Almanara Magazine

الرحمة في المزامير

الأب أيوب شهوان ر.ل.م.

مقدّمة

تعكس المزامير حياة الإنسان في معظم حالاته الروحيّة والمعنويّة والنفسيّة والجسديّة، مَن قرأها أو تلاها، أكان مؤمنًا أم غير مؤمن، وجد انعكاسًا لوجوده في هذه الأشعار المحرَّرة مئات السنين قبل مولد ربّنا يسوع المسيح، والتي أضحت تُراثَ صلاةٍ ولا أجمل للأجيال المتتالية وستبقى إلى منتهى الدهر؛ فالولادة والموت، والآلام الناتجة عن الأمراض، والأوجاع الكثيرة المتنوّعة الأسباب، والحرب والسلام، والوحدة والبحث عن الله، وسوى ذلك من الأوضاع والحالات، كلّ اختبارات الإنسان هذه تنعكس كما في مرآةٍ في المزامير، وليس فقط الحياة البشريّة، بل أيضًا الكون، والأحداث الخاصّة بشعب إسرائيل، وتاريخ الخلاص، كلُّها تجد مكانًا لها في المزامير.

هكذا يُضحي كتابُ المزامير صوتَ الله الذي يصبح صلاةَ بني البشر عندما يقفون في حضرته، عالمين أنّهم بحاجة فعليًّا إلى محبّته.

تكوّنت المزامير من مجموعة من الأشعار ومن صلوات تُتلَى إنْشادًا.

يؤكّد مز 1 حرفيًّا، وهو الذي يقدِّم لكتاب المزامير كُلِّه، على الهذيذ بشريعة الربّ نهارًا وليلاً (آ 2)، أي على تردادها باستمرار في القلب وعلى الشفتين. يصبح كتاب المزامير كتابَ تأمّلٍ شخصيٍّ في شريعة الربّ. الرجل البارّ هو في مواجهة مع الأشرار. فقط بعض “الأبرار” يتمتّعون بقوّة داخليّة لكي يصلّوا، حتّى ولو في أوضاع صعبة وغير ملائمة. كالشجرة التي تنمو على مجاري المياه (آ 3)، هكذا ينمو الصدّيق في غنى عمل الله.

لقد تمّ تقسيم المزامير، استنادًا إلى موضوعاتها، إلى خمسة كتب: كما تتضمّن التوراةُ التفسيرَ التاريخيَّ والحكميَّ للتحرير، كذلك يتضمّن كتابُ المزامير عقيدةَ عملِ الله الرحوم، والإعجابَ به، وكلّ ذلك يتحوّل في النهاية صلاةً. ليس المزمورُ فعلَ إيمانٍ وحسب، بل يُتَرجَم أيضًا بتشفّع، وبرفع الشكران، والذي يصلّي يُحَدَّد بأنّه إنسان يريد أن يكون بارًّا.

يوصي آباء الكنيسة بأن تُتلَى المزامير بالمسيح يسوع لتأخذ ملءَ معناها، ويتجلّى بالتالي أقصى غناها.

1 – ترابط بين المزامير والرحمة

سنركّز تفكيرنا وبحثنا على مزامير مختارة حيث يبرز موضوع الرحمة في كلّ بُعْدِه الوجوديّ وغناه اللاهوتيّ.

يعبّر العديد من المزامير عن رحمة الله بأناشيد هي روعة في الجمال، نعرض بعضَ الأمثلة منها:

– “سُبُلُ الرَّبِّ جميعُها رَحمَةٌ وحَقٌّ لِمَن يَحفَظونَ عهدَه ووصاياه” (مز 25: 10).

– “يا رَبُّ في السَّماءَ رَحمَتُكَ، وإلى الغُيومِ أمانَتُكَ” (مز 36: 6).

– “الرَّبُّ رؤوفٌ، رَحيمٌ، طَويلُ الأَناة، كَثيرُ الرَّحمَة” (مز 103: 8؛ 145: 8).

– ” كما يَرأَفُ الأَبُ ببَنيه يَرأَفُ الرَّبُّ بِمَن يَتَّقونَه” (مز 103: 13).

كما لدى الأنبياء، كذلك في المزامير، يصغي الربّ إلى المساكين، ويعزّيهم، ويهبهم عونه، لأنّه، من حيث هويّته، هو إله رحيم حنون وكلّيّ الرأفة[1].

إلى جانب تسبيح الله في المزامير، هناك أيضًا الاستغاثة به لِعِلْمِ المستغيث وإيمانه بأنّ الله سيستجيب حتمًا: “إرحمني، يا الله” (مز 51: 3؛ رج مز 4: 2؛ 6: 3). مؤثّرة جدًّا هذه الاستغاثة برحمة الله في بداية المزمور 51، المنسوب إلى داود، والذي تمّ وَضْعُه بعد أن اقترف هذا الأخير فعلَ زنى مع بتشابع، زوجة أوريّا، والذي طلب منه النبيُّ ناتان أن يؤدّي حسابًا عن سلوكه، فهتف إلى الربّ قائلاً: “إِرحَمْني، يا أَللهُ، بِحَسَبِ رَحمَتِكَ، وبِكَثرَةِ رأفَتِكَ اَمْحُ مآثمي” (مز 51: 3).

في النهاية، تُسْتَبْدَل الاستغاثة، بشكل دائم تقريبًا، بنشيد شكران وابتهاج: “إِحمَدوا الرَّبَّ لأَنَّه صالِح، لأنَّ إلى الأبدِ رحمتَه” (مز 106: 1؛ رج 107: 1). تُنشِدُ المزاميرُ رحمة الله وتمدحها، ويستعيد سفر الحكمة هذا التسبيح قائلاً: “أَمَّا أَنتَ، يا إِلهَنا، فإنَّكَ صالحٌ صادِق طويل الأَناة، ومُدَبّر كُلَّ شيءٍ بالرَّحمة” (حك 15: 1).

كتب البابا فرنسيس في هذا السياق ما يلي: “تُظهر المزامير، بشكل خاصّ، عظمة العمل الإلهيّ: “هو الذي يغفر جميع آثامِك، ويشفي جميع أمراضكِ؛ يفتدي من الهوّة حياتَكِ، ويكلّلكِ بالرحمة والرأفة” (مز 103: 3-4).

ويشهد مزمور آخر، وبشكل أوضح، على علامات الرحمة الملموسة:

“يُجري الحكمَ للمظلومين، رازق الجياع خبزًا؛ الربّ يحلّ قيود الأسرى؛ الربّ يفتح عيونَ العميان؛ الربّ ينهض الرازحين؛ الربّ يحبّ الأبرار؛ الربّ يحفظ النزلاء، ويؤيّد اليتيم والأرملة، ويُضلُّ الأشرار في طريقهم” (مز 146: 7-9).

كذلك في مز 147: 3، 6 نرى “[الربّ] يثني منكسريّ القلوب، ويضمّد جراحهم؛ الربّ يؤيّد الوضعاء، ويُذِلّ الأشرار حتّى الأرض”.

ليست رحمة الله إذًا فكرة مجرّدة، بل حقيقة ملموسة يُظهِر من خلالها محبّتَه كأب أو كأُمّ يتأثّران حتّى الأحشاء من أجل ابنهما”[2].

إنّ الرحمة هي من الميزات الإلهيّة التي يُبرزها سفر المزامير بشكل واضح، إذ هناك مزامير يمكن إطلاق لقب “مزامير الرحمة” عليها، لأنّها تعبق بالكلام على عمل الربّ المُحِبّ الذي من خلاله يتوجّه إلى مؤمنيه ويتعامل معهم.

تتضمّن المفردة “رحمة” (ds,xñ,، “حِسِدْ”) معاني عدّة، ولذلك تُنْقَل من العبريّة بطرق مختلفة: “حنان”، “نعمة”، “رحمة”، “إحسان”، “صلاح”، “تساهل”، “محبّة”. تُبرز هذه المعاني سِمَةً بارزة عند الله، هي سِمَةُ الأمومة؛ فإن كان هناك مكان تقيم فيه الرحمة الإلهيّة، فإنّه “الحشا” (~ymix]r، “رَحَمِيمْ”)، حشا الله الأموميّ، الذي يتفاعل ويتحرّك، فيعفو عن الخاطئ، ويغفر الخطيئة الجسيمة المرتَكَبَة:

“أتنسى المرأة رضيعها، فلا ترحم ابنَ بطنها؟

حتّى لو نسيتِ النساء، فأنا لا أنساكِ” (أش 49: 15)؛

” كما يرأف الأب ببنيه، يرأف الربُّ بمن يتّقونه” (مز 103: 13).

في العالم البيبليّ، الجزء الأكثر حميميّة، الذي فيه تتركّز المشاعر، هو الرحم، الأمر الذي يخلق تقاربًا قويًّا بين الرحمة والولادة: “الحَمْلُ بالرحمة” يعادل “الإيلاد أو وَضْع الحياة في العالم”. تعطي المزامير صوتًا للإنسان ولجسده، ومن خلال الجسد وأعضائه تجد الصلاةُ إيقاعاتها، وأوقاتها، وفسحاتها، ليس لأنّ النفْسَ والروحَ غير مشتركَين في ذلك، بل لأنّ الكتاب المقدّس يلجأ إلى المفهوم “الجسدانيّ” للإنسان في تعابيره، لكن بالمعنى الأكثر روحانيّةً للكلمة، إذ لا جَسَدَ منفصل عن نفْسِه، ولا نَفْسَ ذائبة في الجسد الذي هي فيه. عندما يصلّي المؤمن، ويحبّ، ويتألّم، ويسبّح، وبكلمة واحدة، عندما يحيا، فهو يفعل ذلك بكلّيّته المعنويّة والروحيّة والجسديّة. المزامير تولي الجسدَ أهمّيّة واضحة، أو بحسب تعبير بُّول بُوشان[3]، هي صلاة الجسد: “إنّ الأداة السريعة العطب للصلاة، والعائق الأوضح في وجه الشرّ البشريّ، هو الجسد، إذ يبدو أنّه، بالنسبة إلى صاحب المزامير، محوريٌّ، ليس لأنّه غير مكترث بالنفْس، بل، على العكس، لأنّ النفْس لا تَعبُر ولا تَسْطَعُ إلاّ من خلال الجسد. كتاب المزامير هو صلاة الجسد… الجسد هو مكانُ النفْس، وبالتالي الصلاة تَعْبُر كلَّ ما ينتج في الجسد. هو الجسد ذاته مَن يصلّي: “عظامي كلّها تقول: مَن مثلك، أيّها الربّ؟!” (مز 35: 10).

إنّ تقديم مزامير الرحمة يُوجِبُ إيلاءَ البُعْدِ الجسديّ اهتمامًا خاصًّا، لأنّ غنًى أنتروبّولوجيًّا كهذا يُضفي شيئًا من العدالة على الرؤية البيبليّة للإنسان، من جهة، ويحترم أيضًا الوَجْهَ الذي به قرّر الله أن يعرّف بذاته، هو الذي يتكلّم لغةً يمكن أن يفهمها الجميع، ويتحدّث مع البشر مخاطبًا إيّاهم كأصدقاء، من جهة ثانية[4]

2 – معطيات إحصائيّة حول « الرحمة » في المزامير

تَرِدُ عبارة «رحمة الله» مباشرةً في 63 مزمورًا من أصل 150.

ترد عبارة “الرحمة” ومشتقّاتها 144 مرّة في المزامير على الوجه التالي:

– الفعل “إرحمني” : 20 مرّة؛

– المصدر “رحمة” : 117 مرّة؛

– الصفة “رحيم” أو “رحوم” : 7 مرّات.

