Almanara Magazine

الرحمة الإلهيّة في الليتورجيّا

الأب هاني مطر الراهب اللبنانيّ

“رحيمٌ أبوكم، فكونوا مثله رحماء” (لو6: 36). لأنّه الله الكامل والمطلق، هو مُحِبٌّ ورحيم. لا بل هو المحبّة والرحمة في ذاته، ويدعونا إلى أن نتمثَّله ونكونَ على مثاله، كاملين ومحبّين ورحماء!

هذه الدعوة نلتمسها من خلال “الليتورجيّا” والطقوس الكنسيّة، وهذا هو موضوع مقالتي “الرحمة الإلهيّة في الليتورجيّا”.

كيف نفهم “الرحمة الإلهيّة” ونكتشف عمقها وأهميّتها بذاتها أوّلاً، وبعلاقتها مع الليتورجيّا ثانيًا؟

وأين نجد مواضِعَ “الرحمة الإلهيّة” في الليتورجيّا؟

الموضوع كبير وشامل وواسع جدًّا، شيّق وشائك في آن، وهو بالغ الأهمّيّة وله أبعاد كثيرة وعميقة، آمل في أن أوفّق وأدركها وأشرحها بالتفصيل.

1-“الرحمة الإلهيّة”

        الكلام على “الرحمة الإلهيّة”، في هذه الأيّام الصعبة من تاريخ البشريّة، كلام على ضرورة إيجاد حلّ لمعضلات العصر الحاضر، وللمشاكل الكثيرة والصعوبات الحياتيّة اليوميّة الّتي يتخبّط فيها مجتمعنا الانسانيّ على مساحة الكرة الأرضيّة.

        لم يَعُد للإنسان قيمة واعتبار في نظر أخيه الإنسان. صار “شيئًا” وسلعةً وموضوعَ استهلاكٍ تجاريّ. لذا، انبرى قداسة الحبر الأعظم، البابا فرنسيس، ودعا إلى سنة يوبيل استثنائيّة تحت عنوان “الرحمة الإلهيّة”.

        وإن دلَّت كلمة “يوبيل”، في الكتاب المقدّس، على احتفال وعيد، مرّة كلّ خمسين سنة، لتحرير الإنسان، اجتماعيًّا، من قيود العبوديّة والديون، فهي تعني لنا، اليوم، روحيًّا،  تحريرَ المؤمن من خلال توبته وعودته إلى الله-الآب. “فاليوبيل المسيحيّ”، في العمق، هو زمنٌ مسيحانيّ، مملوءٌ بحضور يسوع المسيح في كنيسته، حيث يَختبر المؤمن المعمَّد ويَتذكّر نعمة الربّ الخلاصيّة!

        أن تكون هذه السنة اليوبيليّة الاستثنائيّة مخصّصة للتأمّل بالرحمة الإلهيّة وعيشها، فهذا يعني أنَّ قلبَ الربِّ مفتوحٌ أبدًا لجميع المؤمنين التائبين إليه. فهو لا يتعب من الغفران، بل يتشوّق لعودتنا وينتظر رجوعنا إليه. يريد “عبورنا” من عبوديّة المادّة والخطيئة إلى “أرض ميعادنا”، حيث نعمة حرّيّة أبناء الله!

        “فرحمة الله” ميزة الزمن الخلاصيّ، وعنوان رسالة الربّ يسوع في حياته العلنيّة. “الرحمة الإلهيّة” تسمو على كلّ العلاقات الاجتماعيّة، وهي أرقى من كلّ عدالة. هي تعكس وجه المحبّة. والربّ يسوع هو وجه رحمة الآب ومحبّته: “من رآني فقد رأى الآب” (يو14: 9).

أ-سنة “الرحمة الإلهيّة”

        أعلن قداسة البابا فرنسيس، في الذكرى الثانية لاعتلائه السدّة البطرسيّة، في 13 آذار 2015، تكريس سنة يوبيل استثنائيّة مقدّسة “للرحمة الإلهيّة”، تبدأ في الثامن من كانون الأوّل 2015 (عيد الحبل بلا دنس، وذكرى خمسين سنة على ختام المجمع الڤاتيكانيّ الثاني)، وتنتهي يوم أحد يسوع الملك (بحسب الطقس اللاتينيّ)، في العشرين من تشرين الثاني 2016.

        واعتبر قداسته أنّ “هذا الزمن هو زمن رحمة. ومن الهامّ جدًّا للمؤمنين المكرّسين والعلمانيّين أن يعيشوه وينشروا الرحمة في أماكن مختلفة من المجتمع”[1].

        “فالرحمة” تنبع من الإيمان والقناعة بأن رسالة المؤمنين المعمّدين تتحقّق في عيش التواضع والشهادة لمحبّة الله، بأعمال رحمة تعكس حضور الربّ يسوع ووجهه المحبّ، “لأنّ يسوع المسيح هو وجه رحمة الآب” الّتي كشفها بكلماته وآياته وشخصه البهيّ.

“سنة الرحمة”، سنة يوبيليّة استثنائيّة أعلنها قداسة البابا فرنسيس، ودعا الكنيسة أن تعيَ رسالتها الحقّة الّتي تتمثّل في عيش البساطة والتواضع، وفي الشهادة للمحبّة والرحمة، على مثالِ عريسها المعلّم الإلهيّ الّذي كان عنوان المحبّة حتّى الموت على الصليب، وطلب منّا أن نكونَ رحيمين كما الآب رحيم هو!

“سنة الرحمة”، زمن للتوبة والارتداد لبناء كنيسة المسيح المتجدّدة! هي رحلة حجّ نحو بيت الآب، تبدأ، على مثال الابن الشاطر، بوعي خطيئتنا والتوبة، فالعودة، إلى بيت الآب. هي إذًا “رحلة ارتداد روحيّ”، لأنّ رحمة الله تحرّرنا وتعطينا ذاك السلام الّذي لا نجده في عالمنا اليوم!

 “سنة الرحمة”، ليست لنُكثِرَ في العظات اللاهوتيّة، بل هي لعيشِ حقيقة تغيّر حياتَنا على الصعيدَين الروحيّ والإنسانيّ!

