في مسيرة نموّ الحضارة البشريّة.
هذه صورة أولى تحضرنا اليوم في وداع أبونا اغناطيوس.
«المنارة» والنور.
«النور» الإسم المرادف للمسيح الكلمة، «أنا نور العالم». عسى هذا النور الأزلي يُضيء له وقوفه الآن في حضرة الإله في سمائه.
* * * * * * *
2. صورة ثانية ترسم شخصيّة فقيدنا، هي صورة العالم الملفان.
يقول هو نفسه في إحدى مقالاته:
«معلّم الكنيسة هو يسوع الذي استودعها كلمته وأرسل إليها «الروح القدس الذي يرشدها إلى الحق كلّه». «أما الملافنة فهم معلّمون فيها وهم صوتها المدّوي يحافظون على نقاء تراثها ويصونونه من كلّ بدعة وضلال، ويثرونه على ضوء العقيدة. يمتازون بغزارة علمهم وأمانتهم لتعاليم الكنيسة وانكبابهم على التأمّل بكلمة الله وبقداسة سيرتهم في مسيرتهم نحو الله». هؤلاء الملافنة كرّمتهم الكنيسة ولقّبتهم رسميًّا بهذا اللقب عبر براءةٍ وقّعها الباباوات، وغدوا أسماء سامية، منهم مَن شاركوا في المجامع، وبعضهم أسّسوا الرهبانيّات، ومنهم مَن علّموا في الجامعات والمعاهد وكانوا منائر من كلّ وجه».
من هؤلاء المعلّمين تعلّم أبونا اغناطيوس الكثير، وفي كتبهم طالع الكثير من الذي أغناه وصقل شخصيّته واقتدى بهم. وأظنّ أنّ الكثيرين منّا يرون فيه هذا المعلّم الملفان!
اليوم في وداعه له منّا جزيل الاحترام؛ ننحني شاكرين له العِلم الذي اتحفنا به. في قلوبنا وداخلنا نُقِرُّ به عالماً ملفاناً؛ هو الذي قَرأ في معاجم الفرنسيّين في القرن التاسع عشر العبارة: «عالم كماروني»، حقّقها في هذا العصر في تاريخنا.
* * * * * * *
3. الصورة الثالثة – لأبونا اغناطيوس – رجل العقل والعِلم، رجل الكتاب والقلم، هي صورة القلب. لم يكن من هؤلاء العقلانيّين فقط لا يعنيهم إلاّ العقل ومنطقه، إنّما كان في جوهره، إلى جانب عقله الراجح، قلباً نابضاً بالحياة والحبّ والعاطفة والرِقّة.
كتب يوماً في مقارنة بين قلب الله وقلب الإنسان:
«ليس القلب فقط هذا العضو الذي مهمّته توزيع الدورة الدمويّة على الجسم وإذا ما توقّف عن الدوران، أضحى الإنسان جثة؛ إنّما هو باطن الإنسان ومركز القوى التي تصدر عنه الأفكار والمشاعر والأقوال والقرارات، كما هو أيضاً مركز الضمير الديني والحياة الخلقيّة. الله يخاطب القلب، والإنسان يبحث عن الله في قلبه. والإنسان يرتبط بأخيه الإنسان عبر قلبه. ما أعظم هذا القلب! وما أقدس الإنسان حين يكون قلبه كقلب الله.
رصد أبونا اغناطيوس في دراسته هذه 850 آية من العهد القديم و170 آية من العهد الجديد تتكلّم عن القلب، وركّز على قسمٍ منها. وفيما يكتب يُضيء على كلمة إرميا 3: «أعطيكم رعاةً على وفق قلبي فيرعونكم بعلم وفطنة» – هي كلمة بنى عليها قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إرشاداً رسوليًّا كاملاً وجّهه لكهنة العالم، وهي كلمة حفرت في قلب أبونا اغناطيوس، فرافقته طوال كهنوته وسعى جاهداً أبداً ليكون هذا الكاهن على وفق قلب الله.
كهنوت وفق قلب الله، وناسوتٌ محبّ من صميم القلب؛ صوتٌ سمعه ما قسَّى قلبه، إنّما كتب رسالته في قلبه، لا في حرفٍ ميت وورقٍ وحسب، بل في قلوب من لحم ودم!
سرّ أبونا أغناطيوس: أنك عندما تقرأه، لا تقرأ كمن كتب كتاباً وضعه في رفّ مكتبته، إنّما يدخل كلامُه إلى قلبك، ويدخل قلبُكَ إلى نقاوة فكره وسموّ رسالة إلهه. لطالما ردّد على مسامعنا أقوال أغسطينوس،ولطالما طبع فكر أغسطينوس فكره. تحضرني الآن بداية اعترافات القديس أغسطينوس: «قلبي يا ربّ قلق، وسيبقى قلقاً إلى أن يستريح فيك». عسى قلبه الآن بعد أن أقلقه هنا على الأرض وخانه نهار أمس، عساه يستريح الآن عند الله!
* * * * * * *
صُوَر كثيرة تحضر أمامنا في هذه اللحظات، صُوَر من العقل وصُوَر من القلب.
