Almanara Magazine

الرحمة في العهد القديم

المطران جوزيف نفاع

مقدّمة

يظهر العهد القديم في أعين العديد ممّن يقرؤونه بشكل سطحيّ على أنّه كتاب قاس ودمويّ، إلهه ظالم ومنتقم، سريع الغضب. ولكن، من يتأمّل النصوص بعين الإيمان ووساعة قلب وفكر، سيرى كيف أنّ الله هو هو في العهدين القديم والجديد، إله الحب والرحمة. لا بل أتجرّا على القول أنّ العهد القديم هو كتاب الرحمة بامتياز. فكلّ ما فعله الله ليس إلاّ رحمةً بنا وحبًّا لنا، نحن من خُلقنا أصلاً “على صورته ومثاله” ولم يخلقنا إلاّ لأنّه أحبّنا حتّى قبل أن يصوّرنا في الحشى الوالديّ.

كنت أتمنى أن يتسنّى لنا الوقت الكافي للتجوال في رحاب العهد القديم من بداياته وحتّى آخر أنبيائه لنتمتّع سويًّا بالتأمّل بكلّ أوجه الرحمة الإلهيّة وكلّ ما يطلبه الربّ من الإنسان أن يرحم أخيه الإنسان، كما رحمه هو أوّلاً. إلاّ أنّ ضيق الوقت يجبرني على اقتصار تأمّلي اليوم معكم حول البدايات؛ إذ يقول المثل العاميّ: المكتوب يُقرأ من عنوانه. دعونا نكتشف كيف أنّ كلّ مخطّط الله وفكره وإرادته، منذ لحظة الخلق الأولى، لم يكن سوى إرساء أساسات الرحمة في هذا الوجود. لم يقل الله، في نصّ الخلق، مرارًا عن الدنيا أنها جميلة: “ورأى الله أنّ ذلك حسن” إلاّ لأن الرحمة كانت تملأ أرجاء هذا الكون الفسيح.

1- الخلق أوّل أعمال الرحمة

يبدأ الكتاب المقدّس بعبارة “في البدء خلق الله السماوات والأرض”. قلّما ننتبه في تأمّلنا إلى الكلمة الأولى، “في البدء”. في الحقيقة هذه ليست الترجمة الحرفيّة لهذه الكلمة، فهي مشتقّة، بحسب اللغة العبريّة من كلمة “رأس” (روش بالعبريّة). يقصد الكاتب القول أنّ الخلق هو رأس الأمور، أي أهمّها. أهم ما قام به الله هو أنّه خلّق، لدرجة أنّ التقليد اليهوديّ يعتبر أنّ الخلق هو أهمّ أعمال الله الخلاصيّة؛ إذ أنّ الله خلّصنا من العدم وأحضرنا إلى الوجود. وسفر الجامعة يقول “كلب حيّ أفضل من أسد ميت”. والشرّاح المسيحيّون يوافقون على هذه النظرة. نعم، الخلق هو أهمّ عمليّة خلاص؛ هو أهمّ من أيّ عمل خلاصيّ آخر، أهمّ حتّى من التجسّد ومن موت وقيامة يسوع المسيح! بأيّ معنى؟ نسأل أنفسنا: ما معنى أنّ المسيح تجسّد؟ أي أنّه اتّخذ جسمًا كجسمنا. فلو لم يكن 1، لولا خلق الجسم في بداية الكتاب المقدّس، لما كان هناك من تجسّد، فبماذا سيتجسّد الابن؟ إذًا الخلق هو التحضير الأوّل الضروري لحدث التجسّد العظيم. إذًا، في لحظة الخلق، كان الله يحضّر كلّ الخلاص الآتي. لم يكن الخلق بالتالي عملاً اعتباطيًّا قام به الربّ بدون هدف واضح، إلا وهو الخلاص. من هنا نتساءل أيضًا: لماذا تجسدّ المسيح؟ أو من أجل من؟ طبعًا من أجل الإنسان الذي خُلق في تك 1. وهكذا نسأل أنفسنا: من أجل من مات المسيح وقام؟ بالطبع من أجل الإنسان. فلولا الخلق إذًا لما كان من داع لا للتجسّد ولا لموت المسيح وقيامته.