        نحن مدعوّون إلى عيش هذه “الرحمة” لكي نصيرَ “علامات” صريحة لِعمل الآب في كنيسته، ونعكِسَ بشخصنا صورة يسوع المسيح، ونكونَ بشهادتنا للمحبّة والسلام “وجه يسوع” و”وجه الآب” في عالمنا اليوم!

ب-مفهوم “الرحمة الإلهيّة” وأهمّيّة عيشها

        ربّنا يسوع المسيح هو وجه رحمة الله-الآب!

        ربّنا يسوع أظهر محبّة الله ورحمته بتجسّده وبشارته وتعليمه. لقد خبر أمام تلاميذه والجمع الّذي كان يتبعه هذه الرحمة، وكان يحنو على الخطأة والمرضى والمصابين بإعاقات جسديّة ونفسيّة، ويعزّيهم ويغفر خطاياهم ويمنحهم الرجاء والأمل في الحياة.

        عيشُ الربّ يسوع “للرحمة الإلهيّة” في كلّ أبعادها أظهرت مجد ألوهته، وتجلّى أمام الجميع “ربًّا” و”مسيحًا” و”مخلّصًا”. وتأكّد تلاميذه، بعد حلول الروح القدس عليهم، أنّه حقًّا كان “ابن الله” الّذي أتى وتجسّد ليُخلّص الإنسان (يو12: 47).

        أمّا أهمّيّة عيشنا “للرحمة الإلهيّة”، في هذه السنة المقدّسة الإستثنائيّة، فهي تُختصر بقيمتها الروحيّة. هي زمن توبة وارتداد وعودة إلى بيت الآب. هي إعادة تجديد لمعموديّتنا، لنبنيَ كنيسة جديدة، تكون وفيّة لدعوتها المسيحيّة، وصورة حقيقيّة ليسوع المسيح. تكون صراحة “جسد المسيح” السرّيّ!

        أهمّيّة هذه السنة أنّها رحلة حجّ وارتداد روحيّ، يمنحنا الربّ من خلالها “التحرّر” من عبوديّة المادّة والخطيئة، ويعطينا السلام الّذي لا يمكن للعالم أن يُعطيَه. هي، إذًا، زمن مقدّس يُغيّر حياتنا ويُبدّلها على الصعيدَين الإنسانيّ-الاجتماعيّ والروحيّ-الإلهيّ، لنصيرَ مسيحيّين كاملين، “رحماء كما الآب السماويّ رحيمٌ وكاملٌ وقدّوس” (متى5: 48).

2-الليتورجيّا

        تعترف الكنيسة بالله- الثالوث الأقدس و”قصد محبّته” (إف1: 9)، في شأن خلقِه وتحقيق خلاصه و”سرّ مشيئته”، بإرساله ابنه الوحيد ربّنا يسوع المسيح وتتميم فدائه لنا، وإرسال الروح القدس لخلاص العالم ومجد اسمه.

        هي “العمل الخلاصيّ” الّذي أتمّه ربّنا يسوع، سمّاه القدّيس بولس “سرّ المسيح” و”تدبير الكلمة المتجسّد” أو “تدبير الخلاص” أو “تدبير السرّ” (إف3: 4، 9) الفصحيّ، الّذي قضى فيه ربّنا يسوع على موتنا بموته، وبعث الحياة في حياتنا بقيامته”[2]. وعليه، راحت تحتفل الكنيسة بهذا السرّ الفصحيّ ، في الليتورجيّا، ليحيا به المؤمنون ويشهدوا لقيامة الربّ في العالم.

        “فالليتورجيّا” الّتي تعني أساسًا وأصلاً “عملاً عموميًّا من الشعب لخدمة الشعب”، صارت تعني لنا، نحن المسيحيّين، “اشتراك شعب الله في عملِ الله”[3].

        على أن لفطة “ليتورجيّا”، في كنيسة ربّنا يسوع، لا تعني الاحتفال بشعائر العبادات الإلهيّة وحسب، بل صارت تركّز على البشارة بالإنجيل والمحبّة الفاعلة، كما يشرحها مار بولس في رسائله (رو15: 16، 27؛ 2قور9: 12؛ في 2: 14-17، 25، 30).

أ-“الليتورجيّا” ينبوع حياة

        “الليتورجيّا” هي “عمل المسيح الكهنوتيّ”[4]، كما هي أيضًا عمل كنيسته. لذا، تحقّق وتعلن الكنيسة علامةً ظاهرة للشركة القائمة بالمسيح، بين الله والبشر.

        “الليتورجيّا” هي أيضًا اشتراك في صلاة يسوع المسيح، يرفعها إلى الآب في الروح القدس، وفيها تجد كلّ صلاة مسيحيّة مصدرها وغايتها.

        “الليتورجيّا” هي القمّة الّتي يرتقي إليها عمل الكنيسة، وهي نبع الحياة الّتي منه كلّ قوّتها!

ب-غاية الليتورجيّا وأهمّيّتها

        لا تستغرق “الليتورجيّا” كلّ العمل الكنسيّ، بل يجب أن يسبقها الإيمان المبنيّ على البشارة والتوبة. عندئذ تؤتي الليتورجيّا ثمارها في حياة المؤمنين، وهي حياة جديدة في الروح القدس.

        كما ترتبط “الليتورجيّا” ارتباطًا وثيقًا بكلّ عمل أسراريّ، إذ في الأسرار يعمل المسيح يسوع ملء عمله لخلاص الإنسان.

        هدف “الليتورجيّا” وغايتها أن توحّد المؤمنين في سرّ المسيح وتقدّسهم. من هنا تأتي أهميّتها في حياة الكنيسة.

ج-ليتورجيّتنا المارونيّة

        “ليتورجيّتنا المارونيّة” الكنز الحيّ للكنيسة المارونيّة وهي سفر نحو ملكوت الآب، منها تغتني وتُغني اختباراتها الروحيّة والإنسانيّة. لذا، تحتلّ “الليتورجيّا” موقعًا محوريًّا في مسيرة كنيستنا المارونيّة…. إنّها الينبوع الّذي تغرف منه روحانيّتها فتتمنطق بالقداسة”[5].

        سنحصر كلامنا، في بحثنا هذا عن “الرحمة الإلهيّة في الليتورجيّا”، على الليتورجيّا المارونيّة، دون غيرها، لضيق المجال.

