الأخ إتيان حنا م.ل.
قراءة حياة المطران يوحنا حبيب مؤسس جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة التي تحتفل بيوبيل تأسيسها المئة والخمسين، في ضوء رسالة البابا فرنسيس العامة “laudato si” “ليكن مباركًا”، وفيها يقدّم نظرة روحية عصرية حول البيئة، دفعتني إلى الغوص في البحث بموضوع “نظرة المؤسس في البيئة، وكيفية تعامله معها”. لقد أسعفني ما استندت عليه من كتابات آباء الجمعية عن المؤسس نفسه الأوراق التي تصفحتها في أرشيف الجمعية، فكتبت ما كتبت لإبراز هذا الشأن الذي يأخذ مركز الاهتمام أكثر فأكثر في أيامنا مما فيه من أهمية في حياة البشرية.
1.المقدّمة:
إنطلاقًا من مقولة “إحمها تحميك”، ومع ما سمّاه البابا فرنسيس في رسالته العامة “Laudato si” “بيتنا المشترك” المقصود هي البيئة، نواجه اليوم مشكلات جمة. إذ إننا نعيش في حضنها، نأكل من خيرها، نشرب من مياهها و نستنشق هواءها… ولكن هل حقًا نحافظ عليها؟
منذ البدء، عند التكوين، “قال الله: “ها قد أعطيتكم كلّ عشب يخرج بزرًا على وجه الأرض كلّها وكلّ شجر فيه ثمر يخرج بزرًا يكون لكم طعامًا.”[1] فما الذي فعلناه بهذه الوديعة التي أمّننا الله عليها؟
ويتابع الله كلامه كيف أنه يُكمل كيف أن الربّ سلّط الإنسان على الأرض، ووهبه وزنات ليعمل بها ويتطوّر. لا شك أنّ التطور العلمي الحاصل قد أمّن طريقاً للراحة وفسحةً نفجّر فيها طاقاتنا الفكرية. ولكن ألم نتخطّ اليوم حدود إنسانيتنا بهدف التطوّر؟ ألاّ يشوب ثقتنا بهذا التقدّم بعضٌ من اللامنطق؟ أوليست القنبلة الذريّة وغيرها من أسلحة الدمار الشامل هي أكبر مثلٍ لتطور غير مسؤول لا يلبّي هوس مخترعه وشرّ مموليه؟
“المشكلات البيئية” و”التغيّر المناخي” مصطلاحات باتت تتصدّر العناوين في تداول البشرية أكثر من ذي قبل. وليس هذا إلا إشارة للانحدار الذي وصلنا إليه، بحيث أصبحت البشرية ترى بأمّ عينها كيف أن الإنسان يفتك بالطبيعة ويستنزف مواردها ويمسّ بأنظمتها البيولوجية والفيزيائية مثل الزراعة والكائنات الحيّة ودورة المياه وطبقة الأوزون وانبعاث الغازات السامة. فمن المسؤول عن كل هذا الانحراف الخطير؛ وآثاره الأخطر؟
الكلّ مسؤول: الحكومات، رجال الأعمال، الهيئات الأهلية، المواطنون كأفراد، وكذلك الكنيسة وباقي الأديان وحتى أنت! ذلك أنّ المتضرّر الأول هي البشريّة بأسرها، أمّا تقاذف المسؤولية فلن يوصلنا إلا إلى الفناء.
أمام هذه المعضلة الحياتية والوجودية، أظهر الوعي البيئي تساؤلات قديمة-حديثة حول علاقة الإنسان بالآخر، بالخليقة، بالطبيعة، وبالأخص بالله وبعمله وحضوره في الكون. حدّدت هذه التساؤلات مسؤولية البشرية في الحفاظ على الخليقة واحترام البيئة. فالذي كان سابقًا “عمل الله وحكمته”، بات يُنظر إليه اليوم على أنه جزء من نشاط الإنسان وإرادته ومسؤوليته.
