Almanara Magazine

مرافقة المرضى واظهار رحمة الرب

الخوري شربل شلالا

واجه الإنسان ولا يزال يواجه المرض والموت. ولكنّ المجتمع يميل إلى الإعتقاد بأنّهما حَدثان لا يعنيان إلّا المريض نفسه والبعض من محيطه من دون أدنى تأثير عليه. يأتي قداسة البابا فرنسيس في سنة يوبيل الرحمة ليذكّرنا بأنّ الربّ يريد رحمة لا ذبيحة. إذا كنّا لا نعطي أهميّة للشخص عندما يضعف ما معنى إهتمامنا بالشخص وهو في صحّة جيّدة. هل نعطيه حقّه لأنه يقوم بواجبه الإجتماعي ونُفقده هذا الحقّ عندما يعجز عن القيام به ؟ تأتي أعمال الرحمة لا لكي تغطّي فقط عجز العدالة والقانون وتنصف الإنسان، بل لكي تُبرز جوهر دعوة الإنسان ألا وهي الرحمة لأنّ الربّ هو رحوم ويريدنا نحن أبناؤه وبناته أن نتابع عمل الرحمة بدون مِنّةٍ من أحد.

نحن ولا شك بحاجة إلى التأمّل بسرّ الرحمة الإلهيّة، مصدر الفرح والسكينة والسلام، سبب وغاية خلاصنا. هذه الرحمة هي الشريعة الأساسيّة التي تسكن في كلّ واحد منّا عندما نلقي نظرة على أخينا الذي نلتقيه على طريق الحياة. أليس هذا ما نعيشه في مرافقتنا للمرضى وللمسنين وللمعوّقين ؟ أليس هذا ما نعيشه عندما يصبح قلبنا، أي كياننا كلّه، متأثّراً بحالة هؤلاء الأشخاص.

ما كان مدهشاً عند القديسة الأم تريزا ، والذي كان يتحدّى كلّ منطق المؤسسات الدوليّة التي تعنى بالفقراء، ما كانت تعلنه عن الحبّ والرحمة ومشاركة الفقير. لماذا ؟ لأنّ ثمار الصمت هي الصلاة وثمار الصلاة هو الإيمان وثمار الإيمان هو الحبّ وثمار الحبّ هي الخدمة وثمار الخدمة هو السلام. فالرّحمة هي شكلٌ من الحبّ الغير مشروط. لا يمكن للرّب أن يحبّ إلّا بإحياء الآخر وإعادة إعتباره وكرامته. هذا ما أراده البابا فرنسيس للكنيسة، في يوبيل الرّحمة هذه السنة، أن تكون بيت الرّحمة : تستقبل – ترافق – تساعد على لقاء البشرى السارّة والرجاء المسيحيّ. فالرحمة هي مسيرة الله معنا الذي يعرف مأساتنا. هذه هي بالعمق المرافقة التي نعيشها مع المريض ومحيطه وأهله ومحيطه ومع كلّ العاملين في مجال الصحّة. سأحاول أن أبيّن مفهوم هذه المرافقة وخصائصها وصعوباتها وكيف يمكنها أن تكون باباً للرّحمة. ولكن بداية أحدّد مفهوم الصحّة والمرض.

الصحّة والمرض.

المفهوم الشعبي للصحّة يعني الحيويّة الكاملة. أمّا المفهوم الطبّي فيعني غياب أي عطل عضوي في التكوين البشري. يأتي مفهوم منظّمة الصحّة العالمية ليحدّد الصحّة كحالة من الخير الصحي والنّفسي والإجتماعي وليس فقط غياب المرض والعلل. إذاً، لا يرتبط مفهوم الصحّة فقط بالوضع الجسدي، فهناك إهتمام أيضاً بالمفهوم الاجتماعي، (التأقلم مع الواقع الذي أنا فيه). بمعنى أنّي أعيش لذّة الحياة وقوّتها بكلّ ما أنا عليه. ممّا لا شك فيه أنّ الصحّة تبقى أيضاً مفهوماً شخصياً فردياً. أنا جسدي، يعني أنّني كلّني معنيٌ بصحّتي، ممّا يجعلني أتفاعل ككيان واحد مع تطوّرات صحّتي وأقرأ ذاتي بطريقة خاصّة. إنّي أعيش حياتي البشريّة من خلال جسدي.

 المرض ليس قصاصاً إلهيّاً بل ضعفاً واضطراباً بوظائف الجسم لأسباب متعدّدة (ولو كان إهمالنا أحياناً يساهم ببزوغه). عيش المرض ليس سهلاً لأنّه يؤلمنا ويوجعنا ويحعلنا نغوص بالقلق وبالخوف. وأحياناً كثيرة نواجه هذه الحالة لوحدنا، فنعيش تجربة الفشل، الرّغبة بالإبتعاد عن العالم، العار، إلخ. لا شك أنّ الإرهاق واليأس ليسا الوسيلة الوحيدة لمقاربة المرض. البديل يكمن في استقبال المرض كطريق لتحرير طاقة الحياة الموجودة فينا.

          نحن مسؤولين عن صحّتنا وملتزمين فيها. فالصحّة هي خيرٌ أساسيٌ وجذريٌ أوكلها الله إلينا ومن الضروري إحترامها والمحافظة عليها. ولكنّ الحياة في المسيحيّة ليست قيمة مطلقة إنّما مقدّسة والموت هو جزء من حياتنا. أنا مؤتمن على سير حياتي ومن الضروري المحافظة على صحتي دون عبادة جسدي[1]. سلامة الجسد من الأمراض يشكّل واجباً على المستوى الفردي والجماعي ضمن الإمكانيات المتوفّرة. هناك ضرورة أن تسعى المجتمعات لتوفير رعاية صحية للأفراد.

أصل كلمة مرافقة

  • pagnis  accum- / ac  نحو cum  مع pagnis  الخبز: أن أكون مع والذهاب نحو على قاعدة المشاركة.
  • شريك الحرب = socius أو شريك الطريق concomitans
  • كلمة compagnon   تعني الذي يشارك أشغاله مع آخر لديه نفس الظروف ونفس الإهتمامات. بهذه الشراكة نتعلّم، نمارس وننقل الخبرة.
  • لا شكّ أنّ المرافقة ليست فقط مشاركة وشراكة بل أيضاً ممرّاً وتجاوزاً. المرافِق يساعد المرافَق على إجتياز مرحلة صعبة في حياته من أجل تجاوزها. هذا المرافِق يَعبر في حياة المريض ولا يبقى كلّ الوقت معه كما الحال مع رفيق الدرب الذي يشارك حياة الآخر ومشاغله ومشاعره ومُثله وصعوباته ويسير معه. المرافِق لا يتشارك الخبز مع الآخر بل يجعل المرافَق يحصل على كلّ ما يساعده لكي يبقى حيّاً. لا شكّ أنّ هناك نموّاً للإثنين معاً، إنمّا المرافقة تساعد الآخر ليصبح قادراً على أن يكون بدوره مرافِقاً. لا شكّ أن هناك شخصان مختلفان يتشاركان مكاناً وزماناً محدّدين، ولكن هذه المشاركة لا تجعلهما شخصاً واحداً. ما هو أكيد أنّه يحصل شيء ما في كلّ لقاء.

ثلاث كلمات ممكن أن ترافق كلمة مرافقة : قاد – دلّ – واكب.

قاد: القيادة فيها سلطة وحركة، فيها مسيرة بإتجاه معيّن والعلاقة فيها تراتبيّة وتتطلّب مسؤوليّة، حزم وقدرة على التأثير وهذا لا يتناسب مع الحالة التي نعالجها.

دلّ: المساعدة على إختيار الوجهة والقدرة على إستباق العمل. لا يوجد هنا سلطة بل مشاورة من أجل إختيار الأفضل. الدّليل لا يوجّه ولا يرشد، بل يستكشف ويسهر على أنّ يأخذ الآخر طريقه. في هذه المسيرة هناك خروج من الظلمة إلى النّور، من المخبأ إلى المكشوف لأنّ الدّليل يضع أمام عينيه الآخر ويُظهر له الأمور بوضوح.

واكب: المواكبة تشير إلى الرغبة في الحماية، الدفاع عن، إعادة إصلاح وترميم، الدّعم في الشدائد وحماية الشخص من كلّ خطر وصعوبة وعقبة. الملفت أنّ الشخص المرافَق بوضعيّة ضعيفة.

  • مع المواكبة، هناك المساعدة والحماية من أجل التّصليح والدّعم.
  • مع الدّليل، هناك المشورة والتوجيه ورغبة في استباق الأمور.
  • مع القيادة، هناك التربية والتنشئة وهذا يضع الشخص بمسيرة ديناميكيّة.
  • المرافقة غير مرتبطة حصريّاً بمعنى واحد من هذه المعاني الثلاثة. مرافقة المريض تعني دائماً التكيّف مع رغباته وإحتياجاته واعتباره كائناً في صيرورة حتى آخر حياته، له كرامته في جوهره لأنّ الحياة البشريّة هي التي تؤسّس للكرامة وليس العكس[2].

ما معنى المرافقة

1. بالنسبة للمرافِق

  • الإنضمام إلى المريض للسير معه حيث يذهب بحسب إيقاعه والإعتراف بأنّه حيّ.
  • الإصغاء إليه وفهم ما يعيشه والإجابة على إنتظاراته.
  • الحضور إلى جانبه وأحياناً بصمت.
  • الإستعداد للقائه في كلّ وقت.
  • الإبقاء على المسافة الضروريّة مع المريض وإحترام حريّته.

2. بالنسبة للمرافَق

  • البقاء برباط وبصلة مع المجتمع، لكي لا يشعر أنّه مهمّش في وقت يعيش الوحدة.
  • الشعور أنّه مُعتَرف به على الرغم من كلّ التغيّرات التي يُحدثها المرض في حياته.
  • الشعور أنّه حيّ، قادر على إقامة علاقات جديدة وعلى متابعة بحثه على الرغم من ضعفه،.

