وحشية الإنسان ضد الإنسان
المطران جورج خزوميان
“ورأى الرب مساوئ الناس كثرت على الأرض، وأنهم يتصورون الشر في قلوبهم ويتهيأون له نهارًا وليلاً…وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت عنفًا، (فقال الله لنوح) …ها أنا آت بطوفان مياه على الأرض لأزيل كل جسد”. (التكوين 6: 5-16).
إن الإبادة الأرمنية وجه آخر من الطوفان المذكور عنه في الكتاب المقدس والذي حدث أيام نوح الصديق. كانت الإبادة الفظيعة آنذاك، عندما طافت المياه على وجه الأرض وهلكت شعوبًا بأكملها.
ثم كانت مجازر كبرى واضطهادات فظيعة على عهد قياصرة وملوك ظالمين، تبعتها مجازر متنوعة على أيدي كافرين، إلى أن أتى يومٌ، قبل مائة عام، ضاقت فيه غرائز الاثم والظلم في قلوب الأتراك العثمانيين، وصمموا أن يقوموا بإبادة شعب بأكمله، الشعب الأرمني، وأن يطردوه من أراضيه ليستولوا عليها.
كيليكيا تبكي بنيها:
حدث ذلك قبل مائة عام أي سنة 1915.
بعد مرور ماية سنة على إبادة الأرمن من عن وجه كيليكيا الأرمنية، يحتفل الشعب الأرمني هذه السنة باليوبيل المئوي للمذابح التي اقترفها الأتراك العثمانيون بحق الأرمن والتي جرت أحداثها ما بين نيسان 1915 وتموز 1916 وهي من أكثر جرائم الإبادة الجماعية منهجية، من ناحية الطريق التي تم اعتمادها للقضاء على ثلثي الأرمن الذين كانوا يعيشون في تركيا الحالية.
إن الدولة التركية تنكر حتى اليوم هذا الواقع الأليم وتحارب كل من يذكره أو يتغنى به. ترفض تركيا كل من يعبر عنه، لكنها تتحدث من جانبها عن حرب أهلية في الأناضول تزامنت مع مجاعة ذهب ضحيتها من 300 ألف إلى 500 ألف أرمني فقط، ومثلهم من الأتراك، كما أنها تتحدث أيضًا عن لبنانيّين قضوا نحبهم إبان الحرب العالمية الأولى.
إنما يجمع الباحثون في التاريخ على أن أحداث هذه المذابح موثقة بوثائق تاريخية لا يمكن الشك فيها، إلاّ أن هناك عدم توافق بينهم على المدة الزمنية التي جرت خلالها هذه الأحداث. فالكل يتوافق على أن الإبادة الأرمنية بدأت في نيسان 1915 وانتهت في تموز 1916، ومنهم من يقول أنها بدأت سنة 1894 وامتدت حتى عام 1923. كما أن عدد الضحايا غير معروف بالتحديد، لكن المراجع تقول ان العدد يتراوح بين مليون ومليون ونصف، حسب التوافق على المدة الزمنية.
مسؤولية الدولة التركية في الإبادة.
