الأب كابي جعجع م.ل
نقدم فيما يلي نبذة سريعة عن تاريخ وأماكن تواجد جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة في اوروبا. ثمّ نعرض للتحديات التي يواجهها الموارنة المهاجرين الى اوروبا حيث رسالة الجمعية تعنى بالكثير منهم. ونعود لنستلهم الكتاب المقدس فنرى كيف حافظ شعب الله على إيمانه عندما أضطر لمرّات عديدة في تاريخه الى ترك ارضه، وننتهي بتكريس يسوع للجماعة كمكان لعيش مسيحيتنا بمعزل عن الامكنة والاعراق. ابعاد متنوعة تطبع حياة المرسل اللبناني الماروني في اوروبا نعاينها تحت اضواء التغيرات التاريخية الحالية وخبرات شعب الله في الانتشار بحسب الكتاب المقدس.
نبذة تاريخية
يعود تواجد المرسلين في اوروبا الى منتصف القرن العشرين حيث كانت الجمعية بدايةً ترسل الاكليريكيين الى فرنسا وإسبانيا وسويسرا لدراسة الفلسفة واللاهوت اثناء سنوات أعدادهم للكهنوت. لم تكن هذه الحقبة عاديّة، فلقد أرسلت الجمعية حينها كل اكليريكييها للتنشئة في اوروبا، الامر الذي انعكس إيجاباً جداً على مستوى التحصيل العلمي. ولقد اهتمت الجمعية أيضاً بإدارة الإكليركية البطريركية في سلمنكا في اسبانيا، بعد ان كان وعد الرئيس فرانكو البطريرك الماروني أنطون عريضة، تلبيةً لطلبه، بإعطاء الإكليريكيين الموارنة أربعين منحة دراسية في اللاهوت والفلسفة.
وقد استمر وجود الاكليريكيين المرسلين في اوروبا بين باريس وإسبانيا وسويسرا حتى أواخر السبعينات، تاريخ تأسيس الكلية اللاهوت الحبريّة في جامعة الروح القدس الكاسليك في لبنان. بعد هذا التاريخ المفصل ابقت الجمعية على افساح المجال للكهنة الذين يودون تحصيل دراسات عليا بالذهاب الى اوروبا بعد رسامتهم الكهنوتية. فكان القسم الأكبر يذهب الى روما والى فرنسا للدراسة وللخدمة في حقل الكنيسة الجامعة في آنٍ معاً.
نذكر مثلاً أن المطران حنا علوان، كاهناً كريمياً آنذاك، درس الحق القانوني الكنسي في روما في الثمانينات وعاد من ثم الى لبنان، ومكث فيه الى ان استدعته السلطات الكنسية عام ١٩٩1 للعمل في المحكمة الكنسية المعروفة بالروتا حيث عمل كقاضياً روحياً حتى سنة ٢٠١١، يوم رقّته الكنيسة الى الدرجة الأسقفية. وقد اختارت من ثمّ السلطات الكنسية الأب أنطونيوس شويفاتي المرسل اللبناني، الذي كان قد تخصص بالحق القانوني الكنسي في روما، للعمل في الروتا أيضاً حيث لا يزال يعمل منذ العام ٢٠١٢. وكذلك الأب رمسين الحاج موسى، الذى كان قد حاز على اجازة دكتورة في اللاهوت الأدبي، اخلاقيات علم الأحياء، والذي عمل في الكورية الرومانية في قسم الاعلام كمسؤول عن الشرق الأوسط بين ٢٠٠٧ و٢٠١٣.
ويتابع حالياً الأب جورج سلوم دراسته العليا في تنشئة الدعوات الكهنوتية في جامعة الرهبان الساليزيان في روما، بمنحة من المجمع الشرقي ويقيم في المدرسة المارونية.
سنة ٢٠٠٣ أرسل قدس الأب العام خليل علوان ومجلس شوراه الأب ميشال حرب لمتابعة الدراسة في اللاهوت العقائدي في النمسا في جامعة فيينا، ولخدمة المسيحيين الناطقين باللغة العربية، نزولاً عند رغبة رئيس أساقفة فيينا الكاردينال كريستوف شونبورن، الذي عاد وطلب عام ٢٠٠٥ من الجمعية إرسال كاهناً اضافياً لخدمة الجالية الفرنسية في فيينا رعائياً. فوقع خيار المجلس على الأب كابي جعجع عام ٢٠٠٦ وقد اختار أن يتابع الدراسات العليا في علم الانتروبولوجيا والاجتماع في جامعة فيينا الرسمية.
