- في تطور العدالة –
القاضي فؤاد نون
عضو في مجلس شورى الدولة اللبناني.
نموذجان من العدالة الجنائية تعايشا على مدى القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر: نموذج العدالة الملكية المبنية على الإدانة والعقاب، والاكثر إستتاراً، نموذج العدالة المُصلحة (أو المرمّمة) المبني على المفاوضة والتسوية، المتوارث من القرون الوسطى.
لكن بدءاً من القرن السادس عشر، فالملك الذي احتكر ممارسة العدالة وحق المعاقبة، قد احتفظ لنفسه أيضاً بحق العفو، وبالتالي يشكل العقاب والعفو الوجهين المكملين لاستراتيجية مزدوجة لحفظ الأمن، والمبنية في الوقت ذاته على نتائج ضجيج التعنيف وسخاء الغفران. على المتهم أن يعترف بجرمه وأن يطلب الغفران من الملك لينال عفوه، فيمنحه هذا الاخير بركته مقابل التعويض عن الضرر الذي سببه للضحية أو لعائلتها، إضافة إلى دفع غرامة لصالح الملك.
وعليه، تندرج العدالة المصلحة (او المرمّمة) عادة ضمن نموذج “العدالة المفروضة”، حيث لا مكان للمفاوضة على الإتفاق المعقود مع الطرف المساء إليه.
في أوروبا القرن السادس عشر، فإن إبتداع مصطلح “المجرم” المحكوم عليه من قبل القاضي، يتنافى والصورة التقليدية لعدالة القرون الوسطى التي لم تهتم بالـ “الجرائم” بل فقط بالـ “وقائع” ، لا بالـ “مذنبين” بل فقط بالـ “فاعلين”، لا بالـ “عقوبة” أو بالـ “قصاص” بل فقط بالـ “تعويض عن الأضرار اللاحقة بالضحية”،
لا بالـ “قضاة” بل فقط بالـ “حكام” الذين يدعون الأطراف إلى المفاوضة لإحلال السلام.
إن هدف عدالة القرون الوسطى لا لمعاقبة المذنبين، بل لإعادة السلام بين العائلات لتفادي إثارة نزعة الإنتقام الخاص، مقابل تعويض الضرر اللاحق بالضحية أو بعائلتها. وهكذا تجد الضحية نفسها في وسط اهتمامات العدالة.
إن التصدّع الذي حدث في أواخر القرون الوسطى، عندما سمح للملك باحتكار ممارسة العدالة كي يصبح الضامن الوحيد للنظام العام، ما أدّى بشكل كامل إلى تحويل وجه العدالة الجنائية وأهدافها.
وهكذا تركزت العدالة الملكية على بعض انواع من الجرائم، المعتبرة شنيعة بشكل خاص، والموصوفة بالمرفوضة في لغة ذلك العصر. شكلت هذه جرائم “إهانة الجلالة” لأنها تنتهك امر الملك، إضافة إلى اعتبارها جرائم اضرار بالملك . فإن جرم “الجلال الإلهي”، يعني مخالفة النظام الديني، إذ صار الملك ضامناً لهذا النظام كممثل لله على الأرض، إذ ان اعتراف المتهم بجرمه يشكل البينة الوحيدة التامة والكاملة على ذنبه، والعدالة بحاجة إليها لتدينه.
منذ ذلك الوقت، وفي ذلك النوع من الإجراءات، صار المتهم في محور الدعوى، فتخرج الضحية من وسط الدعوى الجنائية، أو تجنح بشكل افتراضي نحو الدعوى المدنية للمطالبة بالتعويضات.
إلا أنه مع هذا الفرق بالنسبة للقرون الوسطى، فإن الملك الذي احتكر ممارسة العدالة وحق المعاقبة، قد احتفظ أيضاً لنفسه بحق العفو. وهكذا يشكل العقاب والعفو الوجهين المكملين لاستراتيجية مزدوجة لحفظ النظام، مبنية في الوقت ذاته على نتائج التعنيف وسخاء الغفران.
أخيراً تمّ فرض السجن الجزائي (بوتي petit، 1990). أما التفاوض على تطبيق العدالة “المصححة”، فيبدو أنها اختفت عند استعادة الدولة احتكار العدالة. إن الدولة لا تغفر بل تفرض احترام النظام. إلا أننا نرى في الوقت ذاته ظهوراً لشكل آخر من العدالة “المفاوضة”، هي عدالة السلام حيث انحصر دور القاضي المنتخب من الشعب بالحكم وبالمفاوض. إن قاضي الصلح، وريث “المحكمين” في ” العصور الوسطى” وهو شبه قاضٍ، تنحصر مهمته بمصالحة الأطراف بغية تفادي اللجوء إلى المحاكم.