في موازاة تصاعد أجواء مطالبة تركيا بالحقيقة التاريخية للإبادة الأرمنية ومسؤوليتها كدولة وريثة للسلطنة العثمانية من طرف، وتنكر تركيا بما حدث للأرمن في الدولة العثمانية واعتباره مجرد انتهاكات محلية من طرف آخر، لابد ان نسلط الضوء على بعض المعطيات الرئيسية التي تهدف إلى اماطة اللثام عن ماهية “القضية الأرمنية” بكل أبعادها وملابساتها وتداعياتها أمام الرأي العام. وبلوغًا لهذه الغاية، سوف نرسم صورة عامة تصب في مجرى تعميق المعرفة الصحيحة عي القضية الأرمنية، لاسيما فصلها المأسوي المتجسد في “الإبادة” التي اقترفتها تركيا العثمانية ضد الأرمن بتاريخ 24 نيسان 1915، إبان الحرب العالمية الأولى. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن القيود القانونية والاعتبارات السياسية عند الدول الكبرى، والتي سلطت الضوء على حالة الإبادة في وقت يشهد العالم فيه موجات ابادية، راهنة مع أرجحية وقوع ابادات أخرى مستقبلية، هي التي شجعت الإبادة الأرمنية، واوصلتها إلى ما كانت وما هي. والاحتفال بيوبيل الإبادة وذكرى المذابح والمجازر والإبادة وكل ما وقع بحق الأرمن من ظلم وقتل وتهجير، ليسوا بشيء آخر إلاّ تذكير للعالم أجمع بما حدث ويحدث حاليًا من جرائم حروب ضد كرامة الإنسان وحقوقه، على أمل أن يصحو ضمير الإنسان من غفوته، ويتكاتف أحرار العالم ضد عمليات التطهير العرقي ومصادرة حقوق الغير من الناس وإرادتهم وتحقيق السلام على الأرض.
التطهير العرقي والتهجير بالشعب الأرمني قضية دولية.
عن عملية التطهير العرقي التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية ضد مواطنيها الأرمن في عام 1915 تعكس الروح الإجرامية القاسية لكل أيديولوجية. إذ فيما ارتكبت القومية جرائم بحق الإنسانية في المانيا والبوسنة وارتكبت الأثنية جرائم بشعة في السودان وروندا وغيرها، وفيما الدين يرتكب مجازر كثيرة عبر التاريخ والجغرافية، ولا يزال، هكذا أيضًا فعلت قومية الأتراك بالأرمن.
كانت البداية أن شكل الأرمن العثمانيون “ملّة” وفقًا للنظام الإداري العثماني وأصبحوا أشدّ الشعوب المسيحية في الدولة العثمانية اخلاصًا في خدمتها والولاء لها. لذا أطلق عليهم العثمانيون لقب “الملّة الصادقة”. كذلك شهدت الاستانة ازدهارًا أرمنيًا على شتى الصعد. بينما كان وضع أرمن الولايات الست (بلتيس، ازطروم، فان، خربوط، سيفاس، وجزء من دير بكر) على عكس ذلك. اذ افترسهم الفقر والمرض والجوع والجهل. ولكن في مقابل عوامل الانبعاث والترقي البعض، لم تطالب الملّة الأرمنية المسيحية الكبيرة بحكم ذاتي أو استقلال عن العثمانيين رغم انتعاشها ثقافيًا وقوميًا. لا بل تداخلوا بشكل وثيق في النسيج الديمغرافي المسلم، بما لا يسمح لهم بتكوين نواة دولة مستقلة، شأن العرب أو مسيحيي البلقان. لذلك لم يسعَ الأرمن إلى الانفصال أو الاستقلال عن الدولة العثمانية. بل طالبوا بإجراء إصلاحات داخلية في الولايات الأرمنية الست. بيد أن السلطات العثمانية قد أهملت حل المسألة الأرمنية، بما حدا بمثقفي الأرمن وزعمائهم بالاستانة إلى مناشدة الروس لتبني مستقبل الأرمن العثمانيين في مباحثات السلام إثر الحروب العثمانية الروسية (1877-1878) ونجحت المساعي الأرمنية جزئيًا في معاهدة “سان استيفانو” الخاصة مسألة الإصلاحات الأرمنية. وهكذا تصاعدت المسألة الأرمنية من كونها مشكلة محلية عثمانية إلى كونها قضية دولية.
بيد أن مراوغات الإدارة العثمانية في تنفيذ الإصلاحات وانشغال الجماعة الدولية عن متابعة القضية الأرمنية حدّ بالشعب الأرمني إلى التوجه الأرمني العام إلى المسار الثوري لحل القضية بعد فشل تسويتها سلميًا، فاذا تبلورت الطاقات الأرمنية في هيكليات حزبية ثورية سرّية ومُعلنة وجيشت قواها داخليًا وخارجيًا ومارست أساليب الدعاية والثورة.
