الأباتي وسام معلوف
إنّ المسيح عبّر وبكلمات مدوّية وبليغة، عن الهدف الجوهريّ والأساسيّ الذي من أجله تجسّد وصار إنسانًا مثلنا، فقال وبوضوح تامّ : «جئت لتكون لهم الحياة ولتكون وافرة»[1]. من هنا، إنّ إرتباطنا بالمسيح لا يمكن إلّا وأن يحمل وفاءً من قبلنا لرسالته، والتزامًا بتعاليمه ورغبةً عميقة بالسير معه ووراءه نحو الهدف الأوّل والأساسي، أي عيش الحياة بملئها وبوفرة، كطريق نحو الآب السماوي بقوّة الروح القدس. نرى في عالم اليوم، مأساة الفقر والإنتهاك لأبسط حقوق وكرامة الإنسان وبـخاصّة الفقراء الـمـتـروكيـن، والـمهمّـشيـن والـمهمليـن. لذلك أمام هذا الواقع الصعب كان لا بدّ للكنيسة إلّا وأن تصغي لصوت الروح الذي يدفعها على وقع كلمات المسيح، ليذكّرها برسالتها الأساسيّة الكامنة بالنضال من أجل الحقّ والسلام ورفع الظلم وبثّ الحياة حيث لا حياة. فأطلقت الكنيسة صرختها من خلال إعلان قداسة البابا فرنسيس هذه السنة، سنة « يوبـيل الرحـمة الـمقدّسة » لتـكون مناسبة للتأمّل فـي رحـمة الله وحبّه اللامـحدود لكلّ إنسان. هذه السنة تمثّل لنا دعوةً دائمة ومستمرّة للدخول في سرّ رحمة الآب لنا، لنتمكّن بدورنا من أن نصبح شهودًا له ولحبّه المجّاني ورحمته التي تطال كلّ إنسان وكلّ الإنسان.
«إنّـه الوقت الـملائـم لتـغيـيـر الـحياة، إنّـه الوقت لـتـغـييـر القلب، فأمام الشرّ الـمرتكب، وجرائـم خطيـرة أيضًا، إنّه وقت الإصـغاء لـبكاء الأشـخاص الأبريـاء الـمسلوبـيـن الحقوق، الكرامة، الـمشاعر وحتّـى الـحياة نـفسها»[2]. فهذه صرخة قداسة البابا فرنسيس التـي من خلالـها يدعو الـكنيسة لتـكون شاهدةً حقيقيـّة على رحـمة الله الآب من خلال إعلانـهـا وعيشهـا لـكلمة الله. فبحسب قوله « قد حان الوقت لإعلان الإنـجـيل بطريقةٍ جديدةٍ، مرحلةٍ جديدةٍ من البشارة، إلـتزامٍ جديدٍ لـجميع الـمسيـحيّـيـن ليشهدوا لإيـمـانـهم بـحمـاسٍ وقناعة»[3]. فالدعامة الـتـي ترتكز عليـها الكنيسة هي الرحـمة، ورسالتـها هي إعلان رحـمة الله، القلب النابض للإنـجيل والذي من خلاله تبـلغ عقل وقـلب كلّ إنسان. فرحـمة الله هي من أسـمـى علامات حبّ الله وحنانه تـجاهـنا نـحن الـبشر، فنـحـن مسؤولون جـميعًا عن نـقل هذه الرحـمة، وذلك لأنّنا قد تلقيّناها من مصدر الرحمة الأوحد أي الآب من خلال ابنه يسوع بقوّة الروح القدس. إنّ الرحمة مرتبطةٌ بكلّ شخصٍ منّا، وكـمـا هو رحومٌ هـكذا نـحن أيضًا مدعوّون إلـى أن نكون رحـمـاء مع بعضنا البعض، ولأنّنا قد رُحِـمـنا أوّلًا فـنـحن مدعوّون لنعيش ونـجسّد رَحْـمَـتَـنا فعليًّا من خلال خبراتنا اليوميّة وبطريقة حسيّة تطال القريب والبعيد. إنّ الرحمة التي نعيشها تمثّل النضال الفعليّ، والمحرّك الأساسيّ لذوي الإرادات الطيّبة فتدفعهم وتحثّهم للدخول في روحانيّة الإنـجيل حيث الفقراء هـم «الـمفضّلون» لـدى الرحـمة الإلـهيّة.
