الأب قزحيا سركيس م.ل
ارسلهم اثنين اثنين، من اورشليم حتى اقاصي الارض، فانطلقوا حاملين بشرى الخلاص، ما اخذوا معهم الا الصليب..
حظي لبنان بالنصيب الاوفر من هذا الصليب، فكان الارض الطيبة التي حضنت بذار تلك الرسالة الالهية، فنبتت ابطالا وازهرت مؤمنين، واينعت قديسين… حولوا… هذه الارض الطيبة الى ملكوت سماوي فيه تلتقي السماء مع الارض، وفيه تترنم الانسانية بالالوهية واليه يلجا الخاطئون، وبنور هدايته يهتدي الضالون… نعم جعلوا من لبنان منارة للشرق والغرب، نبراس علم ومورد معرفة واوقيانوس قداسة، فهم لا يحصون، من المرأة الكنعانية، الى اول جماعة مسيحية، الى بربارة الشهيدة، الى يوحنا مارون، مرورا بجميع قديسينا وبامهات وآباء منذ فجر المسيحية في لبنان وصولا الى الاخ اسطفان، وآخرين كثر لا بد آتين على دروب القداسة…
حولت جحافل القديسين لبنان الى ارض جديدة والى سماء جديدة، الى اورشليم لوقاوية جديدة فتجلى فيها مجد الله وافاض عليها روحه القدوس، فكان لا بد من بشارة جديدة تعيد البهاء للبشارة الخلاصية الاولى، وكان لا بد من ارسال جديد. فاذا بروح الله يرسلهم من لبنان الى اقاصي الارض اثنين اثنين، حاملين معهم الصليب المضرج بدماء الشهداء وعرق جبين القديسين، ذخيرة تحمي اجسادهم من غدر هذا العالم وتضرم فيهم حماسة الروح…
تاسست جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة على هذا الاساس الصلب وكانت من اوائل الجمعيات الرهبانية التي اقتدت بسيدها والهها، وبدأت بارسال كهنتها من لبنان فعلا الى اقاصي الارض…
انطلق المرسلون اللبنانيون الموارنة من كريمهم الحبيب الى الاميركيتين، وافريقيا واستراليا واوروبا وكندا، ولا زالوا ينطلقون الى اقاصي الارض حيث تدعوهم الحاجة يلبون نداء واجبهم المقدس.
يجدر بنا ان نذكر بان المرسلين اللبنانيين الموارنة، كانوا السباقين في تاسيس رسالات في بلاد الاغتراب، كافريقيا الجنوبية، والارجنتين، والبرازيل التي سيكون فحوى موضوعنا عنها في هذا المقال.
يعود الفضل الاول في تاسيس رسالة المرسلين اللبنانيين الموارنة في البرازيل الى احد الاساقفة البرازيليين في ذلك الحين، هو الكاردينال سيباستيان لامي Sebastião Leme ، الذي قام بمسعى حثيث لدى الكرسي الرسولي والبطريركية المارونية في لبنان من اجل تاسيس مركز لجمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة في الريو دي جانيرو وهكذا في ١٩ حزيران من سنة ١٩٣١ ارسلت جمعية المرسلين الابوين المرسلين الياس ماريا الغريب، وجبرايل زيدان، ثم لحق بهما الاب يوسف الهاني في ١٦ شباط ١٩٣٢، وصل الآباء من بوانس ايرس حيث كانوا يبشرون.
انطلقت الرسالة الكريمية بادئ الامر من كنيسة على اسم القديسة افيجينيا Santa Efigênia (R. da Alfândega, 219 – Igreja Sto. Elesbão e Sta. Efigênia) في وسط مدينة الريو دي جانيرو، اذ بدأ الآباء المرسلون بجمع شتات اللبنانيين من كل الطوائف والمذاهب يقيمون لهم الاحتفالات الدينية واللقاءات الاجتماعية، الى ان تمكنوا من شراء عقار ارض في شارع ناشئ ومزدهر يدعى كوندي دي بونفيم (Conde de Bonfim) في منطقة تيجوكا. رقم العقار ٦٣٨ – مساحته تبلغ ٣٢ مترا على واجهة الشارع و ١٤٠ مترا في العمق.
