Almanara Magazine

الله الآب ووجه الرّحمة

                                                                                         الأخت ياره متّى

                                                                         راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات

مقدّمة:

     عندما تلتقي الكنيسة الجامعة حول يوبيل الرحمة، تحتفل ولا شكّ بأحشاء المحبّة الإلهيّة التي تعطي دون حساب. ولا غَرو أنّ وجه الرحمة يتّخذ أسمى ملامحه في صورة الأب والأمّ. فكيف تخيّل الإنسان حبّ السماء من خلال حبّ الأرض؟ كيف استعمل صفة الأبوّة لله الخالق من خلال اختباره لعطاء آباء الأرض؟ لنُلقِ نظرة سريعة في رحاب الشرق القديم والكتاب المقدّس.

أوّلاً: الإله الآب في نصوص الشرق القديم

      إنّ الكشف عن هويّة الله كأب لها بُعد هامّ في الكتاب المقدّس ولكنّها صفة لا تقتصر على الوحي اليهودي والمسيحي. فهناك بعض الديانات القديمة، وبشكلٍ خاصّ في الحضارة السّاميّة في الشرق الأوسط، تدعو الإله الأعظم أباً، سواءَ كان أباً للآلهة أو للبشر. فما هو مفهوم الأب في ديانات الشعوب الشرقيّة القديمة المجاورة لشعب العهد القديم والمتفاعلة مع حضارته؟

      في كثير من النصوص الأشوريّة والبابليّة القديمة، تحمل بعض الآلهة لقب “أب”، مثل “أنليل” ملك وأب الآلهة، أو آنو ومردوك. كما تتمتّع الشمس (الإله شمش) والقمر (الإله سين) بصفات الأبوّة كمنبع للحياة والخلق المستمرّ. وتصل جذور هذا الاعتقاد إلى الكتابات السومريّة، ومنها على سبيل المثال، نشيد يعود على الأرجح إلى الألف الثالث  ق.م.، معبّراً عن الايمان بالإله الأب، قائلاً:

      ” أيّها الأب، الرحيم والغفور،

      الذي يمسك في يده حياة العالم بأسره،

      أيّها الرب، الأب الذي خلق الآلهة والبشر

      أيّها الأب الخالق،

أنظر برفق إلى مخلوقاتك الحيّة

لأنّه ما من أحد يغيّر كلمتك

فأنت تقرّر مصير السماء والأرض”.

      في هذه الصلاة رباط واضح بين الأبوّة والخلق. فالإله القدير الذي يقرّر مصير السماء والأرض هو أيضاً سيّد الحياة، يُطلب إليه أن ينظر بعين الرحمة والرفق. ولعلّ هذا الطلب يُترجم، في الوقت عينه، إيمان الإنسان المُصلّي وخوفه من قدرة الإله الغاشمة في حال لم يَنِل حظوة الإله ورضاه.

      وفي الحقبة عينها، على مشارف نهاية الألف الثالث ق.م.، تُعبّر صلاة أخرى في الأدب السومري عن علاقة بنويّة مميّزة بين المؤمن وإلهه، وهي من أجمل الاستعارات الوالديّة للإله، كأبٍ وأمّ معاً، سيّد الخلق ومُعطي الحياة:

      ” أنا لا أمّ لي فأنت أمّي

      أنا لا أب لي فأنت أبي

      حبلتَ بي في قلبك

      وولدتني في هيكلك”.

      كذلك في الكتابات الحثيّة يعود موضوع الأبوّة في صلاة الفقير واليائس، يوجهّها إلى الإله الشمس خاشعاً:

      ” والآن يا إلهي، أصرخ: إرحمني، أصغ إليّ

      إنّ الصديق يمسك بيد صديقه بلطف

      أمّا بالنسبة لي، فأنت إلهي وأبي وأمي،

      ولا صديق آخر لي

      أنت يا إلهي عاملني كأب لي”.

      وأيضاً في نصوص أوغاريت، أو في النصوص المصريّة القديمة من الألف الثاني ق.م.، نجد عدّة صلوات للإله الآب، أب للآلهة أو أب للبشر بشكل عام، أو أب للإنسان المصلّي. ومن أجمل الصلوات المصريّة القديمة صلاة رجل أعمى، تعود بحسب الأخصّائيّين إلى حوالي سنة 1400 ق.م. وأتى فيها:

      ” قلبي يتوق لأن أراك

      قلبي في فرح لأنّك أنت محامي الفقراء

      أنت أبٌ للّذي ليس عنده أمّ.