فـهل ما يدعونا إليه قداسة البابا هو أمرٌ من الـمستحيل تـحقيـقه؟ كـيف يـمـكننا عـمليًّـا ترجـمة الرحـمة وعـيشها في عصرنا هذا ؟ فهل هناك من مثل حيّ عاش قبـلنا بحسب تلك الروحانيّة ؟
الرّحمة نعمة الحياة
عبـر تاريخ الكنيسة برز الكثيـر من القدّيسيـن والأبطال الحاضرين بيننا بطريقة سريّة، من خلال اتحادهم بسيّد الحياة. هؤلاء قد تألّقوا بـجوابـهم على حبّ الله الكبيـر، فكانوا النموذج الحيّ الذي يشجّع ويحثّ كلّ إنسان لينفتح على القداسة الموجودة فيه أصلًا بكونه هيكلًا للروح القدس فيظهرها ويحقّقها ويصبح على مثال المسيح أيقونةً لرحمة الآب تطال كلّ إنسان وتحضنه. كما وأنّ هناك جـماعات كثيـرة أخذت على عاتقها أن تعكس من خلال رسالتها حضور الله ورحـمته بإعتمادها روحانيّة ونـمط عيش يتناسب مع حاجات الـمجتمع، جامعةً بيـن الصلاة والـخدمة والرسالة مركّزةً قبل كلّ شيء على العلاقة الشخصيّة بالـمسيح والتـي منه تستمدّ كلّ قوّتـها وطاقتها. هذه الجماعات تصغي بالعمق لإلـهامات الروح القدس فـي إتـخاذ قراراتـها، وهي بسعي دائم لأن تتشبّه بهؤلاء الأبطال والـجماعات الـتـي سبقتها من خلال بذلهم وتضحياتهم، فيبنون يدًا بيد، بقوّة الروح القدس من خلال إتّباع المسيح، الملكوت ويصبحون علامةً حسيّة على حضوره في عالمنا، ويبشّرون العالم أجمع بأنّ ملكوت الله قد وافاهم.
وبالـمقابل نرى قداسة البابا الذي يـحبّ أبناءه ويسهر عليهم ويريد دومًا الأفضل لـهم ولـمسيرتـهم الرّوحية، يـحثّ ويشـجّع الـجماعات والرهبانيات للمحافظة على هويّتها والتجذّر فيها أكثر، ويترجّى بالـتجديد الكنسيّ على كافة الأصعدة، والذي لا يـمكن إرجاؤه، فبحسب قوله «الرعيّة ليست بنيةً عفى عليها الزمن، ولأنّـها بالطبع تتّسم بـمرونةٍ كبيـرة، يـمكنها أن تتّخذ أشكالًا مـختلفة للغاية، تتطلّب من الراعي ومن الـجــمـاعة طواعيّةً وإبداعًا إرساليًّا. ولئن لـم تكن بالتأكيد الـمؤسّسة الوحيدة الـمبشّرة بالإنـجيل، لكنّها إذا استطاعت أن تُصلح ذاتـها وتتكيّف على الدوام، تستمرّ فـي أن تكون الكنيسة ذاتـها الـتـي تعيش وسط منازل أبنائها وبناتـها، فالرعيّة هـي حضور كنسيّ فـي الـمنطقة، مكان إصغاءٍ للكلمة، لـنموّ الـحياة الـمسيحيّة، للحوار، للبشارة، للمحبّة، للعبادة والاحتفال»[4]. إذًا الكنيسة لـها دور كبيـر فـي عيش الرّحـمة وتجسيدها قولًا وعملًا، لأنّنا مؤتمنون على نقل رحمة الآب التي غيّرت حياتنا نحو الأفضل، وهذا ما عبـّر عنه قداسة البابا بأنّه «أمر ضروريّ بالنسبة للكنيسة ومصداقيّة إعلانـها أن تعيش الرحـمـة، وتكون فـي طليعة الشاهدين لـها. وينبغي أن يعكس خطابـها وأعمالـها الرحـمة كي تدخل فـي قلوب الأشخاص وتـحثّهم على إعادة اكتشاف طريق العودة إلـى الآب»[5]. وبذلك تكون الكنيسة أمينةً ووفيّة لدعوة المسيح لها بأن تكون ملح الأرض ونور العالم، ومن خلال أعمالها يمجّد الناس أبانا السماوي لأنّهم يرون في الكنيسة وأبنائها وجه الرحمة الإلهيّة، فيلمسون وبحقّ حضور الله وعمله في كنيسته من خلال بذل أبنائها وتفانيهم في خدمتهم وسعيهم الحثيث لتحقيق إرادة الله، والتي تدفعهم إلى أن يرحموا كلّ الناس وصولًا لمحبّة الأعداء، وعندها تكون الرحمة قد بلغت أعمق تجلّيّاتها النابعة من قلب الآب. “الـحصاد كثـيـر والفـعلة قليلون”[6]، والـمطلوب مـنّا الـمزيد من الإنفتاح والـحبّ والإصغاء والتفـهّم، والـمزيد من الشهادة، فنحن كنيسة اليوم، نحن أعمدتـها وحجارتـها النابضة بالـحياة، فلا نخف مـن أن نعطي كلّ ما عندنا لبنيان الكنيسة وإزدهارها.