لا بد أن نطرح مجمل هذه المعضلات على بساط البحث لمعالجتها بشكلٍ موضوعيّ وفي ضوء سيرة مؤسسنا البار.
بدايةً كيف نعرّف البيئة اليوم؟
“تشتق كلمة “بيئة” Ecology من الكلمة اليونانية Oikos والتي تعني “الموطن” أو “البيت”. وقد استخدم هذا المصطلح لأول مرة عالم الحيوان الألماني “إرنست هايكل” عام 1866. لقد استعمله للإشارة الى “البحث في مجموع علاقات الحيوان ببيئته العضوية وغير العضوية”. ومنذ أوائل القرن العشرين عُرف “علم البيئة” بكونه فرعاً من فروع البيولوجيا الذي يبحث في علاقة الكائنات الحيّة ببيئتها.”[2]
2. الكنيسة والبيئة بين الماضي واليوم:
نشأت المسيحية الأولى في واقع مؤلف من ثقافتين: اليهودية واليونانية.
ضحّت اليهودية بالطبيعة خوفًا من أن يقع الإنسان ضحية عبادتها بدل الله، فأعطت أهمية كبرى للتاريخ ولرؤية الله من خلاله. بذلك احتلّت “البيئة” مرتبة ثانوية واعتُبرت مسألة أقل أهمية.
بالمقابل كانت الثقافة اليونانية أقل ارتباطاً بالتاريخ وأكثر تعلّقاً بالطبيعة وعلاماتها. فأعطت الطبيعة لليونانيين إحساساً بالأمان من خلال الحركة المستمرة للنجوم وتقلّب الفصول وجمالها وتجانس المناخ البيئي في اليونان بحيث أن آلهتهم كانت مستوحات من الطبيعة وظواهرها.
أمّا بالنسبة إلى لمسيحية، فاستخدم يسوع المسيح في عظاته وتعليمه وأمثاله رموزًا من الأرض من دون إن يلغي حضور الله فيها. تحدّث يسوع عن البذار، القمح، الكرمة، الأرض الجيّدة والسيّئة، المحصول الجيّد والسيّء، السمك، الطيور، الزهور، الحملان، الخرفان، الأشجار المثمرة وغير المثمرة وغيرها… لقد أسّس المسيح علاقةً مميزة وجديدة بين الله والخليقة، بين السماء والأرض، لم يستطع أحد من قبله أن يؤسّسها. من هنا عملت المسيحية الأولى على دمج تلك الرؤيتين (اليهوديّة واليونانيّة) فأبرزت رؤية جديدة بأن الكون “حسنٌ” و “جميلٌ” وجعلته محط اهتمام الله والبشرية جمعاء بحسب قصة الخلق في سفر التكوين. بينما بقي الله الخالق مرجعية المسيحية بشأن الكون والخليقة. نرى ذلك بوضوح في صلوات الكنيسة الأولى حيث تضمنت صلوات لتبريك فاكهة الأرض. كما وفي صلوات الاحتفال بالأسرار نرى الدوّر الجليّ للمادة المستخرجة من الطبيعة؛ نقول في الاحتفال الافخارستي بحسب الطقس البيزنطي والكاثوليكي: “ما لك ومما هو لك، نقرّبه لك عن كل شيء، ومن أجل كل شيء……..”، وهكذا بالتالي لم تقع المسيحيّة في فخ عبادة الطبيعة.
لكن تأرجحت هذه الثوابت عبر العصور. لقد تحول مركز الكون من الطبيعة إلى الانسان الذي تفوّق على الخليقة؛ هذا بفعل الوعي الانسان ونهضة الفكر البشري إلى جانب تطور العمل وتقدّمه، مما حمل الفلاسفة والأدباء الغربيين إلى إعلان هذا التحوّل بالإجماع. وهنا بدأت المشكلة البيئية. إذ أصبح الإنسان هو المركز والطبيعة في خدمته، ولذلك جاز له أن يعمل كل شيء وأن يتمادى بلا حدود، لأنه هو سيّد الطبيعة.