ماذا نتعلّم من كلّ هذا؟ الخلق إذًا هو أهمّ أعمال الله وهو الأساس. إذًا، بالنسبة للربّ، الإنسان هو الأساس. وكأنّي أرى الله جلّ جلاله، يضع نفسه، ومنذ اللحظة الأولى في خدمتي، أنا الابن المحبوب. بالحقيقية، نصّ الخلق في تك 1 كلّه موجّه نحو هذه الفكرة. فالإنسان خُلق في اليوم السادس، لماذا؟ لكي يأتي في آخر المخلوقات. الله حضّر للابن المحبوب، كلّ مستلزمات الحياة من أرض وسماء ونبات وحيوان، حضّر كلّ شيء “حسن” حتى يأتي “الحسن جدًّا” “فلا يعوزه شيء” (مز 23: 1). تمامًا كما يفعل الأب والأم حين يعلمان بقدوم المولود الجديد، كيف يبدأن فورًا بشراء الحاجيّات وتجهيز الغرفة والسرير والحلوى والعيد وكلّ شيء، لأنّ الأغلى على قلبيهما قادم. هكذا يبدأ الكتاب المقدّس يعلّمني أنّ لي أب محبّ في السماء وأب قدير، لا بلّ كليّ القدرة، يخلق كونًا هائلاً بكلمة. ويخلقه لي على قياسي ليلبّي لي كلّ حاجياتي. إن كان الله “أبونا” معنا، فمن علينا.

من هنا، علينا أن نفهم أنّ الله يدعونا إلى رحمة كلّ إنسان على وجه الأرض لعدّة اعتبارات:

– أوّلاً يطالبنا الله بما قام به هو قبلنا. يطلب منّا أن نرحم، لأنّه هو رحمنا أوّلاً وأعطانا كلّ الكون كعربون لهذه الرحمة. هذا ما أوضحه يسوع المسيح بقوله: “أحبّوا بعضكم بعضًا، كما أنا أحببتكم”. إذًا، هذه الرحمة ليست سوى تمثّل بمن بادر هو فخلقنا وأحبّنا ورحمنا حتّى المنتهى.

– ثانيًّا، نفهم أنّ كلّ إنسان هو محبوب بشكل هائل من الله، فإن لم نحبّه أحزنّا قلب الربّ حزنًا لا حدود له. فإن أحببنا الله بصدق، لا يمكننا سوى أنّ نحبّ أولاده، جميع أولاده، أصالحين كانوا أم أعداء.

– ثالثًا، هذه المحبّة الإلهيّة الهائلة لنا نحن البشر هي الدافع الأوّل لرحمتنا ببعضنا. فما الداعي الآن أن لا أحبّ الآخرين أو أن امنع عنهم يدًا ممدودةً بالخير والرحمة؟ هل أخشى بعطائي المجّاني أن ينقصني ما أعطيه؟! إن كنت مؤمنًا حقًّا أنّ الله خلق لي كونًا فسيحًا، بالتالي فمن المستحيل أن ينقصني شيء، طالما أنا بين يديّ أبي. لن يدخل بعد اليوم الخوف من العطاء إلى قلبي. لا بل يمكنني القول أنّ من يخشى العطاء السخيّ والرحوم، هو لا يؤمن حقًّا أنّ الله أبوه وأنّه يعتني به ليل نهار؛ بل هو يجعل ممّا بين يديه ستر له وملجأ، بدل أن يكون الله وحده متكّل له.

– أخيرًا وليس آخرًا. إذا فهمنا أنّ الخلق هو عمل خلاصيّ، بكلّ ما للكلمة من معنى، نفهم بالتالي أن حبّ بالحياة، أمر ضروريّ؛ لأنّه تعلّق بالخلاص. نعم، إنّ الخطوة الأولى في مسيرة القداسة هي حبّ الحياة. أوّل علامات القداسة هي أن أستقيظ صبحًا وفي قلبي وعلى شفتيّ ابتسامة الرجاء بذلك الذي لا ينعس لا ينام، ويسهر عليّ فلا أخزى. من لا يحبّ الحياة، لا يحبّ الله. فالحياة أولى اعمال الله. فكيف يمكننا أن نحبّ الله ونحمده إن كنّا بالحقيقة نقول له: أنت يا ربّ عظيم وقدير، إلاّ أنّ أول ما قمت به، أي الخلق، كان خاطئًا! لا، الخلق هو الأساس. إن لم تكتشف جود الله وحبّه في هذا الأساس، فأنت تكذب على نفسك أنّك ترى في الله صلاحًا في أوان آخر. الله يدعونا إلى اكتشاف جمال ما أعدّه لنا. الحياة جميلة لأنّه صنع يديّ الله.