مرتكز الرحمة: حبّ الآب
إنّنا جميعًا مدعوّون لنرفع صرخة قداسة الـبابا هذه فـي قلوبنا، ونسعى لعيشها فنكون شهودًا حقيقـيّيـن للكلمة. نـرى بأنّ العديد من الأشخاص والـجماعات الرهبانيّة وغيرهم يسعون إلـى الإجابة على تـلك الصرخة، والتي هي قبل كلّ شيء دعوة داخليّة كامنة في عمق أعماق كلّ واحد منّا. في هذا الإطار سنتكلّم عن «الجـمـاعة الرهبانيّة المارونيّة رسالـة حياة » الـتـي تأسّست بفعل الروح القدس الذي وهبها روحانيّتها والكاريزما الخاصّة، والتي من خلالها تسعى جاهدةً لتعيش وتعكس سرّ رحمة الآب المتجسّدة بإبنه يسوع. من هنا، تسعى الجماعة أن تنقل بشارة المسيح الجديدة وهي بأنّ للإنسان قـيـمـة بـحـدّ ذاتـه لأنّـه مـخلوق عـلـى صورة الله، وهـو مدعوّ إلـى الـحبّ والـحياة، وأنّ لا شيء قادر عـلى تـغـييـر هذه الـحقيقة الجوهريّة والكيانيّة. هذه الحقيقية تتخطّى وتتجاوز كلّ العوائق الدينيّة والإجتماعيّة والسياسيّة بكونها تنبع من قلب الآب – نبع الرحمة- لتطال أعماق الإنسان فتروي عطشه إلى الحبّ والحياة. إنّ جماعة رسالة حياة وجواباً منها على حبّ الله المجانيّ وحنانه ورحـمته وعنايته فـي تدبـيـر كـلّ حاجاتـها، تـعـهّدت عـيش جـذريّـة الإنـجيل وتسعى جاهدة بأن تبقى وفيّةً لحبّ الله، وبأن تحمل كلـمته ومـحبّتـه وتـبشّـر بـها وتـكون « رسالة حـياة» من خـلال نـقل هذا الـحبّ إلـى كلّ إنسان تـلتـقيـه، زارعةً فـي قـلبـه الـحياة والـفرح والأمـل والرجاء. فهـي فـي خـدمة كلّ إنسان وكلّ الإنسان.
تنطلق الـجـمـاعة من إيـمـانـهـا الـكـبيـر بدعوة الله لـها وبرسالـتـها الـفريـدة والـممـيّـزة فـي قـلب الـعالـم، متّكلةً بذلك علـى الـعناية الإلـهيّة الـتـي صنـعت الآيات والـعجائب والـتـي ساهـمت فـي انتشارها. إنّ جـمـاعـة رسالة حياة أصبحت أوّل جماعة رهبانيّـة شرقيّـة مارونيّـة ذات حقّ بطريركيّ، مختلطة، وهـي تضّم آبـاء وإخوة وأخوات كرّسوا حياتـهم لله فـي الـجماعة. كلّ ذلك بفضل إنفتاحها على رحمة الآب الذي يظلّلها من خلال اتّباع المسيح بقوّة الروح القدس. إنّ تجسيد رحمة الآب وحنانه هو قضيّة أساسيّة تعني كلّ شخص من موقعه، لذلك تعتمد في رسالتها على العديد من المـتـطوّعـيـن والمـتطوّعات من أفراد وشبيبة وسيّدات ملتـزمات وعائلات، يعيشون خبرة الرحمة والرسالة في الـجمـاعة انطلاقًا من روحانيّـتـهـا وتـحقيقًـا لرسالـتـهـا : رسالـة حياة.