دشن الكاردينال سيبستيان لامي وقدس الاب العام نعمة الله مبارك دار الرسالة الجديدة في ٢٢أيار ١٩٣٢، وافتتح الآباء في مقرّ الرسالة مدرسة للتلامذة الداخليين والخارجيين، استمرت هذه المدرسة في نشاطها من سنة ١٩٣٦ الى سنة ١٩٤٨. في هذا الوقت هب الآباء المرسلون على تأدية النشاط الروحي في كنائس مستعارة وسط المدينة ثم انتشروا عبر الولايات الشاسعة متتبعين ابناءنا اينما حلّوا. وبفضلهم انتعشت الروح وعادت الروابط بين الجماعات اللبنانية فأصبح لها كيانها المميز ودورها المهم على الصعيدين الروحي والزمني.
اما رعية سيدة لبنان فأنشئت في أول ايار سنة ١٩٤٦، بمرسوم اصدره رئيس اساقفة العاصمة، الكاردينال جايمه دي باروس كامرا (Jaime de Barros Câmara) غير ان القاعة التي استخدمت وقتئذ ككنيسة رعائية غدت ضيقة على المؤمنين اللبنانيين والبرازيليين معا. فكانت الحاجة ملحة لبناء كنيسة راعوية كبيرة. عمم الآباء دعوة للجالية المارونية التي لبت النداء، واسست سنة ١٩٥١ لجنة خاصة تعنى ببناء كنيسة سيدة لبنان… وضع حجر الاساس في ١٨ تشرين الثاني بحضور الكاردينال كامرا ورئيس الجمهورية البرازيلي جاتوليو فارغس (Getulio Vargas).
ظل الاب الغريّب يحلم بكنيسة جديدة حتى انجزها سنة ١٩٦٠ بشكلها الغوطي الرائع، مثلثة الاروقة، قبب شامخة وزجاجيات قل نظيرها، مساحتها ١٧ x ٤٢ وعلو قببها ٤٢ مترا، فكانت من اروع واهم كنائس الريو دي جانيرو.
قاد الآباء المرسلون الثلاثة الياس ماريا الغريب، الاب يوسف منصور الهاني والاب جبرايل زيدان التوعية الروحية والوطنية بكثير من العناء والسخاء، ومثالهم الاعلى الاب الغريّب. مرسل فذّ همّام، متوقّد الغيرة، قلما جاراه احد في ميدانه الوسيع، اتصف بقلبه الكبير المتجرد والنقي، مما جعل الجميع يحبه ويكرمه حتى تنافست السلطات المحلية على مؤازرته وفاء لجميله وتضحياته.
عمل رفيقاه معه بالروح عينها، فجابوا الولايات من اقصاها الى اقصاها فهدوا النفوس، واقاموا النوادي والاخويات. وبعد عودة الاب زيدان الى الارجنتين، استمر الآباء بالدفع عينه، مما جعل رئيس اساقفة مارانيون (Maranhão) في البرازيل المطران اوتافيانو (Dom Otaviano) عندما زار الرسالة بقوله، في خطاب له: “أنعم الله على البرازيل بخيرات طبيعية جمّة، وامتيازات لا تقدر بثمن، فغدت هذه البلاد شبيهة بالفردوس، وميزها بفردوس روحي آخر، وهو الجمعيات الرهبانية التي تشبه اشجار الفردوس الغنية بالثمار اللذيذة لتغذي روحيا الشعب المسيحي، لكن بدا للمراقبين ان هذا الفردوس ينقصه شجرة ارز، لذا ارسل الله الآباء المرسلين الموارنة لكي يكتمل هذا الفردوس العظيم”.