      جعلتني أرى الظلمات التي خلقتها فاجعلني أرى النّور لأراك أنت.

      أمِل وجهك إليّ، وجهك الجميل الحبيب،

      تعال من بعيد”.

      ليست هذه الصلوات إلّا أمثلة بسيطة تُعبّر عن إيمان هذه الشعوب القديمة بجانب من جوانب الأبوّة الإلهيّة وعلاقة الإنسان المخلوق به كابن يحتاج رحمته وعطفه ورضاه. فهل تأثّرت كتابة العهد القديم بهذه الحضارات الشرقيّة بما يخصّ مفهوم أبوّة الله؟ وكيف يبدو هذا الّلقب من خلال بعض نصوص الكتاب المقدّس ما قبل المسيح؟

ثانياً: أبوّة الله في العهد القديم

     من الواجب لفت النظر بدايةً إلى عدم وجود عقيدة منتظمة واحدة طيّ الكتاب المقدّس. فالعهد القديم بشكلٍ خاصّ كُتِبَ على مراحل زمنيّة طويلة وفي أطر جغرافيّة وسياسيّة متنوّعة. لذا يبدو من الصّعب الكلام على “مفهوم الأبوّة في العهد القديم” ويبدو هذا العنوان مصطنعاً. إنّما العبرة في اختيار بعض النصوص ودراسة إطارها ونقاطها المشتركة.

      على عكس ما يتوقّعه البعض، يبقى العهد القديم متحفّظاً في استعمال لقب الأب لله، بشكل أنّ النصوص التي تحمل هذا اللقب لا تتعدّى العشرين. ولكنّها تأتي في إطار يرسم معناها وأهميّتها. فالعلاقة بين الأبوّة والخلق ظاهرة كما في نصوص من الديانات الشرقيّة القديمة. إذ نقرأ مثلاً في سفر التثنية: “أليس الربّ هو أبوك الذي خلقك؟” (تث 6:32)، أو في نبوءة أشعيا: “والآن يا ربّ أنت أب لنا. نحن طين وأنت جابلنا نحن جميعاً من صنع يديك” (أش 7:64). أمّا البنوّة فهي عادةً عامّة وتعني الشعب كلّه جماعيّاً، كما ورد في سفر إرميا على سبيل المثال: “أنا أب لإسرائيل وافرائيم بكر لي” (إر 9:31)، كما في اشعيا: “أنت يا ربّ أب لنا، فلا إبراهيم ولا يعقوب يعرفاننا. أنت يا ربّ أب لنا وفادينا” (اش 16:63). وتتكرّر أحياناً اللازمة الواردة في سفر صموئيل الثاني: “أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً” (2صم 14:7). وقد تكون العلاقة الأبويّة بين الله والملك الذي تبنّاه ومسحه بالزيت، أو تجاه الشعب بأكمله كما سبق. وعلاقة الأبوّة هذه ليست نتيجة توالد أو إرث طبيعي، بل هي ثمرة اختيار الله الذي دعا إبراهيم ثمّ حرّر شعبه على يد موسى فجعله “بكراً له” موحياً إلى النّبي أنّ “من مصر دعوت ابني”. أبوّة الله في العهد القديم ليست إذاً ترتيباً في بلاط الآلهة ولا في ميتولوجيّة الأساطير القديمة، بل أبوّة تظهر في التاريخ، تُترجم عمليّاً من خلال أحداث وظروف عاشها الشعب كعلاقة خلاص وفداء. إنّه اختبار الله الأب المتجذّر في تاريخ العهد والحبّ والرحمة. إنّها علاقة البنوّة في انتماء مشترك بين الله والإنسان، حيث يعطي الله من فيضه المجانيّ الحب والخلاص، ويجيب الإنسان بالأمانة وقبول الرحمة.

      وعلى خلاف آلهة الشعوب القديمة، لا يملك إله العهد القديم بموازاته زميلةً له أو رفيقة أو إلهةً أنثى، زوجةً كانت أم أمّاً. إنّه الإله الواحد والوحيد. ولكن صورته والاستعارات التي يستعملها الكتاب أحياناً تحمل أيضاً ملامح الأمومة، الحنان والرحمة النابعة من عمق الرّحم، من أحشاء المحبّة. لا بل يُغذّي الله أبناءه بالحليب الصافي ويتحمّل آلام المخاض والولادة ليخلق شعبه من جديد، كما يقول بالمجاز أشعيا النبيّ: “أنا الآن أُصبح كالّتي تلد…” (اش14:42).