يدلّ هذا العدد الكبير من الاستعمالات على أنّ “الرحمة” هي مبدأ متجذّر في حياة شعب الله، وتعبير عن اختباره الروحيّ العميق، وأساس متين له. يرتبط “طلب الرحمة” بحالات عدّة يمرّ بها الإنسان، بعضها صعب ومُضنٍ، مثل:المرض، البؤس، الضيق، الاضطهاد، الشدّة، الموت، الحزن، الخطيئة، الوحدة، الخطر، الضعف، الذلّ؛وبعضها الآخر طيّب وهانئ، مثل: الاتكال على الربّ، الرجاء، الثقة، الأمانة، التأمّل، الصلاة، التقوى، التتلمذ، الاستقامة، السعي إلى الكمال، عمل الخير، الفرح، التسبيح.

3 – مصطلحات الرحمة في الكتاب المقدّس

مَن تصفّحَ العهد القديم صادف العديد من المفرَدات التي تحكي عن الرحمة الإلهيّة؛ ومن أجل فهمٍ دقيقٍ لموضوعِ الرحمة في المزامير، لا بُدَّ من التمييز بدايةً بين المفردات المُستَعمَلة في هذا السفر خاصّة، وباقي الأسفار المقدّسة عامّةً، مثل “الرحمة”، و”الرأفة”، و”الصفح” وغيرها، تحاشيًا للالتباس والغموض، من جهة، ولتبيان المعاني الفعليّة والمتنوّعة التي يعبّر عنها الكتاب المقدّس من خلالها، من جهة ثانية. من أُولَى هذه المفردات كلمة “طُوبْ” (bWj)، “طِيبَة”[5]، تليها كلمة “حِمْلَهْ” (hlmx,)، “رحمة”، ثمّ كلمة “سِلِحَهْ” (hxlis.)، “مغفرة”، “شفقة”، فكلمة “حِسِدْ” (ds,x)، “رِفْق”، “عطف”، “حُسن التفات”، بالإضافة إلى الأفعال: “حَمَلْ” (lmx’)، “رَحِمَ”، و”حُوسْ” (sWx)، “شفِقَ”، و”حَنَنْ” (!n:x’)، “تحنّن”، “رَحِمَ”[6].

“الطِيبَة:

يُفيض الله الرحوم عطاياه على خائفيه ومحبّيه الذين يؤمنون بأنّه مملوء “طيبة” ومحبّة؛ هذا ما توحي به المفردة “طُوبْ” (bWj): “طوبى لِمَن تَختارُه وتُقَرِّبه، فيَسكُنُ في ديارِكَ، فنشبعُ مِن خَيراتِ بَيتكَ، ومِن قُدْسِ هَيكَلِكَ” (مز 65: 5). لكنّ “طِيبَة الله” تعني أيضًا تغاضيه عن الخطايا والمعاصي، ومسامحة مرتكبها بمجانيّة مطلقة تضع حدًّا للبعد عن بيت الآب، وتوفّر الاتصال به من جديد: “أَمَّا مَعاصِيَّ وخطايا شبابي فلا تَذكُرْ، بل على حَسَبِ رَحمتكَ اذْكُرني مِن أَجلِ صلاحِكَ، يا رَبِّ” (مز 25: 7).

وتتلاقى “الرحمة” مع مفردتَين يستخدمهما التفكير البيبليّ اللاهوتيّ في العهد القديم، هما: الأمانة والرأفة[7]:

– “الأمانة”:

تعبّر “الأمانة، بالعبريّة “إِمُونَهْ” (hnWma)، عن موقف الله الثابت تجاه الإنسان، مهما كان سلوك هذا الأخير، مع الإشارة إلى لجوء الله إلى التأديب عندما تدعو الحاجة، وفي ذلك أقصى درجات الرحمة الإلهيّة، من أجل أن يبقى الإنسان على الأمانة تجاه إلهه.

– “الرأفة”:

تعبّر “الرأفة، بالعبريّة “رحميم” (~ymix]r;)، عن الترابط القائم بين شخصَين. ومن أجل تسهيل فهم المعنى المقصود، يستلّ الكاتب البيبليّ صورةَ “رَحِمِ” أو “حشا” الأُمّ (~xr، “رِحِمْ”)، كما نقرأ في 1 مل 3: 26: “فكلَّمَتِ المَلِكَ المَرأَةُ الَّتي ابنُها الحَيّ، لأنّ أَحشاءَها تَحرَكَت على ابنِها”؛ ثمّ صورة أحشاء (~ymix]r;؛ “رحميم”) الأب للغاية عينها: “أَيكونُ أَفْرائيمُ ابنًا لي عزيزًا، ولدًا أَتَنَعَّمُ بِه؟ فإِنِّي كُلَّما تَحَدَّثتُ عنه لا أَنفَكُّ أَذكره، فلذلك اهتَزَّت له أَحشائي. سأَرحَمُه رَحمَةً، يَقولُ الرَّبّ” (إر 31: 20)؛ “كما يَرأَفُ الأَبُ ببَنيه، يَرأَفُ الرَّبُّ بِمَن يَتَّقونَه” (مز 103: 13)؛ أو أيضًا حشا الأخ: “ثُمَّ أَسرَعَ يوسفُ، وقدِ احترَقَت أَحشاؤُه شَوقًا الى أَخيه” (تك 43: 30).

هو أيضًا الحنان الذي يظهر تلقائيًّا في التصرّف من إبداء الشفقة بمناسبة حصول حادث أليم: “تَذَكَّرَ عهدَه لَهم، وأَشفَقَ بحسبِ مراحمِه الوافرة ” (مز 106: 45)؛ أو الصفح عن الإهانة: “وللسَّيِّدِ إِلهِنا الرَّحمَةُ والمغفرة، لأَنَّنا تَمَرَّدْنا عليه” (دا 9: 9).

“النعمة”، “العَطْف”:

في الواقع، إنّ معنى المفردة العبريّة “حَمَلْ” (lim:åh’) هو “نعمة”، “عَطْف”، “رِفْق”، تجاه أمرٍ ما. يشدّد الكتاب المقدّس على “إيجاد نعمة لدى الله”، كتعبير عن موقفِ رِفْقٍ من قِبَلِه. في أس 2: 9 لدينا المفهوم ذاته عند القول بأنّ هذه المرأة قد “وجدت نعمةً لدى الله”. ويقول الملاك لمريم: “لقد وجدتِ نعمةً عند الله” (لو 1: 30)، فأنشدت مريم: “لقد نظر الربّ إلى تواضع أمته…، وصنع بي عظائم” (لو 1: 48-49)، أي “صنع نعمةً إليّ” أو “ملأني من نعمته”. يُطلَب إلى الله أن يكون نعمةً لنا، ويبدي اهتمامًا بحياتنا، ويمدَّ يدَ العون إلينا، وكأنّنا نطلب إليه أن يصنع إلينا رحمةً.

– “الرحمة”:

تَرِدُ المفردة “حِسِدْ” (ds,x,î)[8] وحدها أو مع مضاف، مثل:

– “حسِدْ يَهْوَهْ” (hw”©hy>÷ ds,x,î)، “رحمة يهوه”[9]،

– “حِسِدْ إلُوهِيم” (~yhiªl{a/÷-ds,x,.)، “رحمة الله”[10]،

– “حِسِدْ إِيلْ” (l{a/÷-ds,x,)، “رحمة إيل”[11]،

– “حِسِدْ عِلْيُونْ” (!Ay©l.[,÷ ds,x,î)، “رحمة العليّ”[12].

الـ”حِسِدْ” هو رفق الله، إخلاصه، وأمانته، وصلاحه، وثباته في الاهتمام، ومحبّته، ورحمته. يمكن نقل الكلمة أيضًا بمعنى “اللطف” أو “العطف” أو “الرِفْق”. يصبح لطف الله أكثر رِقَّةً عندما نكون ضعفاء، سريعيّ العطب، خطأة، غير ثابتين، متقلّبين، غريبي الأطوار، قليلي الجاذبيّة، وقد نعتقد أنّ الله يُحسِن إلينا عندما لا يتذكّرنا، وقد يُحسِن عملاً بمعاقبتنا، وفي ذلك كلّه فعلُ رحمة. نحن هنا أمام إحسانات الله تجاه الأبرار أو تجاه شعبه، كما في مز 146، أو تجاه البشرّيّة بأسرها[13]؛ فهو “يكلّل بالرحمة والرأفة” (رج مز 103: 4)، لأنّه “رحيم رؤوف، طويل الأناة، وافر الحقّ والرحمة”[14]، و”رحمته منذ الأزل وإلى الأبد للذين يتّقونه” (مز 103: 17)، و”صالحٌ، غفور، وافر الرحمة لجميع الصارخين إليه”[15]. هكذا يدفّق الله رحمته من خلال الخيرات التي يهبها لشعبه.

– “الحبٌّ العظيم” (“رَحَمِيمْ” (~ymix]r)

يتمّ التعبير عن الرحمة التي يبديها الله تجاه شعبه بالمفردة “رَحَمِيمْ” (~ymxr)، المشتقّة من الاسم “رِحِمْ” (~x,r,)، الذي يعني أساسًا “رَحِم الأمّ”؛ فعندما يغدق الله رحمته على أحدٍ ما، أو يبدو رحيمًا، هو يبدو كالأمّ التي تتكوّن الحياة في رحمها، وتوفّر لها كلَّ مقوّمات نموّها واستمراريّتها. تَرِدُ المفردة العبريّة “رَحُومْ” (~Wxår:)، أي “رحوم”، أحيانًا مع المفردة العبريّة “حَنُّون” (!WNæx;)، أي “حنون”، تشديدًا على سعة مراحم الله التي تتماهى مع هويّته والتي يفيضها على الإنسان[16].

تعني الكلمة العبريّة “رَحَمِيمْ””محبّةَ القلب”، “محبّةَ الأحشاء”. إنّه مصطلح أموميٌّ في العمق، ويدلّ على القدرة على حَمْلِ أحدٍ ما في الداخل، وعلى التضامن معه في وضعٍ ما إلى حدّ عيش هذا التضامن كيانيًّا، والتألّم بسببه، أو التمتّع به وكـأنّه مسألةٌ خاصّة. إنّ هذه الصفة التي تُطْلَقُ على الله هي شيء يمكن أن يفهمه مَن أحبَّ إنسانًا آخرَ محبّةً كلّيّةً؛ هي أيضًا أمرٌ حَشَويٌّ، ينطوي على مشاركة عميقة، وفيه الكثير من الشَغَف. بإمكاننا بالتالي أن ننقل الفكرة كما يلي: “بحسب شَغَفِك العظيم بالإنسان، إرحم، يا الله”.

“التحنُّن”

يعني الفعل العبريّ “حَنَنْ”(!n:x’) تعاطيَ الله بحنان مع شعبه أو مع أفرادٍ منه، في أوقاتٍ يكونون فيها بحاجة إلى عطفه ورحمته، أو إلى عفوه عن خطيئة أو إثم، كما في مز 41: 5: “أنا قُلتُ: يا رَبّ، ارحَمْني واشْفِ نَفْسي، فإِنِّي إِليكَ خَطِئتُ”؛ أو في مز 51: 3: “إرحمني/تحنّن عليّ (ynNx، “حُنِّنِي”)، يا ألله”[17]، أو بحاجة أيضًا إلى نصرته بسبب الفقر أو الظلم أو الضيق كما في مز 9: 14: “لأَجلِ مُبغِضِيَّ ارحَمْني، يا رَبّ، وانْظُر إلى بؤسي، يا رافِعي مِن أَبوابِ المَوت”[18]. ملفتٌ للانتباه أحيانًا تواجد الفعل “حَنَنْ” مع موضوع نور وجه الله، إذ يسأل صاحب المزمور الربَّ أن يطلّ بوجهه عليه، فيستطيع عندها أن ينعم بعطفه الذي يُفيضه عليه: “في دُعائي أَجِبْني، يا إِلهَ بِرِّي. في الضِّيقِ فرجتَ عنِّي، فارحَمْني واستَمعْ إِلى صلاتي” (مز 4: 2)؛ “أَطلِعْ علينا نورَ وَجهِك، يا ربّ” (مز 4: 7)[19]؛ فالمرنّم، حين يرفع صلاته إلى الربّ، يسأله أن يحوّل وجهَه نحوه، فيتأكّد من هذه الالتفاتة أنّه مستعدٌّ لأن يرفق به وبحاله[20].