إنّ المرتكزات الأساسيّة لعمل الرحمة تنبع من اللقاء الشخصيّ بالآب من خلال إتّباع المسيح بقوّة الروح القدس، ولذلك فإنّ أيّ عمل للرحمة لا يمكن إلّا وأن يكون أصيلًا أي نابعًا من رحمة الآب نفسها. لذلك، فإنّ بُعد الصلاة الفرديّة والجماعيّة، يتجسّد من خلال الأوقات المخصّصة للتأمّل بكلمة الحياة في الكتاب المقدّس، وللإصغاء لحوار الله معنا، بكونه حيّ وحاضر وفاعل في حياتنا الشخصيّة وفي مسيرة الجماعة. إنّ الرحمة تستمرّ بقدر ما نبقى في تواصل حيّ مع الله الآب الذي لا يكفّ عن التعبير عن رحمته بشتّى الطرق. لذلك إنّ الرحمة تتّخذ قوّتها من خلال الوعي لعمل الله معنا، ولتدبيره واهتمامه بحاجاتنا وعلى كافّة الأصعدة وعنايته الأبويّة بنا.كلّ هذه الأوقات تشكّل أساسًا جوهريًّا للتأمّل بنبع ومصدر الرحمة الأوّل والأوحد، فننطلق نحو ذواتنا والآخرين بتفهّم ولطف وقبول إيجابيّ. خارجًا عن ارتباطنا الجوهريّ واليوميّ هذا بغذائنا الروحيّ والذي منبعه الله يصعب علينا جدًّا عيش الرحمة الحقيقيّة خاصّةً عندما تشتّد كلفة عيشها وتطبيقها على أرض الواقع.
إنّ المسيح قد رافق تلاميذه وعلّمهم وواكبهم لينموا ويتعرّفوا على منطقه الجديد وتعاليمه التي تخاطب العقل وتغذّي الروح وتجعل القلب ينفتح على سرّ حبّ الآب، لإستقبال رحمته والعمل وفقًا لمشيئته. إرتكزت تعاليم المسيح على جعل التلاميذ يفهمون وبطريقةٍ جديدة، كلمة الله، وقد سعى لتغيير نظرتهم وتطويرها وجعلها متناغمة مع نظرة الآب نفسها تجاه كلّ إنسان. نرى هذا التعليم بشكل واضح من خلال عدّة مشاهد إنجيليّة انفرد فيها يسوع بتلاميذه ليعلّمهم ويفسّر لهم أمثاله ويشرح لهم « منطلقًا من موسى والأنبياء جميعًا، ما ورد عنه في جميع الكتب»[7]. من هنا تستمدّ التنشئة أهميّتها في جماعتنا، فهي تشكّل الضمانة لإستمراريّة إستقاء معنى وروح وهدف كلّ ما نفكّر به ونعمله من الله الرحوم. هذه التنشئة المستدامة الموزّعة على الصعيدين الروحيّ والإنسانيّ، والتي يتنشّأ عليها الأخ(ت) منذ دخوله إلى الجماعة، تجعل وصايا وتعاليم يسوع حيّةً ومعاشة عمليًّا، فلا تبقى مجرّد قواعد وأفكار نظريّة بعيدة عن الواقع ولا تطال عمق الحياة التي يدعونا لها المسيح. إنّ التنشئة، كما ذكرنا، هي الطريق الذي على كلّ مكرّس(ة) أن يسلكه مع المسيح، إذ من خلاله سيكتشف كنوز محبّة الله ورحمته لكلّ البشر.