فكانت النمسا أفقاً جديداً للدراسة والرسالة في العالم الناطق باللغة الألمانية. فباستثناء قدس الأب العام الحالي مالك ابوطانيوس الذي كان قد درس الفلسفة في الثمانينات في ميونخ – ألمانيا، لم يكن احد من المرسلين يتكلم الألمانية. وعليه أرسلت الجمعية في العام ٢٠٠٧ الأب نديم الحلو للدراسة وللخدمة الرعائية في آنٍ معاً. فأصبح بالتالي عدد المرسلين في فيينا ثلاثة عام ٢٠٠٧.
الامر الذي شجَّع قدس الأب العام أيلي ماضي مع بداية عهده على التفكير بعقد اتفاقية مع أبرشية فيينا الكاثوليكية لتثبيت وجود الجمعية في النمسا وفي اوروبا من خلال مركز ديري يكون مركز إشعاع رسولي تجاه الكنيسة المحلية ومكان التقاء رعائي للشرقيين المسيحيين. وصممت الجمعية تعزيز هذا القرار بإرسال كل من الآباء تباعاً: مروان ابي ناضر، نقولا تازة، شربل برقاشي، روجيه عبد المسيح. الا ان الاتفاقية تعثّرت بسبب عدم إمكانية التوصل الى اتفاق بشأن ملكية الدير الذي كان تم التداول في شأنه وهو في المنطقة التاسعة من فيينا، دير الآباء السيرفيتن. فترك الآباء الرسالة تباعاً ملتحقين بمراكز اخرى للجمعية، وابقت الجمعية الأب ميشال حرب لمتابعة الاهتمام بشؤون المسيحيين المشرقيين في أبرشية فيينا.
عام ٢٠٠٨ طرحت الكنيسة المارونية النداء لتلبية الحاجة الرعائية المارونية الملحة في ألمانيا. بدايةً اقتصرت الخدمة الرعائية المارونية في ألمانيا حتى ٢٠١٠ على زيارات رعائيّة تفقديّة كان يقوم فيها الزائر الرسولي على الموارنة ومنهم المطران يوسف الخوري والمطران سمير مظلوم، بالتنسيق مع الدبلوماسيين اللبنانيين سيّما سعادة القنصل الفخري مروان كلاّب في فرنكفورت. ولمّا كانت الكنيسة المارونية تشجّٓع الدراسة اللاهوتية في ألمانيا، أرسل كل من الآباء الابرشيين باسم الراعي وعبدو ابو ضاهر وميلاد عبُّود للدراسة في مونستر وفي فرنكفورت حوالي العام ٢٠٠٠.
وأثناء دراستهم لبّى الآباء المذكورين من باب غيرتهم الرسولية نداء الكثيرين من أبناء شعبنا للخدمة الرعائية حيثما وجدوا. فتشكلت رويداً رويداً نواة جماعات رعائيّة في فرنكفورت وبرلين وهامبورغ وهانوفر وسيكي ومونستر. الا انه في العام ٢٠٠٨ أنهى الأبوان باسم الراعي وعبدو ابوضاهر الدراسة واستدعاهما مطرانهما بشارة الراعي وفرنسيس البيسري للعودة الى لبنان. فأصبحت الحاجة الرعائية بذات الفعل ملحّة، مما اضطرَّ المطران سمير مظلوم بصفته الزائر الرسولي على الموارنة في اوروبا عام ٢٠٠٨ الطلب من قدس الأب العام ايلي ماضي بان تتولى الجمعية تدبير شؤون الموارنة رعائياً في ألمانيا.
وبعد الرجوع الى مجلس شوراه كلّف الأب ماضي الأب كابي جعجع المرسل اللبناني بالتحضير لتأسيس الرسالة المارونية في ألمانيا. استمر التحضير مدّة سنتين تمّ خلالها الوقوع على دير السيدة في فاربورغ الواقع في نطاق أبرشية بادربورن الكاثوليكية التي رحّبت بوجود الجمعية وبإقامة الرسالة. اما الدير فكان يعود لراهبات قلب يسوع التابعات لابرشية بادربورن والمعروفات باسم “السرفيام” واللواتي عبّرن بشخص الرئيسة الإقليمية الام إيريني شيفير عن استعدادهنَّ تقديم الدير مجاّناً لجمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة. وعليه وتسلمته الجمعية الدير في أيار ٢٠١١ واستلمته رسمياً في ٢٩ حزيران ٢٠١١.