تبقى هذه الجولة على مصطلحات الرحمة جزئيّة إلى حدٍّ ما لأنّ التعابير عنها هي أوسع مّما عرضناه وأكثر تنوّعًا من ذلك، لكنّنا نكتفي الآن بالمفردات الأكثر تعبيرًا ووضوحًا في هذا المجال.

4 – رحمة الله تتجلّى في نجدته للبائسين

مَن يتلو المزامير لا يتوقّف عن أن يسبّح ويشكر ويمجّد الله، ولكنّه أيضًا يطلق أحيانًا كثيرة صراخه طالبًا من الربّ المعونة والنجدة، قائلاً: “إرحمني يا ربّ”، كما في الأمثلة التالية:

 – “في دُعائي أَجِبْني، يا إِلهَ بِرِّي. في الضِّيقِ فرجتَ عنِّي فارحَمْني واستَمع إِلى صلاتي” (مز 4: 2)؛

– “إِرحَمْني، يا رَبِّ، فلا قُوَّةَ لي، واشفِني، يا رَبِّ، فإِنَّ عظامي قد تَزَعزَعَتْ” (مز 6: 3)؛

– “لأَجلِ مُبغضِيَّ ارحَمْني، يا رَبّ، وانْظُر إلى بؤسي، يا رافِعي مِن أَبوابِ المَوت” (مز 9: 14)؛

– “إِلَيَّ التَفِتْ وارحَمْني، فإِنّي وحيدٌ بائس” (مز 25: 16).

– وفي تسابيح الشكر: “إحمدوا الربّ، لأنّ إلى الأبد رحمته (حِسِد)” (مز 107: 1).

لا يتوقّف الله عن إبداء هذه الرحمة نحو الصارخين إليه في ضيقاتهم، كما فعل نحو البحّارة المحفوفين بالمخاطر:

“فصَرَخوا إِلى الرَّبِّ في ضيقِهم، فخلَّصَهم مِن شَدائِدِهم.

أَرسَلَ كَلِمَتَه فشَفاهم، ومِنَ الهوّةِ أَنقَذَ حياتَهم.

فلْيحمَدوا الرَّبَّ لأَجلِ رَحمَتِه وعَجائِبِه لِبَني البَشَر،

ولْيَذبَحوا ذَبائِحَ الحَمْدِ، وليُحَدِّثوا بأَعمالِه بالتَّهليل.

كانوا يَخوضُونَ البحرَ في السُّفُن، يَسعَونَ لِلعَمَلِ في المِياهِ الغَزيرة” (مز 107: 23).

5 – رحمة الله وعقابه

طوال التاريخ المقدّس كلّه، يظهر الله أنّه، وإن كان عليه أن يعاقب شعبه على خطاياهم، إلاّ أنّ الرحمة تأخذه بهم، بمجرّد أن يصرخوا إليه من أعماق شقائهم:

“مِنَ الأَعْماق صَرَختُ إِلَيكَ يا رَبّ” (مز 130: 1).

وهكذا تدوّي، بلا انقطاع، صرخة صاحب المزامير:

“إرحمني، يا ألله، بحسب رحمتك، وبحسب كثرة رأفتك أمح معاصيّ” (مز 51: 1)

يجمع صاحب المزامير التقليد الإجماعيّ لبني إسرائيل حول هويّة الله الرحوم؛ نستشفّ ذلك من خلال الآيات التالية:

– “ومَرَّ الرَّبُّ قُدَّامَه فنادى: الرَّبُّ الرَّبّ! إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف،

طويلُ الأَناةِ، كثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء” (خر 34: 6)؛

– “الرَّبُّ طويلُ الأَناة، وعظيمُ القُوَّة، ولا يَتَغاضى عن شيء.

الرَّبُّ طريقه في الزَّوبَعَةِ والعاصِفَة، والغَمامُ غُبارُ قَدَمَيه” (نا 1: 3)؛

– “مَزِّقوا قُلوَبَكم لا ثِيابَكم، وارجِعوا إِلى الرَّبِّ إِلهكم،

فإِنَّه حنونٌ رحيم، طويلُ الأَناة كَثيرُ الرَّحمَة، ونادِمٌ على الشَّرّ” (يوء 2: 13)؛

– “وأَبَوا أَن يَسمَعوا، ولَم يَتَذَكَّروا عَجائِبَكَ الَّتي صَنَعتَ معهم،

وقَسَّوا أَعناقَهم، وعَزَموا على الرُّجوعِ إِلى عُبودِيَّتِهم في مِصر،

وأَنتَ إِلهٌ غَفورٌ، حَنونٌ، رحيم، طويلُ الأَناةِ، كثيرُ الرَّحمَة، فلَم تَترُكْهم” (نحم 9: 17)؛

– “وأنتَ، أَيّها السَّيِّدُ، إِلهٌ رَحيمٌ، رَؤوف، طويلُ الأَناةِ، ووافِرُ الحَقِّ والرَّحمَة” (مز 86: 15)؛

– “أيّها الرَّبُّ السَّيِّد، يا عِزَّةَ خلاصي، إِنَّكَ ظلَلتَ يومَ القتالِ على رأسي” (مز 140: 8)،

يجمع صاحب المزامير هذا التقليد الإجماعيّ لبني إسرائيل بكيفيّة رائعة تخلو من أيّ انغلاق:

– “الرب رؤوف، رحيم، طويل الأناة، وكثير الرحمة،

ليس على الدوام يسخط، ولا إلى الأبد يحقد.

لا على حسب خطايانا عاملنا، ولا على حسب آثامنا كافأنا؛

كرأفة أب ببنيه رئف الربّ بالذين يتّقونه،

لأنّه عالِمٌ بجبلتنا، وذاكرٌ أنّنا تراب” (مز 103: 108، 13- 14)؛

– “طوبى لجميع الذين ينتظرونه، لأنّه يترأّف بهم” (إش 35: 18)؛

– “فإن إلى الأبد رحمته” (مز 136).

– “فإن عند الربّ الرحمة ” (مز130: 7).

6 – الرحمة كخلاص من العدوّ

يشير مز 6: 2-5، 9، 11، قبل كلِّ شيء، إلى غضب الله. نحن هنا أمام اختبار شخصيّ سلبيّ إلى أقصى حَدّ، نستنتجه من قراءتنا للآيات التالية:

2 “في غَضبِكَ، يِا رَبّ، لا تُوَبِّخْني، وفي سُخطِكَ لا تُؤَدِّبْني.

3 إِرحَمْني، يا رَبّ، فلا قُوَّةَ لي، واشفِني يا رَبّ، فإِنَّ عظامي قد تَزَعزَعَتْ،

4 ونَفْسيَ اضطَرَبَت كثيرًا. وأَنتَ، يا رَبّ، فإِلى مَتى؟

5 عُدْ، يا رَبّ، ونجِّ نَفْسي، ولأَجلِ رحمَتِكَ خَلِّصْني.

9 إِلَيكُم عَنِّي يا جميعَ فَعَلَةِ الآثام، فإنَّ الرَّبَّ سمِعَ صوتَ بُكائي.

11 فلْيَخزَ جميعُ أَعدائي ويَضطَرِبوا، ولْيَتَراجَعوا بغتَةً في خِزْيِهم”.

هي كلمات إنسانٍ مريض: “إشفني، يا ربّ، فإنّ عظامي قد تزعزعت” (مز 6: 3)؛ في الخلفيّة فكرةُ عقاب الله، التي تنشأ عن الشعور بالخطيئة، كما في سفر أيّوب، أي فكرة أنّ الله يمكن أن يغضب علينا. يشدّد المزمور في الواقع على أنّ غضب الله ليس ضدّ الشخص الذي يعاني من الشرّ، بل ضدّ الشرّ بالذات. يعني غضبُ الله عدمَ تغاضيه عن الشرّ. لا يمكن لله إلاّ أن يفعل كلّ ما يمكن لاقتلاع الشرّ والقضاء عليه؛ الله هو كأبٍ أو كأُمٍّ يريد أن يقتلع الشرّ. من هنا الطلب إليه في الصلاة: “حَرِّرْني”، “خَلِّصْني”، “مارِسْ رحمتَكَ”، الخ. يدعو صاحبُ المزمورِ اللهَ إلى أن يتجاوز الغضب الذي سبّبه الشرُّ المقتَرَف، أو الذي هناك معاناة بسببه، ويسأله أن يحوّل العقابَ إلى رحمة. إنّ العدوَّ الذي ينبغي محاربته هو إذًا الشرُّ الذي يغلِّفُ الحياة.

بعد ذلك يشير المزمور إلى الأعداء. إنّ موضوع العدوّ هو حاضر مرّات عدّة في المزامير. لا يمكن التغاضي عن وجود العدوّ، ولا التناسي أنّه واقع ينبغي إبعاده وإخفاؤه؛ في هذه الصلاة، نرى أنّ الشرّ حاضر ومؤكّد، والعدوّ هو شخصٌ يبغي فعلَ الشرّ. أحيانًا هو واقع يجري تلطيفه، والتقليل من شأنه، لكنّه دائمًا على وشك الانفجار. بإمكاننا أن نستخرج من المزمور أَثَرَين: الأوّل هو كسبُ التطهّر من البغض؛ العداوة تكمن دومًا، ويمكنها أن تتحوّل إلى حقد؛ بهذه الصلاة، يضع المصلّي العداوةَ بين يدَي الله، تاركًا له أمرَ إيجادِ حلٍّ للمسألة. بإمكاننا هكذا أن نفهم معنى المقطع الإنجيليّ حيث يوصي يسوع تلاميذَه قائلاً: “أحبّوا أعداءكم”؛ فمن أجل عيش هذا المقطع، من المفيد تلاوة صلاة هذا المزمور وغيره من المزامير، التي هي في الواقع صلاة وضع الثقة في الله وفي رحمته. لم يَعُدِ العدوُّ واقعًا معيَّنًا، بل أضحى أمرًا يتيح الفرصةَ أمام عمل الله الرحوم الذي يشاء أن يحارب العدوّ وينتصر عليه رحمةً بالإنسان ومحبّةً له.

7 – الرحمة كمغفرة للخطيئة وخلاص منها

المزمور 51

“إرحمني، يا ألله” (آ 3)

يوسّع هذا المزمور إطارَ الرحمةَ تجاه الخاطئ، كخلاص من الخطيئة: “من خطيئتي طَهِّرْني”. يحضر الإنسان أمام الله مثقَلاً بخطيئته؛ وأمام وَعْيِهِ لها يمكنه أن يقوم بردّة فعل بطريقتين: إمّا الهرب من المعضلة دون إمكانيّة الرحمة، وهذا بالنسبة إلى الشخص أمرٌ مُدَمِّر، كما حصل بالنسبة إلى قايين الذي قتل أخاه هابيل وصار شاردًا في الأرض (تك 4)، أو إلى يهوذا الإسخريوطيّ الذي انتحر (أع 1: 18)، وإمّا الاستنجاد برحمة الله كما فعل داود (مز 51).

