أولى الجمعيات العمالية في لبنان
واكيم بو لحدو
تركت مسيرة أباء الرسالة الكريمية في جونيه منذ مطلع القرن العشرين، العديد من المآثر والمنجزات المحلية والوطنية المميزة. لم تقتصر هذه المسيرة المباركة على خدمة النفوس والتبشير والكرازة والتعليم؛ بل تعدتها إلى العمل الاجتماعي والإنمائي، من خلال تأسيس جمعيات تنشر المبادئ والتعاليم الاجتماعية الكاثوليكية وتُطبقها في القضايا الثقافية والاجتماعية والأخلاقية. يكون هذا التطبيق على أساس العدالة الاجتماعية والديمقراطية المسيحية واحترام الأسرة وحقوق العمال والكرامة الإنسانية. ما قامت به الجمعية، كان نتيجة حتمية؛ بعد حالة البؤس والانحطاط والانحلال الأخلاقي التي عاناها العالم، وخاصةً الطبقة العمالية، جراء تدهور الأوضاع الاقتصادية والدمار المادي الكبير، بُعيد الحرب العالمية الأولى، ونتيجةً للفوضى التي خلقتها معاهدة فيينا سنة 1815 على الحالة الاجتماعية ويقظة القوميات في أوروبا قبيل تلك الحرب الكبرى.
ومن المؤكد، أن تأسيس هذه الجمعيات، جاء ردًا على أفكار الشيوعية المُلحدة، مع اتساع انتشار الفكر الشيوعي والاشتراكي في الأوساط الشعبية محليًا وعالميًا. أضف إلى ذلك، وصول الثورة الشيوعية إلى الحكم في روسيا سنة 1917، وقيام العديد من الأحزاب اليسارية في العديد من الدول الأوروبية.
إزاء هذه الأوضاع، رأى الأباء المرسلون في حينها الحاجة للنهوض مجددًا بالأخلاق المسيحية الأصيلة، واستلهام أفكار العديد من المفكرين المسيحيين، وعلى رأسهم ” فريديريك أوزانام ” أستاذ القانون التجاري في جامعة ليون، وهو أول من استخدم تعبير ” المسيحية الديمقراطية أساس العمل الكاثوليكي الشعبي”.
_ محليًا: عمدت جمعية المرسلين سنة 1911، إلى تأسيس جمعية ” ملجأ الفقير ” للأعمال الخيرية لمساعدة الفقراء و” العيال المعوزة” في جونيه. كان مركزها في كنيسة دير مار يوحنا الحبيب. أُسنِدَت رئاستها إلى الدكتور فارس نجيم. جاء هذا التأسيس الخيري، ليسبق بسنوات قيام جمعية مار منصور دي بول سنة 1939 _ فرع جونيه _ في معهد الإخوة المريميين بمسعى رئيسه آنذاك الأخ غابرييل أوغستان.
_ وطنيًا: كان لأباء الرسالة سنة 1920، الدور البارز في تأسيس ” جمعية الفعلة ” في جونيه. لم نتمكن من معرفة إسم رئيس الجمعية أو أسماء أعضائها أو نظامها. رغم أن تأثير أباء الرسالة الكريمية واضح في الوثيقة الوحيدة الباقية حتى اليوم. هي عبارة عن مقال وحيد في جريدة ” صدى لبنان ” عدد حزيران 1920، تحت عنوان: ” شهداء المجاعة في كسروان “. هو احتفال من نشاطات هذه الجمعية؛ تكلم باسمها نزولاً عند طلب رئيسها سجعان بك عارف سعادة صاحب ” صدى لبنان “. كما أُلقيت قصيدة للشاعر نخلة أفندي نصر، وكلمة لبلدية جونيه ألقاها نيابةً الأمير فؤاد أبي اللمع كاتب عدل كسروان.
” جمعية الفعلة ” المؤَسَسة في جونيه، هي وبحسب العديد من المراجع والمصادر التاريخية؛ الجمعية العمالية الأقدم في لبنان، والتي تحمل صراحةً اسم ” الفعلة ” أي العمال، لتحسين أوضاعهم وظروف عملهم. هي الأقدم، لكونها سبقت ” حزب العمال العام “، والذي تأسس في بيروت عام 1921، وكان يهدف إلى تأييد الانتداب ودعم المطالب العمالية.