وكان لا بدَّ من التعاون مع أبرشية بادربورن من اجل تأمين عقود عمل مع الآباء الذين سيوافون الرسالة لتمكينهم من الحصول على تأشيرة تسمح لهم العيش في ألمانيا. فاستمهلت الأبرشية الجمعية بعض الوقت ريثما ترتّب ذلك. ولمّا كانت الحاجة الملحة لا تسمح بالتأخير ارتأى قدس الأب العام ايلي ماضي مع الأب كابي جعجع ضرورة الاستعانة بابرشية ثانية تكون جاهزة لتأمين عقود العمل عاجلاً لكي يتم إنقاذ الواقع الرعائي.
فوقع الخيار على أبرشية لمبورغ الكاثوليكية والتي تقع في نطاقها مدينة فرنكفورت. وقد سارعت الأبرشية الى مد يد العون واعربت عن استعدادها الفوري تأمين ثلاث عقود عمل لثلاثة آباء يعملون في آنٍ معاً في الرعايا اللاتينية والمارونية، على ان تكون الرعايا المارونية منفتحة لاستقبال كل مسيحي عربي يبحث عن خدمة كنسيّة كاثوليكيّة في ألمانيا. وأبدت الأبرشية استعدادها أيضاً تأمين مصاريف السفر ضمن ألمانيا للآباء وتمكين كل واحد منهم زيارة احدى الرعايا المارونية في ألمانيا مرّة في الشهر لثلاثة ايام.
أما بالنسبة الى الدير فقرر الأب العام ايلي ماضي بموافقة مجلس شوراه ان يصبح مقراً رسمياً للرسالة المارونية في ألمانيا على ان يرسل اليه كهنة تباعاً ريثما تحضِّر أبرشية بادربورن عقود العمل المتوخاة. فأصبح بالتالي للجمعية مكانين لانطلاق للرسالة في ألمانيا: الاول هو ملكها في دير السيدة في فاربورغ والثاني موضوع بتصرفها بيت رعية القديس فندل في فرنكفورت.
فأرسلت الجمعية بدايةً كل من الآباء كابي جعجع وطوني ساسين وشربل برقاشي الى فرنكفورت سنة ٢٠١١. ثم وافى الأب روجيه عبد المسيح دير السيدة في فاربورغ عام ٢٠١٢ وأخيراً الأب بطرس مرعب عام ٢٠١٣، وفي هذه السنة تماماً غادر الأب شربل برقاشي بعد المجمع العام الى لبنان.
كان تحدي المرسلين في ألمانيا كبيراً جداً، لا لناحية صعوبة القيام بمركزين فقط وإنما لتأمين الخدمة الرعائية في الرعايا المارونية واللاتينية في آنٍ معاً، وقهر المسافات الشاسعة أسبوعياً، والاهتمام بالواجبات المنزلية من طبخ وتنظيف واستقبال، والاندماج في المجتمع وتعلم اللغة، واحياء الحياة الرسولية في الدير مع الشبيبة والأطفال والعائلات والمحيط الألماني. ناهيك عن العمل الدئوب الذي يتطلبّه تسجيل جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة كرهبنة في ألمانيا وتطبيع العلاقات مع الأبرشيات: هامبورغ وبرلين وهيلديسهيم وليمبورغ واوسنابروغ وكولونيا ومونشين، حفاظاً على حق الجماعات الرعائية المارونية في كنفها ومنحها الإطار الضروري من كنيسة وصالات اجتماع ليتثنى لنا ان نحتفل بالأسرار حسب الطقس الماروني وتنفيذ الأنشطة الرعائية.
اضافة الى هذه الصعوبات كان التحدي أيضاً جمع المؤمنين المنتشرين في أنحاء كل ألمانيا والحفاظ عليهم. فالعمل الرسولي المركّز والثابت والخدمة الرعائية المارونية الثابتة لم تعهده الجاليات المسيحية الشرقية في ألمانيا من قبل. والنَّاس كانوا كالأرض المهملة والتي تحتاج لعمل مكثّف لإعادة الحياة اليها.