الصلاة كما والتنشئة المستدامة تشكّلان القاعدة الضروريّة للإنتقال نحو أعمال الرحمة من خلال الرسالة والخدمة. وإلّا لفرغت هاتان الأخيرتان من معناهما الحقيقيّ وهدفهما الأساسيّ، وهو أن نصبح نحن من كرّسنا ذواتنا لله، نحبّ ونعطي تمامًا كما علّمنا المسيح، أي ببذل تامّ لذواتنا وبشكل مجانيّ. إنّ ما نختبره من خلال اللقاء الشخصيّ بالمسيح وما نتعلّمه من خلال التنشئة وما كشفه الله لنا عن ذاته وعن رحمته، بات من التلقائيّ أن نترجمه ونجسّده، بأعمالٍ وأفعالٍ تعكس محبّته ورحمته لكلّ شخص يضعه الله على طريقنا. وبات من الضروريّ أن نتشارك بهذا الحبّ مع غيرنا. من هنا ومنذ انطلاقها، توجّهت جماعتنا لتلبّي حاجة الأفقر بين الفقراء على قدر إمكانيّاتها، وتصغي لآلامهم وأفراحهم ومعاناتهم وتشاركهم إيّاها، وكلّنا إيمان أنّنا بهذه الطريقة نعبّر بقوّة، ونجسّد الحبّ الذي زرعه الله في قلوبنا. في كلّ مرّة ننحني على ضعف أو جروحات أحد إخوتنا الفقراء والمتروكين ونسعى لنكون له علامة رجاءٍ وفرح معيّنة، نشعر بداخلنا أنّنا قمنا بتلبية نداء الرحمة الذي، يتطلّبه منّا سخاء محبّة الله الفائقة الوصف علينا. وفي كلّ مرّة نمسح دمعة متألّم، تكون رحمة الله الدافئة والحنونة تفيض في محدوديّتنا وتجاوب على رغباتنا العميقة بأن نحبّ ونرأف ونسند كلّ من هو بحاجة.
نختبر خلال رسالتنا تجاه كلّ إنسان وكلّ الإنسان كما هو شعار خدمتنا، بأنّ حاجة الأشخاص تتنوّع، والمشترك بين هذه الحاجات، هو العطش الروحيّ لإيجاد المعنى والقيمة والسلام والفرح الحقيقيّ بالحياة. من هنا، كان لا بدّ لنا من أن نكون على أهبّة الإستعداد لنكون خدّامًا لحاجات الروح والنفس كما حاجات الجسد. فعطش الشبيبة تحديدًا في عالمنا اليوم، إلى الحقيقة والحريّة والسلام لا يشبعه إلّا الغذاء الذي يوفّره الله لهم. أليس يسوع هو من قال، متوجّها بحديثه إلى المرأة السامريّة : « الذي يشرب من الماء الذي أعطيه أنا إيّاه لن يعطش أبدًا »[8] ؟ علم يسوع بأنّ حاجة الإنسان الجوهريّة هي للحبّ والرحمة مثل الطعام والشراب، وانطلاقًا من هذه القاعدة الإنجيليّة الواضحة، بات من أسمى معاني الرحمة هي تلك التي تغذّي الروح. لذلك فإنّ بشارتنا بالكلمة وسعينا لإيصالها لجميع الناس وخاصّة الشبيبة المتعطّشة إليها، تستمدّ معانيها من رحمة الله ومحبته لكلّ البشر.
تذوّق رحمة الآب أساسٌ للإنطلاق في خدمة الآخرين
إنّ من يختبر رحمة الله التي تطال أعماقه وتحرّره وتطلقه فرِحًا ومتناغِمًا مع ذاته، لا يمكن إلّا وأن ينطلق نحو الآخر ليعيش معه خبرة الرحمة. إنّ الرحمة أشبه بالنار التي جاء يسوع على الأرض ليلقيها ولا يزال يتمنّى أن تكون قد اشتعلت، هذه النار تلتهم الحقد واليأس وتزيل كلّ ما يعيق إنفتاح الإنسان على أخيه الإنسان وتدفعه ليبذل ذاته في سبيله. يعلّمنا المسيح بأنّه «ما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه»[9]، فالحبّ الحقيقيّ يثمر حياة ويعبّر عن ذاته بالرحمة التي تكتمل بتقدمة الذات، من أجل الآخر، بحريّةٍ تامّة وبشكل مجّانيّ. هذا الأمر لا يتحقّق إلّا بعد مسيرةٍ طويلة ومثابرةٍ يوميّة في السعي الحثيث إلى التشبّه بالمسيح والسير وراءه على طريق تقدمة الذات في سبيل الآخرين. لذلك تؤمن الجماعة بأنّ عمل الرحمة يبدأ بالمساعدة الماديّة ولكنّه لا يتوقّف قبل أن يطال أعماق الإنسان وحاجاته الكيانيّة وعطشه العميق للحبّ، حتّى ولو تطلّب ذلك بذلًا كلّيًّا للذات حتّى الإستشهاد. إنّ خدمة الكلمة هي عمل رحمة بإمتياز وتسعى الجماعة للقيام به من خلال الكاريزما والروحانيّة الخاصّتين بها.
