الأب جان بو خليفه م. ل.
مؤسس ومدير جمعية المنسيين
مقدمة
نمرّ قربهم نبصرهم فلا نراهم يصرخون فلا نسمعهم. على زفت طريق تحت جدار عتيق يتمدّدون ملتحفين السماء مستدفئين يطعمون النار مما منّت عليهم أكوام النفايات والقذارة يعيشون مائتين ويموتون غرباء حتى في بقعتهم الصغيرة فيأتي آخر يصادرها. ومنهم ما زالوا في بيوتهم وقد كانوا فيما مضى من أهل العزّ والرخاء بيد أنّ ظروف الدهر القاهرة حرمتهم خيراتهم وباتوا معدمين إلاّ من رحمة جار أو جارة تشفق فتأتيهم ببعض من طبخة تتشاركها معهم كيلا يقضوا جوعاً.
وغيرهم قد باع قسراً كلّ ما له ليؤمّن لزوجته أو طفله أو والده ثمن علاج ولا أمل، فخسر من يحب وخسر ما يملك، وبات تحت رحمة الدائنين وسط عالم اللارحمة والاستغلال والمنفعة.
والبعض منهم قد تخلّى عنهم أبناؤهم، واستقالوا من واجب إكرام أهلهم، فأصبحوا في مهبّ رياح الخوف واللا استقرار، يتحسّرون يسامحون ويتألّمون، أمّا البعض الآخر فمرضى لا يملكون ثمن دواء أو علاج يستسلمون منتظرين العبور علّهم يجدون ما وراء الموت عالم رحمة وسلام لا أوجاع فيه ولا جوع ولا أحزان.
هؤلاء هم من أطلق الروح عليهم اسم “منسيّين” ليس لشيء إلاّ ليذكّرنا بما قاله لنا المعلم “كم من مرة رأيتموني عرياناً وما كسوتموني، جائعاً وما أطعمتموني، عطشاناً وما سقيتموني، غريباً فما آويتموني، مريضاً وما عاينتموني” … (متى 25/11-43).
وهكذا تحوّل ألم هؤلاء الإخوة إلى نداء طارئ ودعوة إلهيّة ضجّت في أعماقي فولد برنامج المنسيين عبر أثير صوت المحبّة ليحمل آلامهم إلى قلب كلّ مؤمن حقيقي يسمع فيصغي، ينظر فيرى، تهزّه المشاعر فيتحرّك. كانت البداية عام ٢٠٠١ مع رفيق العمر والعمل وصديق الطفولة والرسالة الأب وسام معلوف مؤسّس جماعة رسالة حياة، نقدّم البرنامج معاً يوم الجمعة عند العاشرة صباحاً من كلّ أسبوع. نبدأ بقراءة الإنجيل ومنه ننطلق لنشر ثقافة الإنجيل والتضامن والتآخي، ونضيء بعدها على وجع المهمّشين من مرضى ومسنّين وفقراء، الذين نشجّعهم على مشاركتنا آلامهم والتحدّث معنا ومن خلالنا عبر الميكرو لقلب كلّ مستمع… هي “خمس خبزات وسمكتان” كلّ ما نملك، بضع كلمات نرميها في الهواء وقصة ألم نعرضها ولكن من كان ليعلم ما يعدّه الله من خير وحبّ يفيضه غلالاً وافرة على أبنائه وبناته. إنّه الإصغاء، حبّة القمح التي وقعت في الأرض الطيّبة.
عشرات المؤمنين لمس الله قلبهم وفتح عيون قلوبهم فأسرعوا لتلبية النداء دعماً معنويًّا ماديًّا وروحيًّا، والعشرات أصبحوا مئات والمئات أصبحوا ألوفاً، هي أعجوبة الحبّ اللامتناهية تتفاعل في النفوس الكريمة فينضج عمل الروح ويثمر بركة لكلّ الكنيسة.