يهدف مز 51 إلى نَقْل اختبار المغفرة هذا من أجل الحفاظ على عمل رحمة الله التي تجدّد الإنسان وتوفّر له الولادة الروحيّة. من المُسْتَحْسَن أن يُتْلَى هذا المزمور 51 سويًّا مع مز 50 الذي يسبقه، حيث يتكلّم اللهُ ويوبّخُ شعبَه: “صَنَعْتَ هذا، أَفَأَسْكُتُ؟” (مز 50: 21أ). إنّ إله الرحمة، قبل أن يغفر، يهزّ الخاطئ، يوقظ ضميرَه، كما فعل ناتانُ النبيُّ مع داود (2 صم 12)، ويُعينُه على افتداء نفسه. بهذه الطريقة يتمّ التعبير عن رحمة الله. نشير هنا إلى أنّ مز 50 يجد تمامه في الاختبار الذي حقّقه يسوع، أي اختبار الافتداء.

يشكّل مز 51 نوعًا من التوازن بين الخوف والرجاء، بين الإقرار بالخطايا ورفع التسبيح، بين شقاء الإنسان وبهاء صورته وعظمته[21]. تلتقي فيه الرحمة الالهيّة والندامة البشريّة، وينتج عن ذلك غفران للخطيئة، وولادة للإنسان التائب[22].

قبل الإقرار بالخطيئة، الذي يشكّل روح مز 51، يستهل المصلّيّ كلامه بدعوة الله وبذكر صفاته التي نجدها في خر 34: 6-7:

“يهوه، يهوه، إله رحيم ورؤوف، طويل الأناة، كثير الرحمة والأمانة،

يحفظ الرحمة لألوف، ويحتمل الإثم والمعصية والخطيئة”.

مقابل هذه الرحمة اللامتناهية، هناك واقع الخطيئة الذي يملأ المزمور بكامله.

طلب التطهّر (آ 3-4)

في طلب التطهّر تتعارض حقيقتان: الله والخطيئة؛ فهذه الأخيرة هي عصيان، وتعدٍّ، وتخريب لتصميم الله، وابتعاد عن العلاقة به، الأمر الذي يؤدّي إلى حلول العداوة مكان محبّة العهد. إنها أيضًا شرٌّ داخليّ، إذ تدلّ كلمة “معصية” على انحراف يليه تَيَهان، كالقطيع الذي يهيم دون هدف (أش 53: 6)؛ ففي حين أنّ سلام الله هو ملءٌ كامل، تشكّل الخطيئة انتقاصًا للكمال وسيرًا نحو الهاوية يشبه الانتحار. في وجه الخطيئة، هناك العمل التحريريّ أو الإنقاذيّ الذي يتحقّق بالرحمة الإلهيّة التي “تغفر” و”تغسل”، و”تمحو”، و”تنقّي” و”تحقّق التطهير”.

ملفتٌ للانتباه هو أنّه، مقابل مفردات الخطيئة الثلاث، “خطيئة” (آ 4ب)، “معصية” (آ 3ب)، “إثم” (آ 4أ)، لدينا صفات ثلاث لله، تكمن وراء الرحمة والغفران، نجدها في خر 34:

– يُعَبَّر عن الأولى بفعل “إرحمني” (ynNx، “حُنِّنِي”، آ 3) الذي به يُستَهَلّ المزمور، والذي يَرِد مرّات عدّة في سفر المزامير[23]. نصادف فعل “رحم” 78 مرّة في البيبليا، 30 منها في سفر المزامير. الله المليء نعمة ومحبّة يجعل المؤمن به مملوءًا نعمة؛ لذا يَنتشل حنانُ الله ورحمتُه الإنسانَ من بؤسه الناتج عن الخطيئة.

– الصفة الثانية لله هي “الرحمة” (dsx، “حِسِدْ”، آ 3أ) التي تعبّر ضمنًا عن أمانة الله المُحِبَّة لعهده، وهي واحد من التعابير الأساسيّة في اللاهوت المزموريّ وفي لاهوت العهد؛ فمن أصل 245 استعمالاً في العهد القديم، 127 منها تَرِد في المزامير، خاصّة في مز 136، أي في “الهِلّل الكبير”. تُستَعمل كلمة “حِسِد” (dsx) غالبًا مع تعابير أخرى من مفردات العهد، مثل “بِرّ”، “حقيقة”، و”أمانة”. تدلّ كلمة “حِسِد” في المزامير على موقف الله المتضمّن صلاحًا، ونعمةً، وحنانًا، وأمانة تجاه المصلّيّ. تتحوّل “الرحمة” غالبًا، نوعًا ما، إلى أقنوم[24]، فتملأ الأرض[25]؛ هي متسامية ولامتناهية كالسماء[26]، تنزل على الإنسان وتستقرّ عليه[27]، تحيط بالمؤمن (32: 10)، تتبعه (23: 6)، تُشبعه (90: 14)، وهي ثمينة (36: 8). في مز 51، الرحمة هي في أساس إعادة بناء العلاقة بين الله والإنسان.

الثالثة هي “الرأفة” (~xr، “رِحِمْ”) (آ 3) التي ترتبط غالبًا بإطار التوبة، والتي تترافق مع كلمة “رحمة” (“حِسِدْ”)، كما في خر 34: 6 وفي نصوص عدّة من سفر المزامير[28]. تستعمل كلمة “رأفة” (“رِحِمْ”) عادة بصيغة الجمع، ~ymxr، “رحَمِيم”، وتعني “أحشاء” الأم، رمز الحبّ الطبيعيّ والمتأصّل؛ فالله يتعلّق بالإنسان أكثر ممّا تفعله الأم: “أتنسى المرأة رضيعها، فلا ترحم ابن أحشائها؟ حتّى ولو نسيت النساء، فأنا لا أنساك” (أش 49: 15). بهذه الصورة، وبصورة الأبوّة التي في هو 11: 1، 4، يتوضّح حبّ الله المملوء حنانًا وشغفًا، وسرعة تأثر[29]. يتميّز هذا الحبّ بأنّه مجّانيّ وليس عن استحقاق، وبالحنان، والأناة، والتفهّم، والاستعداد للمغفرة. إنّها رحمة الله التي هي في أساس مغفرة الخطيئة.

نشير هنا، وبطريقة عابرة، إلى أنّ لوقا، وفي هذا الخطّ بالذات، يُظهر وجهَ يسوع الرحوم أكثر من باقي الإنجيليّين (لو 15).

ويقول بولس بأنّ الله “غنيّ بالرحمة” (أف 2: 4)، “رحوم وإله كلّ تعزية” (2 كو 1: 3)؛

ويقول يعقوب بأنّ “الربّ متحنّن جدًّا ورؤوف” (5: 11)؛

ويشدد يوحنّا على أنّ “الله محبّة” (1 يو 3: 20).

ويعلّمنا يسوع أن نكون “رحومين كما أنّ أبانا السماويّ رحوم هو”[30].

الإقرار بالخطيئة والغفران (آ 5-8)

بعد استدعاء صلاح الله الخلاصيّ، يقرّ المصلّيّ بمعاصيه: “أنا عارف بآثامي” (آ 5أ). الاعتراف بالخطيئة هو اختبار إيمان يشقّ الدرب نحو الله الرحوم (رج مز 32: 5؛ 38: 19). إنّه اختبار إنسانيّ عميق تدخل فيه الحرّيّة والمسؤوليّة؛ كما إنّه اختبار يجعل المؤمن يفهم بأنّه قطع الرباط مع الله الذي أحبّه وبتّ عهدًا معه، وفعل الأمر عينَه مع الجماعة المؤمنة التي هو عضوٌ فيها. لكنّ الخطيئة هي قبل كلّ شيء موقف “أمام الله” (آ 6أ ب)؛ إنّها عمل “ضدّ” الربّ. يُبرز التشديدُ الوارد في عبارة “إليك وحدك” (آ 6أ) البعدَ اللاهوتيَّ للخطيئة، بعدما تبيّناه من أبعادها في التعابير الثلاثة: “خطيئة، شرّ، إثم”. لعبارة “الشرّ أمام عَيْنَي” اللهِ (آ 6ب) لون من تثنية الاشتراع.

بفضل حرّيّته يستطيع الإنسان أن يقف في وجه الله، وذلك بأن ينسحب من العلاقة التي كانت تجعله منسجمًا مع خالقه ومع التصميم الإلهيّ الخلاصيّ للكون وللتاريخ. يصف هو 2 وحز 16 الخطيئة بأنّها زنًى، واندثار الحبّ. عندما خطئ داود مع بتشبع وقتل أوريّا، صرخ قائلاً: “لقد أخطأتُ ضدّ يهوه”[31]. هناك ترابط بين الخطيئة ضدّ الإنسان، التي تصبح ضدّ الله، وبين الخطيئة ضدّ الله، التي هي ضدّ الإنسان، وهذا ما يؤكّده بولس عندما يقول: “بخطيئتكم تجاه الإخوة، وبجعلكم ضميرهم ضعيفًا، تخطأون ضدّ المسيح” (1 كو 8: 12). قبل أن تكون الخطيئة إهانةً للإنسان، هي قبل كلّ شيء خيانة لله، هي “خطيئة ضدّ السماء وضدّ الإنسان” (رج لو 15: 18).

في آ 6 ج-د مفرداتٌ قضائيّة: “بِرُّ” (qdc، “صِدِقْ”) اللهِ، وهو قبل كلّ شيء صفة إلهيّة شخصيّة تحمل في طيّاتها الرحمة والمحبّة والخلاص (رج آ 16). إنّها حقيقة الله بالذات التي، من خلال اعتراف المصلّي، تتجلّى بكلّ صفاتها. الله “بارّ” أو “عادل” عندما يصدر حكمه، و”مُصيبٌ” في قضائه. باعتراف المصلّيّ أنَّ الله “بارّ”، يرفع دعواه إلى “العدل” الإلهيّ الخلاصيّ، إلى الرحمة التي تسامح التائب، وليس إلى العدل الذي يحكم على الخاطئ[32]. يقرّ الخاطئ بأنّه من حقّ الله أن يعاقب[33]، ولكنّه في الوقت ذاته يعلم أنَّ الله البارّ والعادل هو، تجاه القلب التائب، إلهٌ كلّيّ الحنان والرحمة يخَلِّص التائب العائد إليه بالتوبة (رج روم 1-3). لا يلغي عدمُ أمانة الإنسان أمانةَ الله: الله أمينٌ لكلمته، ويبقى كذلك إلى الأبد.

بعد اعتراف الآيتين 5-6، يعترف المصلّيّ الآن ثانية بخطيئة أخرى (آ 7). إنّه اعتراف أعمق من الأوّل لأنّه يطال حقيقة الإنسان المجبولة بالخطيئة، منذ تكوينه وحتّى زواله من الوجود؛ يصوّر تك 2-3 بطريقة حكيمة ورمزيّة هذا البُعدَ الإنسانيّ المأساويّ الذي هو قناعة ثابتة في البيبليا[34]؛ “فكيف إذًا يتبرر إنسانٌ أمام الله، ويظهر نقيًّا مولود امرأة؟” (أي 25: 4). إنّ الاعتراف العميق بالخطيئة البشريّة لا يبقى موقفًا دفاعيًّا تخفيفيًّا يتّخذه المصلّيّ، بل يتحوّل إلى نداء لينال نعمة الله التي تجعل الإنسان يعبر من اللعنة إلى البركة[35]. إنّ قدرة المحبّة والرحمة تفوق قدرةَ الخطيئة، إذ، كما يقول القدّيس بولس، “حيثما كثرت الخطيئة تفاضلت النعمة” (روم 5: 20)، وكلّ ذلك لأنّ الله كلّيّ الرحمة والرأفة.