3. بالنسبة للمجتمع

  • علامة التضامن بين الأخوة.
  • فسحة للتساؤل حول معنى الحياة[3]، الضعف، الألم، الفردانية، صورة الإنسان في مجتمعه، الإنتاجيّة، الفائدة من الإنسان.

كلّ مريض بحاجة إلى مرافقة وإرشاد، لكلمة أو لفسحة أمل، شرط أن يعطي المجال للمرافِق. الزيارات المتكرّرة يمكن أن تحثّ المريض على طلب المرافقة. حضوري في المستشفى أو في مؤسسّة صحيّة يشجّع الآخرين على طلب المرافقة ! الأشخاص المرضى يطرحون أسئلة كثيرة، وفي لبنان يبدأون بالأسئلة الوجوديّة اللاّهوتيّة والحياة الروحيّة بينما في الغرب يطرحون الأسئلة العلميّة ثمّ ينتقلون، بعد مسيرة طويلة إلى الروحانيّات ! المرافقة تجسّد حضور الكنيسة في العمل الصحّي. فيكون وجود المرافِق أبعد من الوجود التقني والإستراتيجي. فالراهبة ليست للإدارة فقط والكاهن ليس لتوزيع الأسرار فقط والعلماني ليس للإطمئنان عن المريض فقط. المرافقة هي خدمة مُقدّمة من الكنيسة لمساعدة الناس على البحث عن حلول مناسبة لهم بالوسائل المتاحة.

قبل الذهاب إلى المرافقة، عليّ التأكّد من مَواطن الضعف ومَواطن القوة فيّ. بماذا أتميّز، ما هي أحاسيسي التي أشعر بها (مع المسنّين، مع مرضى السرطان، إلخ) ؟ إذ لا مكان للسطحيّة في المرافقة. عليّ أن أتساءل عن حالي قبل أن أنتقل إلى مرافقة غيري. المهمّ روحيّة الأمور وليس ماذا عليّ أن أقول. أسأل نفسي : ما هو الصعب عليّ إذا رافقت مريضاً ؟ ما هو الصعب بالنّسبة إليّ، أن أتكلّم عن الموت أو أن يموت قدّامي مريض ؟ هل فكّرت بموتي ؟ هل فكّرت أنّني سوف أمرض يومًا ؟ هل أصنّف أنواع المرضى الذين أرغب في زيارتهم ؟ ما هي نظرتي للمرضى ؟ كيف أتفاعل مع غضبي ورفضي للأمور ومع من يرفض نهجي وتفكيري ؟ ما الذي يهمّني بمرافقتي للمريض (أريد الإصغاء إليه، التفكير معه، إلخ) ؟ كيف أتفاعل مع أشخاص مغايرين عنّي ؟ هل أفكاري وإيماني، عقيدتي ومعتقداتي تؤثّر على طريقة مرافقتي ؟ هل أرافق بمجّانية ؟ هل أعرف محدوديّتي ؟ هل لديّ شخص أعتبره مرجعاً لي في أوقات إضطراباتي ومخاوفي وضعفي ؟

المرافقة هي لقاء مع الشخص المتألّم ليفتح قلبه وليعبّر عن ألمه وغضبه، ذنبه ويأسه. المرافِق يصغي، يدير الّلقاء ولكن لا يتحكّم بالكلام، لا يقول كلّ شيء، يساعد المرافَق على رؤية واقعه. يفكّر معه، وليس عنه، حول قضايا تهمّه (نوعيّة الحياة، الألم، الموت…) ويُفعِّل الرجاء فيه. المرافِق يساعد المريض على التأقلم مع واقعه الحالي، على تقبّل حاله، على أخذ قرارات لمستقبل حياته. ليس كلّ مريض بحاجة إلى مرافقة. هناك أشخاص يقرعون بابنا أو يطلبوننا وهناك من نذهب نحن إليهم. المرافقة ليست مكتب إستعلامات ولا مكتب تربوي ولا مكتب لإعطاء رأينا فقط. الهدف منها مؤاساة الأشخاص، مساعدتهم على النموّ وعلى أخذ القرارات الصائبة في حياتهم. من الضروري أن نتواجد في مكان لائق (غرفة، كنيسة…) وأن تتحلّى لقاءاتنا وتتغلّف بالطابع السرّي. المرافقة ليست “ناطر مناطرة” حتى نُجبر الآخر على الكلام. المهمّ أن يميّز المرافق بين رغبته في أن يكون مفيدًا وبين التدخّل بقوّة في شؤون الأشخاص وفرض الحلول السريعة عليهم. أحياناً يُسرّع المرافِق الحلول كي لا يضيّع الوقت أو لأنّ ليس لديه الوقت الكافي. الأهم هو أن يعمل المرافِق على أن يلمس قلب المريض ولو بكلام بسيط ويسعى للبحث مع المريض عن حلول بحسب إمكانيّاته[4]. إذا لم يتمّ إيجاد الحلّ نسأل المريض عن خبراته السابقة[5]، مع العلم أنّ كلّ حالة مرضيّة يعيشها الإنسان اليوم لا تتطابق مع إختبارات البارحة ولكن من الممكن إستخراج بعض الأمور المفيدة والمنوّرة.

مرافقة المريض تعني الإعتراف بحقوقه[6]، بتاريخه، بواقعه الإجتماعي، بثقافته، بروحانيّته. هي مسيرة ديناميكيّة يلتزم فيها عدّة أفرقاء ضمن مشروع متناسق لخدمة الشخص المريض وهمّهم حياته الخاصّة وقيمه. هذه المرافقة تتطلب مقاربة شاملة ومتعدّدة الجوانب للمريض الذي يبقى وحده سيّد الموقف وعلى كلّ المعنيين النظر إلى حاجاته الخاصّة وحاجات محيطه. المرافقة لها قيمة ثقافيّة وإجتماعيّة لأنّها تؤكّد على “العيش معاً” وعلى الرباط الإجتماعي الذي يترجم بتضامن الناس مع بعضهم البعض. وهذا الرباط يجعل من كلّ عضو في المجتمع معنيّ بالآخر وملتزم بعدم تركه لوحده خاصّة في أوقات الصعوبات لأنّ المجتمع لا يمكن أن يهتمّ فقط بأعضائه عندما يكونون في صحّة جيّدة.

لا شكّ أنّ المرافقة لا تحدّد فقط بتقنيّة العمل العلاجيّ وبالدّعم السيكولوجي، إنّما هي مسيرة ديناميكيّة مشاركة تفرض الإصغاء، التداول، التحليل، التقييم الدائم، والعمل على نوعيّة حياة لا تجيب بالضرورة على موازين العلم الذي يتطلّب نسبة معيّنة من الصحّة للدخول في هذا الإطار. تؤكّد مرافقة المريض، في وقت ضعفه، على أنّ الإنسان يقبل بهذه المحدوديّة مع ما تحمله من أزمات وجوديّة يشعر فيها الإنسان أحياناً أنّه معزول ومتروك. أرى بمرافقة المريض، وبخاصّة المشرف على الموت، إستثماراً (إن جاز التعبير) غير خاسر ولو كان المريض يسير نحو الموت. لأنّه إلتزام بالإنسان وتأكيد بأنّه لا يزال يبحث، ويكتشف ويفهم إنسانيّته من خلال مراحل حياته كلّها. مرافقة الإنسان في كلّ مراحل مرضه، تأكيد على أنّ الإنسان يفهم إنسانيّته عبر كلّ محطّات حياته الضعيفة والقويّة الواعية وغير الواعية، الإراديّة والغير إراديّة.

أن أرافق المريض يعني أن أسير معه بحسب سرعته وأن أكون دائم الاستعداد والحضور. هذه المسيرة تتطلّب إصغاء إذ أنّها ليست عمليّة ميكانيكية آخذ فيها ورقة وأدوّن ما يحصل مع المريض يل هي تفاعل لا أعرف مسبقاً نتائجه. المرافقة هي علاقة ثقة وبحث مع المريض ليرتاح جسدياً ونفسياً ويعبّر عمّا يجول بفكره وقلبه وجسده. إنّها وقت مجّاني يفرض علينا أحياناً كثيرة أن نصمت لإعطاء الفرصة للمريض لكي يتكلّم.[7]

بالمرافقة نعتقد أنّنا نستلم الشخص المريض فيصير خاصّتنا لا بل شيئاً من أشيائنا أحياناً ولا يعود لديه أيّة إستقلاليّة، إن من ناحية العلاجات الطبيّة، أو المتابعة النفسيّة والروحيّة. كلّ رغبة بالسيطرة على فكر المريض تقلّل من إحترام الشخص. لأنّ المرافقة تتطلّب تفهّماً للمريض وإستيعاباً لعلاقة تُبنى مع الوقت تأخذ بالإعتبار إنتظاراته وحقوقه وحاجاته وخياراته[8]. إنّ المرض يدخل بعنف في حياة الشخص، يبدّل كلّ موازين القوى والمقاييس المتبقّية لديه. تترافق الآلام مع تغيّرات بالعلاقة مع الآخرين والمجتمع والمحيط، مّما يزيد من حدّة القلق والخوف[9]، من الشعور بالذنب من الوحدة والهشاشة. ممّا يتطلّب من المريض ومن محيطه تأقلماً مع الحالة الجديدة التي يعيشونها.

المرض لا يعني الموت، ولو كان يؤدّب أحياناً كثيرة، إنّما حدث فريد ووحيد في تاريخ الشخص. نعاني اليوم من صعوبة التوفيق بين العلاجات، والعناية بالمريض ومرافقته على كلّ المستويات. لا شكّ أنّ العلاج ضروري من أجل التخفيف من نقص طرأ على السير الطبيعي لحياة المريض ومن عوارض المرض على مستوى الذات الداخليّة والمفاهيم التقليديّة والأفكار المسبقة دون المساس بإستقلاليّة المريض وراحته الذاتيّة. وهذا ينمّ عن إهتمام جدّي بالشخص ككلّ وبإنتظاراته وبخياراته وعن وجود خلّاق لا يكتفي ببعض الكلمات والتعابير المخدّرة بل يذهب بجدّية إلى البحث عمّا يريح المريض.