على الصعيد القانوني:
في السابع من كانون الأول 1985، تبنّت جمعيّة المرسلين بشخص رئيسها العام الأب إيلي ماضي ومجلسه برنامج المنسيّين وأطلقت عليه اسم “منسيّين، جهاز خدمة المحبّة” في جمعيّة المرسلين وقد صدر تعيين رسمي للأب جان بو خليفة بإدارة هذه المؤسّسة والعمل على تطويرها.
وحصرت جمعيّة المرسلين المساعدات الاجتماعيّة بمكتب المنسيّين طالبة من الكهنة توجيه المحتاجين إليه، وهي خطوة مباركة تشبه طريقة عمل جماعة الكنيسة الأولى، والتي خوفاً من إهمال الكلمة والوعظ أفرزت سبعة شمامسة لخدمة المحتاجين، ما سمح للرّسل بمتابعة عملهم التبشيري. شكّل هذا الأمر دعماً معنويًّا كبيراً للعاملين في البرنامج حيث أنّ رضى السلطة والثقة التي منحت لهم هي علامة على رضى الربّ وثقته بما يقومون به.
في العاشر من أيار سنة 2014 تسجّلت جمعيّة المنسيّين لدى وزارة الشؤون الاجتماعيّة تحت علم وخبر رقم 1118 في الدولة اللبنانيّة.
الانطلاقة:
لم يهدف برنامج المنسيّين في أولى حلقاته إلى جمع المال لدعم الإخوة المحتاجين، إنّما الغاية الأساسيّة منه كانت الدفاع عن حقوق المظلومين والمهمّشين، وحثّ المجتمع للالتفات إلى هذه الطبقة المنسيّة من الإخوة المحرومين من العيش الكريم، إن في المؤسّسات الاجتماعيّة وإن على الطرقات حيث ينامون في الشوارع، أو على مداخل البنايات وتحت أدراجها؛ كما وكان يهدف إلى نشر تعليم الكنيسة الاجتماعي وثقافة العطاء والتضامن.
الفكرة الأساسيّة التي حرّكت العمل هي دعوة المسيحيّين إلى عيش كلمة الانجيل بحسب مار يعقوب الرسول “أرني إيمانك من أعمالك”، فان المحبّة إن لم تترجم بأعمال حسّيّة تحدث فرقاً تبقى عقيمة.
هكذا انطلقنا نبحث عن الإخوة حيثما وجدوا، نصغي إليهم، نشجّعهم، نسجّل معاناتهم ونبثّها عبر الاذاعة.
لاقى البرنامج تعاطفاً كبيراً من المتابعين لإذاعة صوت المحبّة، فتحرّكت القلوب وبدأ المستمعون يتفاعلون فأخذوا يرسلون أموالاً وثياباً ومواداً غذائيّة مستفسرين أكثر حول كيفيّة المساعدة. كما ولمس البرنامج قلب الموظّفين والعاملين داخل الإذاعة نفسها وكان لتشجيعهم ودعمهم تأثيرٌ مباشرٌ في نجاحه وانطلاقته، وفي إضفاء المصداقية وزرع الثقة في نفوس المستمعين، وما زال حبّهم، إدارة وعاملين، منذ عام 2001 حتى اليوم حجر أساس في استمراريّة العمل.
هذا التشجيع دفعنا للطلب من المستمعين وبشكل مباشر دعماً ماديًّا يؤمّن تغطية حاجة الأخ أو الأخت ضمن الحلقة. وقد أعطى تجاوب المستمعين مع هذا النداء الإنساني دافعاً كبيراً لنا للاستمرار في هذه الخدمة.
مع مرور الوقت برزت الحاجة إلى متابعة الإخوة الذين سبق واستضفناهم، فهم غير قادرين على العمل لتأمين حاجاتهم اليوميّة الملحّة، ناهيك عن غلاء المعيشة في لبنان وارتفاع ثمن الأدوية وإيجار السكن، وباتوا مهدّدين بالرمي في الشارع.