حاولت الفلسفة الدارونية إجهاض إيماننا بأن الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله يتألف من عقل وذكاء. فشلت الكنيسة حينها في الوقوف بوجه الفكر الداروني الذي يقبل أن الإنسان هو شكل من أشكال الحيوان. أما علماء القرن السابع عشر وفلاسفته، أمثال رينيه ديكارت (1643) وإسحق نيوتن (1727) فقد صوّروا العالم كآلة يمكن تحليل جزئياتها وفهمها بأساليب علمية حديثة الاكتشاف، فتطلبت اختبار الافتراضات مقابل “الحقائق” من خلال تجارب كثيرة ودقيقة.
أمام هذه المحاولات، أكّدت المسيحيّة على المركز المهم الذي تحتله الطبيعة في حياة الإنسان، إذ أن الله خلق كلَّ شيء مقدّسًا، لأنه هو قدوس. من هنا فرّقت المسيحيّة بين السلطان والسيطرة. تآكلت الأرض مع سيطرة الإنسان الفاسدة، وأصبحت أرضنا مظلومة ومخرّبة، بحسب وصف البابا فرنسيس. إذًا على الإنسان أن يبلغ الى مرحلة التمييز بين السلطة التي هي خدمة وبين التسلّط وهو الهيمنة؛ عندها يستطيع أن يتذكّر ليفقه أن كل المخلوقات على الأرض متشابكة ومكمِّلة بعضها لبعض ولا يمكن أن تكون أدوات يستخدمها لراحته ورفاهيته وخدمته. ارتكازًا على هذه الحقيقة عملت الكنيسة وما تزال تعمل لإيقاظ العالم وحثّه على الحفاظ على “بيتنا المشترك”.
3. بعض الخطوات الكنسيّة من أجل البيئة:
أ-كان شعار “الجمعية العامة لمجلس الكنائس العالمي” التي انعقدت في فانكوفر عام 1983: “العدالة والسلام ووحدة الخليقة”. لقد رأى المجتمعون أنه من الواجب النظر في المشاكل البيئية بالعلاقة مع العدالة والسلام مثل مسألة نزع السلاح النووي في العالم. هذه الجمعية العامة وما بعدها حوّلت نظرة المسيحيين من استثمار ثروات الأرض لمنفعة الإنسان الى نظرة أكثر شمولية، تلك التي تحترم قيم كل الخليقة بما فيها الكائنات الحية وغير الحية، وتحدّد مسؤولية الإنسان في الحفاظ على شمولية الخليقة وديمومتها، أي البُعد الكوني. فمحبة الله تمتد لكل الخليقة وليس للإنسان وحده أو لأنواع محدودة من الخلائق.
ب-أما البابا القديس يوحنا بولس الثاني فأكدّ المر من ناحيته بقوله: “أود أن أكرر بأن أزمة البيئة هي مسألة أخلاقية”. وأيضًا، أعلن قداسة البابا الفخري بنيديكتس السادس عشر: “إن تدهور الطبيعة هو أمر مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالثقافة التي تصيغ التعايش الإنساني”. كما حذر غبطة البطريرك الأرثوذكسي الراحل ديميتريوس بقوله: “لا يمكننا متابعة تدمير خليقة الله بدون أن نحصد النتائج المدمّرة لذلك”. أما غبطة البطريرك المسكوني برثلماوس فقد دُعي “بالبطريرك الأخضر” لاهتمامه الفائق بالبيئة. يقول في إحدى كلماته إن “المسؤولية الأخلاقية نحو خليقة الله تتطلب طواعية ذاتية”.
ج- نرى اليوم، وبوضوح، اهتمام الكنيسة الكاثوليكية الكبير بالبيئة وذلك من خلال رسالة قداسة البابا فرنسيس العامة “Laudato si”. وجّه قداسته فيها دعوة عاجلة لتجديد الحوار حول كيفيّة تعاطينا مع “البيت المشترك” وأسلوبنا في بناء مستقبل الكوكب. إعتبر قداسته أن عدم اهتمام البعض بهذه القضيّة يعيق المبادرات الهادفة إلى حلّ الأزمة البيئيّة.