يختبر المريض الألم وهو إختبار شخصيّ وفريد في حياته. لذا عندما يتألّم لا أحد يعرف بماذا يشعر. ولكن التكلّم عن الألم ضرورة وجوديّة وشهادة من دون أن يصبح الفرح بلا قيمة. الألم لا يقضي على وجودنا، إنّ له معنى روحي، جسدي ومعنوي. فرادة الألم تجعلنا قادرين على التكلّم عنه. الألـــم يتطلّب قلمــاً ليُكتب الاخـــتبار الشــخصي والمريض له دوره في هذه الكتابة وعلى المرافق أن يفهم هذا الاختبار. إذ لا يمكن لأحد أن يتألّم مكان الآخر.[10]

السند والتعزية

السند يعني مساعدة الآخر على مواجهة ما يحصل معه، على التأقلم مع الحالة والواقع بقدر الإمكان. هو الإصغاء بهدف تسهيل قدرة المريض على التعبير عمّا يخالج قلبه. هو تواصل من خلال علاقة لا تبغي التحقيق البوليسي، بل مرافقة رصينة. هو الدخول في عمق المشاركة، في صعويات الآخر وتحمّلها معه. السند للمريض يحثّه على استعمال الموارد الشخصيّة والعائليّة لتفعيل مقّدراته العملية وقراراته الشخصيّة. بمعنى آخر المريض موجود فعليّاً.

التعزية هي تخفيف ألم المحنة ووطأتها على المريض وعلى أهله. الإصغاء متأثّر بالأصداء العاطفيّة الآتية من المريض أو من أهله. يشارك المعزّي محنة المريض على أمل أن تخفّ. يقترح بشكل عام البديل عمّا فُقد (بهدف التشجيع…). يبحث عن أمور ممكن أن “تغيّر” تأثير المحنة على الشخص. المعزّي يأخذ أحيانًا على عاتقه بعض أوجه هذه المحنة دون أن يُطلب منه. بمعنى آخر، المريض ليس موجوداً فعليّاً.

لذلك من المفضّل أن نلجأ إلى السند أكثر منه إلى التعزية. لأنّنا لسنا المخلّصِين بل المرسلين. من هنا يمكننا إستنتاج الأمور التالية :

الإفراط في القرب : نمتزج في الآخر، المرافق يصبح في قلب المشكلة، مع العلم أنّه يمكنه أن يتألّم لألم الآخر ولكن لا يستطيع أن يتألّم ألمه. يستعمل سياسة المزايدة، لا يتصرّف بمهنيّة ويتدخّل في كلّ شيء دون أدنى تمييز.

الإفراط في البعد : المرافِق يخاف، يتذكّر إختبارات سابقة. هناك إستخفاف، رفض، عدائيّة، قسوة، كبت للمشاعر، عصبيّة، عدم تجانس مع فريق العمل وفي صراع مستمرّ معه.

المسافة العادلة : يُنظر للمريض كآخر ولا يطغى عليه بمشاعره ولا يهدّد إستقراره. يقبل بمصير الأشخاص بتمييز وبشكل صائب دون مزايدة.

ميّزات المرافِق

  • متواضع ويقبل المريض بكل تناقضاته، حتى لو قرّر رفضه.
  • يسير مع المريض على نمطه.
  • يحترم المريض بكلّ إختلافاته.
  • يحبّ المريض ويقاربه بعاطفة وحنان.
  • يقبل باكتشاف المريض الذي بدوره يساعده على اكتشاف ذاته.
  • يخدم المريض بمجّانيّة دون معرفة أيّ شيءٍ عنه بهدف أن يترافق معه بإحترام لنمطه ولقدرته الإستيعابيّة.
  • لا يحكم على المريض بل يشهد بسكونٍ وهدوءٍ.
  • يعرف أن يعرض المساعدة دون أن يتدخّل بحياة المريض : كيف تريد أن أساعدك ؟ لا يفرض رأيه وتوجيهاته وسلطته على المريض.
  • يقبل بالتغيّر البطيء عند المريض.
  • يعمل على أن تكون علاقته مع المريض عادلة.
  • يتعاون مع كلّ المعنييّن بحياة المريض وعند الضرورة يعرف أن ينسحب.
  • منفتح على بناء ذاته بشكل دائم.
  • يتحمّل مسؤوليّته الإنسانيّة مقابل الإنسان الضعيف والمريض والمتألّم.
  • لا يفرض أفكاره ولا ينتظر الجواب الذي يرغب بسماعه (لا يتوافق بالضرورة مع ما يقوله المريض ولكن هذا لا ينفي ضرورة أن يُفهمه ما يقوله هذا الأخير كي يعرف كيف يمكنه أن يبقى إلى جانبه).
  • متّزن ويحفظ السرّ ويقبل بإحترام وبجديّة معتقدات الشخص. يتحاشي “الولدنة” ويساعد الشخص على تحديد مشكلته وسلّم أولوياته.
  • دائم الجهوزيّة ويتأقلم مع كلّ المستجدّات والظروف.
  • قادر على التخلّي عن أمورٍ كثيرة وأشياء يحبّها.
  • مُدرك لمقدّراته الرّوحية.
  • قادر على تخطّي صعوبة الموت.
  • مدرك أنّ المرحلة ليست نهائية مع أنّها جديدة (فيها تعبير عن الألم والفرح …).
  • يحترم رفض المريض وغضبه وكآبته وحزنه، إلخ.
  • يرفض الكذب كي لا تنعدم الثقة وتتزعزع العلاقة مع المريض.
  • يمتنع عن الإندماج والذوبان بالمريض. فالإنصهار يولّد الضياع والارتباك.
  • لديه قدرة على الإصغاء : أكثر ما يحتاجه المريض هو الإصغاء. إنّه فعل واعٍ وإراديّ يتطلّب الحذر واليقظة، لأنّه يأخذ من المرافق كلّ الإنتباه والمراقبة. بالإصغاء يحاول المرافق[11] أن يفهم، بصبر وبطول أناة، ما الذي يعنيه المريض أو الرسالة التي يريد إيصالها. يصغي إلى المتكلّم باحترام ومن دون أي انتقاد. يصغي إليه بعينيه منتبهاً إلى لغة الجسد التي تنقل إليه رسالة غنيّة. يصغي إلى مشاعر الآخر وتفكيره. لذا من المهمّ تحلّي المرافق بالصدق وبالإخلاص في الإصغاء للآخر. فالسماع هو إثبات حياة للمريض الذي يرسل كلمات وإشارات تعبّر عن حالته ورغباته. فمن الواجب تقدير عذاباته التي يعيشها وإختبار الغنى الموجود فيه. فالمرافِق ليس هنا ليحكم عليه أو ليحدّد له السلوك الواجب اتباعه لأنّ للإصغاء مفاتيحه الخاصّة. المهمّ أن يتآلف المصغي مع الصمت والتركيز ويقبل ضمنيّاً بأنّه لا يحمل الحقيقة وبأنّه يتقاسمها مع الآخرين. الصمت يتحلّى بقوّة تُجبر الإنسان على التعمّق في نفسه فيكتشف كنوزاً مطمورة.[12] المصغي ينظر إلى الآخر وينتبه لما يقوله فيزداد ثقة وتقديراً لذاته. من الضروري أن ينمّي الإنسان قدرته على الإصغاء كي لا يتقاعس أو يستسلم أمام كل ظرف ينهيه عن الإصغاء وكي يتفاعل مع ما يقوله الآخر[13].

ثلاث فضائل مهمّة للمرافقة

الحذر، الرّحمة والتواضع. سأتوسّع أكثر بقراءة الرّحمة والتواضع.

1- الحذر : هي حكمة عمليّة للإجابة على السؤال التالي ” ماذا عليّ أن أقول وماذا عليّ أن أفعل؟” (إستعداد – ذهنية-  صبر). فالحذر يعلّم المرافِق التمييز والجرأة.

2- الرحمة :. الرّحمة هي الدّرب التي توحّد الله بالإنسان ليفتح قلبه على الرّجاء بأنّه محبوب إلى الأبد بالرغم من خطيئته ومحدوديّته (البابا فرنسيس). هي الشريعة الأساسيّة التي تقيم في قلب كلّ شخص عندما ينظر بعينين صادقتين إلى الأخ االذي يلتقيه في مسيرة الحياة. لا حدود لرحمة الله، هي تنبض وتفيض في كلّ وقت لمن يقترب منها. إنّها هديّة الكنيسة فهي تعيش رسالتها عندما تعلن الرحمة التي هي ليست فقط عمل الآب بل مقياس من هم أولاده بالفعل (متى 18/ 23-25). الكنيسة مدعوّة إلى مداواة جروحات العالم اليوم : مؤاساة – إنتباه – تضامن. لا شك أنّ الرّحمة ستواجه مقاومة الإنسان لأنّه يريد أن يسيطر في حين أنّها تترك مجالاً لحريّة الآخر. الرّحمة هي الأحشاء التي تطرب لآلام الآخر، كما الأمّ والإبن. إنّها شعور عميق يغيّر العالم لذا فهي أكثر عدالة وأكثر حرارة. إنّها الدّرب الضرورية التي تُشعر المريض (وحتى المرافِق) أنّه معنيّ وملتزم وعنده الإمكانية ليتعلّم وليختبر. صحيح أن الدّرب متعبة ولكنّها تنجّي. إنّها تختبر قوّتنا وتعلّمنا أن نعرف قوّتنا. نعتقد أنّنا نتعب، ولكن هذا التعب ضروريّ لاستئصال الجيّد منّا. الرّحمة، هي هذا الحبّ الذي يصبّ في محدوديّة الإنسان فيعيد إليه الإعتبار ويشعر أنّه موجود، محبوب، محمول، مقبول ومسؤول. لا يمكن للرّحمة أن تظهر إلّا إذا افتقرنا، اقتربنا ولاقينا. إنّها تُنضّج علاقاتنا وتجعلها تَدوم، وتحوّل التعاطف والمشاعر المشتركة إلى مشاريع ثابتة.

