الفصل بين العبارتَين أو الجمع بينهما يشكّلان مصدر تفكير لحسن التمييز في مسألة العلاقات التي تختصّ في عصرنا «بعالم التواصل» الذي انحصر في «وسائله الاجتماعيّة» المنحصرة في التقنيّة. هذا ما أفرز اليوم نوعاً جديداً من العلاقات في التواصل الاجتماعي الذي يؤثّر في العلاقات الإنسانيّة. هل تبدّل اللغة المستعملة في عصرنا عبر وسائله الجديدة تغيّر القِيَم وأبعادها؟ هل من الضروري إذا تطوّرت الوسائل أن تضيع المفاهيم؟
«البشر» هو اللحمي Bassar في اليونانيّة Besró في السريانيّة؛ فيه تتربّع الغرائز على عرشها لكي تتحكّم بقوى الإنسان وتديرها على هواها، وبسببها تضعف المحاولات التي ترفع القِيَم الإنسانيّة، وتتجبّر كلّ العوامل التي تخضع الإنسان. وهنا، عندما نتحدّث عن البشريّة فإنّنا نقصد «مجموعة الناس»، «النوع البشري»، أي الحياة في درجتها الأولى، الخليقة المصنوعة في حدّها الأول إذا لم نقل في حدّها الأدنى.
«الإنسان» هو الأغنى في المعنى، Humus في اللاتينيّة ويعني التراب وفيه دلالة على التواضع. يذخر الإنسان بسموّ الفكر، وقوّة الحسّ وغزارة الاختبار حتى يصل إلى درجات عليا من القِيَم حتى الروح؛ إنّه الحضور الخصب الذي تغنيه المعطيات الفكريّة، الحسيّة، المعنويّة، النفسيّة والروحيّة. وهنا، عندما نتحدّث عن «الإنسانيّة» نتخطّى مجموعة الخلق لنرتفع إلى «قمة الخلق» حسب قلب الله؛ وهذا ما يظهره الكتاب في قصة الخلق الأولى حيث رفع الله «الإنسان» إلى قمّة هرم الخلائق ورأى «أنّه حسن جداً».
عندما يتحكّم Bassar = اللحم وغرائزه بحركة البشريّة يطغى الظلم وتكثر المآسي وتنقلب الحياة عذاباً وبؤساً. أما الإنسانيّة الغنية بعواملها القيّمة والبنّاءة فإنّها تذهب بالبشريّة إلى تفوّق الإنسان على الأشياء فيها، وإلى ترفّع الإنسان عن دنيوياتها. لهذا، عندما دعا يسوع إلى «الرحمة» طلب من الإنسان أن يغوص في جوهره الإنساني، وأن يغرف من غناه العميق الذي خلقه الله على صورته ومثاله، ولذلك شدّد بالقول: «كونوا رحماء كما أنّ أباكم السماوي هو رحوم».
لقد جدّد قداسة البابا فرنسيس الدعوة في «سنة الرحمة» وفيها يُعيد النداء إلى «نهضة الإنسان في قواه الجوهريّة» لكي يقود حياته لتغدو البشريّة أكثر إنسانيّة، ولتغدو الإنسانيّة أكثر واقعيّة، فتتغلّب القِيَم على الغرائز وتترتّب الحياة في سلّم توازنها.
يسرّ إدارة مجلة المنارة ان تقدّم في عددَيها الثاني والثالث من هذه السنة موضوع «الرحمة» لتعالجه من جوانب عديدة فتفيه حقّه لكي تغني قرّاءها وتواكب مسيرتهم حتى يمعنوا النظر ويشدّدوا الهمم في أن «يكونوا رحماء كالآب».