بعدما توافد الآباء المرسلون يلبون نداء الخدمة والمحبة في هذا البلد العزيز، بدأً بالاب نعمة الله العنداري فالأب يوحنا سعادة، الأب يوسف الحكيّم، الأب فيليب يزبك والأب فيليب صعيبي، الأب شربل مرعي (الذي اصبح اسقفا) ثم الأب اميل ادّه والأب جورج خوري والأب خليل حنّاوي والأب نبيل رزق الله. ثم الأب بيار شواح والأب جوزيف الأسمر والأب أنطونيوس البزعوني والأب شربل مخلوف، والأب بطرس سميا ثم الأب ايهاب شمعون، والأب بيار الشمالي و (الاب فادي المتني، الاب حبيب كلاكش) وأخيرا الاب الرئيس روجيه اميل بركات والأب قزحيا سركيس القيمان حاليا على خدمة الرسالة.
والجدير بالذكر ان آباءنا الكريميين الذين سبقونا حملوا معهم قديسي لبنان واقاموا لهم نصبا تذكارية في ساحات الريو دي جانيرو التي سميت على اسمائهم: ساحة مار شربل وساحة مار مارون وساحة وشارع الاب الياس ماريا الغريّب الذي يعتبره الشعب البرازيلي قديسا.
تغيرت اوضاع الرعية المارونية الاولى في البرازيل عما كانت قبلا بسبب التغيرات الديموغرافية والجغرافية والايديولوجية، اذ انتشرت الجماعة اللبنانية التي كانت تتمحور حول الكنيسة الى الضواحي البعيدة هربا من ضوضاء المدينة، وتتبعا للرزق، وما بقي منها الاّ القليل، فخف وهج الرسالة عما كان قبلا من قبل المؤمنين، اذ قل عدد اللبنانيين واصبحت اكثرية المؤمنين الملتزمين برازيلية. هذا لا يعني بأن المناسبات لا تجمع اللبنانيين في الكنيسة، لكن فقط المناسبات. لكن الآباء لا زالوا منطلقين بالدفع عينه ومكملين بالنشاطات عينها التي بدأها قبلا جميع الآباء الذين توالوا على خدمة الرسالة، كل بدوره وبحسب موهبته على حسب ما قدره الله له.
فالنشاطات التي تقوم بها رعية سيدة لبنان كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
- المستوصف (Ambulatorio) المجاني الذي يعني بعلاج عدد كبير من المرضى المعوزين.
- مركز الاعاشة (Sacola) الذي يؤمن اعاشة مجانية لاكثر من مئة عائلة شهريا.
- مدرسة محو الامية التي تؤدي خدماتها مجانا ايضا.
- مدرسة للغة العربية.
- مركز للتعليم المسيحي والتحضير لاول قربانة والتثبيت للصغار والكبار.
اما بالنسبة الى النشاطات الرعاوية فقد اهتم الاب الرئيس روجيه بركات منذ وصول الاب قزحيا سركيس الى الرسالة باعادة احيائها، نذكر منها مثلا:
- احياء شبيبة سيدة لبنان الذي بدأ منذ حوالي السنة، وهي تضم الآن ما بين الثلاثين والخمسين شابا وصبية وهذا العدد في ازدهار مطرد يوما بعد يوم.
- التحضير للقيام بلقاءات اطفال الرعية بشكل دوري ايضا.
- الكورال المميز الذي يشرف الاب روجيه على ادارته وتدريبه، والذي يعتبر الاول على صعيد المدينة، يؤدي الالحان المارونية باللغة العربية والسريانية والبرتغالية والانكليزية ولغات اخرى.
- مسبحة الرجال كل مساء اربعاء لاقت قبولا مهما من قبل ابناء الرعية، بالاضافة الى صلاة المسبحة ٢٤ ساعة نهار الاربعاء من قبل ابناء الرعية.
- السجود للقربان Adoração الذي يتم كل مساء خميس. بالاضافة الى احياء المناسبات الطقسية كاملة وبدقة، فالاب روجيه لا يفوته شيء من الطقوس الليتورجية لانه على اطلاع واسع بالليتورجية. من الاحتفالات الكبيرة الى الرتب الى البركات وغيرها، فالكنيسة تعجّ حياة بها.
- جماعات الصلاة: جماعة مريم، جماعة الرسل لقلب يسوع، جماعة القديس بيو، الاجتماع الروحي للمتطوعين وابناء الرعية مرّة في الاسبوع.
