اختبار مدرسة قدموس – جوار النخل صور
بقلم الأب د. جان يونس
رئيس مدرسة قدموس
جوار النخل صور
نبذة تاريخية،
بين قدموس الأسطورة الفينيقية وقدموس المنارة والصرح التربوي: تاريخ متصل ومتواصل من العلم والحضارة. فقدموس الفينيقي الصوري امتطى متن البحار حاملاً معه مشعل الحرف لينشره مصابيح ضوء أينما حلّ وهو في رحلة بحثه عن شقيقته أوروبا. فملأ الدنيا علماً ووعياً ومعرفة، وبات المعلم الأول للحرف والأبجدية في مدرسة التاريخ وذاكرة الإنسانية … وها هي مدرسة قدموس تستكمل وتتابع رسالته الفكرية والحضارية منذ عشرات السنين حتى يومنا هذا… فكيف كانت بدايات المسيرة القدموسية المعاصرة فكرةً ونشأةً؟
في العام 1966 كانت الإنطلاقة، فقد أنشأت جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة وتنفيذاً لوصية الواهب الشيخ ابراهيم نصر الله الخوري، مدرسة قدموس على تلّة من التلال المحيطة بمدينة صور اللبنانية الجنوبية. فحقّقت الجمعية بذلك حلماً غالياً لا يقدّر بحجمه الجغرافي.
بدأت قدموس معهداً صغيراً في إطاره المعماري وبملاكه التعليمي، لكنه منذ إطلاقه كان حلماً غنياً بطموحاته وآماله، فاستطاع خلال سنوات معدودات أن يكون مؤسسة تربوية هي مفخرة في العلم، ونموذج يُحتذى في تجربة العيش المشترك، ورمز الإبداع والتفوّق، وذاك بفضل جهود وتضحيات ومتابعات آباء ومرسلي جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة الذين تعاقبوا على إدارة هذا المعهد بدءاً من قدس الأب فيليب يزبك، الأب يوحنا العنداري، الأب الشهيد بطرس أبي عقل، الأب إيلي العنداري، قدس الأب العام مالك أبو طانوس، قدس الأب جورج حرب، الأب فادي المير، والأب الدكتور جان يونس الرئيس الحالي للمعهد.
الرؤية والفلسفة التربوية:
لقد ارتكز المشروع التربوي في مدرسة قدموس على الأسسس التالية:
أولاً: التربية على القيم والفضائل الإلهية والإنسانية.
ثانياً: التبحّر في المعرفة الأدبية والتاريخية والإجتماعية والعلمية الوضعية.
ثالثاً: العمل على ترسيخ حسّ الإنتماء إلى الوطن عبر تعزيز فكرة المواطنة.
إنّ نشدان أعلى درجات المعرفة، والعلم والثقافة هو هدف إنمائي للشخصية الإنسانية تعمل “مدرسة قدموس” على تعميقه في عقول ونفوس معلميها وتلاميذها، ليس فقط من خلال المناهج التربوية التي تعتمدها وزارة التربية والتعليم العالي في لبنان، بل في الإستزادة من تجارب التطوير والتجديد والتحديث، على صعيدي التقنيات والوسائل والأدوات والطرائق التعليمية، كذلك على صعيد البناء النفسي والأخلاقي والقِيَمي للتلميذ “القدموسي” الذي تعمل جمعية المرسلين على تمييزه بحس الإنفتاح، وقبول الآخر، والحوار التواصلي غير المشروط، وعلى تمييزه أيضاً بمهاراته وكفاياته المنهجية المكتسبة وأدائه التعلّمي وقدرته على التحليل والإستنتاج بروح تبادلية عالية.
الرسالة الروحية والوطنية:
إنّ مدرسة قدموس ترمي وترنو، في رسالتها الروحية والوطنية المتنوّعة المضامين والمرامي، إلى بناء الإنسان على قاعدة الأخلاق السامية والقيم الروحية التي ترتكز بالدرجة الأولى على قيمة المحبّة الإلهية للإنسان والمحبّة البشرية من الإنسان لأخيه الإنسان، وذلك على قاعدة التواصل الإنساني الإيجابي المتبادل الذي أشرنا إليه وبالإضافة إلى الإحترام المماثل والثقة المشتركة.