4. المؤسس ومفهومه للأرض:
تربّى مؤسس جمعة المرسلين اللبنانيين المطران يوحنا حبيب في كنف عائلة محبّة للأرض، فأبوه “بطرس” كان مزارعاً وماهراً في تربية دود القز، كما كانت أمه “ورده” تهتمّ بتربية وإطعام دود القز.
لكنّ أباه كان دائماً يترك كلّ شيء للمشاركة في القداس، وكان يقول: “إني إذا أضعت نصف ساعة من أوقات أعمالي الزمنيّة لممارسة الأعمال الروحيّة فلا أكون حِدْتُ عن الصواب، بل الله يمنّ عليّ بمواسم كبيرة بدلاً عن نصف الساعة…”
من خلال كلام رأس العائلة، نلاحظ ارتباط أفرادها الوثيق بالله والأرض ويظهر جلياً لنا أهميّة الأرض التي هي مصدر رزقهم. ولكن لم يصلوا إلى مرحلة عبادتها بل ظلّ الله هو المركز. بذلك جسّدت هذه العائلة ما قد تكلمنا عليه سابقاً في شأن المثلث: الله والإنسان والخليقة.
يجدر بنا التنويه أننا نتكلم في حقبة ما قبل سنة ١٨١٦ (تاريخ مولد المؤسس) وسنة 1894 (وفاة المؤسس) حيث كان معظم سكّان المتصرفية فلاحين يمارسون الزراعة بأساليب بدائيّة وبطابع خاص مميّز لجبل لبنان، ينسجم مع طبيعة الأرض الجبليّة وسطحها والتربة وفصول السنة. كانت بساتين الزيتون المنتشرة بكثرة على السواحل وسفوح سلسلة جبال لبنان الغربية، تؤمّن عملاً للفعلة ودخلاً محترمًا لأصحابها. يُشكّل الزيتون عنصرًا مهمًا في غذاء الجبليين ومادة أوليّة لإنتاج الزيت وصناعة الصابون، وكان اللبنانيون يعتبرون شجرة الزيتون شجرة مقدَّسة وزيتها مقدَّس، لكثرة ذكرها في أسفار الكتاب المقدس وفي القرآن. كان أغلب اللبنانيين وفي أيام الربيع ين ينصرفون إلى تربية دود القز الذي يتغذى من ورق أشجار التوت. وكانت زراعة التوت منتشرة في جميع أنحاء لبنان ساحلاً وجبلاً. أما العنب وما يُستخرج منه من مواسم رئيسيّة، فكان مركز اعتماد قسم كبير من فلاحي القرى في صناعة الخمر.
نرى إذًا هذه العلاقة في الأسلوب الكلاميّ للمؤسس حيث كان دائماً ما يشبّه الرسالة (الجمعيّة) بالأرض والكهنة بالفلاحين أو الغرس. نذكر بهذا المعنى بعض ما ورد في العريضة الشهيرة التي أرسلها إلى السيد البطريرك بولس مسعد سنة ١٨٧٤ “إن كهنةٍ ذوي غيرة حادّة يرغبون الفلاحة في كرم الربّ وإتقان الرسالات…وأنا أعلم وجودهم، لا بحكم النظر العقلي، بل عملياً…”
جاء أيضًا في كلامه لغبطته في ٢١ أب ١٨٨٢ “أيها الأبّ الأقدس، لا يغرب عن حكمتكم السامية أن فعلة كرم الربّ على جانب عظيم من البرودة. فكم من تأسيساتٍ خيرية تقوية تزهر وتنمو في أوروبا بسعي أصحاب الغيرة …”.