3-الرحمة الإلهيّة في الليتورجيّا

        ألله “إلهٌ رحيمٌ ورؤوف، طويل الأناة كثير المراحم والوفاء” (خر 34: 6)، لأنّه الربّ الإله الغفور (خر34: 9). ربّنا “الكائن” هو الأمانة بذاتها، لأنّه “يحفظ الرحمة” (خر34: 7)، وهو يكشف عن كونه “غنيًّا بالرحمة” (إف 2: 4) إلى حدّ أنّه بَذَلَ ابنَه الوحيد ليحرّرَ الانسان من الخطيئة. وهو أظهر قدرته الكلّيّة الأبويّة، واهتمّ لحاجات الإنسان البسيطة (2قور6: 18)، كما تجلّت رحمته غير المتناهية، عندما غفر خطايا الإنسان غفرانًا كاملاً وإراديًّا بافتدائه له وموته عنه على الصليب.

        والكنيسة، في الليتورجيّا، تلتمس رحمة الله لجميع بنيها، لأنّ الله “لا يريد أن يهلكَ أحدٌ، بل أن يُقبِلَ الجميع إلى التوبة” (2بط 3: 9). ولذلك، تمنحنا الكنيسة، في عناية الأمّ، رحمة الله الّتي تتغلّب على جميع خطايا الإنسان، وتكون فاعلة في سرّ التوبة، وخصوصًا في سرّ القربان، حيث تغذّي المؤمنين بكلام الربّ وجسده ودمه.

أ-“الرحمة الإلهيّة” والمزمور 50 (51)

 بداية، هو المزمور الخمسين أو الحادي والخمسين بحسب الترتيب الجديد للمزامير. وهو مزمور “لإمامِ الغناء، لداود، عندما أتاه ناتان النبيّ بسبب دخوله على بَتشابع” (صموئيل الثاني 11و12).

يتوجّه داود الملك والنبيّ إلى الله بصرخة توبة من الأعماق على الخطيئة العظيمة الّتي ارتكبها. ستعيد هذه الصرخة الموجعة توسُّلَ كلّ الخاطئين التائبين على سحب الدهور. وسيردّد كلّ تائب هذه الصلاة وكأنّها نابعة من أعماق قلبه.

الله رحيم، كثير الرأفة، ويُريد طُهرَ كلّ الخاطئين الراجعين إليه. هو نزيه ولا عيب فيه، عادلٌ في كلّ أقواله، وغالبٌ الشرّ، مُنتصرٌ عليه. لأنّ الانسان يُولدُ بدنسِ الخطيئة، ويعيش مفطورًا على الخطيئة، يطلب هذا الانسان التائب من الله خالقه أن يخلّصَه ويُنقّيَه ويردَّه ناصعًا، أبيضَ أكثر من الثلج! الله يَنفُذُ إلى أعماق الانسان، فتبتهج عظامه المحطّمة. ويطلب من الله أن يمحوَ جميع آثامه ويغيّرَه، ويخلقَ فيه قلبًا طاهرًا وروحًا ثابتًا بروحه القدّوس! وكم يسأله أن يردّ له سرورَ خلاصه، ليُعلّمَ الأثمةَ التوبة؟! بقلبٍ مُنسحقٍ يلتمسُ إنقاذَه من الثأر والدماء، ليُخبِرَ فمُهُ تسابيحَ لله. وهذه هي “الذبيحة” المرضيّة عند الله، وهو لا يرضى بغيرها!

*كيف نصلّي المزمور الخمسين، قولاً وفعلاً؟

تحتفل كنيستنا المارونيّة بالقدّاس وسائر الأسرار والرتب الطقسيّة والصلاة الخورسيّة ؛ وتستعمل  منذ البدايات، المزمور الخمسين، كمزمور أوّل قبل اللحن الأوّل، بكثافة لا نظير لها.

فقديمًا، كان “القسم الأوّل من القدّاس“، قسم خدمة الكلمة، يحتوي على إنشاد للمزمور الخمسين مع وضع للبخور. هذا الأمر انسَحب على صلاة المساء في كلّ يوم، حيث كان يشكّل المزمور الأوّل في صلاة المساء. كذلك، في سائر رتب الأسرار كالعماد والتوبة ومسحة المرضى وكلّ الرتب الطقسيّة الأخرى!

رهبانيًّا، يتلو الرهبان هذا المزمور، يومَي الأربعاء والجمعة مساءً، بعد صلاة المساء وقبل فحص الضمير، حيث كان يركع الرهبان ويبسطوا أيديَهم بشكل صليب، ويقولوا بين جوقَين المزمور الخمسين، وذلك طيلة أزمنة السنة الطقسيّة، يُستثنى منها زمن القيامة حتّى عيد العنصرة!     

يجب أن يعودَ المسيحيّون عمومًا، وكنيستنا المارونيّة خصوصًا، إلى الجذور والينابيع الأصيلة، وتصلّي هذا “المزمور” بكثافة، لتكتشفَ طعم التوبة الحقيقيّة، وتعيشَ التجدّدَ الروحيّ، وتنطلق بالشهادة لربّنا يسوع المسيح وإنجيله، إنجيل المحبّة والرحمة، فتُطعِمَ الجائع، وتَسقي العطشان، وتأويَ الغريبَ، وتكسوَ العريانَ، وتعودَ المريض، وتزورَ السجين… عندها، تستحقّ أن تكونَ كنيسة ربّنا يسوع المباركة من الآب؛ وعندها، تدخل وترث الملكوت المعدَّ لها منذ إنشاءِ العالم!

 ربّنا يسوع المسيح وأبونا السماويّ والروح القدس المحيي، إلهنا الواحد، إله مغفرة وصفح. هو أكبر من خطيئتنا وقلوبنا الضعيفة. هو يحنو علينا ويترك لنا خطايانا، ويطهّرنا، ويخلّصنا!

علينا فقط أن نتوبَ إليه ونعودَ إلى بيتِه،“ليخلقَنا” من جديد، على صورته كمثاله، من حشا دموع توبتِنا الصادقة إليه!

يومَها، سنتلألأ بوشاح المجد (آِسطَل  شٌوبحُا) أكثر بياضًا منَ ثلج لبنان!