وفي هذا الإطار، وجوابًا على محبّة الله الوافرة لنا، نسعى بدورنا أن نعكس أسمى معاني الرحمة وذلك من خلال إرواء عـطش الـكثيرين إلى كلمة الحياة ومن خلال الـمرافقات الـقريبة والإصغاء للشبيبة، نبض المجتمع، وفهمهم. فنكون الـسند والتـعزية لـهم فـي فرحـهـم وآلامـهم، فـي قوّتـهم وضعفـهم، «معنيّين بجراحهم، كما طلب البابا فرنسيس، محاولين مداواتـهـا بزيت الـعزاء وتضميدها بالرحـمة ومعالـجـتها بالـعناية»[10]. إنّ هذه «الرحمة الروحيّة» التي تسدّ جوع الإنسان العميق المتلهّف لمعرفة كلمة الله وتعاليمه وإرادته في حياته، تساعده لتبنّي خيارات حياتية وتجعله رسول حبٍّ وسلام، فيصبح بدوره شاهدًا حيًّا لعمق الرحمة، ينقلها لمن قست عليهم ظروف الحياة.
وإنطلاقًا من دعوة المسيح للحبّ والإنفتاح على الآخر، وللسعي الجدّي لتجسيد محبّتنا للآخرين بأعمال الرحمة قولًا وعملًا، لا يمكن لهذه الأعمال إلّا وأن تطال الآخر في عمق حاجته. المسيح يدفعنا لنلتقي مع الآخر بعمق، ونبني معه علاقة قريبة ومعرفة حقيقيّة لكلّ ما يحتاجه وما يحلم به وما يسعى لتحقيقه، فنصغي لآلامه وصعوباته. هذه هي الخلفيّة الروحيّة، لإنطلاقنا إلـى الأحياء الـفقيرة والـنائية، من خلال رسالة الشوارع وحـملات الوحدة والـتضامن والرسالات في القرى. نبحث عن الـعائلات الـفقيرة وعن كلّ من يحتاج إلى عناية واهتمام، ساعين إلـى تأميـن أبسط حاجتهم على قدر إمكانيّتنا. وبهذه المبادرة نؤكّد مع قداسة البابا فرنسيس أنّ الرحـمة ليست مـجرّد كلمات، إنّـما لابدّ وأن تتـرجم بأفعال مـحبّة عمليّة على مثال الخطوة التي قامت بها السفارة البابويّة فـي عمّان، بالتعاون مع جـمعيّة كاريتاس الـخيـريّة، ومطرانيّة اللاتيـن فـي عمان، إذ عمدت إلـى افتتاح حديقة جديدة تبرّع بـها قداسة البابا فرنسيس شخصيًّا، وأطلق عليها «حديقة الرحـمة»، فـي مركز سيّدة السلام، بـهدف إعادة الكرامة الإنسانيّة للمهاجر والنازح العراقيّ الـمقيم فـي الأردن، وكذلك لتقديـم مساعدة لبعض العائلات المحتاجة من الـمواطنـين.
كلّ ما فعلتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي عملتموه
وبالسياق عينه، لطالما عبّر المسيح عن حبّه الكبير للصغار والضعفاء، فكان دومًا حاضرًا لبلسمة جراح الموجوعين وشفاء المرضى. وعلى مثاله وانطلاقًا من تعاليمه، فهمنا أنّ خدمة الـمرضى تصبّ في صلب رسالتنا التي يطلبها منّا، تحديدًا أولئك الذين يتحضّرون للإنتقال إلى حضن الآب ويحتاجون إلى مرافقة وعناية خاصّة على الصعيد الروحيّ والإنسانيّ. ولأنّنا نؤمن بأنّ عمل الرحمة يبدأ منذ لحظة الولادة في هذه الحياة ويستمرّ إلى لحظة اللقاء وجهًا لوجه مع من أحبّنا وخلقنا على صورته ومثاله، خصّصنا جناحًا مجّانيًّا للـعنايـة الـملـطّفة، على اسم غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في المستشفى التابع لدير العناية الإلهيّة في منطقة أدما، ورسالته استقبال الـمرضى الـفقراء فـي آخر فتـرة مـن حـياتـهم. خطوتنا هذه التقت مع موقف قداسة البابا فرنسيس الذي عبّر عن حبّه أيضًا للـمرضى والـموجوعيـن والـمتألّمين وذوي الاحتياجات الـخاصّة، فأقام قدّاسًا احتفالـيًّا فـي الفاتيكان خاصًّا لـهم، مشيرًا فـي عظته إلى أنّ «الطريقة التـي نعيش فيها الـمرض والإعاقة تكوّن مؤشّرًا للمحبّة التـي نـحن مستعدّون لتقدميها للآخرين، فإنّه باستطاعتنا أن نكون أقوياء من خلال الضعف، وإنّ العالـم لا يتحسّن إلّا عندما ينمو التضامن بيـن البشر والقبول الـمتبادل والإحتـرام وبـخاصّة لدى الـمتألّميـن والـموجوعيـن»[11]. وبكلمته هذه يعود بنا قداسة البابا فرنسيس إلى موقف المسيح ودعوته لنا بأن نحبّ حتى البذل، واثقين بأنّ ملكوته، ملكوت الرحمة هو فيما بيننا.