كل هذا غيض من فيض لوصف طريق صعب شقّه المرسلون في اوروبا باللحم الحي وبعرق لم يجف بعد، حباً للمسيح وخدمةً لشعبه.
وقد تبيّن بعد اربع سنوات ان مصروف الدير الذي يقع بنسبة تسعين في المئة على عاتق جمهور آباء الرسالة، عالٍ جداً وانه لا بدَّ من التفكير بالاكتفاء بمكان اصغر يعيش فيه المرسلون ومنه ينطلقون للرسالة. هذا وقد برهنت الكنيسة الكاثوليكية في فرنكفورت عن تقدير كبير لرسالة الجمعية في ألمانيا وقد وضعت أبرشية ليمبورغ في تصرفنا مكانًا مركزيًا ممتازًا داخل مدينة فرنكفورت، يعيش فيه الآباء ومنه ينطلقون لعملهم الرسولي.
وبعد التداول مع قدس الأب العام مالك ابو طانيوس ومجلس شوراه، تم قبول عرض بلديّة مدينة فاربورغ لاستئجار الدير بسعر رمزي لاستعماله من اجل إيواء بعض اللاجئين الوافدين الى ألمانيا، على ان يعاد للجمعية خلال مدّة اقصاها ثلاثة أشهر عند الطلب. وقد اعتنى آباء الرسالة في ألمانيا بدراسة العقد وبالتنسيق مع محامي الجمعية في فاربورغ. انفتح الموارنة منذ القدم في تاريخهم على فرنسا وإيطاليا وإسبانيا ولكنّهم لم يبنوا كياناً كنسياً في ألمانيا بالرغم من العلاقات المتينة التي حاول الكثير من المراجع الكنسية تكريسها. وشاء الله ان تكون جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة في الطليعة لتأسيس رسالة مارونية شمال جبال الآلب.
اما في فرنسا فتساعد الجمعية الأبرشية المارونية المؤسسة حديثاً هناك، وراعيها المطران مارون ناصر الجميل بكاهن يخدم رعية سيدة لبنان في باريس منذ أيلول ٢٠١٣ وهو الأب فادي المير المرسل اللبناني. وكانت قد أرسلت الجمعية في هذا الإطار الأب ايلي نخول لتأسيس رعية مارونية في مدينة بوردو وقد خدمها بين ٢٠١٠ و ٢٠١٣، ثم سلمتها الجمعية للمطران الجميل.
وفي السويد ساهمت الجمعية في عهد قدس الأب العام ايلي ماضي بالخدمة الرعائية للموارنة والشرقيين المسيحيين في مدينة مالمو، عن طريق الأب نقولا تازة المرسل اللبناني الذي كان خادماً للرعية هناك بين ٢٠٠٤ و٢٠٠٩.
ولفهم واقع رسالة الجمعية في اوروبا، لا بد من التوقف قليلاً امام التحديات التي تنتظر الرعائية المارونية في الانتشار الاوروبي ومستقبل الجمعية في اوروبا مرتبط بتطورها.
تحديات الرسالة
الذوبان: الموارنة في أوروبا ليسوا بمنأى عن خطر الاندماج والذوبان في الكيان الثقافي المحلّي في البلدان المستقبلة. إلاّ ان تاريخ وحاضر الجماعات الرعائية المارونية في عموم بلدان الانتشار يعبّر عن رفض التقوقع والتحول الى مجتمع معزول داخل المجتمع. خيار الاندماج الإيجابي، الذي يحفظ خصائص الهوية الثقافية عند الأجيال القادمة، والذي يتطعّم على النسيج الاجتماعي في البلد المضيف، يبدو أنه صالح. إلاّ انه يتطلّب جهدًا مستمرًا للانفتاح على الثقافة المحلية، والامانة للتراث الشرقي الموروث. على الموارنة في هذا الإطار رفض الاكتفاء بالتعددية الثقافية في المجتمع، لما ينجم عنها من مخاطر بسبب صراع استنزافي للهويّات، ولعب دور نوعي ريادي لتحفيز التفاعل الثقافي، الذي يقترحه المجتمع الاوروبي على الوافدين الجدد، فيكون الدستور والشرائع الانسانية المتوافق عليها في هيئة الأمم نقطة الارتكاز.