الرّحمة تعيش من 3 حركات:

النّظرة: قبل أن أهتمّ بالمريض وأعتني به، عليّ أن أنظر إليه بطريقة مختلفة فلا يعود عاديّاً وكأنّي سبق والتقيته ومستحيل أن يخرج منه أيّ جديد. الرّحمة ليست أوّلاً عملاً أخلاقيّاً، بل هي حركة داخليّة أرى من خلالها المريض بذاته وبغناه الذي أجهله.

الرحم: نحن الرجال ليس عندنا إختبار الرّحم كما الحال عند المرأة. ولكن عندنا إختبار مشابه ألا وهو الرّحمة التي تسيطر على كياننا. نتألّم، نعاني من اللاعدالة، نغضب، إلخ. رحمتنا تتفاعل عندما نرى تصرّفاً غير عادلٍ، تصرّفاً شنيعاً، فنشعر بالأسى والألم. هذا الشعور الأوّلي مع آلام الآخرين والرّغبة بشفاء الجراح هو ضروريّ وواقعيّ ويفعّل فينا نظرتنا الجديدة للقريب.

اليدين:

تتداخل في الرّحمة الهبة والفضيلة. فهي ليست أوّلاً ثمرة جهدنا الخاصّ إنّما تعطى بمجّانيّة. إنّها القدرة على رؤية الجانب الطاهر في قلب الإنسان حتى بعد جرحٍ شنيع لا يُنتسى. في الوقت عينه، الرّحمة بحاجة إلى جهدنا وحريّتنا لنعبر إلى العمل، لكي يتحرّك جسدنا نحو الآخر. هذا الجهد ضروريّ للحفاظ على هذه النظرة وهذا القلب.

ممّا لا شك فيه، نبدأ بعيش الرحمة مع أقرب الناس إلينا (كما فعل الله مع شعبه). ولكن يمكننا أن نعيشها مع من هم غير مستحقّين وغير جديرين. لأنّ الرّحمة بعلاقة وطيدة مع الغفران حتى ولو لم يَطلب الشخص الغفران أو يعترف بخطيئته. رأى الأب إبنه الضّال من بعيد (النظرة) ركض نحوه (قبل أن يعرف إذا ما كان يريد الغفران). الرّحمة لا تقبل الشروط. لا ندري في أيّة حالات تساهم نظرة شخص بشفاء جراحاتنا، فنقوم وننهض ونذهب ونعود إلى البيت الوالدي كما فعل الإبن الضّال. يمكنني أن أكون رحوماً أحياناً لأنّ آخر رحمني. بمعنى أن ّ عملي يأتي بعد أن تكون ذاتي قد لمسها أحد. كلّما فعّل الشخص الرّحمة فيه كلّما تفاعلت وتكاثرت. هذه هي الهبة المجانية. هذه المجّانيّة في الرّحمة لا تعني الخنوع ورفض العدالة، لا تعني الشفقة ولا التصوّف. إنّها تعطي الحقوق لكلّ إنسان. الرّحمة لا تترك مجالاً لتحقير الضعيف والفقير. وهذا ما شدّد عليه البابا يوحنّا الثالث والعشرون في افتتاح المجمع الفاتيكاني الثاني على أنّ الكنيسة تفضّل اللّجوء إلى علاج الرّحمة بدل رفع راية سلاح القساوة.

3-التواضع: هو إختبار التخلّي يعترف فيه المرافِق أنّه لا يعرف كل شيء. من اللاّتيني humus  يعني الأرض. التواضع هو الأرض الّتي عليها تنمو كل الفضائل. إنّها وضعيّة حقيقيّة تجاه الله والذات والآخرين، تتناقض مع التكبّر والإكتفاء. التواضع يوصل بنا إلى الحبّ ويجمع بين حبّ الله والآخر القريب. كتب مطران الأرجنتين Mario Bergoglio  سنة 2006 ( البابا فرنسيس ) عن التواضع  فقال “أنّ نقص الرجاء[14] هو علامة تبعثر غناها

 ” أرسل الأغنياء فارغين ” وعلامة بعدنا عن الفقر الإنجيليّ. عندما نختبر حضور الله في حياتنا ونقول إنّه هنا لنركع0 لسنا أقوى من الرسل. أمام العاصفة وقعوا في الخطيئة. هناك بعض الرعاة يخافون أن يعملوا في الرسالة أو أن يكونوا حازمين ويأخذوا القرارات الجريئة، خوفاً من أن يتّهمهم الناس أنهم متسلّطين. إيماننا هو إيمان تأسيسي، إيمان صراع ضمن مشروع مميّز من الروح القدس لخدمة الكنيسة. إيماننا عنده قدرة تحوّليّة، إنّه ظهور للقدوس.

هل نحن لا زلنا مغمورين بالنعمة وبالرّجاء أم أصبحنا عبيداً للشيطان وكل شركائه. من هنا، نحن أمام صراع بيرقين : بيرق الله الّذي يدعونا إلى الفقر والتواضع وبيرق الشيطان الّذي يغرينا بالسلطة والمجد والتكبّر فنعتقد أنّنا نعرف المسيح. تقول القديسة تريزيا الطفل يسوع “الصغير يقوم بخطوات صغيرة”. يقول كتاب الإقتداء : “كلّنا ضعفاء، ولكن إجعل نفسك أضعف الضعفاء”. سألوا يوماً جان ماري فيانيه عن أولى الفضائل : قال : التواضع – التواضع – التواضع. هذه الفضيلة تعيدنا إلى الأرض، إلى حالتنا الطبيعيّة مخلوقين على صورة الله. إنّها فضيلة تساعدنا على أن نعترف أنّنا مخلوقين (تك2/7). يشعر الإنسان أنّه غير مكتف بذلك وأنّه ضعيف بدون الله فيضع ذاته بتصرّف الله. يقول البابا فرنسيس في عظته في البرازيل خلال اليوم العالمي للشبيبة في تموز 2013 “التواضع هو من ADN الله”. يدعونا بولس في رو12/3 إلى عدم تهميش بعضنا البعض فيكون لدينا فكرة صحيحة وعادلة عن بعضنا. ما نحن عليه هو نعمة من الله، لذا من الضروري وضع ثقتنا في المكان المناسب : لا تضعوا ثقتكم بالجسد ( فيلبي 3/3 ). يجب أن ندرك أن قيمتنا هي بمعزل عن إمكاناتنا والربّ باركنا بكل بركة روحيّة وإختارنا وجعلنا قدّيسين ( أفسس 1 /3-14 ؛ 2/18). التكبّر يسبق السقوط ولكن التواضع يسبق المجد. بالتواضع نعطي قيمة للناس ونجعلهم بوضعيّة ثقة ونترك لهم المجال لينجحوا. المرافِق المتواضع يعرف حدوده ويسمع كلمة الله ولا يعمل شيئاً بأنانيّة ويعرف أنّه قادر على كلّ شيء بالربّ يسوع. يدرك أنّه يعرف أخطاءه ولا يبحث دائماً عن أعذار لتغطيتها. المرافِق المتواضع لا يخاف إذا كان لا يملك كل شيء لأنّ المهمّ أنّه مدعو للدّخول إلى وليمة الحمل. لا يخاف إذا واجهته المشاكل لأنّه لا يريد دائماً الأمور كما يحلو له. لا يريد السلطة ولا يحبّ المظاهر لا يحبّ أن يظهر عكس صورته بل يهمّه أن يُفرح الآخر. المتواضع يعيش في الحقيقة ليتعلّم الحقيقة.

أخيراً، المرافِق ليس عالم نفسٍ أو جرّاح إنّما مرشدٌ يبحث مع المريض ويكون حاضراً مستعدّاً، أميناً ووفيّاً. يستقبل دون أن يملي على الآخر. لأنّ المرافقة بحاجة إلى الوقت حتى يمتلئ المرافق من يسوع المسيح. وهنا يكمن البحث عن المعنى والوجهة. بالمقابل، المرافَق يرافِق أيضاً المرافِق لأنّ هذا الأخير ليس سيّد العالم. عليه أيضاً أن يقبل تاريخه وتاريخ المريض ويتساعدان ليبحثان معاً عن المعنى ويكتشفانه سويّة.

من يرافِق من ؟

المرافقة ليست حكراً على إختصاصيين فقط مثل الكهنة والمعالجين النفسيين. إنّها تشمل أيضاً الطبيب، الممرّض، الأهل، المتطوّعين، وحتى المرضى أنفسهم.

الطبيب يلعب دوراً مهمّاً بمساعدة المريض على تقبّل الوضع الذي يعيشه وحقيقة مرضه. فيضع كلّ ما لديه في خدمة نوعيّة حياة المريض. لأنّه لا يتعامل مع أجزاء من جسد الإنسان بل معه بكلّيته. يساعده على فهم حالته الجديدة التي يعيشها. إذ ليس مطلوباً منه فقط أن يقول الحقيقة للمريض ويمضي، بطريقة ميكانيكية مجرّدة بل أن يفسّر له ويعطيه من وقته لكي يُفهِمه أنه سيعيش نمطاً جديداً لا يقلّل من قيمته أو من كرامته.

الفريق الصحّي (مساعد الطبيب، الممرّضون، الموظّفون، المسعفون…) مدعووّن لمقاربة المريض بكليّته. أفهم أحياناً صعوبة هذه المقاربة الشاملة بسبب الخوف من الدخول في علاقة مع المريض أو بسبب الجهل أو اللامبالاة. إذا أعطى العاملون في مجال الصحّة الوقت للمريض وكان حضورهم متّزن ينعكس ذلك تجاوباً وارتياحاً لدى المريض.