في صُوَر العقل ترتسم صورة المتعدّد اللغات التي أتقنها بكثير من البراعة، العربية والفرنسيّة والإسبانيّة والإيطاليّة…
صورة المحاضر الجامعي في لبنان وفي الخارج وخاصةً في إسبانيا، وكانت له وطناً ثانياً، وكم كان وفيًّا لما اكتسب من هذه البلاد!
صورة الرئيس الرهباني وكان لأكثر من عقود ثلاث رئيس أديار في جمعيّتنا، خاصةً هنا في هذا ديرنا الأم وفي الاكليريكيّة وفي دير جونيه.
صورة المشير العام وأمين السرّ العام، وكان ذا رأي سديد وعميق!
صورة المرشد ورافق جمعيّات كثيرة، لا سيّما جمعيّة مار منصور – جونيه لمدة حوالي 35 سنة.
صورة الواعظ وكم اعتلى منابر الكنائس والأديار. جميعها صُوَرٌ للكاهن المرسل المثال!
في صُوَر القلب ترونها الآن في ذاكرتكم، أيّها الأعزاء أبناء أشقائه الأربعة –
خسرتم والديكم، لكن كان هو حتى لحظة مرضه عمًّا حنوناً ومرشداً لطيفاً وقلباً ساهراً على نموّكم!
كم فرح بكم!
جميعكم اكتنزتم العِلم والشهادات، جميعكم نجحتم في المجتمع والوظيفة!
جميعكم بنيتم عائلات!
جميعكم تساهمون في حياة الوطن وازدهاره!
لطالما أخبر أمامنا سعيداً عنكم وعن والديكم –
كان فخوراً بإخوته الاستاذ بينهم وكاتب موسوعة المجلس النيابي، كاتب العدل والرجل النزيه، رجل المصارف، والوزير والنائب وسلّم المهمّة اليوم لنجله سامر – ندعو له بالتوفيق الدائم – حمل هذا الفرح بكم في قلبه الكبير!
* * * * * * *
هي بعد صورة حزينة أليمة انطبعت فينا جميعاً: صورة السنوات الخمس الأخيرة. تركت فينا غصةً وقهراً، لكن لا أحد مُعفى من هكذا مفاجآت في الحياة!
آلمنا كثيراً أن يصيب الألم طاقةَ أبونا اغناطيوس ويشلّ فكره ويُسكِت قلمه، (أمر مرير كان!)، إنّما هو عاش هذا بصمت وصبر ورجاء!
ولنا في ذلك أمثولة كبيرة!
ولا بدّ هنا من الشكر الكبير لأخواتنا راهبات الصليب لعنايتهنّ الفائقة والمحبّة به!
* * * * * * *
14 كتاب
مقالات تتجاوز المئة
حلقات إذاعيّة عديدة
عظات وإرشادات وندوات
قداسات على مدى ما يقارب الـ 60 سنة
أعمال خير ومحبّة وتقوى
على مدى 84 سنة، رافقت حياة أبونا اغناطيوس
هذه الأعمال والثمار
عاشها نوراً أضاءه أمام الناس أعمالاً صالحة!
وضعها في ميزان الله – سيسمعه صوته: أدخل فرح سيّدك!
الذين عملوا الصالحات لقيامة الحياة!
* * * * * * *
أيّها الأحباء الأهل والأقارب والأصدقاء
وأهالي شبطين والبترون وأبناء الجمعيّة
نجتمع اليوم وإيّاكم لنصلّي بخشوع ورجاء –
اليوم في 17 كانون الثاني عيد مار أنطونيوس أبي الرهبان،
فيما رهبانياتنا تحتفل وتفرح ويدخل إليها المدعوّون ليلتزموا الحياة المكرّسة،
ولا أستطيع إلاّ أن أشكر أبانا صاحبَ الغبطة ورئيسنا الأعلى،
هو الراهب أصلاً ورئيس الطائفة الرهبانيّة الأصل، وأبو المكرّسين،
أشكر له إتصاله بالأمس ليعزينا وصلاته اليوم مع الأساقفة والرهبان لراحة نفس أخينا أبونا اغناطيوس.
نحن نحزن لخسارتنا مرسلاً علماً وراهباً أصيلاً؛
لكن، «لا نريد أن نحزن لأنّنا خسرناه،
بل – كما يقول القديس أيرونيموس – نريد أن نشكر الله مقرّين بالجميل،
إذ أنّه أتيح لنا أن نربحه ونتعرّف عليه بيننا، وأن نتعلّم منه!
مَن غادر إلى بيت الآب لا يزال بين خاصته ومحبّيه».
نحن أبناء الحياة والقيامة – لا نحزن كالذين لا رجاء لهم – بهذا نتعزّى ونعزّي بعضنا،
صاحب السيادة أخانا المطران حنا، أرجو أن تحملوا إلى صاحب الغبطة جزيل شكرنا لعاطفته النبيلة وصلاته!
أصحاب السيادة – حضرة الرئيسة العامة – الآباء الأجلاء – الأخوات الفاضلات،
سعادة النواب
أصحاب المقامات
أبهّا الأهل والأقارب والأصدقاء والمعارف
لنطلب له الراحة الدائمة
ونور الربّ الأزلي ليُضيء له في منارة العلى. آمين.