رسالة قدموس في التعايش المسيحي/الإسلامي
إنّ روح الإنفتاح والتعايش مع الشريك الآخر المختلف فكراً ومعتقدات وقدرات، هو عنوان رئيسي تسعى “قدموس” إلى تنشئة أجيالها على أساسه وذاك من مقاعد الدراسة وملاعبها والأنشطة اللاصفية المكثفة، وصولاً إلى تعزيز العلاقة الأخوية اليومية في مناخ من الفرح والسلام.
وفي هذا الإطار دأبت مدرسة قدموس على إقامة سلسلة أنشطة تربوية وثقافية مختلفة ومتنوعة مع مؤسسة أديان بحيث اجتمعت في الشريط الوثائقي الأبرز: “عكس السير” شخصيات روحية جسّدت هذا التعايش عبر مواقفها وسلوكياتها على أرض الواقع كالسيدة رباب الصدر الجزيلة الإحترام التي تناولت بالشرح والتعليق مآثر سماحة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر والمطران سليم غزال وكذلك تناول الشريط الوثائقي دور القائد عبد القادر الجزائري في حماية المسيحيين في سوريا من مجزرة دمشق في العام 1860.
إنّ رسالة “قدموس” في التعايش المسيحي/الإسلامي هي نموذج سبّاق ومصغّر عن روح توجهات السينودس الخاص من أجل لبنان والمجمع الماروني والعيش المشترك القائم على التفاعل والتلاقي الحضاريين بين أطياف الشعب اللبناني بمسلميه ومسيحيه باعتبار أن هذين التفاعل والتلاقي يشكلان الثروة الأغنى لهذا الوطن.
تلميذ قدموس: نظرة تربوية، اجتماعية، ووطنية
تتوخى رسالة مدرسة قدموس رؤية تربوية إلى تلميذها تحت عنوان: تكوين المواطن وفقاً للمعايير التالية:
- المواطن المعتز بوطنه لبنان وبالإنتماء إليه والإلتزام بقضاياه.
- المواطن المتمثّل تراثه الروحي النابع من الرسالات السماوية والمتمسك بالقيم والأخلاق الإنسانية.
- المواطن المستوعب تاريخه الوطني الجامع بعيداً عن الفئوية الضيقة وصولاً إلى مجتمع موحّد ومنفتح إنسانياً.
- المواطن العامل على توطيد روح السلام في الذات وفي العلاقة مع الأفراد الآخرين.
- المواطن المتقن لغة أجنبية واحدة على الأقل بعد اتقانه اللغة العربية وذلك تفعيلاً للإنفتاح على الثقافة العالمية.
- المواطن العامل على تنمية رصيده الثقافي والعلمي وتنمية ذوقه الفني.
- المواطن القادر من خلال الإرشاد والتوجيه على الإختيار الحرّ لمهنة المستقبل والإرتقاء بها عن طريق التعلّم الذاتي.
- المواطن المدرك أهمية التكنولوجيا والقادر على استخدامها وتطويرها والتفاعل معها بشكل واعٍ ومتقن وهادف تربوياً ومنهجياً.
تطلعات رسولية تربوية إيجابياً:
أخيراً إنّ تطلعاتنا الرسولية التربوية في مدرسة قدموس تقوم على اعتبار التربية محور التنمية في الشخصية الإنسانية ومحور التربية بالتالي هو الإنسان، والإنسان بدوره هو محور الحياة الحيّة، المتحرّكة الدائمة التطور والتغير.
فالإنسان، وفق رؤيتنا هو الكنز الذي يكون متنوعاً ويكشف سرّاً فيعلن، وقد يصبح جذوة من الله أو عالماً أو فيلسوفاً، أو فناناً … إنّه الإنسان المبدع الذي نصبو إليه في رسالتنا فإذا لم يكن كذلك فلسبب من إثنين:
- غياب التربية أو غياب القدرة الذاتية
- فإذا غابت التربية يعني ذلك غياب الرسالة المتجهة نحو تنمية القدرات والطاقات الإنسانية
- وإذا غابت القدرة الذاتية فذاك يعني قدراً من الله
ومن هنا نحن نرى أنّ الإنسان قادر على العطاء والإبداع شرط أن تفعل فيه التربية فعلها وأن لا تغيب عنه القدرة لقدر ما من الله سبحانه وتعالى.