ب-“الرحمة الإلهيّة في القدّاس الإلهيّ”

*الرحمة في نصوص القدّاس الإلهيّ المارونيّ

        تحفل نصوص القدّاس الإلهيّ المارونيّ بذكر “الرحمة” مرّات عديدة، وفي قِسمَي القدّاس. أتوقّف عند بعضها سريعًا.

-قسم “خدمة الكلمة”

        *قبل البدء بالقدّاس، وعندما يتقدّم المحتفل ليلبس ثيابه الكهنوتيّة للاحتفال، يصلّي مزمور “إرحمني يا الله” (المزمور 50). أو يصلّي الصلاة المعروفة:”اللهمّ، أسألك أن تجعلني مستحقًّا التقدّم إلى مذبحك الطاهر…”، “أنظر إليّ بعين الرحمة والرضى…“.

        *”صلاة الغفران”، في “خدمة الكلمة”، هي صلاة استرحام واستغفار. وفي كلّ النصوص الّتي تتغيّر وتتبدّل بحسب الزمن الطقسيّ والمناسبات الطقسيّة، هناك رفع للبخور وطلب مغفرة الربّ والرحمة للأحياء والأموات: “…وخلّص برحمتك الميراث الّذي اقتنيتَه…”.

        *لا تقلّ نصوص الألحان الشعريّة قيمة وتركيزًا على طلب الرحمة من سائر النصوص النثريّة: “… إسمَع صوت الحبّ إرحمنا يا فادينا…”، “… جُد وارحمنا”…” هذا عدا “المعنى” المضمون في كلّ النصوص، وهي توحي بالمغفرة والرحمة

        *بركة المحتفل على قارئ الرسالة تسالُ له نعمة خاصّة: “…ولتحلَّ مراحم الله على القارئ…”

        *ويرنمّ المرتّل عند تبخير الإنجيل: “أمام بشارة مخلصنا…يُقدّم البخور إلى مراحمك…”

-قسم “النوافير”

        *هو قسم الذبيحة والتقدمة، القسم القربانيّ، حيث نحتفل بالربّ يسوع الفادي، الحبر الذبيح، ووجه رحمة الآب الّذي يقرّب ذاته قربانًا، فداءً لإخوته البشر!

        *تبدأ الصلوات بالتقدّم من “الربّ الآب “الرحيم القدّوس…”، وتسأله “مغفرة الخطايا. ولتشمل مراحمك كلّنا”. و”ارحمنا أيّها الآب الضابط الكلّ، ارحمنا”. “فاشفق اللهمَّ علينا وارحمنا واستجب لنا”.

        *وعند استدعاء الروح القدس، يهتف المحتفل: “إرحمنا يا ربّ، ارحمنا…”

        *وكم من مرّة يُجيب الشعب المؤمن :”كيرياليسون… يا ربّ ارحم“، عند استدعاء الروح القدس، وفي التذكارات!

        *والكاهن يسأل الربَّ للموتى الراقدين: “أرِحهم في ملكوتك… لأنّنا نرجو أن ننالَ المراحم وغفران الخطايا لنا ولهم!”.

        *وعند رفع القربان، نصلّي: “يا قربانًا شهيًّا… لتكن، يا ربّ، طلبتنا بمراحمك بخورًا، فنقربّها بك لأبيك…”.

        *وقبل الدعوة إلى المناولة، يسأل المحتفل لآخر مرّة الربّ: “أَهِّلهُم (للساجدين) لمراحمك وغفران خطاياهم، لأنّك كثير المراحم وعلى كلّ شيء قدير…”.

        *وبعد المناولة، يعطي المحتفل البركة بالقربان:”يا مُحبَّ البشر، ارحمنا”، ويجيبه الشعب:”إرحمنا، يا ربّ، يا حنون، يا رحوم، يا مُحِبَّ البشر، ارحمنا”.

        *ويختم المحتفل، بصلاة شكر للربّ يسوع: “لك نسجد وإيّاك نسبّح، ضارعين إلى جودك ومراحمك الكثيرة…” ” بنعمتك افتقدهم، وبمراحمك الكثيرة أحيهم”.

        *وفي الأعياد الكبرى، يُعطي البركة قائلاً: “يا إله الخير والربّ الرحوم…”، “إقبل برحمتك وتحنّنك…”، “ويمين رحمتك تبارك”…!

        *لاهوت الرحمة في القدّاس الإلهيّ المارونيّ:

        “القربان” المقدّس، في “القدّاس الإلهيّ”، يعبّر عن شركة الحياة مع الله، وهو يرمز إلى ذروة العمل الخلاصيّ الّذي يقدّس الله به العالمَ في ابنه الوحيد ربّنا يسوع المسيح!

        “القدّاس الإلهيّ” هو تذكار عمل الفداء العظيم الّذي به تستمرّ ذبيحة الصليب، حيث قَدَّمَ ربّنا ذاته ذبيحة لأجلنا ولأجل خلاصنا على الصليب.

        لقد صالحنا ربّنا يسوع برَفعه ذاتِه ضحيّةً لله أبيه. لقد اشترانا بدمه الثمين، ليُوحّدنا نحن المؤمنين به اتّحادًا حميمًا، ويَردَّ لنا “الصورة” الّتي فقدناها بالمعصية الأولى!

        حقًّا، صار “القدّاس الإلهيّ” عمل “رحمة إلهيّة” بامتياز:

        نأتي الكنيسةَ، نحن المعمّدين المؤمنين، بكلّ ضعفنا وخطيئتنا، وندخل إليها بثقةِ الإيمان البنويّة.  نحتفل بالقدّاس خطأة يرجون التوبة والعودة إلى بيت الآب. يتَحنّن علينا ربّنا، ويستقبلنا طلاّبًا لملكوته. نَتوب إليه مرّة وإثنتَين، ومرّات عديدة في القدّاس الواحد، “ويرحمنا” ويغفر لنا خطايانا وسقطاتنا العديدة، لأنّه يُحبّنا محبّة لا حدّ لها. “يرحمنا”، أوّلاً في صلاة الغفران، وفي القراءات والعظة، وفي تقديم القرابين، وفي رتبة السلام وذكر تدبيره الخلاصيّ، وفي التذكارات حيث ننال بركة غفران خطايانا وخطايا جميع موتانا، وفي رتبة التوبة قبل المناولة.