 العائلة تمثّل بذاتها إستمرارية تاريخ المريض وكلّ ما عاشه وأنجزه. دورها مهم جداً ولا يمكن لأحد أن يحلّ مكانها. من المهمّ جدّاً أن نحترم مكانتها في المرافقة. لأنّ أفراد العائلة هم حافظو ذاكرة المريض وصلة الوصل الأساسيّة معه. فالمريض يتشارك أحياناً مع البعض من أفراد عائلته أموراً خاصّة وحميميّة. هذه العلاقة تختلف ولا شك عن التي يقيمها مع العاملين في مجال الصحّة أو مع المرافقين والمتطوّعين. خلال فترة المرض، يمكن للمريض أن يحدّد شخصاً من عائلته، جديراً بالثّقة، ليساعده في خياراته الدقيقة وليحمل حاجاته ورغباته للمعنيّن. كما يمكن للمريض أن لا يقبل بأي شخص من عائلته ويفضّل مرافقاً روحيّاً أو صديقاً. أحياناً كثيرة يشعر المريض بالذنب تجاه عائلته عندما تتفاقم حالته المرضيّة. كما يشعر البعض من أفراد عائلته بالأسى لأنّهم غير قادرين على المساعدة أو لأنّ المريض رفضهم أو إختار أحد المرافقين أو العاملين ليكون إلى جانبه. من الضروري أن يبقى المرافِق حذراً في علاقته ولا يستفزّ الأهل بوجوده إلى جانب المريض ويعرف أن يكون سلساً بمقاربته كي لا يجرح شعور العائلة والمحيط، فيسعى للتركيز على دورهم بالتنسيق مع المريض. لا يمكن أن نضع العائلة خارج مسيرة المرافقة. علينا أن نعترف بآلام وعذابات كلّ فرد من العائلة.

في حالات المرض الشّديد، أحياناً كثيرة يتضاءل إهتمام الأهل بالأولاد الذين هم بصحّة جيّدة لينصبّ إهتمامهم على المريض. لذا من الضروري التنبّه ومحاولة خلق شبكات تضامن بين أفراد العائلة تشجّع على الوحدة العائلية، لأنّ كلّ فرد من العائلة معنيّ بالذي يحصل ولا يمكن تهميشه. وهذا هو دور الرعايا والجمعيّات والمتطوّعين.  إنّ دعم العائلات هو من صلب مشروع العناية والعلاج. على المعالجين أن لا يهمّشوا دور العائلة فيساعدوها على تخطّي هذه المرحلة المليئة بالخوف والتردّد مع الأخذ بعين الإعتبار فرادتها.

فريق المرافقة أو لجنة المرضى في الرعيّة أو المرشدية في المستشفيات ودور الرّاحة ضرورة قصوى.

          المريض يرافق المريض جاره في الغرفة ذاتها، كما يرافق المرافقين. فالمريض الآخر يعيش نفس الألم ولكن ليس نفس الحالة أو الواقع. كلّ مريض بحاجة إلى دعم روحي يطال كل مستويات حياته، ليس فقط الجسديّة. فهو بحاجة إلى إكتشاف أبعاد متعدّدة نتيجة مرضه لذلك هو بحاجة للآخر ليساعده.

الحاجات الروحيّة للمريض.

يستولي المرض على المريض من دون إذنه. فيرى أن جسده لا يساعده، وبالتالي يصبح مع الوقت غريباً عن ذاته. فهو بحاجة إلى أن يبحث ليعاود التعرّف على ذاته وبحاجة للآخر ليصوّب له نظرته لنفسه ويحبّبه بذاته. يعيش المريض حالة خوف من فقدان وحدته الشخصيّة. يخاف أن يشعر أنه رقم وأن لا تاريخ له. يخاف أن تصبح هويته هي مرضه لذلك هو بحاجة أن يستعيد شخصه. يخاف أن يكسر علاقته بمجتمعه. نلاحظ أن المريض يفقد أحياناً دوره وإلتزاماته فيشعر بأنه غير مفيد أو غير ضروري في حياة الناس، وكأنه لم يعد لديه القدرة على الإقناع أو إعطاء الرأي أو تغيير أي شيء في إطار منزله أو عائلته أو مجتمعه. مع العلم أنّه لم يفقد خصوصيته ولا ذاته (التقدير) ولديه تاريخ وإنتماء وعائلة، إلخ.

جلّ ما يطلبه المريض أن نقدّر شخصه، وهذا طبيعي جدّاً. فإذا لم يكن موجوداً بعين الناس لماذا يسعى البعض لشفائه. إنّ الشخص المريض بحاجة أن نساعده ليتقبّل ذاته وجسده كما هو وليشترك بالقرارات. إنّه بحاجة أن يعاود قراءة حياته وحده أو مع آخر، أن يقبل ماضيه ويربط ما تشلّع بحياته ليجد وحدة ذاته، وأن يتحرّر من الشعور بالذنب لأنّه يبحث عن معنى أو تفسير لآلامه.

– عندما نتكلّم عن حاجات روحيّة نفكّر بالحاجات الدينيّة. هذا صحيح ولكنّ هذه الأخيرة هي جزء منها وليست كلّ هذه الحاجات. إنّ الحاجات الروحيّة موجودة عند كلّ مريض أكان مؤمناً أم لا. البعد الرّوحي هو الفسحة الدّاخليّة عند كلّ إنسان كي يبني معنى لحياته عبر تساؤله عن دوره وحضوره في العالم وعن إمكانيّة ترفّعه نحو حياة مع الله. البعد الرّوحي فينا هو هويتنا الأصليّة. إنّه يحوي بعداً يمكّن العلاقة مع الآخرين ومع الذات ومع الله. إنّ لدى الإنسان رغبة وانتظار ليكون سليماً بكليّته وليعبّر عن ما في عمق إنسانيّته. من الصعب تحديد المطالب الروحيّة للمريض بشكل عام إذ لكل مريض إطاره العائلي والثقافي والإجتماعي والشخصي. إنمّا إختبارات المرافقين الروحيّين والعاملين في مجال الصحة تجعلنا نلخّص هذه المطالب الروحيّة بكلمة وحدة. كل إنسان يطلب أن يعيش بوحدة مع ذاته. والمرض والألم والموت خطر على كيانه. هذا ما شعره صاحب المزامير عندما صرخ “إلهي إلهي لماذا تركتني” (مز22). فدعى الرّب لكي يخلّصه ويحافظ على وحدته. كذلك تجربة يسوع تبيّن الشيطان رمزاً للتشرذم والتفرقة والملائكة رمزاً للسّلام والوحدة. هكذا يحصل مع المتألمين والمرضى. هناك خوف من التشتت والتشرذم والتضعضع وخطر من التقوقع على الآلام وعلى المآسي فنقول دائماً عن المريض : ” لا يفكّر إلا بذلك”. كيف يمكنه أن لا يفكّر بذلك ؟ ممّا يستدعي منّا إعادة التفكير بذلك.

ما هي هذه الحاجات الروحيّة ؟

أ- يحتاج المريض إلى إعادة قراءة حياته وربط الأحداث التي مرّ بها بعضها ببعض. عندما يمرض الإنسان يصبح لديه رغبة في أن يكتب قصة حياته مع ما تحمل من مآسي وأفراح. يرغب في قراءة حياته ليعيد ربط مراحل حياته لكي يتصالح معها.

ب- يحتاج المريض إلى الإختلاط بالنسيج الإجتماعي. إنّ حياة الإنسان هي مجموعة علاقات ناجحة أو فاشلة مع الآخرين. عندما يعيد المريض حساباته فإنّه يُثبّت بعضاً منها ويرفض البعض الآخر (لا يمكننا أن نُجبر المريض على إعادة علاقة مقطوعة). لا يجوز أن يُنزع المريض من محيطه. كما لا يجوز أن يشعر بأنه غير نافع وعليه الإستسلام لرغبات الآخرين.

ج- يحتاج المريض لأن يشعر بوجوده كي لا يتحوّل إلى رقم أو نوع مرض.

د- كرامة المريض غالية عليه. لذا يحتاج أن يفهمها، أن يقدّرها لأنّها كيانيّة وليست مرتبطة بنظرة الآخرين له ولا حتى بنظرته لذاته. فكرامته مصانة حتى ولو تبدّلت حياته وتغيّر مظهره أو ضعفت إمكاناته. من هنا إذا أصبح المريض مرتبطاً بأشخاص ليساعدوه فهو لم يخسر كرامته ولن يخسرها. الرّغبة بالعيش بكرامة هي الأمل بالبقاء شريكا للآخر كإنسان بشري حتى النهاية.

ه يبحث المريض عن معنى لما يعيشه. فيتساءل عن هويّته وعن حياته وعن تاريخه وعن معنى آلامه. هذا المعنى لا يُعطى بل يُبحث عنه والمريض يجده إنطلاقاً من ميراثه الثقافي والديني. هذا المعنى لا يعني فقط المدلول بل أيضا الإتجاه، وهنا تظهر ديناميكية العمل.

و-يحتاج المريض إلى التخلّص من الذّنب : ماذا فعلت للإله لكي يحصل معي هذا الشيء ؟ لماذا أنا ؟ المريض بحاجة لإيجاد تفسيرات للألم وللمرض الذي يعيشهما. وأحياناً كثيرة يربطهما بعدم أمانته للأشياء الأساسيّة في حياته.

ز يرغب المريض بالمصالحة : فهو يعود بالذاكرة لحالات التقوقع والإنشقاق التي عاشها في حياته. إنّه يرغب بالمصالحة على ضوء الحقيقة التي تنجلي له. أحياناً كثيرة لا يغادر الإنسان الحياة إلاّ عندما يتصالح مع عائلته أو مع أقربائه أو حتّى مع إلهه.

ح- يحتاج المريض إلى الأمل : مّما يؤمّن له القدرة على متابعة علاقته بالآخرين وعلى عيش ما تبقى من حياته بإنفتاح وبإلتزام يساعدانه على إستعادة الثقة بما سيعيشه في مسيرته.

ط- يحتاج المريض إلى الإنفتاح على ما هو أسمى وأرفع : البعد الروحي هو معرفة باطنيّة. إختبار لما هو أسمى وأرفع من الأنا الذاتية. هذا الإنفتاح هو، بالنسبة للمؤمن، على الله أيضًا. أمّا غير المؤمن فيختبر هذا الإنفتاح من خلال بحثه عن الجمال وعن التضامن. هذا الإنفتاح يدلّ أن الإنسان في عمل مستمر بين السيطرة وعدم السيطرة على كلّ ما يحيط به. أحياناً يعبّر عن الحاجات بتعبير ديني. فيعلن عن رغبته بالإعتراف وبالمناولة وبقبول بسر مسحة المرضى.