التعددية اللغوية: الموارنة المنتشرون في أصقاع أوروبا الغربية يعيشون واقع التعدد اللغوي، إذ أن كل بلد من البلدان الذي يقطنون فيه ينطق بلغة مختلفة عن الاخرى. وبالتالي يطرح السوأل نفسه: ما هي اللغة المشتركة التي سيستعملونها للتواصل فيما بينهم؟ كيف ستتم عملية مرافقة ترجمة الليتورجية المارونية الى مختلف اللغات المستعملة في أوروبا؟ أسئلة تتطلب أجوبة سريعة وخطوات عملية ملحّة، وإلا فقدت ليتورجيتّنا التواصل مع اولادنا.
المركزية والهرميّة: نعيش في زمن باتت فيه المواصلات والتواصل أسهل ، وعلينا ان نستفيد من هذا التطور لتفعيل طريقة عمل مجمعيّة وأسلوب تدبيري يعنى بثقافة الحوار والمناظرة والمأسسة. هل سننجح بالخروج من الذهنية المركزية دون تعريض وحدتنا للخطر؟ لا شك ان هذا تحدٍّ للكنيسة الجامعة أيضاً، فالذهنية المركزية والهرميّة لا زالت سائدة في نصوص القوانين الكنسيّة، إلاّ أنّها رويداً رويداً تزول من النفوس. انها معضلة كنسية ولاهوتية بامتياز، ليس بالأمر السهل حلّها ولكنه بات من المستحيل تجاهلها.
تعدد الهويات: لبنان مهد الكنيسة المارونية، هو جغرافياً على تقاطع ثلاث قارات: آسيا، أوروبا وإفريقيا. وهذا ما يعكسه التنوع الإثني والتنوع الثقافي الذي ولّد هويّة لبنانية “بصيغة الجمع”. توضيح معالم الهوية الثقافية الذاتية وعيشها ليس بالأمر السهل في شرقٍ مضطرب تعيش فيه الكثير من الجماعات الدينيّة خطر الانحلال والتبعثر. ولكنّه من الاصعب بدرجات في هذه اللحظة التاريخية في أوروبا حيث يشكِّك الكثيرون من مواطنيها بجذورها المسيحية. حقبة تاريخيّة مصيريّة لما تحدثه من إرباك واختلال الثقة بالنفس.
الانحلال في الكنيسة اللاتينية: الموارنة هم كاثوليك ولكنهم ليسوا بلاتين. هل سينجحون بالعيش مع الكنيسة اللاتينية في أوروبا دون الانحلال في خضمِّها او دون فقدان الليتورجية الأنطاكية السريانية المارونية؟ القربى الثقافية والطقسية والمجتمعية والزوجية ممكن ان تؤدي بالموارنة الى الذوبان في المجتمعات الأوروبية. تكاثر نقاط الالتقاء دون جهد للتمايز يؤدي حتماً الى انصهار تام. التعاون مع الأساقفة اللاتين في أوروبا من اجل عيش الوحدة مع الكنيسة المحلية مع المحافظة على الخصوصية الطقسية مشروع حوار دائم لا بد من الاعتناء به بمرافقة مجمع الكنائس الشرقية في روما. هل سينجح الموارنة في أوروبا بعيش الوحدة مع الكنيسة المحلية، محافظين على ليتورجيّتهم وميزاتهم الثقافية، مبتعدين عن الانعزالية؟
الحوار مع الإسلام: يأتي الموارنة في غالبيتهم من الشرق الأوسط ويتكلمون العربية. في حين تشهد القارة الأوروبية منذ ما يقارب القرن هجرة عربية إسلامية هامة سيّما من شمال افريقيا والعراق وسوريا وفلسطين ولبنان. باتت تشكل هذه الظاهرة جزءًا هاماً من التركيبة الاجتماعية في بعض المدن الأوروبية، التي ترى نفسها في مرحلة اكتشاف لعنصر جديد لا بدَّ لها من النجاح في دمجِهِ للحفاظ على التماسك الاجتماعي. وعليه يشكل الحوار مع الجماعات الاسلامية العربية في اوروبا احد الأمور التي تقتضي عناية ضرورية. من الطبيعي ان يميل الموارنة الى الحوار مع المسلمين اللبنانيين وقد حققوا معهم نجاحات لا ريب فيها في العيش المشترك في لبنان، بالرغم من حقبات خصام وتنافر لا يحسن بِنَا ان نتناساها، كيما تبقى لنا منبّهاً يحفزنا على الحوار. في ساعة يخطف فيها الإسلاميون المجتمع الاسلامي الى تصادم انتحاري مع كل من اختلف معه في العقيدة والرأي، هل سينجح سعاة الحوار في مسعاهم للحفاظ على السلم الأهلي في اوروبا مع تكاثر الاثنيات الوافدة؟ وهل سيلعب الموارنة دوراً بارزاً بمقدار طاقتهم لمساعدة الأوروبيين في هذه المهمة المصيرية؟