        يرحمُنا” ربّنا بدعوتنا إلى تناول كلمته الخلاصيّة في ختام “خدمة الكلمة”، وفي تناول جسده ودمه الأقدَسَين، لأنّه يحبّنا إلى الغاية ويريد خلاصنا واتّحادنا به، لنرثَ معه الملكوت!

        “رحمةُ ربّنا يسوع” لا حدَّ لها. بها نتحوّل من خطأة تائبين، في “القدّاس الإلهيّ”، إلى تلاميذ حقيقيّين في مدرسة إنجيله، لنخرجَ من “القدّاس” رُسُلاً قدّيسين جريئين، نحمل بشارة المحبّة والسلام والفرح إلى العالم كلّه!

        ما أعظمَك يا ربُّ، تحوّلنا وتغيّرنا “برحمتك” وحبّك، لنتحدَّ بك ونصيرَ فيك إلى الأبد!

        نحن، جميعًا، مدعوّون إلى أن نَعِيَ عِظَم وخطورة مسؤوليّتنا، عندما نحتفل “بالقدّاس الإلهيّ”.

        جميعنا “كهنة” نخدمُ سرّ الله الخلاصيّ، ونشترك مع ربّنا يسوع،”الرحمة الإلهيّة” والكاهن الأزليّ، بعمل الفداء العظيم!

ج-“الرحمة الإلهيّة في الأسرار الإلهيّة والرتب الطقسيّة

*الأسرار الإلهيّة

        “الأسرار الإلهيّة” أنشأها ربّنا يسوع المسيح، لكي تكون “روائعه” في العهد الجديد، وتُعلن “سرّ الشركة” مع الله المحبّة الواحد في ثلاثة أقانيم.

        “الأسرار الإلهيّة” بركة تصدر من الآب، وعطيّة منه مجّانيّة (Bene-dictio) (Ev-λoμα ) يمنّ بها على كنيسته.

        “الأسرار الإلهيّة” هي “أسرار الكنيسة السبعة” الّتي حدّدتها الكنيسة، بصفتها وكيلة أسرار الله، وميّزت بها، عن الاحتفالات الليتورجيّة الّتي تحتفل بها. وهذه الأسرار هي : المعموديّة والميرون (التثبيت)، الإفخارستيّا، التوبة، مسحة المرضى، الزواج والكهنوت.

        “الأسرار الإلهيّة” هي أسرار الإيمان، لأنّه لا يمكن أن نستعدَّ لها إلاّ بكلمة الله والإيمان بهذه الكلمة. لذا، تهدف الأسرار هذه إلى تقديس المؤمنين وبنيان جسد المسيح. هي “علامات” تهدف إلى التعليم، وهي لا تفترض الإيمان وحسب، لكنّها تغذيّه أيضًا. كما، تعبّر عن شركة الإيمان في الكنيسة.

        “الأسرار الإلهيّة” هي أسرار الخلاص والحياة الأبديّة. هي أسرار فاعلة، تعمل تلقائيًّا، بقوّة عمل المسيح الخلاصيّ، وهي ضروريّة لخلاص المؤمنين، واتّحادهم بربّهم إلى أن يصيرَ “كلاًّ في الكلّ” (1قور 11: 26).

*الرتب الطقسيّة

        “الرتب الطقسيّة” هي احتفالات “برتبِ علاماتٍ مقدّسة” تشبه الأسرار، ولها مفعولات روحيّة، ينالها المؤمنون بتوسّلات الكنيسة، ليَفيدوا من مفعولها الرئيسيّ الّذي يُقدّس شتّى أحوال الحياة!

        “الرتب الطقسيّة” وضعتها الكنيسة لتقديس الخِدَم الكنسيّة والحالات الحياتيّة على أنواعها. كما لتقديس الأشياء المفيدة للإنسان. وهي تتضمّن “رتبة” بكلّ صلواتها وتراتيلها، ويرافقها “علامةٌ” من مثل: البركة وإشارة الصليب، ورشّ الماء المبارك، والتبخير…

        بالطبع، “الرتب الطقسيّة”، هذه، لا تولي نعمة الروح القدس، كالأسرار. لكنّها، تعدُّ المؤمن لقبول النعمة، الّتي تقدّسه!

        “الرتب الطقسيّة” هي “بركات”، إذًا، تهدف إلى تقديس المؤمنين، وتكريس أوانٍ وأشياء وأمكنة للإستعمال الطقسيّ الليتورجيّ. مثلاً: النذر الرهبانيّ، رسامة القارئين والمرتّلين والشدايقة. وبركة الزيت واللباس البيعيّ، والأواني المقدّسة، والأجراس…

        بالإمكان إضافة “التقويّات الشعبيّة” على “الرتب الطقسيّة”، من مثل: التطواف بالصليب أو الذخائر، وزيارة المعابد والمزارات، ودرب الصليب، وصلاة الورديّة…

*الرحمة في الأسرار والرتب

سأقسم الموضوع إلى اثنين: الرحمة في الأسرار الإلهيّة، والرحمة في الرتب الطقسيّة، لمزيد من الوضوح في اختيار النصوص والإضاءة عليها. لكنّ، “الرحمة الإلهيّة” هي ذاتها في الأسرار والرتب؛ ذلك، لأنّ الربَّ إلهَنا، الرحمةَ الإلهيّة، هو نفسه الّذي يدعونا من خلال الأسرار والرتب إلى القداسة. وبالتالي، هي “رحمته” وحنانه وعطفه ومحبّته الّتي تتجسّد في كلٍّ منها لوحدها.

        الإسم الإلهيّ “أنا هو الكائن” يعبّر عن “رحمة الله” لجميع البشر. لقد كشف الله، في كلّ تدبيره الخلاصيّ عن حقيقة كونه “غنيًّا بالرحمة” (إف 2: 4) إلى حدّ أنّه بذل ابنَه الوحيد ليحرّر الإنسان من الخطيئة والموت!

        الله-الآب الكلّيّ القدرة تجلّى لنا بابنه الوحيد، واهتمّ لحاجاتنا، وأحبّنا وأظهر قدرته برحمته اللامتناهية، إذ غفر خطايانا بالكامل، وردّنا أبناءً له، لميراث ملكوته السماويّ!

        أمّا المؤمنون كأفراد، وكجماعة مصلّية تدعى الكنيسة، يلتمسون رحمة الله الّذي يريد خلاص كلّ أحبّائه، لذا يطلب منهم أن يُقبِلوا إلى التوبة (2بط 3: 9).