وهذا الحبّ للحياة هو الأساس المتين لكلّ عمل رحمة يمكن أن نقوم به. فمن لا يحبّ الحياة لا يمكنه أن يرحم أحدًا. فاقد الشيء لا يعطيه. كيف توزّع فرحًا على الآخرين إن كنت أنت الأشدّ عطشًا لهذا الفرح. وأي ابتسامة ترسم على شفتيك؟ أليست ابتسامة صفراء مصطنعةً لا تُقنع أحدًا؛ فأنت أوّل من لا يقتنع بها. الرحمة الحقيقيّة ليست أن توّزع على الناس بعضًا من فتات الفرح، بإحسان أو مساعدة. الرحمة الحقيقيّة هي أن تدلّ البشر على ينابيع الفرح. فاكتشف أنت أوّلًا تلك الينابيع، ومن ثم اذهب لتقود الناس إلى ما اكتشفت.

2- رحمة الله تعمل منذ اللحظة الأولى

بعد تأمّلنا بالكلمة الأولى من الكتاب المقدّس، سوف أنتقل معكم إلى التأمّل بالكلمة الثانية، “خلق”، “في البدء خلق الله”. فعل خلق يُلفظ بالعبريّة (بَرا)، وهو معروف أيضًا في لغتنا العربيّة كفعل “بَرَأ” أي خَلَقَ، على ما يذكر النشيد الميلاديّ عن الله بقوله “باري البرايا تمّم كلامو”. ولكن، هذا الفعل له خاصيّة رائعة، بَرَأ هو الفعل الموجود في جذر فعل (الفعل المَزيد) “أَبرّأَ”، أي شفى. إذًا، الله يخلق بأن يشفي. المعنى الأوّل هو أنّ الله شفانا من العدم. ولكن المعنى الحقيقيّ هو أنّ الله يخلق إنسان محبوب، وهو يعلم تمامًا أنّه ضعيف، وأنّه لا بدّ أن يسقط في الخطأ. لذلك، يُعلن الله نفسه، ومنذ اللحظة الأولى أنّه الشافي، شافي الإنسان من الضعف والأخطاء. يُعلن الله نفسه المخلّص. سامحني الله وشفاني، حتّى قبل ان أقع في الخطأ. لا يمكننا أن نتصوّر رحمةً أكبر من هذه. وهذا ما يدعونا أيضًا إلى حبّ الحياة وإلى الوثوق أنّ الله لن يتخلّى عنّا، وأنّه يحبّنا وسوف يظلّ على حبّه بالرغم من كلّ ما يمكن أن نقوم به؛ على ما يقوله المزمور: “وإن كانت خطاياكم كالقرمز، فأنا أبيّضها لكم. وإن عدتم إليّ، فأنا أجبر كسركم”.

هذه الحقيقة الرائعة، تدعونا بقوّة أن نرحم بعضنا، دومًا وفي كلّ الأحوال. يسهل على الجميع أن يتصرّفوا برحمة تجاه “فقراء الله” الطيبين الصالحين. يرون فيهم أناسًا أبرارًا ومظلومين. ولكن، عندما نجد الخاطئ أمامنا، يتملّكنا إحساس بضرورة تفضيل المنطق على الرحمة وإحقاق العدل بحق المخطئ الذي يستدعي القصاص وقطع العلاقة معه. لذلك، يُعلن الله في الكلمة الثانية من الكتاب المقدّس: كلّ الناس ضعفاء، وأنا شافيهم. فإن كان الحال كذلك، تذكّر يا إنسان أنّك أنت أيضًا ضعيف، والله يرحمك بدل الاقتصاص منك. فارحم بالتالي أخاك كما رحمك الربّ. واسمع يا إنسان حقيقةً يعلنها الله نفسه، أنّ أخاك ضعيف ويقع في الخطأ. لم يكذب علينا الله. لم يقل أنّه خلق على الأرض ملائكةً سماويّين، بل بشرًا ضعفاء، إنّما مدعوّون إلى القداسة. إذا كنت تنتظر من أخيك أن يكون ملاكًا لترحمه، فلن ترحم أحدًا في حياتك. وإن كان أخوك ملاكًا، فما حاجته بالتالي إلى رحمتك؟ نحن بحاجة لبعضنا لا في وقت القوّة بل في ساعات الضعف.