يقول سفر الجامعة 1,3 ” لكل أمر أوان، ولكل غرض تحت السماء وقت، للولادة وقت وللموت وقت (…)”. هناك وقت للموت وهناك فن للموت. يتمنّى الإنسان بشكل عام ميتة هنيئة تجعله بسلام مع ذاته ومع الآخرين ومع الله. من واجب كلّ من يرغب بمرافقة مريض أن يكون في خدمة حياة المريض ولو بقي وقت قصير من عمره. قال مريض للأم تريزا : عشت كل أيام حياتي مثل الحيوان، واللّيلة سأموت كملاك. إنّ الإنتباه إلى حاجات المريض الروحيّة ليس ما تَبقّى عمله عندما لم يعد يمكننا أن نعمل شيئاً. علاقتنا بالمريض متعلّقة بمدى وعينا لمحدوديتنا. لسنا هنا لنمحي حقيقة الموت بل لنتعامل مع هذه الحقيقة. نحن موجودون لنساعد المريض على تحضير الطريق الذي سيجتازها هو وعلينا إحترام حرّيته. المرض مرتبط بالحياة ويمثّل مرحلتها الأخيرة. يجب أن نُوجّه عنايتنا اليه كما الى أي وقت آخر من الحياة. إذ إنّ دعوة الإنسان هي الحب أكان مؤمناً أم لا. إذا كانت الحياة أن نحبّ وأن نتعلّم أن نحبّ، هذا يعني أنّه يمكننا أن نبقى أحياء حتى النهاية.

مرافقة المرضى باب للرّحمة

مرافقة المرضى تتطلّب مهنيّة وروح خدمة. وعلى كلّ مرافق أنّ ينتبه إلى كلّ الأمراض (تشبيه رمزي) التي ممكن أن يصاب بها والتي تضرّ بمرافقته، ويعرف أن يسلّم ذاته لرحمة اللّه ومحبّته اللّتان تتجلّيان بعمل الكنيسة. فالمرافِق مرسَل من الكنيسة التي هي في تجدّد مستمرّ والتي بقوّة الرّوح تُعزّي وتُشجّع وتُلهم لتُمكّن كلّ مرسل من أن يتقدّم في طريق الخير. المرافق ليس رجلاً آليّاً فهو يعمل ولا شكّ بتفان وصدق وصلاح وأمانة واحتراف ولكنّه يمرّ أيضاً بزلاّت وتعثّرات وإحباط. فهو بحاجة إلى قوّة الرّوح ليعيد حساباته بما هو عليه من معرفة لذاته ولله وللقريب ولحسّه الكنسي. نحنبحاجة لمرافقة المرضى إلى التوبة والتجدّد والمصالحة. يقول القديس أوغسطينوس: “هل من رحمة تعطى لنا نحن التعساء، أكبر من تلك التي دفعت خالق السماوات إلى النزول من السماء، وخالق الأرض إلى اتخاذ جسم بشري مائت ؟ هذه الرحمة بالذات هي التي دفعت رب الكون إلى اتخاذ طبيعة العبد، حتى أنّه جاع وهو نفسه الخبز، وجُرِحَ وهو نفسه الخلاص، ومات وهو نفسه الحياة. وهذا كلّه كي يُشبع جوعنا، ويخفّف عطشنا، ويقوي ضعفنا، ويزيل إثمنا، ويضرم نار محبّتنا“. إنّالمرافِق هو رسول البشارة عبر حياته قبل كلّ شيء. رسالته تتطلّب الجدارة والفهم ممّا يستدعي جهداً خاصاً واستعداداً فكريّاً لإدراك الإختبارات التي يواجهها بحكمة وإبداع.ممّا يستدعي منه “القيام بكلّ العمل كما لو أن الله لم يكن، ثم تسليم كلّ شيء لله كما لو أنّه لم يكن”. فيردّد كلّ يوم : “أرشدني يا ربّ بحكمتك، أضبطني بعدلك، عزّني برحمتك، أسترني بقدرتك … فها أنا يا ربّ أقدّم لك أفكاري وأقوالي وأفعالي، فاجعلني أفتكر فيك، وأتكلّم عنك، وأشتغل لك وأتعب من أجلك”. المرافق يتمتّع بروحانيّة تغذّي عمله وتحميه من صعوبة الألم والمرض والضعف. المرافق إنساني لا يمكن أن يتحوّل إلى آلة مرافقة لا إحساس له ولا مشاعر. يمكن للمرافق أن يبكي وأن يضحك بجدّيّة وبشغف وأن يظهر الرّقة والألفة والمجاملة للجميع. بالمقابل المرافق لا يمكنه أن يُفرِط بالعاطفيّة ويهمّش العقلانيّة، أن يفرط في التنظيم وينسى اللّطف. يسعى المرافق ليكون محبّاً ومحقّاً ومخلصاً وناضجاً وليُظهر أفضل ما في داخله وفي الآخرين وفي الأحداث. فالعلاقة مع المريض تتطلّب نزاهة واستقامة وتعاملاً صادقاً مع الذات ومع الله. فالمرافق الصادق لا يتسلّط على المريض كمن يدير شؤونه، بل يسعى لبلوغ التوافق بين كلّ مقدّراته ضمن مسيرة تحترم كما قلنا خصوصيّة كلّ مريض. المرافقة للمريض تتطلّب احتراماً صادقاً وهذا يتجلّى بإصغاء المرافِق للمريض وبتواضعه لأنّه يعرف أنّه لا يستطيع فعل أي شيء دون نعمة الله (يو 15، 8). ونحن ندرك تماماً أنّه كلّما ازدادت ثقتنا بالله وبعنايته الإلهية كلّما ازداد سخاء أنفسنا وانفتحنا على العطاء، مدركين بأنّنا كلّما أعطينا كلّما تلقّينا. يقول القديس منصور دي باولي : أعطني يا رب أن أنتبه فورًا على من هم بقربي، ومن يشعرون بالقلق وتائهون، ومن يتألم دون إظهاره، ومن هو معزول خارج إرادته”. المرافقة تتطلّب إلتزاماً جديّاً من المرافِق كي ينشر من حوله شعوراً من الهدوء  فلا يخون أبدًا الثقة التي مُنحت له، وكي يعيش ببساطة ويركّز على ما هو أساسيّ، ومعتدل ومتوازن. فينظر بعيني الله وبنظرة الفقراء.

.المرافق يسعى أوّلاً لإتباع اللّه الذي يطلب منا :” أن نكون رحماء كما أن أبانا رحيم(متى 5،  48؛ لو 6، 36). لتكن الرحمة هي التي تقود خطانا، وتُلهم حضورنا إلى جانب المريض، وتُنير إصغاءنا. لتكن هي كما يقول البابا فرنسيس : “العامود الأساسي لأعمالنا. لتكن هي من يعلّمنا متى علينا أن نتقدّم ومتى علينا أن نقوم بخطوة إلى الوراء. لتكن هي التي تجعلنا نقرأ صِغَرَ أعمالنا في تدبير الله الخلاصي الكبير وفي عظمة وسرّية صنعه. وكي نساعد أنفسنا على فهم هذا” لندع تلك الصلاة الرائعة، المنسوبة للطوباوي أوسكار أرنولفو روميرو، تُكلّم داخلنا : “مفيد لنا من وقت لآخر أن نقوم بخطوة إلى الخلف وأن ننظر عن بُعد. إنّ الملكوت لا يتخطّى فقط مجهودنا وإنما يتخطّى أيضًا نظرنا. إننا ننجز في حياتنا جزأً ضئيلًا فقط من العمل المذهل الذي هو صنع الله. ما من شيء نصنعه هو كامل. (…) ما من قول يعبّر عن كلّ ما يمكن قوله. وما من صلاة تعبّر عن الإيمان بشكل كامل. وما من فعل إيمان يملك الكمال. وما من زيارة رعويّة تحمل معها جميع الحلول. وما من برنامج رعوي يتمّم رسالة الكنيسة بملئها. وما من هدف أو غاية يبلغ الكمال. هذه هي المسألة : نحن نزرع بذورًا سوف تَنبت يومًا. نحن نسقي بذورًا مزروعة، عالمين بأن آخرين سوف يحرسوها. نضعُ أسُسًا لأمورٍ سوف تتطوّر. نضعُ الخميرةَ التي سوف تضاعف قدراتنا. لا يمكننا أن نصنع كلّ شيء، ولكن أن نبدأ بصنعه يعطينا شعورًا بالتحرّر. يعطينا القوة للقيام بعمل ما وللقيام به جيداً. قد يبقى غير كامل، ولكنه بداية؛ هو خطوة من مسيرة. هو فرصة كي تدخل نعمة الله وتقوم بما تبقّى. وربما قد لا نرى أبدًا اكتماله، ولكن هذا هو الفرق بين المترئّس والعامل. إنّنا عُمّالٌ، لا مترئّسين، خدمٌ، لا مُسحاء. إننا أنبياءٌ لمستقبلٍ لا نملكه نحن.”[15]