كذلك في كتابه إلى صاحبي السيّادة المطران يوحنا الحاج والمطران نعمة الله الدحداح في ١٥ كانون الثاني ١٨٨٢، قال: “انما هذا إعداد وتجهيز للمستقبل، فلا تندفع به الضرورة الحالية وحاجة كرم الربّ إلى الفلاحة في الحال… ولا أشك في أنهم يجدون بين جماعة كثيرة فعلةً يصلحون للفلاحة، يلبّون صوت من يدعوهم إيفاءً لحق الوقف، بل قضاءً لنظرهم”.
وأيضًا في رسالته إلى نائبه الأبّ شكرالله خوري قبيل وفاته قال:” إن إرسال التلاميذ إلى ميروبا مقبول، بل أرغب لهم ذلك، وأحبّ صحتهم وراحتهم…اهتموا براحة تلاميذكم ولِما يلزمهم في ميروبا، واعفوهم من الدرس ونزهوهم في تنظيم المنشيّة الإسطفانيّة (أراد روضة الأزهر التي غرسها الأبّ اسطفان قزاح) … “.
“لعلّه يقصد في قوله هذا، صورة زاهية مشعّة في خياله: إذ تراءت له جمعية الرسالة “منشيّة إسطفانيّة”، تنمو بروح رئيسها البار الأبّ اسطفان قزاح وتتنامى فيها أغرسها، وتونع وتزهر.” [3]
هذا العبارات المستعملة في كلام المؤسس تدلّنا على المركز المهم الذي كانت تحتلّه الأرض والمزروعات في قلبه وفكره. وكيف لا يكون ذلك وكان مفهومه للأرض مرتبطًا جداً بمفهومه للاستمرار والثبات، ونرى ذلك واضحاً في المراحل الأولى لتأسيس الجمعية وشراء دير الكريم. لم يكتف بشراء الدير فقط بل بما يحيطه من أراضٍ وأشجار. فكانت الزراعة موردا ًماديّاً مهمّاً للجمعيّة وبالتالي سنداً للبقاء والنموّ. لقد عمل المؤسس على شراء أرزاق للجمعية في عدّة مناطق لدعم موارد الجمعية وتقويتها.
يخبرنا المؤسس عن الجهد الذي قاساه في شراء دير الكريم فيقول: “… جاهدت أي جهادٍ حتى وفّق المولى شراءه بخمسة وتسعين ألف قرش، وكان ذلك في ١٨ شباط سنة ١٨٦٥ ولكن يا ما أكثر ما قاسيت لذلك من المشقّات… في إقناع سيادة المطران سوكياس بجعل الثمن خمسة وتسعين ألفاً لا غير، وبإدخال الجنينة وجزء من الحرش والينابيع، وجزء من العقار المجاور للدير في المبيع “…
ويتحدث المطران يوحنا الحاج في رسالته لمشايخ آل صخر الخازن عن الحبيب (أي المؤسّس) في عزمه على شراء الدير فيقول:” … والآن تقدّم منه تحرير يخبرنا عن عزمه على إتمام شراء الدير، مع جانبٍ قليل من التوت المجاور للدير والجنينات، وجزء من الحرش “.
تؤكد كتابات المؤسس وتوضح لنا إصراره على شراء “الأراضي” و”الحرش” و”الجنينات”، وذلك في حديثه مع الأب جبرايل البيطار فقال: “… إنه لا يوفقني بالمئة ألف، فأنا أريد الدير وكل ما فيه، من المنقولة وأثاث الكنيسة والجنينات والحرش والمياه والتوت.”