الوطنية والقومية: الموارنة اللبنانيون متعلّقون بقوة ببلد الأرز. الأمانة للبنان كمساحة عيش تكوينية ومحورية للكنيسة المارونية، ينعكس من خلال روح وطنية لا بد من الحفاظ عليها وتغذيتها. ولكن ليس مشروع الكنيسة المارونية بمشروعًا قوميًا، حتى ولو كانت تقع عليها مسؤولية كبرى في الحفاظ على لبنان في خضم العواصف التي تضرب في الشرق. غير أن الواجب تجاه لبنان لا يجب ان يضع في الظل الرسالة الكنسية التي هي بطبيعتها أممية. وهنا يطرح السؤال حول إستعداديّة جماعاتنا الرعائية لإستقبال المسيحيين العرب على اختلاف طوائفهم بشكل عام والموارنة الغير لبنانيين بشكل خاص.
الإنفتاح على الأرثوذوكسية: لا يجب تفسير أو عيش شراكة الموارنة مع روما كعدم اكتراث للكنائس الأورثوذكسية. غالبية المسيحيين المشرقيين الوافدين الى اوروبا ينتمون الى الكنائس الأورثوذكسية: السريانية و الأشورية والأرمنية والقبطية والبيزنطية… إنفتاح الموارنة عليهم هو قبل كل شيء وصية الرب القائل “ليكونوا واحداً” (يوحنا ١٧)، وموضوع إهتمام رئيسي للكنيسة الكاثوليكية في أوروبا. بالاضافة الى ان الإنفتاح على الكنائس الأورثوذكسية يساعد الموارنة على الحفاظ على هويتهم المشرقية.
اليأس والسخرية: الجراح التي خَلَّفتها الحروب المتتالية في الشرق الأوسط والتي عمقتها اعتداءات الأنظمة الشمولية المهيمنة، لا زالت حيّة وعميقة في شخصية الماروني المهاجر. بقايا ذهنية الإقطاع والبروباغاندا الموجّهة ايديلوجياً وسياسياً… تعكسه تصرفات واحاديث عدد لا بأس به من المسيحيين المشرقيين في المهجر. ما يولد اختلافات تؤزّم حياة الجماعة الرعائية وتعرضها لخطر نشوء مجموعات ذات ميل انفصالي عن الحياة الكنسية ما لم تكن الجماعة الرعائية مكاناً لعيش هوية وطنية مسيّسة. تخطّي هذه الحالة تدبير ضروري وملح لتجنُّب صراعات داخل الجماعة الرعائية قد تؤدي الى اضعافها وانحلالها. تحفيز الروح الحوارية والذهنية التعددية المنفتحة والواقعية المتفائلة والبنَّاءة هو الخيار البديل والمنقذ، الذي يجب ان يحل مكان خطاب جلد الذات والاتهام المتبادل اللذين يلتهمان مرتكزات التجديد.
ثقافة و ثقافة فرعية: الطبقة الثانية من الثقافة والتي هي جزء من الهوية الثقافية هي الثقافة الفرعية. في المجتمعات التعددية الحديثة والتي تستقبل مجموعات من كل حدبٍ وصوب، نشهد دائماً جهود جبارّة للحفاظ على ثقافة البلد الأم ان من خلال الحفاظ على السلوكيات او على التحف. فيتشكل رويداً رويداً في هذا الشارع او تلك المنطقة من المدينة عالم “ثقافة فرعية” يتمايز عن الثقافة السائدة. ما يعزز عند أنصار الثقافة الفرعية، الهوية الثقافية بحيث تكون هذه الامكنة قائمة على: التقاليد المطبخية، اللغة واللهجة، الأواني والتحف، المجلاّت والكتب على أنواعها … عندما تختفي العلامات الفارقة التي تعكسها الثقافة الفرعية لدى مجموعة من القوم، تنتهي بذات الفعل الهوية الثقافية الموروثة ويحدث عندها الانصهار الكلي مقبرة الهويّات. خطورة عيش الثقافة الفرعية المارونية في “جزر منغلقة”، اي حصرياً بين الموارنة، يعرض جماعاتنا لخطر الانسداد والانعزال فالتصلّب. وعليه هل ستنجح جماعتنا الرعائية في الانفتاح على مكوّنات المجتمع حيث تحل فتحسن تقدمة ذاتها وتمد اليد لبناء شراكة فتقدم مساهمتها في صناعة مجتمع تعددي متناغم ومندمج. لا شك ان الجماعات المارونية في كل العالم برهنت عن انفتاح وامانة في آنٍ معاً إلاّ ان هذا الجهد يجب ان يبقى مستمرًا وبالأخص في هذه الحقبة التاريخية التي تشهد تتداخلاً كبيرًا وسريعًا للمجتمعات الانسانية فيما بينها.