العدالة والغفران في المراجع الدينية:
انه أيضاً من عدالة الله والإنسان. فعدالة الإنسان مشوبة بخبرته الحياتية المحدودة، بنعمها وبرذائلها، بأفكاره المسبقة، بمعارفه التي اكتسبها. إحدى سمات الخلوقية الموصى بها في الإنجيل هي الدعوى الى الرحمة حال اوجب الظرف تجاوز الذبيحة “اريد الرحمة لا الذبيحة ” (متى 9/13- ) وفي القرآن هي العفو “وجزاؤا سيّئةٍ سيّئةٌ مثلُها فمن عفا وأَصلح فأجرُه على الله إنّه لا يُحبّ الظالمين” (سورة الشورى – آية 40).
وعليه، فإن الله قد اوصى المؤمنين بأفضلية الغفران، ذلك أن عقاب العمل السيء هو عمل سيء موازٍ له. ان فكرة الغفران عند المؤمنين هي مغايرة لتلك التي عند الذين لا يذعنون للخلقية، بالرغم من أن أشخاصاً عديدين يستطيعون القول انهم غفروا لمن أساء إليهم، إلا أن ذلك عندهم يأخذ وقتاً طويلاً للتحرر من الحقد ومن الغيظ في قلوبهم، في ما يخون تصرفهم عند الغضب، وفي الغالب يبقى الحقد والغيظ في قلوبهم.
ان أحد الأهداف الأساسية في ترسيخ مبادىء الإيمان والعدالة. هو تطبيق العدالة على الجميع، وهي مسؤولية أولاها الله للكائنات البشرية، دون التمييز بين التطبيق الصارم للقوانين ومفهوم الرحمة.
في مسالة الغفران التاريخي:
إنّ مصطلح التوبة في التاريخ ومن بعده طلب الغفران، يشكّلان ممارسة جديدة في الحياة السياسيّة والدوليّة، ولا حاجة لتبرير ما ذكر طالما أنّ هذا المفهوم يفرض ذاته من تلقائه.
الغفران هو فردي، بالرغم من أنّ الذنب يمكن أن يكون مشتركًا في مجتمع معيّن، كما ذكر جاسبير (Jaspers) في مسألة الخطأ. يتعلّق الغفران بضرر سبّبه فرد لفرد آخر، ليس بشكل موضوعي فحسب، بل يشعر به الفريقان بشكل واعٍ. لذا عند وقوع ضرر ما، يلتزم الفاعل بطلب الغفران من الضحية شرط أن يعترف بخطئه ويندم عليه ويفتح صفحة بيضاء في حياته، فيكون الغفران بذلك هبة من الله. وهذا لا يُفهم من شخص تجاه آخر، فالمذنب والضحيّة هما على قيد الحياة، ولا يغيب عن بالهما الضرر الذي تمّ إلحاقه والتعرّض له.
في هذا المعنى، إنّ التوبة والغفران السياسيين اللذين نشهدهما منذ ما يقارب العشرين عامًا هما غريبان، لأنّهما يُشركان كيانات جماعيّة كبيرة جدًا (مجتمعات برمّتها)، إذًا هي كيانات واسعة مكانيًا، ولكنّهما يتعلّقان أيضًا بكيانات واسعة جدًا زمنيًا: فغالبًا ما اختفت الضحايا وكذلك فاعلو الضرر.
ومن هذا المنطلق، يظهر ظرفان من الغفران الجماعي، وهما يختلفان عن بعضهما من حيث أغراضهما ومجالاتهما المعنيّة.
ففي البلدان التي حدثت فيها كوارث بشريّة كبيرة، تعمّد إحداثها وحرّض عليها أفرقاء محدّدون، تترافق العودة إلى الوضع الطبيعي مع إرادة المصالحة بين الجلاّدين والضحايا، حيث يجب أن يتعلّم المجتمع مجددًا العيش معًا. وإنّ إمكانيّة العيش معًا يمكن أن تنتج إمّا من العدالة أو من الغفران. فعصرنا الحالي، المندرج ضمن إطار ما بعد الحداثة، يتميّز بهيمنة الأخلاق، لا بل بسيطرتها المطلقة. في الماضي كانت الأخلاقيّات تتعلّق بنظرة إلى العالم إمّا دينيّة أو إيديولوجيّة، وكانت تتجذّر بها.
وإنّ الاقتناع الشائع في المجتمعات الغربيّة هو أنّ الحقائق المنظّمة أو النظرة إلى العالم أو
“القصص العظيمة”، حال كانت هذه التسمية هي المفضّلة، تحمل بطبيعتها التعصّب والتطرّف، وينتهي بها المطاف عاجلاً أو آجلاً إلى تدمير البشر باسم الفكرة أو الحقيقة. وهذا غير منطقي لأنّه من المفترض أن تكون الفكرة قد وُجدت مبدئيًا لخدمة البشريّة.
فالجواب يكمن إذًا في التحرّر من النظرة إلى العالم، أدينيّة كانت أم إيديولوجيّة أم عقائديّة من أيّ نوع كانت، وفي الاسترشاد والاهتداء بالأخلاقيّات فحسب التي تطالب بخدمة الإنسان دون أيّ وساطة أخرى. غير أنّ أعمالاً وحشيّة عدّة، كانت تبرّر نفسها باسم أفكار أسمى. وإنّ المجتمعات الغربيّة التي ما زالت تحمل نظرة دينيّة أو علمانيّة إلى العالم، والتي تخضع للسيطرة الأخلاقيّة المطلقة هذه التي تفرض نفسها بقوة مذهلة، ينبغي أن تمرّ بألغاز التوبة.