نعم إخوتي، لا بل أتجاسر على القول إن ضعف أخي لهو فرصة لي كي أمارس الرحمة معه فأتقدّس أنا لأنّني تشبّهت بالله. وكأن ضعف أخي هو بالحقيقة نعمة لي تعني القداسة، عليّ ألاّ أخسرها.

3- أحبوا بعظكم بعضًا كما أنا أحببتكم

بعد أن تأمّلنا سويًّا بالنصّ الأوّل من الكتاب المقدّس، أجد أنّه من الواجب التوقّف أيضًا أمام النصّ الثاني، أي خبر أبوينا الأوّلين، آدم وحوّاء، وقصّة سقوطهما في الخطيئة التي أدّت بالربّ إلى طردهما من الجنّة. فهذا النصّ يظهر، في النظرة الأولى، أنّه يعاكس تمامًا منطق الرحمة؛ يظهر وكأنّ وجه الله قاس جدًّا. إلاّ أنّ فهمه بالشكل الصحيح سيغيّر هذه النظرة رأسًا على عقب.

دعونا أوّلا نفهم ما هي خطيئة آدم التي جعلت الله يتصرّف بهذه الطريقة. تتسارع الأسئلة في رأس كل من يقرأ هذا النصّ. نستغرب أنّ أولى كلمات الله للإنسان هنا هو أمر سلبيّ، بمعنى أنّه منعه من الأكل من هذه الشجرة. يتوقّع القارئ ان يستقبل الله المحبّ الإنسان المخلوق بكلام إيجابيّ، أن يرحّب به، أن يعلن له عن حبّه وعن مشروعه الخلاصيّ. إلاّ أنّ النصّ يعرض لنا إلهًا يمنعّ الإنسانّ من الشجرة، قائلاً له: “أمّا شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها، لأنّك يوم تأكل منها موتًا تموت” (تك 3: 17). لماذا لا يمكنني أن آكل من هذه الشجرة؟ إذا كانت الشجرة شجرة معرفة، فما المشكلة في أن أعرف؟ هل يريدني الله أن أبقى غبيًّا؟ أليست المعرفة أمرًا صالحًا؟ وأنت يا من تقرا الآن هذه الصفحات، ألست تسعى إلى المعرفة؟ فهل ترتكب أنت الآن خطيئةً اصليّةً جديدةً؟ وإن كانت تلك شجرة ممنوعة، فلماذا زرعها الله؟ الا يكون هو سبب الخطيئة؟ الله يعرّض الإنسان للتجربة، تمامًا كما يفعل الشيطان! والأهمّ من ذلك كلّه، إذا خالفت أوامر الله وأكلت من الشجرة، هل أستحقّ عقاب الموت؟ نتساءل: كم من مرّة خالفنا أوامر أهلنا، هل وجدنا يومًا أبًا أو أمًّا يقتلان ولدهما لأنّه غير مطيع؟ فكيف يمكنني أن أتصوّر أن يكون أبي وأمي أحنّ عليّ من الله؟ وكيف يمكنني بالتالي أن أؤمن بهذا الإله؟ والسؤال الأخير: إذا أكل منها آدم، فما ذنبي أنا اليوم لأتحمّل تلك “الخطيئة الأصليّة”؟ لماذا عليّ أن أولد حاملاً دينًا لا ذنب لي فيه. يحاسبني الله على ما لم أفعله! هذا ليس عدلاً وطبعًا ليس من شيم المحبين.