ثقافة الشباب: الأجيال الجديدة التي ولدت في أوروبا تختلف عن اَهلها الآتين من الشرق الأوسط بطريقة فهمها وعيشها لمارونيتها. فمثلاً في اوروبا تحث المدارس الشبيبة على عيش الاستقلالية الفكرية والاجتماعية والمجتمعية. الامر الذي يدفع بهم الى الذوبان في القالب الاوروبي تاركين فجأة او تدريجياً تقاليد الأهل الشرقية لصالح تقاليد البلد المضيف. اللامبالاة التي يمكنهم ان يظهروها تجاه العادات الاجتماعية والشعائر الطقسية والحياة الرعائية… يتطلّب من الأهل والقيّمين على الكنيسة جهداً مستمّراً لاستيعاب عالم الشباب وتقديم رعائيّة تأخذ بعين الاعتبار الموسيقى، النجوم، الألعاب… وشبكات التواصل الاجتماعي تلعب دوراً هاماً جداً في تغيير السلوكيات و سلَّم القيم… كيف علينا استيعابها والحد من تأثيرها في الشبيبة في البالغين أيضاً إبان حقبة الثورة الرقمية، سؤال لا بد من معالجته، لكي نربحهم كأعضاء مسموع لهم، مفهومين، ناشطين ومعتبرين في الكنيسة.
أمام هذه التحديات نحتاج لأن نعود الى الثوابت كما في الكتاب المقدس. علينا استلهام خبرة شعب الله في الانتشار والتي يحدّثنا عنها الكتاب المقدس. كيف حافظ شعب الله على هويتّه وايمانه وكيف طورت المسيحية النموذج الجماعي من عيش الحفاظ على العقيدة الدينية الى عيش الوحدة الكاملة في المسيح.
وهج الرسالة ونموذج الجماعة
بعد قيامة يسوع ظهرت الجماعة المسيحية الاولى في أورشليم. كانت النموذج الاول عن الجماعة الكنسية. ولكن من أين أتى نموذج “الجماعة”؟ هل كان من اختراع الرسل؟
في الحقيقة كان اسرائيل قد أوجد منذ زمن بعيد النموذج الجماعي، للحفاظ على الهوية اثناء تواجده في الانتشار. لم يكن هناك هيكل يحج اليه الناس. كان يلتئم المؤمنين في البيوت في إطار جماعي يعرف أعضاؤه بعضهم البعض.لم يكن البيت ليتّسع لأكثر من سبعين الى مئة شخص. استدعى الامر وقتاً طويلاً الى حين انشاء بعض الصروح الدينية المخصصة للعبادة، لقد شكلت البيوت التي استضافت الجماعات الأولى الأساس الأول بدور العبادة.