المجازر في المرحلة الحميدية
الدولة العثمانية انتهجت إزاء ذلك سياسة قمعية أسفرت عن اندلاع سلسلة من الاضطرابات والمذابح والمجازر والتهجير ضد الأرمن بين عامي 1894-1896، ذهب ضحيتها حوالي 300 ألف من الأرمن وهاجرت عدة آلاف أخرى. هكذا نجح السلطان عبد الحميد الثاني في إضعاف القومية الأرمنية مستخدمًا سياسة المذابح “ضد الأرمن في النظام العثماني، كما خلق هوّة من البغضاء بين المسيحيين والمسلمين وحجةً ومرجعيةً ثانية بأن الأرمن يهدِّدون وحدة أراضي السلطنة. لذلك لا بد من نزع القومية الأرمنية واستقرار أغلبية الأتراك في الأناضول، ذات الثروات الزراعية والمعدنية والطرق المرورية الهامة. من هنا غدت المذبحة سياسية، عثمانية، رسمية، للتخلص من الأرمن حتى لا يتشبثوا بأراضيهم، دون مراعاة لأية شرعية دولية وإنسانية.
المجازر في المرحلة الاتحادية
في أعقاب حركة “تركيا الفتاة” ذات النزعة القومية، العنصرية، المتطرفة، التي أتت باسقاط النظام الحميدي في 24 تموز 1908، صار التخلص من الأرمن ضرورة سياسية عندما رأى النظام الاتحادي الجديد تقهقر جيوشه على جبهة القوقاز فألقى لوم الهزيمة على الأرمن، لأنهم لم يتطوعوا في الجيش العثماني شأن أقرانهم الروس. وفي هذا المناخ قرّر الاتحاديون في شباط 1915 إبادة الأرمن من الدولة العثمانية.
وقعت مهمة تنفيذ الإبادة على الدرك والعصابات والتشكيلات المتخصصة، وكانت وظيفتها الأساسية تنفيذ المذابح الجماعية بحق الأرمن المهجرين. وفعلاً تنفذت هذه العملية في الولايات الشرقية على مرحلتين، أولاً قتل الرجال الأكفاء، ثم نفي بقية الأرمن. بيد ان النفي لم يكن سوى الفصل الثاني من برنامج الإبادة.
في نهاية تموز 1915 لم يعد ثمة أرمن في تلك الولايات ونجح الاتحاديون في تصفية الأرمن من أراضيهم التاريخية التي قطنوها منذ ما ينيف على 3000 سنة.
وفي كانون الثاني 1917، أنهت الإدارة العثمانية القضية الأرمنية رسميًا وأبطلت المادة 61 من معاهدة برلين، مدعية أنها عقيمة لا جدوى منها، إذ لم يعد ثمة وجود للأرمن في الدولة العثمانية.
وهذا مطابق بما يُطرح عليه اسم “جريمة إبادة الجنس” بمفهوم القانون الدولي ووفقًا للمادة الثانية من الاتفاقية، إذ يقول: إن تعرضت الجماعة الأرمنية أثناء الترحيل من الأناضول لولاية حلب العربية إلى القتل وألحقت بهم أضرارًا جسدية ومعنوية بالغة وأخضعوا عمدًا لظروف قاسية أدت إلى التدمير الفسيولوجي كليًا وجزئيًا وفُرض التتريك على الأطفال الأرمن…
اعتراف وتعويض
ان الحكومات التركية المتعاقبة لا تنكر ما حدث للأرمن في الدولة العثمانية، لكنها تصر على أنه “نتاج هامشي غير متعمّد لحرب كونية” أو أنه “مجرد انتهاكات محلية”.