كلنا نطرح في عمق قلبنا هذه الأسئلة أو يطرحها علينا إخوتنا وأولادنا وقد لا نجد لها جوابًا شافيًّا. لا يمكننا أن نعبر عن أولى أحداث الكتاب المقدّس مرور الكرام، دون ان نجد لها الشرح الواضح والمقنع والشافي. وإلاّ لتعثرت كلّ قراءاتنا للكتاب المقدّس. فإن كانت الصفحات الأولى بهذا الغموض، لن نتمكّن من فهم باقي الأحداث بالعمق المطلوب؛ خاصّةً وإن كلّ الباقي يرتبط بهذا الحدث ارتباط النتيجة بالسبب. أتى يسوع إلى أرضنا ليرمّم صورة الإنسان التي بليت بالخطيئة، وليعيدنا إلى ملكنا الأول في الفردوس.

للإجابة على هذه الأسئلة، لا بدّ لنا من قراءة بعض آيات هذا النصّ بتأن كبير، حتّى المعنى الحقيقيّ المقصود من كلّ تعبير فيها. فالكتاب المقدّس لا يُقرأ كقصّة عاديّة أو كفلم سينمائيّ، بل هو نصّ ملهم من الروح القدس. لذلك نفهم أنّ الكلمة الواحدة في النصّ أرادها الله وألهما الروح القدس. لذلك فهي كلمة إلهيّة لها قيمتها وتشكّل معنى أساسيّ في النصّ وفي لاهوت الحدث.

أ- شجرة معرفة الخير والشرّ

يمنعنا الله من تناول ثمار “شجرة معرفة الخير والشرّ”. وهذه ليست صورة واحدة، بل نحن أمام عبارة تتكوّن من عدّة كلمات، علينا أنّ نحلّلها واحدةً واحدة، بدءًا من كلمة شجرة.

– شجرة: من الطبيعيّ أنّنا نتكلّم هنا عن شجرة رمزيّة؛ إذ لا نجد في الواقع أي شجرة تعطي معرفة. اعتدنا في الكتاب المقدّس على اعتبار أنّ الأمور الرمزيّة هي قليلة الأهميّة، وكأنّها غير واقعيّة أو أنّها لا تدخل في الدراسات اللاهوتيّة الجديّة. ولكنّ حقيقة الامر مغايرة تمامًا. فالرمز هو أهمّ من الأمور الواقعيّة وهو أعمق تعبيرًا وأصدق.

سأشرح هذا الأمر انطلاقًا من تشبيه واقعيّ: لنتخيّل أنّ هناك صبيّة بعمر الزواج، معجبة بشاب طيّب. وفي عيد ميلادها أحضر لها هذا الشاب هديّةً. فأي من هاتين الهديّتين ستفرح قلبها أكثر: ساعة غالية الثمن أم مجرّد وردة حمراء؟ صدّقوني إن قلت لكم أنّها ستفرح بالوردة الحمراء أكثر من أيّ شيء آخر. فالوردة الحمراء ترمز للحبّ الذي يقود الحبيبين إلى الزواج والارتباط الدائم. من هنا نفهم، أنّ هذه الوردة، التي لا قيمة ماديّة لها، فهي لا تؤكل ولا تُلبس، تحمل في داخلها قيمةً حياتيّة، تستمرّ طوال العمر. وهكذا هي الرموز في الكتاب المقدّس. قد تظهر في النظرة الأولى قليلة القيمة؛ كقولنا هنا “شجرة”، ولكن إذا ما فهمنا معناها، أنّها تدلّ على أمر يدوم طوال العمر، اتخذت بالتالي بعدها الحقيقيّ. الرمز يطلب من القارئ أن يتوقّف للتفكير في امر ليس طارئًا ولا عابرًا، بل هو يغيّر مجرى الحياة كلّها. وما يؤكّد نظرتنا هذه أنّ الشجرة في الكتاب المقدّس ترمز إلى الخلود. فهي عكس النبتة، تعيش من سنة إلى أخرى، وتثمر كلّ سنة. أمّا النبتة، فتثمر مرّةً واحدةً وتموت.

إذًا، من خلال رمز الشجرة، يقول لنا النصّ أنّنا سنعالج هنا أمرًا أساسيًّا يدخل في عمق تكوين الإنسان، كلّ إنسان سوف يوجد على وجه الأرض، من جيل إلى جيل. وهكذا بدأنا نتلمّس منطق أنّ هذه الخطيئة التي اقترفها آدم، ولم أفهم معناها بعد، سوف أولد أنا فيها ولو بعد آلاف السنين. كلّ هذه المعطيات سوف يوضحها لنا النصّ في باقي عبارات النصّ.