وكلّ شيء يجري كما لو أنّ الثمن الواجب دفعه للحفاظ على الحقائق (حقوق الإنسان أو
الإيمان الديني) كان إدانة أعمالها البربريّة والوحشيّة السابقة. ومن جهة أخرى، يندرج العمل الأخلاقي ضمن ظروف وحالة معيّنة. وهذه الظروف هي اجتماعيّة وسياسيّة وذهنيّة وثقافيّة وروحيّة. فما من أحد قادر على الحكم على عمل أخلاقي دون وضعه في حالته وسياقه، وهذا هو الدور الذي يضطلع المحامي به في ما يُسمّى “بالظروف التخفيفيّة”.
لدينا هنا شكل من يوتوبيا الكمال، وهي من دون شكّ وريثة اليوتوبيّات الإيديولوجيّة التي بالكاد نخرج منها، وهي تركّز هذه المرّة على الأخلاق دون وساطة. وإنّ الغفران التاريخي يندرج ضمن عصر يجب أن يصل إلى اكتماله اليوم. ومن جهة أخرى تأتي كرامة الفرد قبل شرف المجتمعات الكبيرة أو الصغيرة أو بقائها: فلم يعد يُضحّى بالفرد في سبيل كيان. أساسًا لم يعد للإساءة معنى. ففي السابق كان يمكن تفسيرها أو تبريرها حتّى “كالإساءة الأقلّ” ضمن نطاق كوسمولوجيا أو دين أو إيديولوجيا.
المُراد إذًا هو تطهير كامل. فهل هذا موجود في عالم البشر؟ هل بالإمكان تطهير العالم بشكل نهائيّ كما ترغب المحكمة الجنائيّة الدوليّة؟ يا له من ادّعاء كبير! فالغاية عظيمة وكيفيّة التصرّف شموليّة واستبداديّة.
في أنظمة الطاعة الشيوعيّة، استرجعت الشموليّة الغفران المسيحي وحوّلته إلى نقد ذاتيّ إلزاميّ. فلم يعد من المطلوب، كما هي الحال في العالم المسيحي، أن يندم المرء على أخطائه السابقة لكي يشرع في تحسين ذاته شخصيًا، ولكن على العكس، يجب على المرء أن يتخلى عن العالم الماضي بغية أن يكون إنسانًا للمستقبل. فاليوم ما زال الغفران الجماعيّ يندرج ضمن الحركة الشموليّة (أو التحقيقيّة) لأنّ طلب الغفران غالبًا ما يكون مفروضًا بفعل يوتوبيا استئصال الشرّ، وفي الوقت عينه، لأنّ مانوية ترافق هذه الإجراءات، كما لو أنّ الضحايا بريئون من دون أدنى شكّ، وإن المذنبين مذنبون من دون أدنى شكّ.
ألم ننتهِ بعد من اليوتوبيا؟ يجب الاعتقاد أنّنا لم ننتهِ بعد. أمن الممكن أن يكون عالمنا قد بلغ كماله؟ هل نحن أفضل من أسلافنا بكثير؟ نُلقي اللوم على آبائنا من دون انقطاع لأنّهم “عرفوا” ماذا كان يحدث، ولم يقولوا شيئًا.
وهكذا فإنّ الغفران التاريخي هو استرجاع للغفران المسيحي من قِبلِ سلطات علمانيّة تستعمله في مصلحة اليوتوبيا الأخيرة، في حين أنّ السلطات المسيحيّة التي يُطلب منها الخضوع لهذه الشعائر، تقوم بإرسائه في عالمه الأصلي.
أليس من الصعب جدًا عدم إطلاق الأحكام؟ فلكَيْ يصبح المرء عادلاً ينبغي به التوصّل إلى استنتاج معيّن. نعم، ولكن ما يفعله الإنسان عامة هو أنّه يُطلق الأحكام على أيّ كان، ليس في ذهنه فحسب، بل يكون جاهزًا للتعبير عن رأيه. فهو لا يتمتّع بما يكفي من الصبر لينتظر وليحلّل المسألة ويفكّر فيها مليًا.
وبصورة عامة، ليس الفرد جاهزًا لإطلاق الأحكام فحسب، ولكنّه جاهز من دون أيّ رادع للتعبير عن حكمه في اللحظة ذاتها. فهو لن يقول في نفسه: “هل يحقّ لي الحكم على ذلك الشخص؟ هل بلغت هذه الدرجة من التطوّر؟” وهذا يلقّننا درسًا كبيرًا ومهمًّا: لكي نتعلّم العدالة، فمن غير الضروري أن نكون جاهزين لإطلاق الأحكام وللتعبير عن رأينا في الحال.