Almanara Magazine

إرتباط الرحمة بالحياة المكرّسة

الأب معين سابا م.ل.

مقدّمة

إذا كانت الحياة المكرّسة هي نعمة من الله للكنيسة والعالم لعيش وجعل صفات يسوع –الفقير والمطيع والعفيف- مرئيّة بشكل جلي للعالم، لتدعو الناس إلى الملكوت وإذا كان “يسوع المسيح هو وجه رحمة الآب”[1] لأن الآب رحمةٌ هو (خروج 34: 6)، فإنّ المكرّس، في جوهر وجوده مدعوٌ كي يكون رحوماً. إذاً الرحمة تشكّل جزءًا لا يتجزّأ ليس فقط من رسالة المكرّس (راجع أعطيكم رعاة، عدد 4) إنّما أيضاً من مميّزات شخصيّته “إنجيلُ يسوعَ المسيح إنجيلُ الرحّمة –تقول الأم ماري أنطوانيت-. من أراد أن يتبع يسوع حقّاً، ما عليه إلاّ أن يتصفّح الإنجيل ويجعلَه دستور حياة. وإذا كان التتلمذ في مدرسة يسوع الرّحوم يلزمُ كلّ مسيحيّ، فهو يلزم بالأخصّ من آلت على نفسها أن تعيشَ المشورات الإنجيليّة كي تُضحي بدورها إنجيلاً حيّاً وعلامة منظورة لإلهها غير المنظور”[2].

فاتباع يسوع والعيش معه، والنذور الرهبانيّة، والحياة الجماعيّة، والحياة الرسوليّة كلّها قنوات تعبر من خلالها رحمةُ الله للمدعوين وعبرهم إلى من أرسلوا لأجلهم.

1. إتباعُ يسوع، رحمة مُفاضة: يقول البابا فرنسيس: “إن مريم، ولأنها قبِلَت البشرى السّارة التي بشرها بها الملاك جبرائيل، تتغنّى في نشيدها بشكل نبويّ بالرّحمة التي اختارها الله بها. وهكذا أصبحَت عذراءُ النّاصرة، خطّيبةُ يوسف، أيقونةً تامة للكنيسة التي تُبشّرُ، لأنّها كانَت، وستظلّ دائمًا، مُبَشَّرةً بفعلِ الرّوح القدس، الذي أخصب حشاها البتولي” (رسالة الصوم 2016، عدد 1). على مثال مريم، إنّ دعوتنا هي ثمرة رحمة الآب بابنه يسوع وبقوّة الروح القدس. نظرة الحبّ التي طبعت دعوة يسوع للشاب الغني (مر 10/21)، تختصر موقف يسوع من كلّ المدعويِّين في العالم وعلى امتداد كلّ تاريخ الكنيسة. فالقدّيس بولس، أوّل المدعويِّين من خارج الجماعة الكنسيّة الأولى، يؤكّد لنا أنّ الله هو من اختاره، ليس فقط عن غير استحقاق، بل حتى من دون علمه “ولكِن لَمَّا حَسُنَ لدى اللهِ الَّذي أَفرَدَني، مُذ كُنتُ في بَطْنِ أُمِّي، ودَعاني بنِعمَتِه، أَن يَكشِفَ لِيَ ابنَه لأُبَشِّرَ بِه” (غلا 1/15-16). فها هو يخاطب طيموتاوس “ابنه الحبيب” مؤكّدًا له هذه الحقيقة: “لِذلِك أُنَبِّهُكَ على أَن تُذَكِّيَ هِبَةَ اللهِ الَّتي فِيكَ بِوَضْعِ يَدَيَّ. فإِنَّ اللهَ لم يُعطِنا رُوحَ الخَوف، بل رُوحَ القُوَّةِ والمَحبَّةِ والفِطنَة. فلا تَستَحْيِ بِالشَّهادة لِرَبِّنا ولا تَستَحْيِ بي أَنا سَجينُه، بل شارِكنْي في المَشَقَّاتِ في سَبيلِ البِشارة، وأَنتَ مُتَّكِلٌ على قُدرَةِ اللهِ الَّذي خَلَّصَنا ودَعانا دَعوَةً مُقَدَّسة، لا بالنَّظَرِ إِلى أَعمالِنا، بل وَفْقًا لِسابِقِ تَدْبيرِه والنِّعمَةِ الَّتي وُهِبَت لَنا في المسيحِ يسوعَ مُنْذُ الأَزَل، وكُشِفَ عنها الآنَ بِظهورِ مُخَلِّصِنا يسوعَ المسيحِ الَّذي قَضى على المَوت وجَعَلَ الحَياةَ والخُلودَ مُشرِقَينِ بِالبِشارة، وإِنِّي أُقِمتُ لَها داعِيًا ورَسولاً ومُعَلِّمًا” (2طيمو 1/6-11). هذه الدعوة هي فيض رحمة الله ومحبّته لنا: “أَشكُرُ لِلمَسيحِ يسوعَ رَبِّنا الَّذي مَنَحَني القُوَّة أَنَّه عَدَّني ثِقَةً فأَقامَني لِخِدمَتِه، أَنا الَّذي كانَ في ما مَضى مُجَدِّفًا مُضطَهِدًا عنيفًا، ولكِنِّي نِلْتُ الرَّحمَة لأَنِّي كُنتُ أَفعَلُ ذلِكَ بِجَهالَة، إِذ لم أَكُنْ مُؤمِنًا، ففاضَت عَلَيَّ نِعمَةُ رَبِّنا مع الإِيمانِ والمحبَّةِ في المسيحِ يسوع” (1طيمو 1/12-14). أليس إرتداد أغوسطينوس الذي صرخ قبيلَ سماعه صوت الرب “خذ واقرأ، خذ واقرأ”[3]، خير دليل على رحمة الله التي عبّر عنها في صلاته التي استهلّ فيها مسؤوليته الكهنوتيّة الجديدة: “اللهمّ اصغِ إلى صلاتي” واقبل برحمتك طِلبتي التي تشتعلُ حرارتُها حبًّا لأخوتي وخدمة لذاتي. قلبي يقول لك ذلك. هبني أن أُقرِّبَ، ذبيحةً لخدمتك، قلبي ولساني؛ محتاجٌ أنا وفقير، “وأنت غنيُّ لكلِّ من يدعوك” (روم 10/12). إنّك تهتمّ بنا يا من لا همَّ لك. نقِّ شفتيَّ من كلّ وقاحةٍ ونفاقٍ باطنيٍّ وظاهريّ. إجعل كُتُبَكَ لي لذّة نقيّة صافية فلا أجدُ فيها ضلالاً لي وللآخرين. اللهمّ أصغِ إليَّ وارحمني يا نوراً للعميان وقوةً للضعفاء؛ بل يا نوراً للأصحّاء وقوّة للأقوياء مِلْ إلى نفسي وأصغِ إليها إنّها تناديك من الأعماق، إن لم تكن أذناك حاضرتين في الأعماق فإلى أين نذهب؟ ومن ندعو”[4].