– معرفة: الصعوبة الاساسيّة تكمن في فهم عبارة “معرفة”. هل المعرفة أمر سلبيّ أم إيجابيّ؟ ولماذا هي ممنوعة؟ كلمة معرفة مشتقّة من فعل عرف. هذا الفعل في قواميس اللغة يعني: “فهم، أدرك، تعلّم، اكتشف”. إلاّ أنّه لا يحمل نفس المعنى في الكتاب المقدّس. علينا ان ننتبه إلى أنّ الكتاب المقدّس بشكل عام، والعهد القديم بشكل خاص، ولد في بيئة مشرقيّة متأثرة بالثقافة العبريّة والكنعانيّة والآراميّة. وهو يتكلّم لغتها، التي تختلف عن باقي اللغات، وحتّى عن العربيّة الفصحى. ولذلك فنحن نسيء فهم الكثير من تعابير الكتاب المقدّس. لأنّنا نقرأها بلغاتنا، دون الانتباه إلى الفارق اللغويّ والثقافيّ الذي أشرت إليه.

نجد مثلاً أنّ فعل “عرف”، مستعمل في بداية الفصل الرابع من سفر التكوين: “وعرف آدم امرأته حوّاء فحبلت وولدت قاين” (تك 4: 1). فعل “عرف” هنا لا يمكن أن نفهمه بمعنى “فهم، أدرك، تعلّم، اكتشف”. فهذا المستوى من العلاقة لا يمكنه أن يقود إلى إنجاب الأطفال. لذلك، فالمعرفة التي تشير إليها الآية هي علاقة حميمة، علاقة زواجية دائمة. أي أن فعل عرف في الكتاب المقدّس يعني “أقام علاقة”. وكلّ علاقة تفترض أن ينشأ بين الإثنين نوع من “الامتلاك”، بالمعنى الإيجابيّ للكلمة. طبعًا، فحتّى إذا ما تكلّمنا عن مجرّد علاقة صداقة بين شخصين، يمكننا بالتالي أن نتكلّم عن امتلاك بينهما. فأنا أقول عنه أنّه “صديقي”، أي خاصتي، أي أنّ لي علاقة به أمتن من علاقة الآخرين به. فهو صديقي انا وليس صديقك أنت؛ لي وليس لك.

وكلّ علاقة، وكلّ امتلاك، يفترض وجود سلطة، أو تسلّط من الواحد على الآخر. وهذه السلطة هي بالمعنى الإيجابيّ أيضًا. فالمتزوج مثلاً، لا يمكنه أن يقرّر وحده أمور حياته، بل إنّ لزوجته عليه حقّ. قراره لم يعد بيده. لذلك فالعلاقة هي مشاركة في اتّخاذ القرارات. من هنا نفهم أنّ فعل عرف في الكتاب المقدّس يأخذ معنى “قرّر”. وما يؤكّد هذا الأمر، أنّ لهجتنا اللبنانيّة المحكيّة، كما أغلب لهجات المنطقة، تعطي لفعل “عرف” نفس المعنى، أي “قرّر”. نجد مثلاً في نقاش بين اثنين من الناس أنّ أحدهما يقول لصاحبه: “أنا بعرف شو بدّي أعمل”، بمعنى أنّه قرّر كيف سيتصرّف. أو نجد أيضًا أن الشخص يردّ على من يعترض على تصرّف منه، فيقول له: “أنا بعرف شغلتي”، أي أنا من يتّخذ القرار في هذا الشأن. إذًا، عرف في الكتاب المقدّس تعني قرّر.