المرافقة هي مسيرة رحمة. هي إمكانية ولادة جديدة، خلق جديد. خلق جديد يسمح للشّخص بأن يحيا بطريقة جديدة ومختلفة عمّا كان من قبل. خلق جديد وليس تعديل في الانسان. خلق جديد وليس ببساطة تحسين سلوك أو تصرفات أو طبع الانسان. خلق جديد بروح جديد وطبيعة جديدة. يدعونا البابا فرنسيس إلى الخروج من اللامبالاة للدخول في مسيرة رحمة حقيقيّة بإرتداد قلبي وفكري. فيقول : “يعلّمنا يسوع أن نكون رحماء كالآب (لوقا ٦، ۳٦). في مثَل السامري الصالح (لوقا ۱۰، ۲٥-۳۷). يدين التقاعس عن تقديم المساعدة إزاء الحاجة الطارئة لأمثالنا : “رآه وتابع السير” (لوقا ٦، ۳۱-۳۲). في الوقت نفسه ومن خلال هذا المثل، يدعو المصغين إليه، لاسيما تلاميذه، إلى أن يتعلّموا كيف يتوقفوا أمام آلام هذا العالم لتخفيفها، وأمام جراح الآخرين لتضميدها بالوسائل المتاحة، بدءاً من تكريس الوقت على الرغم من الانشغالات الكثيرة. إنّ اللامبالاة في الواقع تبحث غالباً عن الأعذار: إحترام المبادئ الطقسية، كمية الأمور الواجب فعلها، العداءات التي تبعدنا عن بعضنا البعض، الأحكام المسبقة على أنواعها التي تمنعنا من الاقتراب من الآخرين. الرحمة هي قلب الله. لذا لا بد أن تكون أيضاً قلب كل من يعتبرون أنفسهم أعضاء في العائلة البشرية الواحدة. ؛ قلب ينبض بقوة في كل مكان تكون فيه الكرامة البشريةـ إنعكاس وجه الله في مخلوقاته على المحك. يحذّرنا يسوع : إن المحبّة حيال الآخرين، الغرباء، المرضى، الأسرى، المشرّدين وحتى الأعداءـ هي المقياس الوحيد لدى الله ليحكم على أعمالنا. مصيرنا الأبدي يعتمد على هذا الأمر. لا نندهش إزاء دعوة بولس الرسول لمسيحيي رومة ليفرحوا مع الفرحين ويبكوا مع الباكين (رومة ۱۲، ۱٥-۲۱)، (…) ويكتب القديس يوحنا: “من كانت له خيرات الدنيا ورأى بأخيه حاجة فأغلق أحشاءه دون أخيه فكيف تقيم محبة الله فيه؟” (١ يوحنا ۳، ۱۷؛ يعقوب ۲، ۱٥-۱٦).”[16]

توصيات.

  • تشجيع المجتمع على كلّ مستوياته : الجامعة، المدرسة، مكان العمل، الرعيّة، إلخ. للتفكير حول المرض والموت والألم ونهاية الحياة، والتضامن بين أبنائه وبناته وبخاصّة الملتزمين في هذا المجال.
  • تشجيع الأبحاث في مجال العلوم الإنسانيّة حول الأخلاقيّات في المستشفيات ودور الراحة والمراكز التي تستقبل المعوّقين من أجل مرافقة راعويّة وإنسانيّة تتأقلم مع حالة الأشخاص.
  • التنشئة على الإصغاء ضمن المسيرة التعليميّة لكلّ العاملين في مجال الصحّة والكهنة وكلّ العلمانيين الذين يعتنون بالمريض.
  • عدم مقاربة الشخص من جانب عمره ومرضه وإعاقته، إنّما من خلال إنسانيّته وقيمه وحقوقه.
  • إحترام مبادئ السريّة والشفافيّة.
  • الحفاظ على المسافة الضروريّة بين المرافِق والمريض.
  • تشجيع العمل ضمن فريق متجانس.
  • إدخال العاملين في مجال الصحّة ضمن مشروع المرافقة.
  • تقييم و إعادة تقييم حاجات المريض للإجابة عليها بكلّ إهتمام.
  • تحسيس كلّ المرافقين على القضايا الأخلاقيّة والتي لها دورها في الكثير من القضايا التي تطرح خلال فترة المرض.
  • المرافقة تؤمّن حضوراً لعبور المشاكل سويّة، للمشاركة بمعنى حياة الأشخاص. عندما نرافق، نذهب نحو الآخر بكلّ ما هو عليه. ونقبل ترداد صدى كلمات الآخر فتظهر هشاشة حياتنا.
  • الرباط بين المرافِق والمرافَق هو إكتشاف خلّاق وإنسانيّ لكلّ منهما. فهو يشهد لوجود شخص بحاجة إلى عناية.

الخاتمة

حاولنا أن نضيء على عالم المرافقة الشاسع من باب الرّحمة فنستنتج بأنّ المرافِق والمرافَق شخصان مختلفين من حيث الأسلوب والاحتياجات والأفكار والشعور، من هنا ضرورة الذهاب إلى العمق في العلاقة. لأنّ هدف المرافقة هو أن يصل المريض إلى نضوج إيماني وإنساني وليس فقط أن يَفرح من المرافِق. لذا تُبنى المرافقة ببساطة، على ثلاثة: الروح القدس، المريض وأنا.

اللّقاء بالمريض وجهاً لوجه يتضمّن ما قبل اللّقاء وفيه وبعده. فالوجه مرآة القلب، يعكس بطيّاته أموراً كثيرة ولكن للأسف نريد أحياناً كمرافقين أن نرى مفاعيل رسالتنا بسرعة. المرافقة لا تعني فقط المرافِق بل أيضاً المرافَق. إنّه أول رسول يساهم في أنجلة الأشخاص، من الضروري إعادة ربطه بالآخرين (الأهل، الفريق الطبي، المرشد…). المرافقة تتطلب الرحمة وليس الشفقة فيحيط المرافِق المريض بحبّ كأنه في قلب رحمٍ.

ختاماً يقول يوحنا الصليبي : “عندما يكون الإنسان متحرّرًا يعرف أن يقرأ بسهولة ما هو موجود في داخل الشخص”


[1] – عبادة الجسد ممكن أن تؤدي إلى فساد العلاقات الإنسانية.( تعليم الكنيسة الكاثوليكي عدد 2289).

[2] – يقول البابا القديس يوحنّا بولس الثاني، في رسالته فادي الإنسان عدد 8، أنّ المسيح إتّخذ الطبيعة البشريّة دون أن تذوب فيه، فرفعها بذات الفعل إلى مقام عظيم. إنّ إبن الله، فادي الإنسان، بتجسّده إنضمّ نوعاً ما إلى كلّ الناس. (فرح ورجاء عدد 91 وإنجيل الحياة عدد 2). إنّ كرامة الإنسان هي المقياس الأساسي لصدقيّة النموّ البشري. (الإهتمام بالشأن الإجتماعي، عدد 33). فمن الحقائق التي تنبثق من كرامة الإنسان هو “العقل”. والكنيسة تقدّر جهود العقل للوصول إلى الأهداف التي تضفي على الوجود الشخصي مزيداً من الكرامة. (رسالة الإيمان والعقل، عدد 5. راجع عدد 20، 40، 45، 82). العقل والإيمان يؤمّنان الإلتزام الدائم للمسيحي عبر الأجيال للدفاع عن الشخص خاصّة الضعيف والمهمّش والمعوّق. لذا إعتبر البابا أنّ كرامة الشخص البشري مهدّدة وبخاصّة في مراحل حسّاسة من الوجود : الولادة والموت. فواجه بقوّة كلّ المحاولات التي كانت تهدف إلى التقليص من قيمة الإنسان، من خلال قتل أو تقصير عمره لأنّ الغاية لا تبرّر الوسيلة مهما كانت سامية. واجه البابا محاولات عدّة للإستيلاء على الحق بتحديد عتبة إنسانيّة الشخص. إنّ كرامة الإنسان هي مرتكز لكلّ الحوارات مع الآخرين. فبالرغم من تراجع الحقائق التي عرضتها الأنظمة الفكريّة عبر الأجيال، أصبح من الضروري إيجاد إتّفاق شامل حول مبدأ موحّد لكلّ الإنسانيّة حتّى لو أنّ التعدّديّة الفكريّة والثقافيّة والأخلاقيّة تفرض نفسها بالقوّة. هذه الكرامة هي الجامعة بين الشعوب وفارضة إحترامها. لقد إستشفّ البابا خطر ربط نوعيّة الحياة بكرامة الإنسان. لذا شدّد على ضرورة فصل الكرامة عن المفهوم الكمّي للأشياء. وربطها بنوعيّة تفوق كلّ مقياس حسّي قابل للتغيير بين لحظة وأخرى. أراد البابا ربط كرامة الإنسان بسرّ التجسّد مفتاح طبيعة الإنسان ومصيره.

[3] – هي مسيرة أساسية ضرورية للشخص المريض كي يكتشف معنى حياته وما الذي يعيشه. فيبحث عن وضعه ومكانته في هذا العالم (الإنقلاب على الذات). هذه المسيرة ليست عملاً عقلانياً إنما عملاً ديناميكياً في حياة المريض يفعّلها وجوده الشخصي وبيئته. معنى الحياة نبنيه من خلال خلفيّاتنا (background). إكتشاف معنى الحياة يكون إمّا على ضوء الله بالحبّ والعمل وإمّا من خلال العيش بالملذّات والأهواء.

[4] – بنظرك أيّ حلّ يمكنك تطبيقه ؟ هل يمكن أن تجد الحلّ لوحدك أو تريد أن يساعدك أحد ؟ هل يمكن أن أساعدك على إيجاد الحل ؟

[5] –  هل كنت يومًا ما في حالة مماثلة تقريباً لحالتك اليوم ؟ هل هناك شي من خبرتك السابقة يساعدك على إيجاد الحلّ ؟

[6] – الإلتفاف حول المريض واجب إنساني وديني مقدّس لوجوده في حالة نفسية وماديّة تستوجب وجودنا. هذا المريض له حقوق تطال كلّ جوانب حياته. حق التوعية والحماية من المرض. حق المعاينة وإجراء الفحوصات الدوريّة اللازمة. حق الطبابة والإستشفاء والحصول على الدواء. حق الاعتناء والخدمة والافتقاد والزيارة والتعزية (الحضور جداً مهمّ: الضحكة/ الحنان/ العاطفة/الحبّ…). يسوع كان يهتمّ دوماً بالمريض والمتألّم ويأتي لنجدته. لا يتوقّف يسوع فقط عند المرض بل عند الصعوبات الأخلاقية والنفسيّة والمآسي الروحيّة (مثل المرأة الزانية). لأنّ هناك ترابط مهم جدّاً بين الجسد والروح، إذ نلاحظ أن تحسّن النفسية ترتدّ على الصحّة الجسديّة. لم يكن يسوع يشفي المرضى فقط بل يخلق عندهم ديناميكية معيّنة. كان يسوع يهتمّ ويعالج الشخص ويدعه أحياناً يمشي معه في الطريق. إذاً عندما أرافق المريض وأعي حقيقة وجوده أفتح له آفاقاً جديدةً وأساعده على الشفاء، عندها لا يكون منعزلاً. رسالة مار يعقوب 5/14-15 تشدّد على الصلاة بإيمان فهي تخلّص المريض.