لم تكن ” جمعية الفعلة ” نقابةً للفلاحين أو المزارعين، كما ” نقابات العمال الزراعيين ” التي ظهرت هي الأخرى سنة 1920 وترأسها الياس الضاهر لدعم الانتداب الفرنسي. وأيضًا ليست كنقابة “مزارعي الدامور” الهادفة للتعاون مع سلطات الانتداب، والتي ظهرت في تشرين الأول من العام ذاته.
” جمعية الفعلة ” في جونيه، سبقت قيام ” حزب الشعب اللبناني ” (الحزب الشيوعي)، والذي تأسس عام 1924، بغالبية عمالية نواتها ” عمال التبغ في بكفيا ” والمُقتَصَرة في أول الأمر على الفئات المسيحية. من أبرز قادة هذا الحزب في لبنان والحركة النقابية والعمالية معًا: فؤاد الشمالي، يوسف إبراهيم يزبك ورفاقهما في بكفيا، وأرتين مادويان، هيكازون بوياجيان، زهران الغريّب…
نُثَبّت حرفيًا المقال الذي أوردته ” صدى لبنان”[1] حول ” جمعية الفعلة ” في جونيه:
شهداء المجاعة في لبنان
إن جمعية العملة المشكلة حديثًا في مدينة جونيه، أرادت ان تكون باكورة أعمالها الخيرية: الاهتمام بإقامة تذكار لشهداء المجاعة فيها. فدعت على نفقتها العمومية فصيلة من الإكليروس لإقامة الاحتفال الديني في كنيسة الآباء المرسلين. وقد ترأس حفلة الصلاة على أنفسهم سيادة المطران يوسف عقل. وعند النهاية خرجت هيئة الجمعية وأعيان البلدة وجماهير كثيرة من سكانها لزيارة المدافن في وادي بكركي. كان يتقدم الجميع حَمَلَة الصليب المكتوب عليه عبارة تذكار ” إلى شهداء المجاعة في وادي بكركي “. ويلي ذلك حَمَلَة الأكاليل والأعلام الوطنية والنادبون والباكون موتاهم جوعًا على عرض الطرقات. وعند بلوغ الموكب محلة المدافن، تقدمت الابتهالات لراحة أنفس الشهداء التعساء الذين غادروا هذه الفانية غير آسفين على الحياة فيها، مع فصيلة من البشر قدت قلوبهم من جلد الصخر. وقد عَهَدَت هيئة البلدية لجناب الأمير فؤاد أبي اللمع كاتب عدل كسروان، أن يُلقي خطابًا باسمها. فألقاه عن تعاسة الشهداء وعما كان يُشاهده بأُم عينه يوم كانوا يحملونهم على آلة حدباء. ثم عَقِبَهُ حضرة الشاعر البليغ نخلة أفندي نصر بتلاوة قصيدة ننشرها فيما يلي تقديرًا للشعور الصادقة. ثم تقدمت جمعية العملة الداعية بلسان رئيسها إلى تكليف صاحب امتياز الصدى بأن يقول كلمة تُوافق المقام. فاعتذر عن الكلام لأن المشهد كان قد آثَرَ بعواطف كل أصحاب الروءة ومن ذا الذي لا يتأثر من مشاهدة ألوف الرجال والنساء والأولاد والبنات يبكون: هذا والده وأخاه وتلك زوجها ووحيدها وذاك شقيقه وشقيقته وعمه وخاله وعمته وخالته وأولادهم وأنسبائهم، وكل من يدلي إليهم بالقرابة والمصاهرة. يُضاف إلى ذلك رؤية عظام ألوف الموتى مُبعثرة على عرض ذلك الوادي، لأننا كيف مررنا. كنا نطئ على جماجم الرؤوس المُعَراة، ونَعثُر بعظام الصدور والأيدي والأرجل التي تركتها الوحوش الضارية والطيور الكاسرة مكشوفة للعيان؛ مما أثار الأشجان ضمن طيات الصدور.