يُخْتَتَم الاعتراف في آ 8 التي تذكّر بأنّ الصدق في الاعتراف الصادر عن القلب هو ما يرغبه الله. تسمح تنقية الضمير بدخول “الحكمة” التي تحوّل الإنسان إلى مخلوق جديد. المقصود في آ 8 هو تأكيد سبب الاعتراف الشخصيّ. الفضيلة الأولى هي “الحقّ” (tma، “إِمِتْ”)، التي تعني أيضًا “الصدق”، و”الأمانة”، والتي ترتبط بلاهوت “العهد”، وهي “مرضيّة” (#px، “حَفَصْ”) لله، خلافًا للقرابين الخارجيّة (آ 18؛ أنظر بالمقابل آ 21؛ إنّ الحقيقة الكاملة حول الذنب المقترف، هي ذبيحة مرضيّة لله وتخلّص صاحبها. هناك رباط تبادلي بين صدق الإنسان وحكمة الله؛ فالله يدفع إلى الحقيقة بنعمته، والحقيقة تفتح القلب لدخول الحكمة الإلهيّة.

هكذا يُختَتَم الاعتراف الكبير في مز 51؛ فعندما بدأ بفعل “عرف” ([dy، “يَدَعْ”)، أي معرفة الإنسان لخطيئته التي اعترف بها أمام الله، ينتهي الآن بالفعل ذاتِه “عرف” (“يَدَعْ”) أيضًا، أي “معرفة” الله الذي يهب الإنسان الصادق والتائب حكمتَه مصدرَ العدل والحياة. عند ذلك، ونتيجة للرحمة والغفران، يزهر الفرح (“سرورًا وفرحًا”) في كيان المصلّي (آ 10)، فيحسّ به في أذنيه، “أسمعني”، فيُرَمَّم الجسم ويتجدّد، إذ بالرحمة والمغفرة تتمّ عمليّة خلق جديدة (آ 12). بعد الآن ستكون الحياة الجديدة بالروح، وهذا هو مضمون رسالة القسم الثاني من المزمور.

شعاع النعمة: روح وقلب (آ 12-19)

 ينبغي أن يُخلَق من جديد الخاطئ ذو “العظام المحطّمة” (آ 10ب) ليعود خليقة حيّة، ولن يتحقّق ذلك إلاّ بفضل رحمة الله.

أ – روح الإنسان (آ 12-14)

التحوّل الكبير الناتج عن التوبة وعن رحمة الله وغفرانه هو انفتاح عهد جديد في الحياة وفي التاريخ، تمامًا كما حصل مع الابن الضالّ: “كان أخوك ميتًا فعاد إلى الحياة، وكان ضالاًّ فوُجِد” (لو 15: 23). يستعمل الكاتب فعل “خلق” (arb، “بَرَأْ”، آ 12أ) الخاصّ بعمل الخلق[36]، ويُعبَّر عن “الخلق الجديد” الذي عُمْقُه اللاهوتيّ هو “العهد الجديد” بـ”القلب” و”الروح”[37].

يُذْكَر “روح” الله ثلاثًا: إنّه “الروح الثابت” إلى جانب “القلب الطاهر” (آ 12)، و”روح القداسة” (آ 13ب؛ أنظر 2 صم 23: 2)، و”الروح الكريم” (آ 14). “الروح” هو القوّة التي تدعم “القلب”، وتدفعه إلى العمل بمحبّة، والقلب هو المكان الذي فيه يُقبَلُ روح الله. عندها يعود الفرح (آ 10)، فرح الخلاص (مز 9: 15؛ 35: 9) والسلام مع الله، وكلّ ذلك من جوده ومراحمه. إنّ من يختبر محبّة الله الرحومة، يتحوّل إلى شاهد غيور لتلك المحبّة، خاصّةً تجاه الخطأة (آ 15) وإلى مبشِّر، والحكمة التي ينالها بالغفران أداةً فعالة لمحاربة جنون الخطيئة (أم 9)؛ والذي يجد طريق الله يمكنه أن يرشد إليها مَن كان معرَّضًا للتجربة أو سائرًا في طريق الضلال. بإصعاده الشكر (hdwT، “تُودَهْ”) إلى العدل الإلهيّ الذي يخلّص، يفي المصلّيّ أفضل نذر وأكثره إرضاءً لله. بـ”اللسان”، و”الشفتين”، و”الفم” (آ 16ب-17) “سأبشّر باسمك إخوتي، وفي وسط الجماعة أسبّحك” (مز 22: 23). الدافع إلى هذا التسبيح الرسوليّ هو الله بالذات (آ 17) الذي برحمته يجعل فمَ المطهَّر من الخطيئة (رج أش 6: 5-7) أهلاً للتسبيح، “فيتوب” (آ 15ب) الخاطئون كما فعل هو.

وتأتي أخيرًا الذبيحة الحيّة والمَرْضِيّة، التي هي قبل كلّ شيء قلبُ المؤمن[38]؛ فالذبيحة الأعذب على قلب الله والتي ترضيه (تك 8: 21)، ليست ذبيحة الثيران والحملان، بل “ذبائح الله”، بمعنى الذبائح الأعظم التي هي “قلب متخشّع وروح منسحق” (أش 57: 15). وفي هذا المجال يقول الرسول بولس: “فأسألكم، أيها الإخوة، بمراحم الله، أن تقرِّبوا أجسادكم ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة عند الله: إنّها عبادتكم الروحيّة” (روم 12: 1).

نتبيّن من مز 51 كم أنّ رحمة الله هي فاعلة وحاسمة في مسيرة المؤمن الذي يعرف أن يطلبها من أبي المراحم ليعود مجدَّدًا خليقةً جديدةً على وفق قلب الله.

8 – الرحمة في مزامير مختارة

من بين المزامير التي تشير إلى رحمة الله، حتّى ولو كانت الكلمة “رحمة” غير صريحة دائمًا في العديد منها، ندرج بعضها، وهي التالية:

مز 2:

“أنتَ ابني… أنا اليوم ولدتُك”.

هذا المزمور هو ملوكيّ: الملك هو ابنُ الله؛ ونحن أيضًا بالمسيح مولودون من الله. أن نكون أبناءَ الله فهذه حقيقة روحيّة تعبّر في العمق عن محبّة الله ورحمته، تمامًا كما أنّ كلَّ ابنٍ مولودٍ على هذه الأرض هو ثمرة الحُبّ.

هذه الإشارة تُسهِمُ في إغناء تفكيرنا حول الرحمة في المزامير، من أجل التأكيد على أنّ التعبير عن الرحمة في الكتاب المقدّس عامّة، وفي المزامير خاصّة، يتمّ عَبْرَ مفردات أوّليّة وأساسيّة، مثل الفرح، والألم، والغضب، والحُبّ. الرحمة هي مفهومٌ مُكوّن، وثمرة استعمال واسع الاطلاع، وحِكَميّ إلى حدٍّ كبير.

مز 6:

“خَلِّصْني لأَجلِ رَحمَتِكَ” (آ 5ب)

يتركّز هذا المزمور على العبارة التالية: “خَلِّصْني لأَجلِ رَحمَتِكَ” (آ 5ب). ونطرح السؤال: ما الذي دفع بكاتب المزمور إلى مناشدة رحمة الله لتخلّصه؟ بالتأكيد، لأنّه في حالة ضيقٍ لا تُطاق، يسأل الله أنّ يخلّصه منها. هو يُدرِك أنّ تَدَخُّلَ الله وحده، الذي يتميّز بمجّانيّة مطلقة لرحمته، قادرٌ أن يحرّره.

في المرض الذي أنهك قواه، هو يسأل اللهَ رحمةً. ولكونه في حالة ارتجاف، هو يسأل ألاّ يكون موضوعَ غضبه، بل أن يعبّر عن رِفْقِهِ به من خلال منحِه الشفاء، وهو ينتظر بفارغ الصبر أن يُستجاب. لكنّه يشعر أنّ الله ما زال متباعدًا عنه، وأنّ قواه تُسْتَهلَك في الألم والبكاء ليلاً ونهارًا. لكن يتبيّن أخيرًا أنّ الله، يقترب منه، ويطرد عنه كلَّ الذين كانوا يريدون به شرًّا، ويستهزئون به. ينتعش وَعْيُه أنّ الله يعتني به، ويتأكّد أنّ رحمتَه قد أصغت إلى استغاثته وتوسّله. لذلك هو يستطيع الآن أن يعيش في سلام، مُحَرَّرًا من المرض ومن الأعداء الذين كانوا يريدون به شرًّا.

مز 17:

“أَفِضْ مَراحِمَكَ” (آ 7)

عندما يسأل صاحبُ المزمور اللهَ أن “يُرِيَهُ معجزاتِ رحمته” (آ 7)، فهو يعني معجزات محبّته الرحومة. هو يتعرّض للاضطهاد بطريقة ظالمة، لذا يعرض قضيّتَه على الله متوسّلاً إليه بشفتَين صادقتَين، وينتظر بثقة حُكْمَه العادلَ الذي يفحص عمقَ قلبِ الإنسان، ويمتحن الحقيقةَ كما في بوتقة. ولأنّه مدركٌ أنّ الله سيصغي إليه، هو يدعوه بمواظبة، متيقّنًا أنّه آخِرَ الأمر سيُحَرِّره من الأشرار الذين يريدون به سوءًا. في الواقع، إنّ أعداءه هم بلا إحساس وذوو صفاقة، ويشبهون الأسدَ الذي يقتل ويفترس، إذ يرغبون في إبادته وكأنّه طريدة ليس إلاّ؛ لكنّه يبقى أبدًا على مستوى عالٍ من الثقة بالله، لذا هو يسأله أن يواجه العدوَّ الشرّير ويضربه، وأن يحوطه برحمته “كحدقة العين” (مز 17: 8)، وأن يعتني به اعتناءً رحيمًا ومُحِبًّا. تلك هي معجزات محبّة الله الرحومة.

مز 25:

“أذكرني في رحمتك” (آ 7ب)

 مرّتان يناشد الكاتب رحمة الله: “أُذْكُرْ، يا ربّ، حنانَك ومراحمَك” (آ 6أ)؛ “أُذْكرني في رحمتك” (آ 7ب).

حول هاتين العبارتين يُبني المزمور كلّه، مع التشديد على أهمّيّتهما.

يناشد كاتبُ المزمور اللهَ بأسلوب شائع جدًّا، كما هو الأمر لدى كاتبي المزامير، مع صور أنتروبّومورفيّة، وذلك لكي يكشفَ مجدَّدًا هويّتَه، هويّةَ الإلهِ الرحوم، الذي يصنع رحمة إلى صاحب المزمور بالذات، وبه ومن خلاله إلى جميع الذين يجدون أنفسَهم في الوضع الوجوديّ ذاته. يمكننا أن نتبيّن في هذه العبارة تسبيقًا لِمَا سيقول اللصّ ليسوع على الصليب: “يا يسوع، أذكرني عندما تدخل ملكوتك” (لو 23: 42).

يسبق مناشدةً كهذه لرحمة الله ويليها بعضُ مظاهرِ الثقةِ بالله، وعرضُ حالاتٍ إشكاليّة يعيشها.