اما الاحتفال بالقداسات الالهية فهي مقسمة كما يلي:
خلال السبوع تحتفل الرعية بقداسين، الاول عند الثامنة صباحا والثاني عند السادسة مساء ما عدا القداس المسائي نهار السبت فيكون عند الساعة الخامسة مساء لان احتفالات سر الزواج والعمادات الجماعية والفردية تقام اجمالا نهار السبت والاحد.
اما قداسات الاحد فهي على الشكل التالي:
- قداس الثامنة والنصف صباحا الذي سيكون قداس الاطفال بالطقس الماروني.
- قداس الساعة العاشرة الثابت باللغة العربية للبنانيين.
- قداس الساعة الحادية عشرة والنصف وهو الاهم بالطقس اللاتيني.
- قداس السادسة مساء بالطقس الماروني باللغة البرتغالية.
اما بالنسبة الى قداسات الاعياد فيتم تعيينها بوقتها.
تحظى رسالتنا باهمية كبرى على كافة الاصعدة الروحية والاجتماعية مما دفع المسؤولين السياسيين والمدنيين الى تقديم اوسمة عديدة لكثير من الآباء الذين ترأسوا خدمة هذه الرسالة، والاب الرئيس روجيه بركات حائز على عدة اوسمة شرف على صعيد الريو وكل البلاد وفاء لتضحياته وحضوره المميز ايضا.
ونظرا الى الحاجة الملحة لاعادة ترميم ما تهدم واهتز وتزعزع من الكنيسة والرسالة، كان لا بد من ورشة اعادة اعمار وصيانة القبب والواجهة، تحضير وتجهيز مكتب السكرتارية وترميم الصالون.
بدأ بها الآباء منذ حوالي السنة، من تطوير موقف السيارات وتركيب احدث الآليات على مدخله. الى وضع مكيف للكنيسة، الى تغيير قرميد الكنيسة المهترئ كله والى ترميم سقف الكنيسة والى بناء حمامات في السكرستيا والموقف، الى اعادة تجديد مشروع الكهرباء في المركز، الى تغيير حربات ضد الصواعق، الى نفض وتغيير واجهة المبنى الملاصق للكنيسة، الى فتح كافيتيريا تغيير المصعد الكهربائي والى كثير من الاشياء الصغيرة الاخرى.
كما وان كنيستنا هي الكنيسة الوحيدة المفتوحة مجانا لجميع الجماعات الروحية والاجتماعية الموجودة في المنطقة، بالاضافة الى كل النشاطات الكبيرة في الابرشية اللاتينية مثلا:
- لقاء اساتذة التعليم المسيحي لمدة اسبوع كامل، وآباؤنا يحاضرون للمعلمين.
- اجتماعات المسؤولين عن الجماعات الروحية.
- تستعمل السلطات المدنية مركزنا ايضا للانتخابات السياسية، البلدية والحكومية والمدنية.
تقوم الرسالة باحتفالات كبيرة كل سنة تدعو اليها سيادة المطران الماروني، والشخصيات الدينية والمدنية. (عيد مار مارون، عيد الاستقلال اللبناني…)
اما بالنسبة الى الرؤية المستقبلية لرسالتنا، فهي تعاني من الشيء نفسه الذي تعاني منه كل الكنيسة في العالم:
- اللامبالاة، والاهمال وعدم المسؤولية من قبل المؤمنين، بكل بساطة ان انسان اليوم لا يريد ان يتحمل مسؤولية اي دعوة تدعوه الى الالتزام،… اضف الى ذلك هذا الزحف الهائل من الفساد الذي يقضي على الاخضر واليابس… ولكن لا بد من بقية باقية فاذا استطعنا المحافظة على هذه البقية الباقية، حسنا نفعل.
- لكننا كلنا امل ورجاء بان الكنيسة هي كنيسة المسيح، وليست كنيسة البشر وحدهم، والروح القدس الذي يعزي المرسلين ويهديهم هو الذي سيقود خطانا الى كل ما هو حسن وبناء من اجل الاستمرار بالبشارة نحو مستقبل ملؤه الروح والثقة بان المسيح المخلص لن يتخلى عن كنيسته بشفاعة محاميي جمعيتنا وقديسي لبنان وصلواتكم. وشكرا.