فشلت حتى الأن الأمم المتحدة في إقرار المرجعيات التاريخية، لاسيما الفقرة 30، ضمن تقريرها النهائي عن “منح جريمة إبادة الجنس والعقاب” للقضية الأرمنية. ويرجع ذلك أي فعالية الدور التركي ومصالح الأعضاء وتحالفاتهم الاستراتيجية مع تركيا.
ولكن وبالرغم من سلبية الأمم المتحدة والضغوطات اليهودية في الكونغرس الأمريكي كي يحول دون تخصيص يوم لتذكر الإبادة الأرمنية، قد نجحت مساعي اللوبي الأرمني الأميريكي بأن يوافق المجلس الأميريكي في 10 أيلول 1984 على القرار رقم 247، لمطالبة رئيس الولايات المتحدة الأميريكية بإعلان يوم 24 من نيسان 1985 بمثابة يوم قومي لإحياء ذكرى وحشية الإنسان ضد الإنسان، مع الإشارة إلى أن يكون هذا اليوم تذكارًا لمليون ونصف المليون أرمني الذين سقطوا ضحية الإبادة الأرمنية.
كما أن جهود اللوبي الأرمني الفرنسي قد نجحت هي أيضًا في اقناع مجلس النواب الفرنسي بإصدار قانون في 29 أيار 1998 ينص على اعتراف فرنسا علانية بوقوع إبادة للأرمن في عام 1915.
هذا ما أكده أيضًا أخيرًا الرئيس الألماني يواكيم غاوك لما اعترف بالإبادة الأرمنية مشددًا على مسؤولية جزئية لبلاده في ما حدث، حينما قال خلال احتفال في كاتدرائية البروتستانت في برلين عشية الذكرى المئوية للمجازر التي ارتكبها الأتراك بحق الأرمن: “يجب علينا نحن الألمان أن نتصالح مع الماضي بالنسبة لمسؤوليتنا المشتركة، واحتمال تقاسم الذنب نظرًا للإبادة التي ارتكبت بحق الأرمن”. ثم كشف بوضوح عن وجود رغبة في القضاء على الأرمن لكن تمَّ تجاهلها.
وهذا ما أكده أيضًا حفيد السفَّاح جمال باشا الكاتب التركي حسن جمال، المعروف بليبراليته وحرية قلمه. ذكر في أحد كتبه: “ان انكار مذابح آلاف الأرمن يعني المشاركة في الجريمة ضد الإنسانية. ان معاناة 1915 ليست من الماضي بل الحاضر، ولا يمكننا بلوغ السلام والراحة إلاّ بالمصالحة مع التاريخ، لكن مع التاريخ الحقيقي، وليس التاريخ المخترع والمعدّل مثل تاريخنا، وإنقاذ أنفسنا من جرثومة استغلاله”.
هكذا يتضح عما سبق ان القيود القانونية والاعتبارات السياسية قد تعانقت في الماضي كي تكثف الأضواء على حالة الإبادة الأرمنية وتعتمها على حالة أخرى، في وقت يشهد العالم فيه موجات إبادية راهنة ليست بعيدة عنا مع أرجحية وقوع إبادات مستقبلية. لذلك، رغم مرور مائة سنة على الإبادة الأرمنية، لا يزال الشعب الأرمني يطالب الأمم بحقوقه المشروعة والاعتراف بقضيته والتعويض عنها. وعليه ينادي ويناشد الدولة التركية كي تعيد لأصحابها الأديرة والكنائس والأثار التاريخية، كما وأن تقوم بإجراءات التعويض لورثة ضحايا الإبادة. كما وأن ثمت التزام معنوي يقع على عاتق المجتمع الدولي بغية إحراز العدالة وقوامه: “يجب أن تعترف تركيا بالحقيقة التاريخية للإبادة الأرمنية وأن تتحمل مسؤوليتها كدولة وريثة للسلطنة العثمانية”.