        “خلقنا الله بدوننا، لكنّه لا يمكنه أن يخلّصَنا بدوننا”، كما كتب مار أوغسطينوس في عظاته. لتقبّل رحمته، يجب الإقرار بذنوبنا والاعتراف بخطايانا!

        “رحمة الله” تتفوّق على جميع خطايانا، وتكون فاعلة في سرّ التوبة والمصالحة. وهذا الدفق من “رحمة الله” لا يستطيع الولوج إلى قلوبنا، ما لم نغفر لمن أساءوا إلينا. وحدها المسامحة والمصالحة مع بعضنا تجعل محبّة الله الرحيمة غامرة لنا بنعمِه!

        هكذا، نفهم “رحمة الله”، من خلال كلّ احتفالاتنا بالأسرار الإلهيّة والرتب الطقسيّة: فبالمعموديّة، يرحمنا الله ويردّنا أبناء له نتمتّع بميراث ملكوته. وبالميرون نثبت في حبّه ورحمته، ونلبس نعمته وشاح مجدٍ لحياة الأبد. و”بالقربان” نتناوله زادَ رحمة للحياة الأبديّة.  “وبالتوبة” يمنحنا الله نعمة العودة إلى رحمته وأبوّته. و”بمسحة المرضى” يغمرنا بفيض رحمته ويشفينا من كلّ أمراضنا النفسيّة والجسديّة، ويُعدّنا لأن نصيرَ أهلاً لدخول ملكوته. أمّا “الزواج” فهو نعمة الرحمة الكبرى إذ يُشركنا الله بعمل الخلق ونصيرُ على مثاله، وبنعمةٍ منه، مساوين له! ويبقى “الكهنوت” سرّ الرحمة الإلهيّة العظيم”، حيث يُغدقُ الله علينا نعمةَ الرحمة الغزيرة لنصيرَ مشاركين لابنهِ ربّنا يسوع بكهنوته وخدمته الخلاصيّة!

        *بعض النصوص

        *”أنت يا ربّنا، أَحِلَّ يمينَ رحمتِك على ابن نعمتك هذا الّذي تأهَّب للعماد المقدّس”.

        *”لك يا ألله المجيد بجماله… أنت قابل التائبين وصانع العجائب بتحنّنك، وقد شئت بعطفك ورحمتك علينا أن تحيَينا بمحبّتك الّتي لا مثيل لها”.(رتبة سرّ العماد وسرّ الميرون المقدّس).

        *ليكن لنا هذا الإيمانُ الطريق المؤدّي إلى الملكوت السماويّ، فنغتنيَ بحبّك ونثبتَ برجائك ونُغمَرَ برحمتك”… (نافور شَرَرْ).

        *”لنرفعنَّ التسبيحَ… إلى بابِ المراحم المفتوح للخطأة الّذين يقرعونه”.

        “يا عظيم الأحبار السماويّ… أنت أيّها المسيح… منك وبك…نؤهَّل لمراحمك في يوم ظهورك المجيد”. (رتبة سرّ التوبة).

        *يا ربّنا يسوع المسيح… بنعمتك وبمراحمك الغزيرة، أرسل الصحّة والشفاء والعزاء لأبنائك”.

        “أيّها الآب القدّوس… أطلب منك متوكّلاً على مراحمك…”

        “… يا مَن بكثرة مراحمك تشفي ضعف النفس والجسد… إنّك أنت الرحيم الرؤوف مخلّصنا، يا يسوع المسيح”! (رتبة سرّ مسحة المرضى).

        *”ألله الّذي كلّل الأرض بالزهور المتنوّعة… هو يبسط يمينه المملوءة مراحم”.

        “الربّ الإله الّذي كلّل الآباء القدّيسين… فليُعطك الربّ مراحم “نعمته”.

        “الله الّذي كلّل جميع النساء القدّيسات… ويفيض عليك المراحم”. (رتبة سرّ الزواج).

        *“أيّها “الربّ الرحيم محبّ البشر… يا مَن ترفعك مراتب الروحيّين، لأجل مراحمك الكثيرة… نسألك أن تقبلَ بنعمتك ومراحمك الكثيرة”…

        “نطلب منك، أيّها الربّ الإله، ونبتهل إلى مراحمك الكثيرة، أن تنظرَ إلينا بعين رحمتك… لأنّك الإله الكثير المواهب فيّاض المراحم…”

        “أهِّلنا بمراحمك السرمديّة أن نفرحَ ونُسرَّ معه في الملكوت السماويّ”.(رتبة سرّ الكهنوت).

        *”أشرق أيّها الربّ بمحيّا مراحمك على هذا الزيت وهذا البلسم الطيّب الرائحة…”

        “أهِّلنا يا ربّ بمراحم نعمتك لأن نكونَ وارثين في ملكوت مسيحك”…(رتبة تقديس زيت الميرون).

*نسألك أيّها الربّ الرحيم والكثير النعمة والحقّ… إغفر لهم آثامهم بمراحمك ونقِّهم بزوفى عفوك”.

(رتبة تبريك جرن المعموديّة).

        *حياة الأسرار، في المسيحيّة، تؤهِّلنا لأن نكونَ مسيحيّين بقدر ممارستنا لمواهب الربّ وعطاياه. فالأسرار هي حضور الربّ يسوع المسيح-الرحمة الإلهيّة في كنيسته. بالأسرار يولد المسيحيّون ويتغذَّون ويتكمّلون ليؤلّفوا معًا جسد الربّ يسوع السرّيّ!

        بالمعموديّة يدخلون في جماعة الكنيسة، وبالقربان يوحِّدُهم الربّ يسوع في جسده-الكنيسة. وبالتوبة يتصالحون مع بعضهم بعضًا ومع الله.

        بمختصر الكلام، الربّ أعطانا الأسرار ليُشرِكَنا بالقداسة في حياته. كلّ خطيئة تكون خطيئةً ضدّ قداسة الكنيسة. وبالتوبة، يُعيد الربّ قداستَه الأولى إلى التائب ويُدخِلُه من جديد في شعبه-الكنيسة!

        هذه هي “رحمة الربّ”، هكذا تتجلّى في الأسرار كلّها وفي الرتب الطقسيّة.