ويوضح من خلال صكّ الشراء (مستند رقم 1) أن المؤسّس نجح في مساعيه: “… وبموجب هذا العقد قد انتقل إلى ملكية حضرته كامل الدير المذكور، ومحلات بنائه، علواً وسفلاً، داخلاً وخارجاً، والجنينات المشتملة على أشجار فواكه متنوّعة، والمحلات المعدّة لزراعة الخضار، منها المحل المسمى بالمَوشي، وكامل محلات ينابيع الماء التابعة للدير المذكور، وجميع البرك، أي المحاقن، المبنيّة لجمع مياه الينابيع المرقّمة، وكامل الحرش الذي تحت الدير الذي يمتدّ لجهة قرية بطحا، كما هو محدود برأس هذا الصك. …”
مستند رقم 1←
وقد جاهد المؤسس في العناية بهذه الأراضي للحفاظ عليها وانمائها، ويُروي عن عمله في أرزاق الدير، بعدما طلب منه الآباء العودة إلى السكن معهم في دير الكريم: “… فاضطرت إلى اجابتهم، وأخذت اخدمهم واشتغل بمصالح الدير، وأجدّد له أرزقًا …”
كتب بهذا الشأن الأب يوحنا العنداري في حياة المؤسس: “… لذلك يسعى جهده ليوفّر لها الرزق الكافي ويزيد من مواردها، باذلاً في سبيل ذلك كل ما تجني يده، حريصاً على صيانة حقوقها وإنماء أملاكها ليمكّنها من أن تحضن العدد الأوفر من المدعوين إليها، وتؤتيها كفاية عيشهم وزاد عملهم، وتطلقهم في ميدان الرسالة الفسيحة.”
بالإضافة إلى مساعي المؤسس قام بعض الآباء في الجمعية بمؤازرته في إدارة الأرزاق للأهداف نفسها، ونذكر منهم الأب بولس نجيم[4].
عمل المؤسس على ضمّ كامل الأملاك ساحلاً وجبلاً إلى وقف الجمعيّة وأمّن لها مدخولاً سنويًا بقيمة ١٧ ألف قرش. كما وقام بشراء أراضٍ في ميروبا، جونيه، حراجل وضبيه بالإضافة إلى بعض المقايضات على أراضٍ عدد من الآباء للجمعية، وقد ورد ذكر هذه الهبات في عدد من الرسائل الواردة إلى الجمعية كما وفي الصكوك الخاصة بها الخرائط، وكلها محفوظة في أرشيف الجمعية.
نورد هنا عددًا من الوثائق الموجودة في أرشيف الجمعية تظهر بالبيان ما ورد ذكره آنفًا:
مستند رقم 2: كشف مساحة أراضي الجمعية في غادير ←
→ مستند رقم 3: وقفية الاب يوحنا حبيب الكائنة في غوسطا بجوار دير الكريم وفي جونيه – نصف ارض الناعورة ونصف الناعورة- ونصف العقارات الكائنة في قرية لاسا والمشاركة للمطران يوحنا الحاج، ووقف مدرسة المرسلين اللبنانيين الموارنة الكائنة في عينطورة. وقد ارفق الأب يوحنا حبيب هذه الوقفية بجملة شروط.
مستند رقم 4/5: صك شراء الخوري يوحنا حبيب قطعة أرض في “المحل المسمى البساتين في قرية ميروبا”، وصك آخر وارد بطي هذا الصك يورد شراء الخوري يوحنا حبيب قطعة ارض في قهمز في المحل المعروف بالجور عند ساقية مراح شداد.
اهتمام المؤسس بالأرض لم يتوقف عند “شرائها والعناية بها كمصدر عيش”، انما كعناية في الثروة الخضراء التي ائتمن عليها؛ انها بمثابة وديعة يحرص على صيانتها. ولقد وردت عدة أحداث تظهر بالبيان هذا الاهتمام وهذه الأمانة في استخدام الوديعة:
أ-” قسمة المواسم”:
إنه عنوان رسالة المؤسس إلى “الخولي” جرجس جبر الذي أقامه في حراجل في سياق عمله بإصلاح وزراعة وجني مواسم الأراضي كتب له: ” نبدي لحضرتكم غبّ اهدائكم البركة والشوق، ونكلّفكم أن تكيلوا لنا بيادر شركانا في حراجل، وتوضعوا لنا حصتنا عند الشركا، حتى بالفرصة يحضروا لنا، اياها إلى الدير. ولازم تعطوا بالكم للتنظيف (أي جمع كل سنابل الحقل). واكتبوا معكم مقدار حصتنا من عند كل واحد من الشركا، وخوليّة القمح أضيفوها إلى حصتنا. وأرسل لنا تبن من الشركا بحسب عادات المحل، مع أخيكم ميلاد من كل بد … صار القرار على أن نعطيه عشرين شجرة صنوبر من رزقنا في مصبح. وأن خشب العمار في الطابق العالي يكون بدل القطراني توت وزلزلخت”.