ب- من يقرّر الخير والشرّ؟

بدأنا الآن نفهم بشكل أوضح ما هي هذه الخطيئة، هي “قرار الخير والشرّ”. إذًا يطرح النصّ أمامنا مسألة: من له الحقّ في قرار الخير الشرّ. ما هو الخير الذي يجب أن نفعله، وما هو الشرّ الذي يجب أن نتجنّبه. ولكن، هذه المسألة تطرح إشكاليّة أخرى ليست أقلّ صعوبة من سابقاتها: ألا يحقّ للإنسان أنّ يقرّر هو ما هو خيره وما هو شرّه؟ هل عليه أن يقبل قرارات الله بشأن الخير والشرّ؟ أليس الإنسان حرًّا؟ ألم يخلقه الله كذلك؟ أليس الإنسان راشدًا ليقرّر هو ما يفيده وما يضرّه؟ وحتّى وإن قلنا أنّ الله وحده يعرف حقيقةً ما هو الخير وما هو الشرّ، نقول أنّ للإنسان الحقّ الحرّ بأن يجرّب وأن يفعل ما يراه هو خير له، حتّى وإن لم يكن بالحقيقة كذلك. المهمّ، لا يمكننا أن نقبل أن يحكم الله على الإنسان بالموت، “موتًا تموت”، لأنّه استعمل بشكل خاطئ الحريّة التي منحه الله إيّاها. وإلاّ لما كانت هذه الحريّة حريةً حقيقيّةً، بل حريّة مشروطة بأن يطيع الإنسان كلّ ما يأمره به الله. وهذه ليست بالحقيقة حريّة، بل هي عبوديّة متستّرة بلباس وهميّ من الحريّة. إذًا، يحقّ للإنسان أن يقرّر خيره وشرّه، فأين المشكلة إذًا؟

يمكن بالتالي لآدم أن يضع للكون نظامًا حسب ما يروق له. حتى ولو كان هذا النظام خاطئًا. فالإنسان حرّ ومسؤول عن تصرّفاته. يمكنه أن يُخطئ في حساباته. ومن ثمّ يتعلّم من أخطائه ويحسّن أداءه مع الوقت. ليس من الضروريّ أن يفرض الله علينا نظامًا يأتينا من فوق، حتى ولو كان هذا النظام هو الأفضل. فالدراسات تدلّ على أنّ أفضل ما يتعلّمه الإنسان ويكتسبه هو ما يتعلّمه من أخطائه. إذًا وحتّى هذه النقطة نجد أن الأفضل لآدم أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ، أي أنّنا لم نفهم بعد أين هي المشكلة.

علينا ان ننتبه دومًا إلى أنّ آدم يرمز إلى الإنسان، إلى كلّ إنسان. من هنا نسأل: كم آدم يوجد على وجه الأرض؟ نتكلّم اليوم عن حوالي سبع مليارات آدم. لو قرّر كلّ إنسان، آدم، أن ينظّم الكون على مزاجه. كلّ منهم سيقرّر ما يناسبه هو ومن وجهة نظره هو. وبالطبع نظام الأول لن يناسب الثاني. ممّا سيؤدّي إلى انتشار الخلافات لا بل الصراعات والحروب. وهكذا سينتشر الاقتتال وسيتفشّى الموت بين الناس.

الآن نفهم انّ الله لم يحكم على آدم بالموت إذا ما أكل من شجرة معرفة الخير والشرّ، بل هو يخبره بأنّه هو من سيسبب الموت، إذ قال له، يوم تأكل منها موتًا تموت؛ ولم يقل له “موتًا أميتك”. إذًا ليس الله من سيميت آدم بل إنّه هو من سيقتل أخاه. إذًا الخطيئة الأصليّة التي ارتكبها آدم والتي سبّبت الموت هي خطيئة الأنانيّة. أن يتصرّف الإنسان دون أن يحسب حسابًا لأخيه الإنسان. الله يطلب منك أن تعيش بحريّة، على أن تدع أيضًا أخاك يحيا بحريّة هو أيضًا، أي أن تقف حريّتك عند حريّة الآخر.

أوّل أعمال الرحمة تجاه أخي الإنسان هي أن أدرك أنّه موجود، أن أراه لا أن أتجاهله، وأن أقبل أنّه موجود، أي أن لا أنزعج من هذا الوجود معتبرًا إيّاه أنّه يسلبني شيئًا ما. الرحمة بهذا المعنى تسمح لكلّ منّا أن يوجد وأن يأخذ حيّزًا من الوجود، أن يأخذ حصّته من هذه الحياة. وهذه الرحمة هي ضروريّة لي أنا قبل أن تكون لأخي، لأنّه هي التي ستبعدنا عن التقاتل، فلا نموت كلانا بسبب أنانيّتنا.