“العرّاب”
من هنا، ولدت فكرة مبدعة، اقترحها الأب العام ومؤسّس رسالة جماعة حياة، ومقدّم برنامج المنسيّين الأب وسام معلوف. وكان آنذاك لا يزال طالباً في كلّية اللاهوت وهي فكرة العرّابين حيث يشكّل كلّ خمسة أفراد من المستمعين عائلة تتبنّى واحداً من الأخوة المنسيّين وتؤمّن له مساهمة شهريّة تساعده في تأمين حاجاته. هذه الفكرة حوّلت بطبيعة الحال المنسيّين من برنامج إلى مؤسّسة تتطلّب موظّفين لإتمام عملها في متابعة أوضاع الإخوة وحاجاتهم من جهّة، وجمع التبرّعات الشهريّة من المساهمين من جهّة أخرى.
وهكذا ولدت عائلة المنسيّين الكبيرة والّتي تضمّ حتّى اليوم 800 عائلة تتلقّى دعماً وحبًّا و1400 مساهماً يعطون بسخاء وبمحبّة.
فكرة مقدّسة ولدت من رحم المعاناة، ومن قوّة الرغبة الّتي زرعها الروح في قلبنا للوقوف بالقرب من أبنائه المتألّمين. إنّها شبكة من المؤمنين الواعين الراغبين بعيش إلتزامهم بالمسيح عبر إعتنائهم بيسوع المنسي في وجوه الجياع والعطاش والمرضى والمسجونين والغرباء.
أصدقاؤنا في الاغتراب
للمغتربين دور فعال في دعم الإخوة المنسيّين وقد نشأت مجموعة من الأصدقاء في البحرين مع السيّد يوسف القارح.
بالإضافة إلى سهرة المنسيّين التي تنظّم في فترة عيد الميلاد ويعود الفضل في تحضيرها للسيد شربل حبيقة وعقيلته نيكول.
فريق العمل:
يضم فريق العمل ضمن مؤسّسة «المنسيّين» عدداّ من الآباء و14 موظّفاً ثابتين، يشكّلون حلقة وصل بين الإخوة المنسييّن، والإخوة المساهمين. كما ويضمّ عدداً من المتطوّعين من مساعدين إجتماعيّين وأطباء نذكر منهم الدكتور سركيس اجبع والدكتور بسام عيد وغيرهم. إضافة إلى تعاون المؤسسة مع المختبرات والمستشفيات وصيدلية Bonne santé.
مخيّم المحبوبين:
إنّه ثمرة من ثمار مؤسّسة المنسيّين التي وجدت لتضفي الفرحة على وجوه أطفال العائلات الّتي نساندها. قامت المؤسّسة منذ ستّة أعوام بإحياء مخيّم صيفي يضمّ أكثر من 90 طفلاً ومراهقاً يعيشون معاً إختباراً مميّزاً يتعرّفون فيه كلّ مرّة على وجه من وجوه المسيح الصديق والفقير والإله ويتعلّمون كيفيّة مواجهة الحياة وبناء الصداقات والمشاركة في اللعب والأفكار والخبرات.
وقد عهدت المؤسّسة مخيّم المحبوبين إلى جماعة الإخوة الدارسين في جمعيّة المرسلين اللبنانيّين وكان لحضورهم وإدارتهم وتنظيمهم دور فعّال ومثمر، فولد معهم فريق يُدعى فريق “المحبوبين”، هم مجموعة من الشبيبة التي كبرت من أطفال المخيّم أو من الشبيبة التي ترغب بالعمل الرسولي الإجتماعيّ. قام الإخوة خلال السنوات المنصرمة بإخضاعهم لدورات تنشئة وتواصل وشكّلوا فريقاً مميّزاً يساعدهم في حسن إدارة المخيّم.
ويتحضّر هذا الفريق اليوم للعمل ضمن برنامج تلفزيوني عبر Tv Charity بعنوان “كون حدّن”. وباب الإنضمام والإنتساب مفتوح أمام كلّ من يرغب من الشبيبة.