ما يلفت في هذا الصك أنه يحمل توقيع المؤسس كمديرٍ لأرزاق جمعية المرسلين، كما ويوضح فكرة المقايضات في المحاصيل كأجرٍ لعمل معيّن أو ثمن لشيء كما كان التوت والزلزلخت ثمنًا للخشب. إن العناية والدقة في تعاطي شأن الأرض والمحاصيل يدل على امتلاك المؤسس ضميرًا حيًا ودقيقًا، مع الحرص على صون الحقوق للجمعية وللناس.
ب-حادثة ميروبا:
في أواخر تشرين الثاني ١٨٧٩، أمر الأب اسطفان قزاح بإقامة ورشة قواس الصخور في عودة النهر بميروبا، فانتقد المؤسس هذا العمل أمام العمال خوفاً منه على تضرر شجر التوت، ممّا أزعج الأب قزح فترك الورشة والعمل في ميروبا وعاد إلى الكريم. فكتب المؤسّس نادماً ومّما جاء في نص تلك الرسالة: “… فسّرت ذنبي هو أنك لم تعهدت بأن القوس لا يدفع الحجارة إلى التوت، سلمت بالقوس. وإذ توجّهت أمس وتقوّص بحضور صخر من صخور متعددة، بل من قلعة صخور، ونزل من القواد صخر بين التوت، وبالعرض لم يسب التوت، بل بين التوت، يتبيّن من هذه الحادثة دأب المؤسس على العناية بالزراعة وحمايتها وبالوقت نفسه الحفاظ على العلاقات الأخوية بالرغم من خوفه على الأرزاق.
ج-الرسالة أم الزراعة:
أمام نزاهة الضمير والحفاظ على قدسيته تسقط كل الاعتبارات، حتى القيّمة منها. فإن قدسية الضمير والحرص على خلاص النفوس سعيّ تميز به المرسلون خدمة لبيئة سليمة تسعف حياة الانسان، وكيف إذا كانت الحياة الأبدية. تروي هذه الحادثة كيف أن الأب اسطفان قزاح عمل على خطى المؤسس في خدمة النفوس.
قام أحد الآباء بالاهتمام بإنماء أغراس كانت قائمة بجوار الدير من الجهة الغربية فلاحظ المؤسس أن بعض الشبان يأتون يختلسون الأثمار فاستاء وقال بأنه يُفترى على الله بسببنا، فلا يحسن أن نعلّم أولادنا السرقة ومن ثم أمر الأب اسطفان بقطع تلك الأشجار، وهكذا حصل.
5. دور المرسل في الحفاظ على البيئة:
دور المرسل في الحفاظ على البيئة غير مباشر، لأنه لا يستطيع إيقاف عجلات هذا التطوّر المطّرد، لكنه يستطيع من خلال رسالته إنماء الثقافة البيئيّة عن طريق توعية البشر على أهمية البيئة التي تؤمّن لهم محيطاً لحياة أفضل، وبالتالي يأتي دورهم في الحفاظ عليها. يجب على المرسل وخصوصاً في جمعيتنا المنتشرة في أربع عشرة دولة حول العالم أن توعي المسيحيين على المبادئ التالية:
أ-التركيز على أخلاقيات الجماعة المسيحيّة والتشجيع على العمل الجماعي والحديث عن مسؤولياتنا أمام الأجيال المقبلة، وقيمة “التكنولوجيا ذات الطبع الإنساني”.
ب-إدراك أهميّة كلّ من الإنسان والطبيعة إذ من الخطأ أن نعتبرهما سلعة، بل قيمتين إلهيتين مقدستين.