[7] – اللقاء بالآخر هو اللّقاء بالوجه الذي يحمل علامات حزنٍ وقهرٍ، مآسي، تساؤلات ومناجاة، لماذا أنا وليس أحدٌ غيري. فالوجه هو مرآة الذات ويعبّر عن حالة المريض. هذا الأخير يختار إمّا أن يُبرز ذاته بوضوح وإمّا أن ينغلق على ذاته. ممكن أن يشهد المرافِق حالة تراجع في وضع المريض بصورته، بوجهه، بحالة جسده، ( العجز عن الكتابة، عن المشي، السمع أو حتى النظر، إلخ). ممكن أن يشعر المرافِق ببعض الإحياط. في هذه الحالة وجب على المرافِق الصبر والتصرّف بحريّة وبمسؤوليّة.

[8]– من الضروري الإضطلاع قدر الإمكان على حالة المريض الطبيّة كي أعرف كيف أتصرّف معه. على سبيل المثال : أحياناً لا يقدر المريض أن يحرّك يديه وأصرّ على مصافحته. لا يجوز الدخول في المفاصل الأساسيّة إلاّ إذا سمح لي المريض. لا أحكم على أحد بسبب مرضه (ً مدمن أو حامل فيروس السيدا، إلخ). لا أسأل الأسئلة للحشريّة، فالمرافقة مسيرة تعيد صياغة الذي قاله المريض للتأكّد من فهمي لما يقول. أطلب من المريض كيف يريد أن أساعده. لا أفرض أفكاري. أشجّع الأشخاص للدخول معي في حوار، أسمح لهم بالتعبير عن غضبهم، عن مخاوفهم. يمكنني أن لا أكون موافقاً مع ما يقوله المريض ولكن يمكنني أن أطلب منه أن يساعدني عل فهم ما يقوله.

[9]– يتساءل المريض : لماذا أنا ؟ هل موت الأطفال عدل ؟ مرضي نتيجة أخطائي ؟ فيقرأ حالته باحثاً عن السبب. يلقي المريض أحياناً على الله سبب مرضه فيصنع منه “كبش محرقة”. أو يعتبر أنّ ما يحصل معه غير عادل فيقول على سبيل المثال : انظروا إلى جارنا مع كلّ أمواله وثروته، يتمتّع بصحّة جيدة مع أنّه غير مؤمن. وأنا ملتزم، أصلّي دائما والمسبحة في يدي أنظروا إلى حالتي.

[10] – راجع شربل شلالا، “الألم في الكتاب المقدّس”، المنارة، حزيران 2012

[11] – صفات المصغي: الإحترام : هو على صورة الله أكان مدركاً أم غير مدرك لذلك ومهما كان وضعه وظرفه. إنّ تصنيف الناس وفقاً لما لهم من مشاكل لا يدلّ على الإحترام. الصدق : ينبغي أن يكون حقيقيّاً ومنفتحاً بدل أن يؤدّي دوراً ما وحسب. التعاطف: لا يعني أن يشفق على الآخر أو يشعر مثله، إنّما يشعر معه ويرى العالم من خلال عينيّ الآخر. من الضروري الإنتباه للمشاعر الخاصّة التي تنتابه بتعاطفه معه دون أن يحاول وضع ذاته مكانه ليفهم ما يشعر به المريض. لأنّه ليس بالضرورة أن تكون ردّات فعله أو مشاعره مشابهة لردّات فعله ومشاعره في حال كان في نفس الظروف. الواقعيّة : المصغي الجيّد يساعد المريض على التفكير بواقعه الذي يهرب منه وعلى اكتشاف مشاعره الحقيقيّة. المواجهة : تجعل المريض واعياً للتناقضات وبالتالي يتحمّل مسؤوليّة نموّه وتغيّره. يجب أن يكون دافع المواجهة الإهتمام والعناية بالمريض وليس تسجيل أهداف بمرماه. بمعنى آخر، المرافق ليس ديّاناً ولا قاضياً بل مهتمّاً ومعتنياً.

[12] – أمّا صمتنا أمام الله فيحضّرنا للصمت أمام الآخرين أيضّاً. إذ ننمو في السكون ونصبح قادرين على الإصغاء بطريقةٍ جديدة. فالإصغاء من دون إدانة، ومن دون تقديم النصائح يُشعر الآخر بأنّه مقبول كما هو وبأنّه ليس مدان من أحد فيتوقّف عن إدانة نفسه. القديس أغوسطينوس

[13] – المصغي يرسل إشارات إيجابيّة إلى المريض من خلال تعابير وجهه ووضعيّته فيريحه ويمنع عنه كل شعور بالرفض. المصغي يتعرّف أكثر على ذاته لإدراك مواطن ضعفه والتي تظهر أحياناً بانفعالات متعدّدة تمنع كل تواصل وكلّ إصغاء فاعل. المصغي يتحاشى الحكم على الآخرين ويبقي، قدر الإمكان، على مستوى من الموضوعيّة. هذه العناصر تساهم بفتح قنوات التواصل مع المريض التي يتغلّب عليها، الخوف من الألم، من الموت، من المرض ومن مواجهة الحقيقة.

[14] – هو عصب كلّ حياة. هو قدرة الإنسان على الإيمان وعلى العيش بدون خوف أو تردّد، رغم أنه يختبر الألم والمرض. هو أن يكون لدي سند وقوّة يمكنني من خلالهما التغلّب على صعوبات حياتي. هو هذا الخيط الذي يرافقني كلّ حياتي، إنّه أقوى من الأمل. الأمل والرجاء يتغذيان من كلمات صغيرة نسمعها. الأمل يتغذى من أفراح صغيرة والرجاء يحكي عن اليوم وعن حاضرنا. إنّه يحكي عنّي، عن صراعي، عن واقعي كما أعيشه. لذلك فالأمل محدّد أمّا الرجاء هو من الله الذي أكتشفه يوماً بعد يوم. الرجاء هو الثقة ليس فقط بنا بل بالله، نرجو ما لا نراه فنجد أنفسنا نثق بما لا نراه.

[15] – مذكورة في كلمة قداسة البابا فرنسيس إلى الكوريا الرومانية الاثنين كانون الأول 2015

[16]– رسالة قداسة البابا فرنسيس بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي التاسع والأربعين للسلام .2016 – كيف أكون قريباً – كيف أحب – كيف أنقذ ؟. أتعلّم 3 أمور من مثلالسامري الصالح1- التوقف أمام الألم. 2- إيجاد الكلمات والتعابير والحركات. 3- أخذ الشخص على عاتقنا وإعطاء الوقت للّذي هو بحاجة إلينا. المحبة لديها منطقها : – إذا توقفنا، نعرف أن علينا أن نبلسم الجراح. – إذا بلسمنا الجراح نعرف أن علينا نقل الشخص لكي يعيش. – إذا أوكلناه إلى شخص علينا أن نمر به مرة ثانية وعلينا أن نعطي من ذاتنا. ولكن أحياناً : – ليس لدينا صبر تجاه من هو بحاجة إلينا. – ننسى أن المجروح لا يستطيع شيئاً من دوننا. – أحياناً لا يقدر المجروح أن يعطي لأنه أُخذ منه الكثير. لا يمكنه أن يقرّر كل شيء لأنّه مشرف على الموت. طريق أريحا تمر من أمام بيتنا نسلكها كل يوم. هي طريق عملنا – مسؤوليتنا – تضامننا – أخوّتنا. لنفتح عيوننا. المشكلة أنّ القريب ليس إلّا اليهوديّ. المشكلة الأساسية ليست كيف أفكر بالآخر بل الآخر هو الأساس. كيف يكون عندي قريب، علي أن أخرج من ذاتي. القريب ليس البشرية بل من نلتقيه على الطريق ونهتمّ به. تصرّفك يجعل من الآخر قريبك أو لا. يمكنك أن تجعل من كلّ شخص قريبك وتتعلّم أن تحبّه. 1- من هو بحاجة إلينا ؟ أين يمكننا أن نعطي مساعدة ونخفّف آلاماً ؟ نحن مدعوين لنكون أقرباء من كلّ شخص. 2- القريب من يأتي إليّ أيضاً. 3- يسوع لا يتركنا. هناك سفر. نحن دائماً على الطريق. على الطريق هناك ذلك الشخص المريض الّذي فينا، هناك النقص والشرخ . نحن على الطريق لا ننتبه للأشخاص من حولنا .على الطريق هناك من يتجرأ على التوقّف. كلّنا ننزل إلى أورشليم، نسير بوحدة ، بخطر .كيف نعيش هذا السفر، إلى أين يوصلنا ؟ أورشليم هي الكنيسة. نعرف أنّ جذورنا في الكنيسة مهما تعرّضنا لمشاكل. من أورشليم إلى أريحا، وادي الموت. ولكن هناك فرح. نمشي على الطريق. على جانب الطريق نحن مدعويين للقاء الآخر. الله ليس في آخر الطريق إنّه على الطريق، إنّه الطريق. نرى الله بشكل دائم وأحياناً دون أن نخطّط. ظهر يسوع على التلاميذ مع جراحاته، صار قريباً من آلامنا وأوجاعنا لذا لم نعرفه. نلتقي يسوع ببساطة، في كل شخص نلتقيه نرى معالم آثار آلام يسوع. ما الّذي يمنعنا من العمل ؟ هل الخوف من عدم قدرتنا ؟ يقول غاندي كل ما تفعله سيكون بلا معنى ولكن المهمّ أن تعمله.

Scroll to Top