ولأنّ دعوة المسيح لنا هي بأن نسمح للـحياة بأن تنتشر وتزهر، خاصّةً في الأماكن التي تحتاج إلى زرع تيّارٍ متجدّدٍ من الفرح والسلام والحلم بمستقبلٍ أفضل، عـمدت الـجماعة عـلى زرع الـحياة أيضًـا حـيث الـظلـم واليأس وفقدان أي أمل بغدٍ أفضل، أي فـي السجون. فالإنسان وإن أخطأ فهذا لا يمسّ كرامته النابعة من حبّ الله له. إنّ الإنسان قادر أن يتغيّر إن قدّمنا له فرصة النموّ من خلال الرحمة التي تنظر إلى عمقه وترى فيه صورة الله الصافية. إنّ المسيح يعلّمنا بأن نقبل قبولًا تامًّا كلّ خاطئ ونساعده على التحرّر من خطئه. لذلك كلّنا معنيّون بأن نضيء شمعةً في الظلمة ومسؤوليّتنا المشتركة تكمن في السعي لنقل نور المسيح ودفء عينيه لكلّ من ضلّ الطريق السليم بسبب جرحٍ بليغ في الحبّ. إنّ المسيح يدفع كلاً منّا، وعلى اختلاف مواقعنا وأدوارنا، للتحرّك والنضال، ويعبّر لنا بوضوح أنّه مطلوب منّا خطوة بإتّجاه نشر ثقافة الرحمة من خلال عيشها وتجسيدها بخبرات عمليّة تسمح للتلاقي والحوار وقبول الآخر والإنفتاح عليه بأن ينتصروا على الشرّ والعنف والتباعد. فالـحبّ هو الذي يعطي الـمعنـى للحياة وهو الدافع للتقدّم والتغييـر. الحبّ يعبـّر عنه بأفعالٍ بسيطة، فنرى البابا فرنسيس يوم خـميس الغسل فـي 2 أبريل 2015، يغسل أرجل 12 سيّدة ورجل بسجن روما لـيقول لـهم كم أنّهم محبوبين ومقبولين مثلما هم، وبأنّ رحمة الله أكبر من كلّ ضعفٍ وخطيئة.
خـتامًا مع البابا فرنسيس نقول بأنّ رحـمـة الله هـي مسؤوليّة ملقاة على عاتقنا كلّنا، ورسل الرحـمة سيكونون علامةً لعناية الكنيسة الوالديّة بشعب الله، ليدخل بعمق فـي غنـى السرّ الـجوهريّ للإيـمـان. فكلّ إنسان مـدعو ليـعيش الرحـمـة ويشـهد لـمـحبّة الله، ولـيس فقط الـمكرّسيـن والـمكرّسات. فكـلّ إنسان مدعو إلـى أن يـحبّ الله ويـكون شاهدًا لـه، وهو من موقـعه قادر عـلى تـحقيق دعوته وعيشها. فلا شيء أجـمل من أن نكون رسل رحـمة الله الـتـي لا تـعرف حدودًا ونسعى لنشر ثقافة التلاقي والسلم ونبذ العنف والنضال من أجل الحقّ والحياة.