ج-دور الكنيسة في تقديم النصح للقائمين على الاقتصاد المحلي والإقليمي والعالمي أن يحسبوا حساب محدودية النظام البيئي وألّا يمعنوا في تقليصه.
د-الالتزام بواجبنا الأخلاقيّ تجاه الكائنات الحيّة غير البشرية؛ لأنّ الله عندما قطع عهده مع نوح، قطعه مع كل الخليقة وليس مع الإنسان فقط (تكوين 9: 12). كما إن انجيل يوحنا يخبرنا كيف أن المسيح مصدر الحياة وإليه تعود الخليقة لأن: “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يوحنا 1: 3).
6. الخاتمة:
خلاصة القول، لا تستطيع الكنيسة أن تحل كلّ المشاكل البيئية ولكن يقع دورها في التوعية البيئيّة وفي خلق الفارق في عالمٍ غير واعٍ وغير مبالٍ ب “بيتنا المشترك”.
لقد كان مؤسّس جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة المطران يوحنا حبيب خير مثالٍ لنا كمكرّسين عن كيفيّة تعاطينا مع الثروة البيئيّة، لا سيما أن الكنيسة بمختلف رهبانياتها ومؤسّساتها تملك كمًا كبيرًا من الأراضي المأهولة والأراضي الحرشيّة.
نصلّي مع قداسة البابا فرنسيس على نيّة أن نعي أهمية هذه الأرض التي نسكنها والتي وطأتها أقدام خالقنا، وننشد مع قداسته:
“أيها الرب الإله، يا من أنت واحد وثالوث، وشركة رائعة لمحبةٍ لامتناهية، علّمنا أن نتأمّلك، في جمال الكون، حيث كلّ شيء يحدّثنا عنك. أيقظ تسبيحنا وشكرنا من أجل كلّ كائن خلقته، آمين”.[5]
المراجع:
- العنداري، الأب يوحنا، المطران يوحنا حبيب، رئيس أساقفة الناصرة شرفًا، مؤسس جمعيّة المرسلين اللبنانيين الموارنة”، جونيه، 1980.
- “المسيحية واحترام البيئة”، محاضرة للأستاذ رازق سرياني، رئيس “مكتب العلاقات المسكونيّة” في مطرانيّة السريان الأرثوذكس ومنسّق “مكتب شؤون العراقيين” والناشط في مجلس كنائس الشرق الأوسط ومجلس الكنائس العالمي والأخصائي في الأدب الإنكليزي والعلوم التربويّة من إيرلندا وبريطانيا، الثلاثاء 22/3/2011 في صالة المطران إدلبي.
- سجل جمعيّة المرسلين اللبنانيين، ومخطوطات قديمة، أرشيف جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة.
- رسالة عامة بابويّة “كُنْ مُسَبِّحًا” “laudato si”، قداسة البابا فرنسيس، روما 24 أيار 2015.
- حرفوش، الأب إبراهيم، “قدوة الصلاح في ترجمة الأب اسطفان قزاح”، مطبعة القديس بولس حريصا، 1915.
[1] تكوين1/29
[2]“المسيحية واحترام البيئة”، محاضرة للأستاذ رازق سرياني الثلاثاء 22/3/2011 في صالة المطران إدلبي.
[3] من كلام قدس الأب يوحنا العنداري عن لسان المؤسس.
[4] الأب بولس دخل الجمعية سنة ١٨٧٤ واتّخذه الحبيب بمنزلة الابن الخاص واختصّه بعلم الفقه دون سواه. وسيم كاهناً سنة ١٨٨٠. العنداري، الأب يوحنا، المطران يوحنا حبيب رئيس أساقفة الناصرة شرفًا ومؤسس جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة، جونيه، 1980. ص230-231؛ 271-274.
[5] رسالة البابا فرنسيس العامة “Laudato si” ، صلاة مسيحيّة مع الخليقة.