بادئ ذي بدء، يدخل كاتب المزمور في جوِّ صلاةٍ يتيح لنفسه أن ترتقي إلى الله، مبديًا تجاهه ثقةً مطلقة، وعارضًا الدافعَ الحقيقيَّ لتوسّله، ألا وهو أن يساعده ضدّ أعدائه الذين يضايقونه، ويجعلون حياته صعبة، دون أن يخيب أمله. في الوقت عينه هو يطلب من الله نعمةَ معرفةِ طرقه، أن يكون أمينًا له، أن يضع فيه، هو ينبوع الخلاص، كلَّ أملٍ، وأن يعفو عن كلّ ذنوب صبائه. لقد وعى كاتب المزمور سرعة العطب الخُلُقيّ الذي تَتَّسِمُ به مرحلة الصِبا، صباه هو، وصبا كلِّ إنسان.

ترتكز مناشدة رحمة الله ليس على الاستحقاقات الشخصيّة بل حصريًّا على صلاح الله، على اسمه، هو المستعدّ أبدًا لأن يعفو عن الخطيئة، مهما كانت كبيرة. وإذ هو مدركٌ لجسامة خطاياه، يناشد مرّاتٍ عدّة رحمةَ الله: “إغفِرْ إِثْمي، إلتَفِتْ إِليَّ وارحَمْني، أُمْحُ كُلَّ آثامي” (مز 25: 11، 16، 18)؛ ثمّ يعترف كيف أنّ الأمانة لوصايا الله، التي يُعَبَّر عنها في الصورة المكرّرة مرّة جديدة، صورة السير على دروب عهده، تقود إلى الرفاه. أخيرًا يتوسّل إلى الله أن يحميه من الأعداء الذين يبغضونه. رجاؤه كلُّه موضوعٌ مجدَّدًا في الله وفي رحمته، لذا هو يسأله أن يحرّر شعبه من الضيقات كلّها، وكأنّي به يجعل نفسه يتحمّل مسؤوليّاته الجماعيّة، ويوسِّع أُفُقَ صلاته ومراميها الخاصّة والعامّة.

مز 31:

“خلّصني لأجل رحمتك” (آ 17)

إلى مز 25، ذي الطابع الروحيّ القويّ، نضيف مز 31 الذي فيه يستدعي صاحب المزمور رحمة الله انطلاقًا من وَعْي بؤسه الشخصيّ: “نظرتَ إلى بُؤسي” (آ 8ب). ومع الأمل بألاّ يخيب رجاؤه، يتوجّه الكاتب إلى الله، معتبرًا إيّاه صخرة ملجأ في وجه افتراءات أعدائه الذين يجعلونه يعيش أيّام ألمٍ وبكاء. عند هذه النقطة يضع الكاتب ثقته الكلّيّة في الله ويقول: “في يَدَيكَ أَستَودِعُ روحي… أنت إلهي، أيّامي هي بين يديك” (آ 6، 15-16). وهذه هي الاستغاثة الموجَّهة إلى رحمة الله: “أَنِرْ بِوَجهِكَ على عَبدِكَ وخَلِّصْني برحمتِكَ… ما أَعظَمَ صلاحَكَ، يا رَبُّ” (آ 17، 20).

صاحب المزمور الذي اختبر تدخُّلَ الله لصالحه، يجعل من نفسه رسولَ الرحمة: “تَشَدَّدوا ولتتَشَجع قُلوبُكم، يا جَميعَ الَّذينَ يَرْجونَ الرَّب” (آ 25).

 مز 32:

“أعترف للربّ بكلّ آثامي” (آ 5)

هو أحد مزامير التوبة السبعة. بعد أن أكّد صاحب المزمور، واستنادًا إلى خبرته الشخصيّة، أنّ من يختبر رحمة الله وغفرانَه هو محظيّ ومبارك، يَكِلُ إلى الله حالتَه المُصابَة بالضيق وبالإرهاق بسبب خطاياه. لذلك هو يصمّم على أن يضع خطيئته أمام ناظرَي الله، وأن يعترف له بآثامه. ومن خلال فعل التواضع هذا، هو يتوجّه إلى الربّ قائلاً: “أنتَ رَفَعْتَ وِزْرَ خطيئتي” (مز 32: 5ب).

لدينا سِمَةٌ إضافيّة لله تجاه المؤمن الذي اعترف بخطاياه: “أنتَ سِترٌ لي، من الضّيقِ تحرّرني” (مز 32: 7أ).

هنا يتحوّل هذا المؤمن، الذي اختبر المغفرةَ التي تلقّى، والفرحَ الذي استتبع ذلك، إلى مبشِّرٍ برحمة الله بهدف إقناع الخطأة بالعودة إلى الله، إذ بعيدًا عن الله لا مكان للسعادة. وللذين ابتعدوا هو يبثّهم نصائحه ومشورته لهم، حاثًّا إيّاهم على ألاّ يُبدوا عِنادًا فيشبهوا البغال، وألاّ يكونوا مصمِّمين على أن يعيشوا حياة شرّيرة في آلام يسبّبونها لأنفسهم بسبب شرّهم. بالمقابل، يستطيع الأبرار والمستقيمو القلب الذين ذاقوا طعمَ رحمة الله أن يبتهجوا ويفرحوا.

مز 40:

“لا تحرمني رحمتَكَ” (مز 40: 12)

هو مزمور هامّ نظرًا إلى مضمونه المسيحانيّ. تستشهد به الرسالة إلى العبرانيّين التي قَرَأَتْه قراءةً مسيحانيّةً صريحة: “لِذلِكَ قالَ المسيحُ عِندَ دُخولِه العالَم: لم تَشَأْ ذبيحَةً ولا قربانًا، ولكِنَّكَ أَعدَدتَ لي جسدًا” (عب 10: 5).

 وهذا ما نقرأه في مز 40: 7-9:

“ذبيحةً وتقدِمَةً لم تَشأ، لكنَّكَ فَتَحتَ أُذُنَيَّ، ولم تَطلبْ محرقةً وذبيحَةَ خطيئة؛

حينَئِذٍ قُلتُ: هاءَنَذا آتٍ، فقَد كُتِبَ علَيَّ في طَيِّ الكِتاب:

هَوايَ أَن أعمَلَ بِمَشيئَتِكَ يا أَلله؛ شَريعَتُكَ في صَميمِ أحْشائي”.

هذا المزمور أيضًا يتوجّه بالنداء إلى رحمة الله:

“وأَنتَ، يا رَبّ، لا تَحبِسْ عنِّي مراحمَكَ، بل تَحفَظُني رحمَتُكَ وحَقُّكَ على الدوام” (مز 40: 12).

 لماذا يتوجّه صاحب المزمور بالنداء إلى رحمة الله؟ في أيّ وضع هو؟

يبدأ المزمور بالتعبير عن الوعي أنّ الله، الذي يثق به، قد أصغى إلى صراخه طلبًا للمساعدة؛ هو كان بحاجة إلى ذلك، لأنّه وجد نفسَه في “بئر مياه مضطربة”، في “وحل المستنقع”، وبالتالي في وضع يائس من الحياة. ردًّا على هذه الحالة وضع الله على الصخرة قَدَمَي صاحب المزمور الذي اختبر تَدَخُّل الله كفعل رحمة تجاهه، فلم يبقَ له سوى الإعلان عن سعادته التي نتجت عن وَضْعِ ثقته في الله، والامتناع عن التوجَّه إلى عبادة الأصنام. ويقف صاحب المزمور المبتهج وقفةَ تأمّل في المعجزات التي صنعها الله لصالحه، والتي يصنعها لكلّ إنسان يلوذ به. إثر ذلك، وضع حياته كلَّها في خدمة التبشير بأعمال الله العظيمة التي شهدها بأمّ العين ولمسها لمس اليد.

عند هذه النقطة، يجري إدراج السِمَة المسيحانيّة، لكن بعد ذلك يواصل التعبير عن مهمّته القاضية بالإعلان في الجماعة الكبرى عن عدل الله، وحقيقته، وخلاصه، ومحبّته، وأمانته. لكن، مرّة جديدة، تمرّ في ذاكرة صاحب المزمور، وكغيوم مهدِّدة في الأفق، مسلسلُ خطاياه التي تقهره. عندها يهتف إلى الربّ قائلاً:

“هلمّ سريعًا إلى معونتي ” (آ 14).

إلى ثقل الخطايا يضيف الكاتبُ الألَم الذي يسبّبه له أعداؤه الذين يتلذّذون بدماره. لكن، بما أنّه مؤيَّد بالإيمان وثابت فيه، هو يرى في كلّ ذلك عظمةَ الله ورحمته، فيدعوه مرّة جديدة لكي يسرّع تَدَخُّلَه:

“أَنتَ نُصرَتْي ومُخَلِّصي، فلا تُبطئْ يا إلهي” (مز 40: 18).

مز 103:

“يَرأَفُ الرَّبُّ بِمَن يَتَّقونَه” (آ 13)

يدعو مز 103 إلى اعتبار الخير الذي تمّ تلقّيه من الله. إنّه تعداد للأمور الجيّدة والحقّة التي صنعها الله، ويواصل صُنْعَها: “كما يَرأَفُ الأَبُ ببَنيه، يَرأَفُ الرَّبُّ بِمَن يَتَّقونَه” (آ 13). الإشارة هنا هي أيضًا إلى أبوّة الله، وحتّى إلى أمومته؛ مع هذه الكلمات، يبدو المزمور 103 قريبًا جدًّا من صلاة صلاة “الأبانا” التي علّمها يسوع تلاميذه.

بعد اختبار رحمة الله، يكتشف المؤمن أنّ ما يبقى هو المحبّة، والتي يستتبعها التسبيح لله الرحوم، والاعتراف بذلك أمام الناس شهادةً لعمل الرحمة هذا.

المزموران 118 و136:

“لأنّ إلى الأبد رحمتَه” (آ 1)

يُفتَتَحُ المزمور 118 بحمد الله وبتبيان السبب للقيام بذلك فيقول: “إحمدوا الربّ لأنّه صالح، لأنّ إلى الأبد رحمتَه” (آ 1)، وكذلك المزمور 136: “إحمدوا الربّ لأنّه صالح، لأنّ إلى الأبد رحمتَه” (آ 1).

9 – قراءة مسيحيّة لموضوع الرحمة في المزامير

إذا انتقلنا إلى العهد الجديد، وتحديدًا إلى لو 10: 30-37، نفهم إلى حَدٍّ كبير معنى “الرحمة” الإلهيّة؛ ففي هذا النصّ يستخدم يسوع مثلاً لكي يُجيب على سؤال عالِمٍ بالشريعة يتعلّق بهويّة القريب: لقد أشفق السامريّ على الذي وقع بين أيدي قطّاع الطرق، على عكس الكاهن واللاوي، فإذا به هو قريب ذاك المسكين، لأنّه صنع إليه رحمةً. لقد أبى أن يكون لامباليًا تجاه هذا الذي كان متروكًا بين حيٍّ وميت، بل تحنّن عليه، وأظهر الرحمة تجاهه، وأعانه في مأساته. هكذا تُضحي الرحمة نوعًا من “التألّم مع” أحدٍ ما، ومساعدته بمحبّة، دون انتظار أيّ مقابل منه، وفي هذا نرى كم أنّ الربّ هو “غنيّ بالرحمة” تجاه بني البشر. هذا ما تؤكّده الرسالة إلى أهل أفسس: “ولكِنَّ اللهَ الواسِعَ الرَّحمَة، لِحُبِّه الشَّديدِ الَّذي أَحَبَنَّا بِه، مع أَنَّنا كُنَّا أَمواتًا بِزَلاَّتِنا، أَحْيانا مع المَسيح (بِالنِّعمةِ نِلتُمُ الخَلاص)، وأَقامَنا معه وأَجلَسَنا معه في السَّمَاواتِ في المسيحِ يسوع” (أف 2: 4-6).