يوم المنسيين:
أطلقت الجمعيّة يوم المنسيّين في 16 أيلول 2007 وهو يوم شكر وتذكر.
شكر للرّب مؤسّس هذا العمل الجبّار ومطلقه،
شكر للعاملين في المؤسّسة وتفانيهم في رسالتهم،
شكر للمساهمين، الأرض الطيّبة التي وقعت فيها كلمة الرّب فأثمرت عطاءً وبذلاً وسخاءً.
إنّه يوم التضامن مع المنسيّين في عزلتهم، يوم المرضى والعائلات المعدمة، يوم تضامن مع كلّ منسي.
لقد أردناه يوماً في زمن الصليب، رمز المحبّة اللامحدودة لنعبّر لهم عن رغبتنا بمشاركتهم آلامهم وتضامننا معهم، ولنؤكّد أنّ المسيح لا يزال فيهم يتألّم، وهو يدعونا لنحمل الصليب. يحيي هذا اليوم، عند أقدام مريم، في مزار سيّدة لبنان، عدد من الفنّانين، من بينهم الأب جان عقيقي المرسل اللبناني الذي يقوم حالياً بتقديم البرنامج يوم الخميس من كلّ أسبوع عند الخامسة مساءً، موقّعاً في هذا اليوم من كلّ عام ألبوماً جديداً، يعود ريعه لدعم المؤسّسة، كما وكرّس الأب عقيقي صوته لرسالة المنسيّين فشكّلت ترانيمه صرخة ضميريّة تدعو المؤمنين إلى تبنّي قضيّتهم.
الفريق الرياضي:
تحت إسم Charityclub قامت جمعية المنسيّين بتكوين فريق كرة السلة يضم مجموعة من الشباب محبّي كرة السلّة. والهدف من وجود هذا الفريق هو حمل قضيّة المنسيّين إلى فكر الشبيبة من رياضيّين ومتابعين للرياضة، إلى جانب إضفاء قيمة إنسانيّة في عالم الشباب الرياضي. ساعد هذا الأمر أعضاء الفريق في تنمية روح الإلتزام الجماعي والوقوف إلى جانب الفقراء. ويقوم حالياً بتدريبهم السيّد شربل الباش أحد مدرّبي منتخب لبنان في كرة السلّة.
إحصاءات:
حتى الآن، تمّ عرض أكثر من 850 وضعاً إنسانيًّا في برنامج المنسيّين موزّعين على أكثر من 420 حلقة، وتمّت دراسة 1640 ملفّ وقد بلغ عدد المتبرّعين أكثر من 8000 متبرّع.
الأمور الّتي تحقّقت:
قامت المؤسّسة بتأمين كلفة علاج أو جراحة لأكثر من 70 مريض سرطان،
45 عمليّة قلب وميل، وعمليّات زرع كلية، وزرع كبد، وكلفة إستشفاء وعمليّات أخرى مثل: العين، الأذن، الأسنان، الظهر، الرأس، والمعدة لأكثر من 50 شخصاً.
كما ساهمت بتأمين أطراف إصطناعيّة وإجراء جراحة بالأطراف لـ 23 شخصاً بالإضافة إلى تأمين حاجة المرضى من آلة أوكسيجين وكرسي متحرّك إلى سرير خاص بالمعوّق وغيرها. ويساهم حالياً في البرنامج أكثر من 1400 متبرّع شهري لدعم هذه العائلات.
خاتمة:
“الفقراء معكم في كلّ حين أما أنا فالى حين”، أعطنا يا رب أن تبقى عيوننا متأمّلة دوما بجمال اللقاء فيك، والعيش معك واتّباعك حاملين صليبنا وصليب الآخرين، وهبنا الا يتحول عملنا الى مجرّد نشاط اجتماعي بل أن نبقى متّحدين بك في كلّ ما نقوم به فنصبح علامة رجاء وفرح.