د- أعياد “الرحمة الإلهيّة”

        أسّس القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني “عيد الرحمة الإلهيّة” في الأحد الّذي يلي عيد القيامة المجيدة (في الطقس المارونيّ، ندعو هذا الأحد “بأحد توما”، أو “الأحد الجديد”، أو “اليوم الثامن”)، وكان ذلك أعقاب الرسالة العامّة “الغنيّ بالرحمة” [6](Dives in misericordia)، في الثلاثين من تشرين الثاني سنة 1980. وأتت فكرة العيد من الظهورات الخاصّة لربّنا يسوع المسيح على القدّيسة فوستين كوڤالسكا (1905-1938).

        لفهم المعنى اللاهوتيّ والرعائيّ لهذا العيد، لا بدّ من وضعه في إطار الوحي الإلهيّ وتاريخ الخلاص، شأنه شأن “عيد خميس القربان-جسد ربّنا يسوع المسيح”، و”عيد قلب يسوع الفادي”. والقول بأنّ الله “غنيّ بالرحمة”، لا يعني حَصرًا ربّنا يسوع المسيح، بل يعني الله- الثالوث، وتخصيصًا الله-الآب:”الله الغنيّ بالرحمة هو الّذي أوحاه لنا يسوع المسيح كأبٍ: إنّه هو، ابنُه، الّذي كشفه لنا وعرّفنا إليه بشخصه”[7]، كما يشرح القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني في مطلع إرشاده. يسوع المسيح هو التجلّي التاريخيّ “لرحمة الله” الّتي تجد نبعها في قلب الله-الآب!

        لكنّ العيد الحقيقيّ لمحبّة الله الرحيم هو “عيد قلب يسوع الفادي” الّذي نعيّده في يوم الجمعة من الأسبوع الّذي يلي “عيد خميس القربان- جسد ربّنا يسوع المسيح”. أساسًا، هذا العيد ينتمي إلى “أخصّاء” قلب ربّنا يسوع، هو عيد تقويّ صوفيّ روحانيّ أكثر منه رعويّ!

        جميع علماء الكتاب المقدّس يعرّفون “القلب” بنقطة ارتكاز المعرفة والإرادة والعاطفة في الإنسان. وهذا ما جعل الكتّاب الملهمين يعبّرون عن محبّة الله وحنانه وعطفه ورحمته، في العهد القديم، بكلمة “قلب الله”!

        “قلب الله”، في العهد الجديد، تجلّى بتجسّد ربّنا يسوع المسيح الّذي اتّخذ “إنسانيّتنا” في “ميلاده”، و”شابهنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة”. لقد أحبّنا إلى الغاية، وبذل نفسه من أجلنا على الصليب ليفتديَنا ويردّنا إلى بنوّة االله، على صورته كمثاله، أعضاء في عائلة الثالوث الأقدس. وهذا ما نعيّد له في “يوم الجمعة العظيمة”-يوم الفداء العظيم!

        عدا هذه الأعياد الكبيرة، لا بدّ من ذكر كلّ الأحداث والآيات العظيمة الّتي أجراها ربّنا يسوع في حياته العلنيّة، وكانت تعبّر عن “رحمة الله”. أمّا تعاليمه فهي كلّها تصبّ في خانة محبّة الله ورحمته، وهذا ما توضحه آحاد السنة الطقسيّة في كلّ أزمنتها.

*الخلاصة العامّة

        تناولنا في دراستنا المقتضبة حول “الرحمة الإلهيّة في الليتورجيّا”، تحديدًا “للرحمة الإلهيّة” و”لسنة الرحمة الإلهيّة” الاستثنائيّة، “ولأهمّيّة عيش الرحمة الإلهيّة” في أيّامنا هذه الصعبة.

        ثمّ، انتقلنا إلى تحديد مفهوم “الليتورجيّا” وكيف تكون “الليتورجيّا ينبوع حياة”، وخلصنا إلى التركيز على غاية الليتورجيّا وأهمّيّتها في حياة الكنيسة.

        ووصلنا إلى موضوع بحثنا عن “الرحمة الإلهيّة في الليتورجيّا”، وفصّلنا موضوع “المزمور 50 (51)”، “وكيف نصلّيه”. ثمّ، استرسلنا في شرح “الرحمة الإلهيّة في القدّاس الإلهيّ”، وتوقّفنا عند “لاهوت الرحمة” فيه.

        انتقلنا، بعدها، إلى الكلام على “الرحمة الإلهيّة في الأسرار الإلهيّة والرتب الطقسيّة”، وأوردنا بعض النصوص الّتي تعبّر خير تعبير عن حضور “الرحمة” فيها.

        وأنهينا بحثنا بالكلام على “أعياد الرحمة الإلهيّة”.

        ما يهمّنا، في هذا الصدد، هو التركيز، أوّلاً، على أنّ دراستنا لم تتطرّق إلاّ إلى الطقس المارونيّ، وعرضًا إلى الطقس اللاتينيّ. وثانيًا، أنّ دراستنا هي محض “ليتورجيّة”، وقد تناولنا، عرضًا وبشكل محدود المواضيع اللاهوتيّة المتعلّقة بهذا الشأن.

        أمّا، الأمر الثالث والأهمّ، فهو أنّ دراستنا هي عامّة وشاملة، ما يستدعي تفصيل كلّ فصلٍ فيها لاحقاً، لتأتي مكتملة وناضجة. علَّ المستقبل يسمح لنا، أو لغيرنا، بأن يقوم بهذا البحث الضروريّ والنافع للمؤمنين والكنيسة.

        وأُنهي بما خَتَم به البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني رسالته العامّة “الغنيّ بالرحمة”:

        “يجب أن يتحوّلَ، كلُّ ما قلتُه في هذه الوثيقة حول “الرحمة”، إلى صلاة حارّة، إلى هتافٍ يلتمس الرحمة، باستمرار، وفقًا لحاجات الإنسان الضروريّة في العالم المعاصر”[8]. أليست هذه حقًّا الليتورجيّا بذاتها؟!