لا أحد من الذين طلبوا رحمة الله بابنه يسوع ربّنا تُرِكَ فارغَ اليدَين؛ هذا ما نتبيّنه من الأمثلة التالية:

الرجلان الأعميان (مت 9: 27-31):”ومَضى يسوعُ في طَريقِه فَتبِعَهُ أَعمَيانِ يَصيحان: “رُحْماكَ يا ابْنَ داود …”.

المرأة الكنعانيّة (مت 15: 22-28):”وإِذا امرأَةٌ كَنعانيَّةٌ خارِجَةٌ مِن تِلكَ البِلادِ تَصيح: “رُحْماكَ يا ربّ ! يا ابنَ داود…”.

الأب وابنه الممسوس (مت 17: 15 و18):”يا رَبّ، أَشفِقْ على ابني…”.

أعميان آخَران (مت 20: 30-34):”وإِذا أَعميَانِ جالِسانِ على جانِبِ الطَّريق، فلمَّا سَمِعَا أَنَّ يسوعَ مارٌّ مِن هُناكَ صاحَا: “رُحْماكَ، يا رَبّ، يا ابنَ داود… “.

لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ المفردات المستَخدَمة في هذه النصوص هي مشبعة من روح المزامير، إن من حيث المصطلحات المعبّرة عن الرحمة، وإن من حيث المضمون اللاهوتيّ المتعلّق بالموضوع ذاته

ليس استحقاقُنا هو مَن يخلّصنا، بل فقط نعمة الله، ومحبّته، ورحمتُه. كما المسافر الذي وقع بين أيدي اللصوص وتُرِك بين ميت وحيّ، كذلك نحن كنّا أموتًا بالزلاّت، لكنّ الربّ الغنيّ بالرحمة، بالحبّ العظيم الذي أحبّنا به، حتّى عندما كنّا أموتًا بالخطايا، أحيانا بالمسيح. لقد بسط اللهُ يدَه، يدَ الرحمة، “فحرّرنا من سلطان الظلمة، ونَقَلَنا إلى ملكوت ابنه الحبيب” (كول 1: 12-13)، كما يقول القدّيس بطرس في رسالته الأولى: “تَبارَكَ اللهُ أَبو ربِّنا يسوعَ المسيح، الذي شَمَلَنا بِوافِرِ رَحمَتِه، فوَلدَنا ثانِيَةً لِرَجاءٍ حَيٍّ بقِيامَةِ يسوعَ المسيحِ مِن بَينِ الأَموات (1 بط 1: 3).

ونقرأ كذلك في روم 5: 8: “أَمَّا اللهُ فقَد دَلَّ على مَحبتِّهِ لَنا بِأَنَّ المسيحَ قد ماتَ مِن أَجْلِنا إِذ كُنَّا خاطِئين”. نحن كنّا أمواتًا، أمّا هو فكان مملوءًا حُبًّا، ورحمةً، ورأفةً. مدَّ يده، فانتشلنا وأحيانا. وبالرغم من كوننا غيرَ مستحقّين، هو برَّرَنا؛ وبالرغم من كوننا أعداءَه، هو صالحنا مع ذاته؛ وبالرغم من أنّنا كنّا في ملكوت الظلمات، هو نقلنا إلى ملكوت ابنه الحبيب. في الحقيقة، إنّ رحمته ومحبّته ورأفته تجاه كلّ إنسان هي عظيمة.

ونقرأ في  روم 9: 15-16 ما يلي: “فقَد قالَ لِموسى: أَرحَمُ مَن أَرحَم وأَرأَفُ بِمَن أَرأَف (خر 33: 19)؛ “فلَيسَ الأَمرُ إِذًا أَمرَ إِرادَةٍ أَو سَعيٍ، بل هو أَمرُ رَحمَةِ اللّه“. بعبارة أخرى، لا يتعلّق الأمر بسَعْيِنا، ولا بقدرتنا أو جهودنا، بل برحمة الله، فمن دون رحمته لا نستطيع أن نعمل شيئًا: “أَنا لا أَستَطيعُ أَن أَفعَلَ شَيئاً مِن عِندي” (يو 5: 30)؛ “بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئًا” (يو 15: 5ب).

“فإِذا شاءَ اللهُ أَن يُظهِرَ غَضَبَه، وُيخبِرَ عن قُدرَتِه، فاحتَملَ بِصَبْرٍ عَظيمٍ آنِيَةَ الغَضَب، وهي وَشيكةُ الهَلاك، ومُرادُه أَن يُخبِرَ عن سَعَةِ مَجْدِه في آنِيَةِ الرَّحمَةِ الَّتي سَبَقَ أَن أَعَدَّها لِلمَجْد، أَي فينا نَحنُ الَّذينَ دَعاهم، لا مِن بَينِ اليَهودِ وَحْدَهم، بل مِن بَينِ الوَثنِيِّينَ أَيضًا…” (روم 9: 22-24). بالرغم من كوننا “آنية غضب”، نحن لسنا واحدًا منهم. على العكس من ذلك، نحن “آنية رحمة”، أعدّنا الله مسبقًا ليعرّفنا غنى مجده، لأنّه أعدّنا للمجد! إنّ “رحمَتُه مِن جيلٍ إِلى جيلٍ لِلذَّينَ يَتَقّونَه” (لو 1: 50).

إنّ لهذا الاعتراف خلفيّةً ترقى إلى العهد القديم عامّةً، وإلى سفر المزامير خاصّة، كما نقرأ في مز 25: 10: “سُبُلُ الرَّبِّ جَميعُها رَحمَةٌ وحَقٌّ لِمَن يَحفَظونَ عَهدَه ووَصاياه”.

وتبيانًا للترابط بين نصوص العهد الجديد هذه وبين أخرى من المزامير حول موضوع الرحمة شكّلت مرجعًا حاسمًا لنصوص العهد الجديد، نُدرِج الاستشهادات التالية:

مز 32: 10: “ما أكثَرَ أَوجاعَ الشَرير، أمَّا المُتَوَكِّلُ على الرَّبِّ فالرَّحمَةُ تَحوطُه”.

مز 33: 5: “يُحِبّ البِرَّ والحَقّ، ومِن رَحمَةِ الرَّبَ امتَلأتِ الأَرض”.

مز 33: 18: “عَينُ الرَّبِّ على مَن يَتَّقُونه، على مَن يَرجونَ رَحمتهِ“.

مز 36: 7-10: “… اللَّهُمَّ، ما أَثمَنَ رَحمَتَكَ! إِنَّ بَني آدَمَ يَعتَصِمونَ بِظِلّ جَناحَيكَ…”.

مز 57: 11: “فقَد عَظُمَت رَحمَتُكَ إِلى السَّمَاوات، وحَقُّكَ إِلى الغُيوم”.

مز 63: 4: “أَطيَبُ مِنَ الحَياةِ رَحمَتُكَ، وإِيَّاكَ تُسبِّحُ شَفَتايَ”.

مز 69: 17أ: “إستَجِبْ لي يا رَبِّ، فصالِحةٌ رَحمَتُكَ“.

 مز 86: 15: “وأنتَ، أَيّها السَّيِّدُ، إِلهٌ رَحيمٌ رَؤوف، طَويلُ الأَناةِ ووافِرُ الحَقِّ والرَّحمَة“.

مز 103: 13، 17: “كما يَرأَفُ الأَبُ ببَنيه، يَرأَفُ الرَّبُّ بِمَن يَتَّقونَه”؛ “ورَحمَةُ الرَّبِّ مُنذُ الأَزَل وللأبدِ على الَّذينَ يَتَّقونَه، وبِرّه لِبَني البَنين”.

مز 89: 15ب: “الرَّحمَةُ والحَقُّ يَسيرانِ أَمامَ وَجهِكَ”.

مز 103: 11: “كارتفاعِ السّماءَ عنِ الأَرضِ عَظُمَت رَحمَتُه على الَّذينَ يَتَّقونَه”.

مز 103: 1-4: ” بارِكي الرَّبَّ يا نَفْسي… يُكَللكِ بِالرَّحمَةِ والرَّأفة“.

مز 118: 1: ” إحمَدوا الرَّبَّ لأنّه صالِح، لانَّ للأبد رَحمَتَه“.

هناك الكثير من المراجع يمكن إضافتها على ما تَقَدَّم، لكنّنا نكتفي بهذا القدر، ونلخّص ما أوردنا في قراءتنا المسيحيّة لموضوع الرحمة:

الله غنيّ بالرحمة، وولدنا من جديد وفق رحمته الوافرة.

طرق الله كلّها هي رحمة وحَقّ، وهما يسيران أمامه.

الأرض كلّها مملؤة من رحمته، وهذه الرحمة هي من جيل إلى جيل للذين يتّقونه.

– عينَا الله على الذين يثقون برحمته، والرحمة تحيط بهم.

رحمة الله صالحة وثمينة، وأفضل من الحياة.

– كما يرحم الأب أبناءه، هكذا يرحم الربّ الذين يتّقونه.

رحمة الله علينا هي عظيمة كما تعلو السماوات فوق الأرض، وهو يكلّلنا بالرحمة والصلاح.

نحن آنية رحمة، مُعَدُّون به لمجده.

نعم، هي رحمة الله التي، في العهد القديم، قادت خادم إبراهيم إلى أرض الأجداد، من أجل أن يجد زوجة لإسحق. بعد كلّ ما ورد في تك 24: 1-25، وبعد لقائه برفقة، زوجة إسحق العتيدة، “انحنى وسجد للربّ، وقال: تبارك الربُّ، إله سيّدي إبراهيم، الذي لم يقطع رحمته ووفاءَه عن سيّدي… “.

هي رحمة الله أيضًا التي خلّصت لوطًا وعائلتَه من دمار سدوم: “إِنَّ عَبدَكَ قد نالَ حُظْوَةً في عَينَيكَ، وعَظُمَت رَحمَتُكَ الَّني صَنَعتَها إِلَيَّ بِإِبقائِكَ على حَياتي…” (تك 19: 17-19).

هما نعمة الله ورحمته اللتان حفظتَا يوسفَ طوال السنين الأولى الصعبة في مصر: “وكانَ الرَّب مع يوسف، وأَمالَ إِليه رحمتَه، وأَنالَه حُظوَةً في عَينَي رئيسِ السِّجْن” (تك 39: 21)؛ فبالرغم من الصعوبات كلّها، كان الربّ مع يوسف، وأظهر له رحمته.

هذه الأمثلة وغيرها الكثير وفّرت لكاتب المزامير مادّةً حاسمةً للتغنّي برحمة الله وبإحساناته، وصولاً إلى كتّاب العهد الجديد الذين قرأوا ذلك كلَّه على نور المسيح يسوع وعلى هدي الروح القدس.

ليست رحمة الربّ شيئًا يُعطى بمقياس وبمقدار، وليست شيئًا ما يهبُه الربُّ بعض المرّات. هو لا يرحم من حينٍ إلى آخر، بل بشكل دائم، وهذه ميزة طبيعته الحقيقيّة. لنقرأ في هذا السياق ما جاء في عب 4: 14-16: “ولَمَّا كانَ لَنا عَظيمُ كَهَنَةٍ… فلْنتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلى عَرْشِ النِّعمَة لِنَنالَ رَحمَةً ونَلْقى حُظْوَةً لِيَأَتِيَنا الغَوثُ في حِينِه”.