كان وضع الانتشار دقيقًا جدًا، فالمحيط لم يكن من نفس المعتقد، ولذلك كانت ميّزات الجماعات اليهودية: صغر العدد والتباين الثقافي. ولأنها كانت جماعات صغيرة مميزة ثقافياً، أصبحت البيوت حيث يجتمعون مركزا ثقلٍ لحياتهم المشتركة ولهويّتهم الدينية. بالتالي لم يكن الكنيس متخصصًا في الانتشار للعبادات الدينية فقط، وإنما امتاز بخصائص اخرى في غاية الأهمية: تقدمة المشورة – حفظ الوثائق – فصل امور شرعية – خدمة الفقراء – علاقات عامة وتعارف – تدريس اللغة – ايواء المسافرين…
وعليه كان الكنيس اليهودي اكثر من صرح للعبادة، لا بل مركزاً للجماعة. إلا أن الجماعة المسيحية الاولى لم ترث هذا النموذج فقط وإنما اضافت عليه وعمّقته. فيسوع جمع كل تلاميذه حول مائدة واحدة، ليكون أعضاؤها كلهم واحد. على حدّ قول بولس الرسول؛ “ولكنّ الأعضاء كثيرة والجسد واحد.” (١قورنتس ٢٠:١٢) فالجماعة المسيحية لها أساس ولها نقطة ارتكاز وهما في آنٍ معاً، المسيح القائم. تتظهّر نقطة الارتكاز هذه على مائدة الرب. حول هذه المائدة تلتئم الجماعة الصغيرة حيث الكل يعرف الكل. تعيش في الانتشار، اي في مكان تختلف فيه الغالبية عنها في المعتقد. تفسح الجماعة المجال للجميع لاتباع المسيح. ولكن المميز فيها أيضاً هو اكتشاف المواهب وتوزيع المهام. ولكن كل جماعة صغيرة ليست فقط لخدمة ذاتها، وإنما لخدمة الكنيسة الجامعة، والتي هي معها مرتبطة ارتباطاً عضوياً.
في نهاية إنجيل متى يقول المسيح القائم من الموت والمرتفع الى يمين الله الكلمات التالية: “فاذهبوا وتلمذوا جميع الامم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم ان يحفظوا كل ما أوصيتكم به.” (متى ١٩/٢٨)
هذا يعني رسالة في كل العالم! العهد الجديد هو إذاً مُقتنع، بانه يوجد حقيقة واحدة وليس حقائق متعددة، وبان هذه الحقيقة هي المسيح، وبان على هذه الحقيقة ان تؤدي الشهادة لدى كل البشر.
ان تشهد لا من خلال العنف، ولا من خلال “التدجين”، ولا من خلال الضغط الاجتماعي الأدبي، ولا من خلال التكلم دون ارتداد، وإنما من خلال الوجود المؤمن لجماعة تلاميذ مسيحية، لكي يبقى الانسان الذي يلتقي بالحقيقة الإيمانية، حراً.
هذا ما تحدّثُنا به رؤية اشعيا في مطلع الفصل الثاني – حج الشعوب الى أورشليم ؛ الشعوب ترى السلام المعاش في وسط شعب الله، وتأتي لتتعلم ماهو السلام. يأتون بكامل ارادتهم، يجذبهم وهج مجتمع يعيش حالة مميزة. (اشعيا ٢)
هكذا عاشت الكنيسة في مطلعها. لم يكن عندها مخططات رسولية كبرى، ولكن كان لديها جماعات نجحت بجذب الكثير من الناس. وهكذا تسعى الجمعية الى تركيز عملها الرسولي الرعائي لبناء جماعات حيّة يقدّم ابناؤها ذواتهم لبناء بيت روحاني.
الختام
المرسل اللبناني في اوروبا يحصِّل العلم وينفتح على الثقافة المحلية ويخدم الكنيسة المارونية ويعزّز رسالتها بإيواء المسيحيين العرب الباحثين عن خدمة رعائيّة في المهجر، كما ويعزّز رسالتها بالشراكة مع الكنيسة الجامعة ليكون جسراً من لحم ودم بين رِئتيها الشرقية والغربية، فيصحّ فيه القول: الكريمي رجل علم وعمل. مكانه الثابت الكلمة التي يكرز بها، فتحفظه في مأمن وينقلها ليجمع الخراف في زمنٍ كثرت فيه الشراك. تحمله وترفعه من ضعفه ليتخمّر رويداً رويداً بكهنوت المسيح الأمين دائماً أبداً لقوله:” وهاءنذا معكم طوال الأيام الى نهاية العالم.” (متى ٢٠:٢٨) يحمل المرسل كلمة الله، يتسلح بها ويترقب التحديات راسخاً في إيمانه بان الكنيسة تصنع الافخارستية فيما الافخارستية تصنع الكنيسة في الوقت عينه مهما كانت الظروف، ويحافظ على تقليدٍ روحيٍ إنطاكي ماروني، لم ترهلّه رياح الشرق العاتية ولن تقوى عليه غربة وهو ساكن ومسكون بالمسيح المرسل الاول.