وعندما حصل الإلحاح على صاحب الصدى أن يقول كلمته، كيف كان الحال؛ قال مُخاطبًا أرواح الألوف من الشهداء، بما يأتي:
أيتها الأرواح الطاهرة المرفرفة فوق هذا الوادي
عاهدت نفسي ألا أتكلم مع الموتى ولا عن الموتى. ولا أريد أن أنكث عهدي بذلك ولو وقع عليَّ الإلحاح بالكلام، لأن الشاعر قد تقدمني فقال:
لقد اسمعتَ لو ناديت حيًا ولكن لا حياة لمن تنادي
ونار إن نفخت بها أضاءت ولكن إن تنفخ في رمادِ
أيتها الأرواح الطاهرة المرفرفة فوق هذا الوادي
إن الاحتفالات الدينية والصلوات المُقامة اليوم لأجل راحتك في الأخدار السماوية هي احتفالات مأجورة بمال العمال النشيطين الذين أرادوا أن تكون باكورة أعمالهم الخيرية هذه المأثرة الممدوحة؛ فلهم الشكر والثناء. ولك منهم حسن القصد. فما يفعلون هذا إذا كانت مساعيهم المبرورة ما عادت تُفيدك شيئًا في دار الخلود. وقد دعيت أيها الأرواح المُطَوبة من قبل جمعية العملة نرافقها بزيارتكم هذه؛ فحاولتُ الفرار من هذا المشهد المؤثر، لأني مخجول منك خجلاً لا يوصف، وما أتيت الآن لزيارتك مع جمهور الأخوان، ولا لأجل تحيتك لأنك أصبحتِ في غِنى عن مثل هذه التحيات. بل جئت للاعتذار إليك والإقرار بين يديك بأني حاولت خدمتك وباشرت المحافظة على حقوقك، ولو بعد الموت. فما سَمِعَ أحد لصوتي صدى، بل وجدت نفسي مقهورًا ومكسورًا في أول طريق الجهاد، لأنه لا حياة في المحيط، فلِمَن تكون المناداة وعلى من تقام الدعاوي ومن يحكم للموتى أو يحتكم على شعور الأموات.
أيتها الأرواح الطائرة إلى سماء الخلود. إني أقر علانيةً بخجلي منكِ لأن الموقوف عليكِ ما زال قائمًا على ما كان عليه، بل وأزيد، وأنتِ قد متِّ جوعًا موتًا لا يوجد أشد منه هولاً في سائر الميتات ولا يستحقه بعدل غير الذين أوجدوه، لأن تقاليدنا تقضي علينا أن نُجهّز موتانا بلا إسراف ولا تقتير، وأن ندفنهم دفنة مكرمة في صناديق مخصوصة؛ فكانت النتيجة إنهم كانوا يدفنون العشرات منك في حفرة واحدة، وبدلاً من أن يُكفنوك بالأكفان، فإنهم كانوا يسرقون الموجود عليك من تلك الملابس الرثة ولولاها ما كانوا اهتموا في ذلك الدفن. وهذا أكبر برهان أن الإنسان هو وحشي بالطبع والفطرة وكافر نِعَم الرحمن وخائن لعهود المروءة وفرائض الأديان.
أيتها الأرواح الطاهرة.
لقد خَرَجتِ من هذا العالم الفاني إلى تلك الأبدية الخالدة، وأنتِ تجهلين ما لك من الحقوق الموروثة والمرصودة خفية من نُصراء الإنسانية. اما نحن فقد عرفناها من بعدك معرفة حقيقة كافية نافية كل جهالة. ولكن ماذا تفيد المعرفة طالما يدوم حكمنا في أمور تحصيلها ممن اختلسوها كحكمك لأنه لا يوجد في البشر عدل حقيقي ولا إنصاف طبيعي. بدلالة أنه لو كان ذلك لما كنا على ما نحن عليه مثلك. ولما كنتِ ذهبت ضحية المجاعة في سبيل إثراء الخونة الغاشمين والسلبة الظالمين الذين نعجز عن الانتقام لك منهم لأسباب لا سبيل لذكرها الآن. فإذا كان بإمكانك الانتقام لدى الرحمن، فتدبري الأمر لديه. وإلا فرحمات الله عليكِ إلى أن يضمنا القبر ويجمعنا الشمل ويعرف السالبون أن مسلوباتهم لا تفيدهم في يوم النشور.
المصادر والمراجع:
_ مجموعة جريدة ” صدى لبنان “، عدد حزيران 1920، ص: 191.
_ دولة لبنان الكبير (1920_1996)، 75 سنة من التاريخ والمنجزات، مجموعة مؤلفين، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1999.
_ مجلة البشير، عدد 2663، 4 كانون الثاني 1921.
_ جريدة لسان الحال، عدد 8194، 7 كانون الأول 1920.
_ س. أيوب: الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان، دار الحرية للطباعة والنشر، بيروت، 1959.
_ كولان جاك: الحركة النقابية في لبنان (1919_1946)، تعريب نبيل هادي، دار الفارابي، بيروت، 1974.
_ واكيم بو لحدو: جونيه صفحات من القرن العشرين، مطابع الكُريم الحديثة، جونيه، 2000.
[1] صدى لبنان عن حزيران سنة 1920