نحن نحتاج إلى الرحمة، ولا يوجد أحد على الأرض لا يحتاج إليها؛ لذا فلنتقدّم بثقة تامّة إلى عرش النعمة للحصول على ما نحن بحاجة إليه، ولنفتح قلوبَنا لله، ولنسأله الرحمة والرأفة؛ هذا ما فعله كثيرون في ظروف مختلفة أيّام عاش على هذه الأرض ربّنا يسوع، كما قبلاً داود الملك، الأمر الذي يُبرِزُه بجلاء ما نقرأه في المزامير التالية:

“في دُعائي أَجِبْني، يا إِلهَ بِرِّي.

في الضِّيقِ فرجتَ عنِّي، فاَرْحَمْني واستَمع إِلى صلاتي” (مز 4: 2).

“إِرحَمْني يا رَبِّ فلا قُوَّةَ لي، واشفِني يا رَبِّ، فإِنَّ عِظامي قد تَزَعزَعَت” (مز 6: 3).

“لأَجلِ مُبْغِضِيَّ ارحَمْني يا رَبّ، وانظُر إلى بؤسي يا رافِعي مِن أَبوابِ المَوت” (مز 9: 14).

“إِلَيَّ التَفِتْ وارحَمْني، فإِنّي وحيدٌ بائِس” (مز 25: 16).

“إِستَمع يا رَبّ وارحَمْني، كُن يا رَبّ نصيرًا لي” (مز 30: 11).

“يا رَبّ ارحَمْني، فإِنّي في ضيقٍ، وقد أَكَلَ الغَمّ عيني وحَلْقي وأَحشائي” (مز 31: 10).

“أَنِرْ بِوَجهِكَ على عَبدِكَ، وخَلّصْني بِرَحمَتِكَ” (مز 31: 17).

” إرحمني، يا الله، كعظيم رحمتك، وكمثل كثرة رأفتك امحُ مآثي” (مز 51: 3).

“إِلتَفِتْ إليَّ وارحَمْني. هَبْ لِعَبدِكَ قوّةً مِنكَ، وخلّصِ ابنَ أَمَتِكَ” (مز 86: 16).

” كما يَرفعُ العبيدُ عيونَهم إِلى يَدِ سادتِهم، وكما تَرفعُ الأَمَةُ عينَيها إِلى يَدِ سيِّدتِها،

كذلِك عيوُننا إِلى الرَّبِّ إِلهِنا حَتَّى يَتَحَنَّنَ علينا” (مز 123: 2-3).

باختصار، بإمكاننا القول أنّ رسالة الرحمة الإلهيّة تخترق العهد القديم بكلّيّته وصولاً إلى العهد الجديد. لا يبرح اللهُ يهدّئ غضبَه العادل والمقدّس، ويُبدي رحمتَه تجاه شعبه، بالرغم من قلّة أمانة هذا الأخير، وذلك ليوفّر له فرصةً إضافيّةً للتوبة. إنّه حامي المساكين والمحرومين من حقوقهم وضمانتُهم. هي المزامير خاصّة التي تعطي المثل الأقوى الذي يناقض القول بأنّ إلهَ العهد القديم هو إله غيور، ومنتقم، وغضوب. منذ سفر الخروج وحتّى سفر المزامير، إله العهد القديم هو خاصّة “حنونٌ ورحيمٌ، بطيء الغضب، ومملوء محبّة”[39]، وستتجلّى رحمتُه بأبهى ما يكون بتجسّد الابن الحبيب يسوع.

خاتمة

إنّ فهم موضوع الرحمة وممارستها وفق روح الكتاب المقدّس عامّة، ووفق روح المزامير خاصّة، يملأان القلوب فرحًا وسلامًا، ويجعلانا سائرين طِبْقَ وصيّة يسوع: “كونوا رحماء كما أنّ أباكم رحيم” (لو 6: 36).

نحن آنية رحمة، آنية أعدّها هو لمجده. هو أحاطنا بمحبّته ورأفته، لذلك “فلنتقدّم بثقة إلى عرش النعمة لننال رحمةً، ونلقى حظوةً ليأتينا الغوثُ في حينه” (عب 4: 16).

إنّ رحمة الربّ تجاه بنيه هي دون حدود، كَبُعْدِ السماء عن الأرض. هذا ما تعلّمنا إيّاه مزامير الرحمة.

مراجع

البابا فرنسيس، يوبيل الرحمة، 2016 (Misericordiae Vultus).

شهوان أيوب، “مز 51″، جريدة بيبليا 51 (1998) 12.

عقيقي يوحنّا، “العدل الإلهيّ في المدينة الأرضيّة، أو العدالة المزموراتيّة”، في: أيوب شهوان (ناشر)، سفر المزامير. الإنسان أمام الله، سلسلة دراسات بيبليّة 43، منشورات الرابطة الكتابيّة، لبنان 2010، ص 575-593.

الفغالي بولس، “مز 51″، في: أنشدوا للربّ نشيدًا جديدًا، المزامير 51-100، سلسلة القراءة الربّية 10، لبنان 1998.

معجم اللاهوت الكتابيّ، دار المشرق، بيروت 1986.

Beauchamp Paul, Psaumes jour et nuit, Seuil 1980.

Brown E. – Driver S. – Briggs C., Hebrew and English   Lexicon with an appendix containing the Biblical Aramaic, Hendrickson, USA 41999.

Congar Yves, „La miséricorde. Attribut souverain de Dieu », in Vie spirituelle 106 (1962) 380-395.

Hauser R./J. Stöhr, art. “Barmherzigkeit”, in HWPh 1 (1971) 754s.

Jacquet, L., Les psaumes et le cœur de l’homme, étude textuelle littéraire et doctrinale, III,          Duculot, Belgique 1978.

Kasper Card. Walter, La miséricorde. Notion fondamentale de l’Évangile clé de la vie chrétienne, Theologia, EdB 2015.

Mannati, M., Pour prier avec les Psaumes, Cahiers Evangile 13, Cerf, Paris 1975.

Poffet, J.-M., La patience de Dieu, essai sur la miséricorde, Paris 1992.


[1]  رج مز 9: 10، 19؛ 10: 14، 17؛ 22: 25؛ 113: 4-8.

[2]  البابا فرنسيس، يوبيل الرحمة 6 (Misericordiae Vultus 6).

[3] Paul Beauchamp, Psaumes jour et nuit, Seuil 1980.

[4] Dei Verbum, 2.

[5] رج مز 25: 7؛ 27: 13؛ 31: 20؛ 65: 5؛ 119: 66؛ 145: 7.

[6] رج مز4: 2؛ 6: 3؛ 9: 14؛ 25: 16؛ 26: 11؛ 27: 7؛ 30: 11؛ 31: 10؛ 36: 8؛ 41: 5، 11؛ 51: 3؛ 56: 2؛ 57: 2؛ 59: 17؛ 67: 2؛ 86: 3، 16؛ 94: 18؛ 102: 14؛ 119: 29، 58، 132؛ 123: 2، 3؛ 142: 2.

[7]  أنظر الموضوع “رحمة”، معجم اللاهوت الكتابيّ، بيروت 1986، ص 374-377.

[8]  رج مز 31: 8؛ 36:  8؛ 52: 10؛ 59: 17؛ 62: 13؛ 85: 11؛ 86: 5؛ 94: 18.

[9]  رج مز 33: 5؛ 89: 2؛ 103: 17؛ 107: 43.

[10]  رج مز 52: 10.

[11]  رج مز 52: 3.

[12]  رج مز 21: 8.

[13] رج مز 33: 5؛ 100: 5؛ 106: 1؛ 107: 1؛ 118: 1.

[14] رج مز 86: 15؛ 103: 8؛ 145: 8.

[15] مز 86: 5؛ راجع أيضًا 145: 9.

[16]  رج مز 86: 15؛ 103: 8؛ 111: 4؛ 112: 4؛ 145: 8.

[17] أنظر أيضًا مز 4: 2؛ 6: 3؛ 25: 16؛ 26: 11؛ 27: 7؛ 30: 11؛ 31: 10؛ 41 : 5، 11؛ 56: 2؛ 57: 2؛ 67: 2؛ 86: 3، 16؛ 102: 14؛ 119: 58، 132؛ 103: 8-10.

[18] أنظر أيضًا مز 30: 11؛ 31: 10.

[19] أنظر مز 31: 10، 17؛ 67: 2.

[20] عندما يكون الربّ في حالة غضب يُعبَّر عن ذلك بالقول بأنّه يشيح بوجهه عن المستغيث به أو يحجبه عنه: “حَجَبتَ وَجهَكَ فنالَ الرَّوعُ مِنِّي” (30: 8)؛ “لا تَحجب وَجهَكَ عنِّي” (مز 27: 9أ).

[21] أيوب شهوان، “مز 51″، جريدة بيبليا 51 (1998) 12.

[22] رج بولس الفغالي، “مز 51″، في أنشدوا للربّ نشيدًا جديدًا، المزامير 51-100، سلسلة القراءة الربّية 10، لبنان 1998.

[23]  مز 4: 2؛ 6: 3؛ 25: 16؛ 26: 11؛ 27: 7؛ 30: 11؛ 31: 10؛ 41 : 5، 11؛ 56: 2؛ 57: 2؛ 67: 2؛ 86: 3، 16؛ 102: 14؛ 119: 58، 132.

[24]  مز 40: 12؛ 57: 4؛ 61: 8؛ 85: 11؛ 89: 15.

[25]  مز 33: 5؛ 119: 64.

[26]  مز 36: 6؛ 57: 11؛ 108: 5.

[27]  مز 33: 22؛ 86: 13؛ 89: 25؛ 117: 2؛ 119: 41.

[28]  مز 25: 6؛ 40: 12؛ 69: 17؛ 77: 10؛ 79: 8؛ 103: 4؛ 106: 45؛ 119: 47، 156؛ 145: 9.

[29]  رج هو 1: 6-7؛ 2: 3، 6، 21، 25؛ 14: 4؛ إر 12: 15؛ 16: 5؛ 30: 18؛ 31: 20؛ 33: 26؛ 42: 12؛ مز 25: 6؛ 86: 5، 15-16؛ 103: 4-13؛ 116: 5-6؛ نح 9: 17؛ دا 1: 9؛ زك 7: 9.

[30]  لو 6: 36؛ أنظر مت 6: 12؛ 20: 31 و34؛ أف 4: 32؛ لو 1: 72؛ 1: 50؛ يع 2: 13؛ يه 21.

[31]  رج 2 صم 12: 13؛ أنظر مز 11: 27؛ 12: 9؛ أش 65: 12؛ 66: 4.

[32] يوحنّا عقيقي، “العدل الإلهيّ في المدينة الأرضيّة، أو العدالة المزموراتيّة”، سفر المزامير. الإنسان أمام الله، سلسلة دراسات بيبليّة 43، منشورات الرابطة الكتابيّة، لبنان 2010، ص 575-593.

[33]  رج مز 28: 22؛ سي 36: 4.

[34]  رج مز 143: 2؛ تك 8: 21؛ 1 مل 8: 46؛ أي 4: 17؛ 14: 4؛ 15: 14؛ 25: 4؛ أم 20: 9؛ إر 5: 23؛ 13: 23؛ 17: 1، 9.

[35]  رج تك 3: 17؛ 4: 11: لعنة البشريّة؛ تك 12: 2-3: بركة البشريّة الجديدة.

[36]  رج تك 1: 1؛ أش 48: 7؛ مز 104: 30؛ 148: 5.

[37]  رج إر 24: 7؛ 31: 33؛ 32: 39؛ حز 36: 25-27.

[38]  رج أش 1: 11-14؛ هو 6: 6؛ عا 5: 21-27؛ مي 6: 6-8؛ إر 6: 20؛ 7: 3، 21-24.

[39]  مز 145: 8؛ رج 86: 15؛ 103: 8؛ 116: 5.

Scroll to Top