ج- الطرد

إذا كان الله يحبّ الإنسان إلى هذا الحدّ، فلماذا طرده من الجنّة؟ كما في كلّ مرّة، لا بدّ لنا من قراءة النصّ كلمةً كلمة لنفهم المقصود. نجد شرح سبب طرد آدم في تك 3: 22 التي تقول: “لا يمدّن يده إلى شجرة الحياة فيأكل منها ويحيا إلى الأبد” لذلك طرده الله من جنّة عدن. غدًا السبب هو شجرة ثانية رمزيّة، موجودة في جنّة عدن، ألا وهي شجرة الحياة، التي زرعها الله مع شجرة معرفة الخير والشرّ ولم يمنع الإنسان من الأكل من ثمارها، بل على العكس، كانت رغبة الله الاساسيّة أن يأكل الإنسان من شجرة الحياة ليحيا إلى الأبد. ولكنّه الآن لم يعد يريد أن يأكل منها آدم. لماذا؟ علينا أولاً أن نفهم رمزيّة شجرة الحياة. طبعًا هذه الشجرة ترمز إلى الحياة، إلى الحياة الأبديّة. وعلينا ان نفهم أنّ ما هو في الحياة الأبديّة لا يمكنه أن يتغيّر. تصبح حالته أبديّة، أي بدون تغيير. إذا كان الإنسان في حالة النعمة ودخل الحياة الأبدية سيصبح قدّيسًا وسيبقى هكذا إلى الأبد؛ لا يمكنه بعد دخول النعيم الأبديّ أن يبتعد عن الله ليعود فيهبط إلى الدينونة. والعكس صحيح، من يدخل الحياة الأبدية وهو في حالة الخطيئة يدخل إلى دينونة أبديّة. من هنا نفهم، أنّ الله كان يريد لآدم أن يدخل الحياة الأبدية، إلاّ أنّه وبعد سقوطه في الخطيئة يجب ألا يأكل الآن من شجرة الحياة، حتّى لا يضيع إلى الأبد. إذًا، اخرج الله آدم من الجنّة ليحميه، ليعطيه فرصةً ثانيةً ليتطّهر فيعود ويأكل. يأكل وهو في حال النعمة ليحيا إلى الأبد مع الله. الربّ متمسّك بك إلى آخر درجة.

خاتمة

الله خلق عالمًا من الرحمة. فكلمة رحمة مشتقّة أساسًا من كلمة رحم أي أحشاء، حيث يولد الإنسان. ومن هذه الأحشاء الإلهيّة، من هذه الرحمة العظمى، خرج كلّ شيء إلى الوجود. الخلق والحياة والوجود كلّها رحمة برحمة. وبدونها، كما رأينا في نصّ آدم، يعود كلّ شيء إلى الخواء والخلاء، ندمّر الوجود وندمّر بعضنا بعضًا.

من هنا علينا أن نفهم أنّ الرحمة ليست بعد اليوم خيارًا، بل هي ضرورة حتميّة لأنّها فكر الله نفسه ومشروعه الأوّل والأساسيّ. من لا يقبل الرحمة يفقد بالتالي إنسانيّته، لا بل وجوده.

في هذه السنة، نحن مدعوّون إلى إعادة اكتشاف طبيعتنا الحقيقيّة، أنّنا من الرحمة خرجنا وإلى الرحمة نحن مدعوون وإلى الرحمة أيضًا سوف نعود. فلا نفقدّن إذًا علّة وجودنا ومصدر كلّ خير وفرح وحياة فينا.

مراجع البحث

– MICHAELI F., Le Livre de la Genèse, II, Delachaux & Niestlé, Neuchâtel, 1957 – 1960. (T. 2435/1-2)

– RAD G. von, Le livre de la Genèse, CAT I, Delachaux et Niestlé, Neuchâtel, 1968.

– WENHAM G.J., Genesis 1-15, WBC 1, Word Books, Dallas-Texas, 1987.

– WESTERMANN C., Genesis I-II-III, Augsburg/Fortress Press, London – Minneapolis, 1984, 1985, 1986.

–              , Genesis, a Practical Commentary, Eerdmans, Grand Rapids, 1987.

Scroll to Top