باسم يسوع المسيح المصلوب والقائم من الموت، وبروح رسالته المسيحانيّة الحاضرة دومًا في تاريخ البشريّة، نرفع صوتنا وابتهالاتنا كي يظهر مجدّدًا، وفي هذه المرحلة من التاريخ، الحبّ الّذي هو في الآب… ونتوسّل، بواسطة تلك الّتي لا تنفكّ تعلن “الرحمة من جيل إلى جيل”، وبواسطة الّذين قد شهدوا على تتميم كلمات “خطبة الجبل” فيهم بالكامل[9]: “طوبى للرحماء فإنّهم يُرحمون”![10]

        أعطانا الله “الغنيّ بالرحمة” أن نقتربَ من سرّه الّذي كان مخفيًّا منذ الدهور، وقد تجلّى حقيقةً للإنسان في شخص ابنِه ربّنا يسوع المسيح، له المجد إلى أبد الدهور!

بيبلوغرافيا

المصادر والمراجع

أ-المصادر

  1. الكتاب المقدّس، العهد الجديد، كلّيّة اللاهوت الحبريّة في جامعة الروح القدس، الكسليك، لبنان 1992.
  2. فهرس الكتاب المقدّس، جمعيّة الكتاب المقدّس، لبنان 2004.
  3. المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني، الوثائق المجمعيّة، نقلها إلى العربيّة يوسف بشاره، عبده خليفه وفرنسيس البيسريّ، لبنان 1991.
  4. التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، ترجمة لجنة النشر التابعة للكرسيّ الرسوليّ، منشورات المكتبة البولسيّة ومنشورات الرسل، لبنان 1999.
  5. البابا يوحنّا بولس الثاني (القدّيس)، “الغنيّ بالرحمة”، رسالة عامّة، الڤاتيكان 1980.
  6. المجمع البطريركيّ المارونيّ، النصوص والتوصيات، بكركي 2006.
  7. كتاب القدّاس بحسب طقس الكنيسة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة، بكركي 2005.
  8. كتاب القدّاس، نافور مار بطرس الرسول (شَرَرْ)، بكركي 2008.
  9. رتبة سرّ العماد وسرّ الميرون، بكركي 2004.
  10. رتبة الخطبة والإكليل، بكركي 2004.
  11. رتبة سرّ التوبة، بكركي 2011.
  12. رتبة سرّ مسحة المرضى، بكركي 2011.
  13. كتاب سيامة الكاهن، بكركي 1996.
  14. كتاب سيامة الأسقف، بكركي 1996.
  15. رتبة تقديس الميرون الإلهيّ وزيت العماد المقدّس وزيت مسحة المرضى، بكركي 2014. (للاختبار، غير مطبوعة).

ب-المراجع

  1. يوبيل سنة الرحمة في الكنيسة المارونيّة، إعداد اللجنة البطريركيّة المارونيّة لسنة الرحمة المقدّسة، جونيه 2015.
  2. “باب الرحمة”، الأب العامّ طنّوس نعمه، غزير، 6 كانون الثاني 2016.
  3. 18-       “رحماء كالآب”، الأب يونان عبيد، مواعظ صوم 2016، منشورات الرسل.
  4. 19-       “طوبى للرحماء فإنّهم يرحمون”، الأيّام العالميّة للشباب، المجلس الرسوليّ العلمانيّ، لبنان 2016.
  5. 20-       “رحماء كالآب”، مجلّة الإكليريكيّة البطريركيّة المارونيّة، غزير،15، كانون الأوّل 2015.
  6. 21-       “العماد والتثبيت”، مجلّة نور وحياة، السنة السابعة، العدد 37، أيّار-حزيران 1979.
  7. 22-       “التوبة”، مجلّة نور وحياة، السنة السادسة، العدد 36، آذار-نيسان 1978.
  8. 23-       “أمثال الرحمة في الإنجيل”، مجلّة صوت الراعي، العدد 52، نيسان 2016.

C-Bibliographie

  1. Conseil Pontifical pour la promotion de la nouvelle évangélisation, Célébrer la miséricorde, jubilé de la miséricorde, Mame, Paris 2015.
  2. Conseil Pontifical pour la promotion de la nouvelle évangélisation, La Confession, sacrement de la miséricorde, jubilé de la miséricorde, Mame, Paris 2015.
  3. CANTALAMESSA, Raniero ; Le regard de la miséricode, Ed. des Béatitudes, Paris 2016.
  4. CIVELLI, Jean ; Les pécheurs et l’Eucharistie, Ed.Saint-Augustin, France 2016.
  5. GALOT, Jean S.J. ; Le Cœur du Christ, Ed. le laurier, Paris 2015.
  6. KASPER, Cardinal Walter ; la miséricorde, notion fondamentale de l’Evangile, clé de la vie Chrétienne, Theologia 5, Ed. des Béatitudes, Paris 2015.
  7. LUSTIGER, Jean-Marie ; Le don de la miséricorde, Ed. Parole et silence, France 2016.
  8. PRADĖRE, Martin ; La miséricorde, Bonne nouvelle pour le monde, Ed. de l’Emmanuel, Paris 2015.

[1] من عظة قداسة البابا فرنسيس في “احتفال التوبة” الّذي أطلق من خلاله عيش “24 ساعة للربّ”، في عبادة سرّ القربان وعيش سرّ التوبة والمصالحة، وأعلن خلاله عنوان سنة اليوبيل وموضوعه “الرحمة الإلهيّة”.

[2] “وحدّت يا ربّ لاهوتك بناسوتنا…. حياتك بموتنا…” من صلاة الكسر والرسم والمزج والنضح والرفعة في القدّاس الإلهيّ بحسب الطقس المارونيّ.

[3] المجمع الفاتيكانيّ الثاني، دستور في الليتورجيّا المقدّسة، 6.

[4] المجمع الفاتيكانيّ الثاني، دستور في الليتورجيّا المقدّسة، 7.

[5] المجمع البطريركيّ المارونيّ، النصّ الثاني عشر: الليتورجيّا، 1. بكركي، 2006.

[6] البابا (القدّيس) يوحنّا بولس الثاني، “الغني بالرحمة”، رسالة عامّة، الڤاتيكان 1980.

[7] إف2: 4. ويو1: 18.

[8] (القدّيس)البابا يوحنّا بولس الثاني، “الغنيّ بالرحمة”، رسالة عامّة، الفاتيكان 1980، 15.

[9] المرجع ذاته، 15.

[10] متى5: 7.

Scroll to Top