2. النذور الرهبانية، رحمةٌ مُضافة: رُبَّ قائلٍ إنّ النذور الرهبانيّة هي خيارٌ شخصيٌّ يقوم به الإنسان إنطلاقاً من رغبة عميقة في قلبه يعبّر من خلالها عن حبّه ليسوع وارتباطه به ارتباطاً جذريًا وجزلاً، إلاّ أنّ الحقيقة اللاهوتية تدلّ، بالرغم من حريّة الإنسان ودوره في اتخاذ الخيار، على أنّ النذور الرهبانيّة أو المشورات الإنجيليّة ما هي إلاً دليلُ رحمةٍ مِنْ قِبَلِ الله لمانحها من أجل خلاص نفسه وخلاص الإنسانيّة. ها إنّ القدّيس أغوسطينوس يقول على سبيل المثال في العفّة: “هب ما تأمر ومُرْ بما تريد. تأمرنا بالعفّة كما قال أحدهم: “ولمّا علمتُ بأنّي لا أكونُ عفيفاً ما لم يهبني الله العفّة وقد كان من الفطنة أن أعلمَ ممّن هي هذه الموهبة” (الحكمة 8/21). العفّة تُعيدُ تركيبتنا، العفّة تقودُنا من جديدٍ إلى الوحدة التي خسرناها يوم تبعثرت قوانا. قلَّ ما يحبُّكَ مَنْ يُشرِكُ في حبِّكَ آخرَ لأنّه لا يحبّك من أجلك. أيّها الحبّ الذي يشتعل دوماً ولا ينطفئ أبداً؛ يا إلهي، أيّتها المحبّة أشعلني! تأمرني بالعفّة: هبني ما تأمر به ومُرْ بما تريد”[5]. البابا يوحنّا بولس الثاني يقول بصريح العبارة إنّ “المشورات الإنجيليّة هي إذن أولاً عطيّة من الثالوث الأقدس. فالحياة المكرّسة تبشّر بما يحقّقه الآب بالابن، في الروح، بحبّه، ولطفه وجماله. ولا غرو “فالحالة الرهبانيّة تُظهِرُ، بوجه خاص، كيف يسمو ملكوت الله على جميع أشياء الأرض وعلى أعظمَ الضرورات شأناً، وتُعلنُ لجميع الناس، مِنْ المسيح المالك سموَّ عظمةِ قدرتِهِ، ومِنْ الروح القدس قدرتَه اللامتناهية التي تعمل في الكنيسة عملاً عجيباً”[6]” (الحياة المكرّسة، عدد 20). هذه النعمُ الثلاث المضافة على نعمة الموهبة الخاصّة، أعطيت لنا لنتجذّر أكثر فأكثر بالمسيح ولنعلنه بصفاء لمن أرسلنا إليهم “بفضلِ إعتناق المشورات الإنجيليّة، تُصبحُ ملامحُ يسوع المميّزة – العفّة والفقر والطاعة – “مرئيّة” وسط العالم، بوجهٍ مثاليِّ ودائم، تلفتُ أنظار المؤمنين وتدعوهم إلى الرجوع إلى سرِّ ملكوتِ الله الذي يعملُ منذ الآن في التاريخ بانتظار أن يكتسب ملءَ حجمه في السماوات” (الحياة المكرّسة، عدد 1).    