      وهكذا تبقى الكلمات والصور البشريّة عاجزة عن التعبير عن خبرة الرحمة التي تفيض من قلب الله، تخلق وترحم وتخلّص وتفدي. والمسيح يسوع سوف يتبنّى بدوره لقب الله الآب عندما يعلّم تلاميذه الصّلاة: “أبانا الذي في السّماوات…”، وإن كان، وهو الابن الوحيد، يدعو الآب اباً بشكل مميّز وحيد.

ثالثاً: في العهد الجديد: كونوا رُحماء كما أنّ أباكم رحيم

     يطول الحديث عن الله الآب في العهد الجديد، إنّما يبدو إنجيل لوقا مُشبعاً بوجه الرّحمة، إلى حدّ دعاه البعض “إنجيل حنان الله”. وسوف نتوقّف على إحدى الآيات التي أتت على لسان يسوع لتوجيه السامعين: “كونوا رحماء كما أنّ الله أباكم رحيم” (لوقا 36:6) وتُقابِلُها في إنجيل متّى آية مختلفة بتعبيرها إذ يقول الإنجيليّ الأوّل :” كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماويّ كامل” (متّى: 48:5).

      في الآيتين دعوة إلى التشبّه بالله الآب والتمثّل بصفاته، في الكمال حيناً وفي الرّحمة حيناً آخر. والسؤال لا يُطرح على الصّعيد التاريخيّ أو الواقعي حول ما قال يسوع، بل على الصعيد الأدبيّ واللاهوتيّ والرسالة التي يبغي إيصالها الكاتب. هذه الدعوة إلى الاقتداء بالله قد تبدو مستغربة للقارئ، خاصّةً أنّها تأتي في إطار عظة محكمة يُبيّن فيها يسوع أسُس الحياة المسيحيّة وهويّة من يتتلمذ للربّ. وإن نظرنا إلى جذور هذه الدعوة في العهد القديم فلا نجد أبداً مفهوم الاقتداء (كما أنا) ولكن مفهوم السببيّة (لأنّي)، كما يرد في سفر الأحبار: “كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس، أنا الربّ إلهكم” (2:19). فالدعوة إلى القداسة ناجمة عن قداسة الربّ الذي يعبده الشعب وينتمي له ولو كان الاقتداء به مستحيلاً. من تكرّس للربّ وحافظ على عهده يدخل في حلقة القداسة هذه لأنّه ملكٌ للربّ. أمّا في سفر تثنية الاشتراع فنجد الدعوة إلى التشبّه عمليّاً بأعمال الله، إذ نقرأ: “الربّ يحبّ الغريب ويرزقه طعاماً وكسوة، فأحبّوا أنتم الغريب لأنّكم كنتم غرباء في أرض مصر” (تث10: 18-19).

      ومن بين التقاليد اليهوديّة القديمة التي تمثّل نوعاً من التوراة الشفويّة وإعادة القراءة للنصّ المقدّس، ينقل “الترجوم” بالأراميّة الفكرة عينها مشدّداً على الرحمة: “يا شعبي أبناء إسرائيل، كما أنّ أباكم رحيم في السماوات، هكذا أنتم كونوا رحماء على الأرض”.وأيضاً في الأدب الربّيني استشهادات مماثلة: “بحسب قول رابّي شاول علينا أن نشبّه به. فكما هو حنّان رحيم، أنت أيضاً كن كذلك “، ومعلّم آخر من علماء الشريعة يشدّد بقوله: “قال الله لموسى: كن شبيهاً بي. فأنا أبادل الشرّ بالخير، كذلك أنت بادل الشرّ بالخير”.

      هذه الأمثلة البسيطة تُعيدنا إلى عظة يسوع على الجبل في إنجيل متّى، أو خطابه في السهل في إنجيل لوقا، إذ تقع الدعوة إلى الاقتداء بالآب السماوي في قلب الكلام على محبّة الأعداء، ومعاملة الأشرار والأخيار بالمحبّة والغفران. عندها يكون المؤمن ابن أبيه حقّاً فيبادل الشرّ بالخير ويغفر لمبغضيه ويعامل الجميع بالرحمة. فهل هذا هو الكمال الذي يقصده متّى؟