إنّ الرحمة التي يستقبلها الإنسان أوّلًا من الآب نفسه، تدفعه لينفتح بإتّجاه أخيه الإنسان ويبادر نحوه من دون أيّ تمييز بين لون وعرق ودين، فينمو ويغتني وينطلق نحو عيش ملء الحياة وبوفرة على مثال المسيح المعلّم الأوحد. من هنا، فإنّ عمل الرحمة يحرّر الإنسان من قيوده ويطلقه في عمليّة تواصل عميق مع الآخر فيعيش خبرات صادقة وشفّافة معه على قاعدة الحبّ المجّانيّ النابع من العلاقة الشخصية بالمسيح. لذلك فإنّ سرّ الإنشراح الإنسانيّ الكيانيّ ينبع من القدرة العالية في الإنفتاح على الله لإستقبال رحمته والتفاعل معها بجديّة ومثابرة من خلال الإنفتاح الصادق والشفّاف على الآخر وقبوله كما هو.
إنّ العلاقات الإنسانيّة قد ربطها المسيح وبشكلٍ جوهريّ بسرّ الرحمة الذي يدفعنا نحو ولادات جديدة وآفاق جديدة. لقد بنى المسيح العلاقات الإنسانيّة على قاعدة ذهبيّة، ومن خلالها أعطى خلاصة التوراة والشريعة فشدّد بأن نعامل الآخرين كما نريدهم أن يعاملوننا. وبما أنّنا كلّنا نحتاج أن يرحمنا الآخرون، بمعنى بأن يساهموا في ولادتنا الجديدة ونموّنا وتصالحنا مع ذواتنا، هذا يعني بأنّ دعوتنا الأساسيّة تكمن في أن نساهم في ولادة الآخرين ونموّهم الشخصيّ من خلال الرحمة.
إن كنّا نريد حقًّا وبصدق أن ندخل في علاقةٍ عميقةٍ مع الآب فهذا يرتّب علينا أن نتكلّم لغته. إنّ لغة الآب هي الحبّ! فمنه تنبع الرحمة التي تثمر حياة. فالآب لا يكفّ يلدنا من جديد وعلى مرّ اللحظات. من هنا، فإنّ الرحمة تدخلنا في سرّ الآب لنسير مع المسيح تجاهه، فنفهم يومًا بعد يوم عمق هذا السرّ الذي لا يكف يدعونا دائمًا إلى عيش ملء الحياة. فنفهم كيف أنّ الرحمة بسرّها الذي يتخطّانا تمثّل في ما تمثّله، الطريق الأساسيّ لشفاء الموجوع ليكتشف من جديد قيمته وكرامته النابعتين من حبّ الآب المجّانيّ والمحرّر له. لذلك فإنّ دعوتنا بأن نكون رسل الرحمة في عالم اليوم تتطلّب أن يكون حبّنا للآخر المختلف باللون والعرق والدين حبًّا أخويّا مجّانيًّا صادقًا يخترق العوائق الوهميّة، فنلتقي معه على الجوهريّ والأساسيّ والقيمة المطلقة الوحيدة أي الإنسان المحبوب من قبل الله حبًّا مجانيًّا لأبعد حدود.
والـيوم الـدعوة موجـّهة إلـيك، فـهل تـقبل بأن تـكون رسول حـبّ الله ورحـمته؟
الأب وسام معلوف
المؤسس والأب العام
للجماعة الرهبانيّة المارونيّة رسالة حياة
[1] – يوحنا 10 / 10
[2] – مرسوم الدعوة إلى اليوبيل الإستثنائيّ “يوبيل الرحمة المقدسة”، البابا فرنسيس، 11 نيسان 2015، عشية عيد الرحمة الإلهية، روما.
[3] – مرسوم الدعوة إلى اليوبيل الإستثنائيّ “يوبيل الرحمة المقدسة”، البابا فرنسيس، 11 نيسان 2015، عشية عيد الرحمة الإلهية، روما.
[4]– العظة التي ألقاها البابا فرنسيس نهار الإثنين في 1 نيسان 2013 في أثناء التبشير الملائكيّ في الفاتيكان.
[5]– مرسوم الدعوة إلى اليوبيل الإستثنائيّ “يوبيل الرحمة المقدسة”، البابا فرنسيس، 11 نيسان 2015، عشية عيد الرحمة الإلهية، روما.
[6] – لوقا 10 / 2.
[7]– لوقا 24 / 27
[8]– يوحنا 4 / 10
[9]– يوحنا 15 / 13
[10]– مرسوم الدعوة إلى اليوبيل الإستثنائيّ “يوبيل الرحمة المقدسة”، البابا فرنسيس، 11 نيسان 2015، عشية عيد الرحمة الإلهية، روما.
[11]– وعظة البابا فرنسيس في الفاتيكان، 13/6/2016.