3. الحياة الجماعيّة رحمة مفضّلة: المقصود بهذا العنوان هو، أولاً، أنّ الحياة الجماعيّة هي المكان الأفضل لتجلي  الثالوث الأقدس ورحمتِه في تاريخ البشر، وهو ثانياً، أنّ الحياة الجماعيّة هي رحمة أي رَحْمٌ فيه يتكوّن المكرّس ومنه ينطلق إلى الحياة. تمنّي بطرس”حسنٌ لنا، يا معلّم، أن نكون ها هنا” (لو 9/33)، ما هو إلاّ تعبير عن الإنشراح الذي شعرت به جماعة الثلاثة تلاميذ بحضور الثالوث، وبالتالي حضور موس الذي يذكّر بشريعة الرب، وإيليّا بقدرته على العمل في التاريخ. البابا يوحنّا بولس الثاني يقول إنّ: “هدف الحياة الأخويّة أن تعكس هذا السرّ (سرّ الشَرِكة) في عمقه وغناه، وتبتني ذاتها مساحة بشريّة يسكنها الثالوث وتواصل هكذا في التاريخ مواهب الشركة النابعة من الأقانيم الإلهيّة الثلاثة” (الحياة المكرّسة، عدد 41). هذا من جهة، أمّا من جهة ثانية، فإنّ الحياة المكرّسة “قد عزّزت المحبّةَ الأخويّة، وبخاصّة في إطار الحياة المشتركة، وبرهنت بذلك على أنّ المشاركة في الحياة الثالوثيّة بوسعها أن تبدّل العلاقات البشريّة، وتقيم نمطًا جديداً في التضامن. وهي، بهذه الطريقة، تُظهِر للناس جمال المشاركة الأخويّة والطرق العمليّة التي تُفضي إليها” (الحياة الأخويّة، عدد، 41). عملياً، إنّ تأسيس الحياة الأخويّة على بهاء الجمال الإلهي المتجلّي في المحبّة، والوحدة والمسامحة المتبادلة، يجعلها رحمٌ يلدُ مكرّسين لحياة جديدة ونبع يتدفّق في العالم ليروي من ولدوا من رحمِ ماء المعموديّة.     

4. الحياة الرسوليّة رحمة فاضلة: “ما أَجمَلَ على الجِبالِ قَدَمَيِ المُبَشِّر المُخبِرِ بِالسَّلامِ المُبَشِّرِ بِالخَير
المُخبِرِ بِالخَلاص، القائِلِ لِصِهْيون: “قد مَلَكَ إِلهُكِ”” (آشعيا 3/7). إنّها حقًا فضيلة الفضائل أن نحمل البشرى للآخرين لأنّه كما يقول القدّيس بولس: “كَيفَ يَدْعونَ مَن لم يُؤمِنوا بِه؟ وكَيفَ يُؤمِنونَ بِمَن لم يَسمَعوه؟ وكَيفَ يَسْمَعونَه مِن غَير ِمُبَشِّر؟، وكَيفَ يُبَشِّرونَ إِن لم يُرسَلوا؟” (روما 10/14-15). البابا يوحنّا بولس الثاني ثمّن غالياً هذه النعمة الفاضلة لذلك توجّه إلى المكرّسين والمكرّسات قائلاً: “عيشوا ملء تقدمتكم لله، لكي لا يُحرمَ هذا العالم شعاعَ البهاء الإلهي الذي يُنيرُ طريق الوجود البشري. المسيحيون الغائصون في مشاغل هذا العالم وهمومه، والمدعوون، مع ذلك، هم أيضاً إلى القداسة، هم بحاجة إلى أن يجدوا فيكم قلوباً مطهّرة “ترى” الله في الإيمان، ونفوساً طيّعة لعمل الروح القدس، تسير بنشاط وأمانة لموهبة دعوتها ورسالتها” (الحياة المكرّسة، عدد 109).


[1] البابا فرنسيس، مرسوم الدعوة إلى اليوبيل الاستثنائي “يوبيل الرحمة”، 11 نيسان 2015، عدد 1.

[2] الأمّ ماري أنطوانيت الرئيسة العامّة لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، “أريد رحمة لا ذبيحة”. رسالة الرئيسة العامّة الأخت ماري أنطوانيت سعادة للأخوات بنات العائلة المقدّسة المارونيّا، دير العائلة، 3 تشرين الأوّل 2015، ص. 13.

[3]  إعترافات القدّيس أغوسطينوس (نقلها إلى العربيّة الخوري يوحنّا الحلو)، دار المشرق-بيروت، (6) 2000، ص، 165.

[4]  نفس المرجع، ص، 240.

[5] نفس المرجع، 219.

[6] المجمع الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، فقرة 44.

Scroll to Top