رابعاً: كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماوي كامل

     الدعوة إلى الكمال في العهد الجديد وردت في العظة على الجبل وفي مكان واحد آخر في إنجيل متّى، عندما توجّه يسوع إلى الشاب الغنيّ بالقول: “إن أردت أن تكون كاملاً…” (متّى 21:19). أمّا جذورها في العهد القديم فحاضرة بكثافة. في سفر التكوين يقول الله لابراهيم: “سِر أمامي وكن كاملاً” (تك 1:17). وفي التثنية: “كونوا كاملين عند الربّ إلهكم” (تث 13:18). كذلك قبل موته، يوصي الملك داود ابنه سليمان قائلاً: “إعرف الله إله أبيك واعبده بقلب كامل ونفس راغبة” (1 أخبار 9:28)، كما قيل قديماً عن نوح إنّه رجل كامل لا عيب فيه (تك 9:6). إنّما هذا الكمال لا يُمثّل في العهد القديم حالة اقتداء بالله. حتّى في كتابات جماعة قمران التي تشير كثيراً إلى الكمال لا نجد هذه الصّفة منسوبة لله القدير من أجل الاقتداء به. إنّ الصّيغة التي يستعملها متّى فريدة من نوعها بين الكتابات اليهوديّة وتعابير معلّمي الشريعة. فالكمال في الّلغة العبريّة يعني عادةً التّمام، عدم النقص ووجود الشوائب في الذبيحة المُقدّمة للهيكل على سبيل المثال. لا يتوقّف الكمال على التصرّف الأدبيّ بل يعني حالة الاكتمال.وبهذا المعنى القديم لا ينطبق على الله اللامحدود الذي يعجز الإنسان عن وصفه. كل ما نستطيع القول أن أعمال الله كاملة، أنّ طرق القدير كاملة، وأنّ شريعته كاملة! هذه التعابير التي يستعملها الكتاب تُبيّن ما يرى الإنسان من أعمال الله لا كيف يحجز الله في صفةٍ معيّنة. لذلك يُطلق عليه صفة القدّوس، المنفصل نهائيّاً والمتسامي عن أفكار البشر وأحكامهم . من هنا، يطلب الإنجيلي متّى إلى تلاميذ الملكوت أن يكونوا كاملين ليحقّقوا دعوتهم بالتمام كما يريدها الله، فيتشبّهوا به، لا في كيانه الإلهي، بل في أعماله التي تفيض خيراً على الجميع إذ يُطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وعلى الخطأة والأبرار. هذا هو إطار الدعوة إلى الكمال في الغفران ومحبّة الأعداء والانفتاح على الجميع. ليس الكمال إذاً صفة أخلاقيّة مثاليّة بالمُطلق، بل يتحقّق بتصرّفات المسامحة والغفران والرحمة.

      وهذا ما فهمه لوقا الإنجيلي وترجمه لقرّائه اليونانيّين البعيدين أحياناً عن المفاهيم اليهوديّة المحضة. فاستعمل كلمة “الرحمة” بدل كلمة “الكمال” لأنّ الرحمة ملء الكمال وملء تحقيق الدعوة لمن يتبع المسيح المعلّم، ابن الله. ولا شكّ أنّها عمليّة مستمرّة، خاصّةً أنّ فعل الأمر باللغة اليونانيّة يحمل معنى الصيرورة أيضاً إضافة إلى الكيان، وكأنّ بالإنجيلي لوقا يقولوا “كونوا وصيروا رحماء كما أنّ الله أباكم رحيم”. والرحمة تعبّر عن الحنان العميق الذي يحرّك الأحشاء (الرحم) ويصدر عن عاطفة قويّة كعاطفة الأمومة. فالله الأب والأمّ هو أحشاء الرحمة بالذات، هو “الحنون الرحيم طويل الأناة وكثير الرأفة” (خروج 6:34). الرحمة هي صفة الله بامتياز!

      ومسيرة المتتلمذ للربّ هي دخول في أحشاء الرحمة، قبولها هديّة من الله الآب، وعيشها انفتاحاً على الإخوة واقتبالاً للذات من يد الله. عندما يختبر الإنسان حنان الله في حياته، يصبح بدوره علامة حنان في الكنيسة والعالم. يحمل ختم انتمائه لإله الرحمة بين الإخوة. عندها ينظر إلى كلّ حياته وكيانه على ضوء يسوع، شعاع رحمة الآب للعالم. وكما كان يسوع دوماً متطلّعاً نحو أبيه، مشدوداً إلى تحقيق مشيئته ونشر رحمته، هكذا يعرف المسيحي أنّه شاهد للرحمةالإلهيّة التي كشفها لنا الابن بتجسّده وموته وقيامته. وبذلك يحقّق دعوته كإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله، علامة رحمة بين الإخوة.

Scroll to Top