الأب معين سابا المرسل اللبناني
في هذا المقال، الذي أتحدّث فيه عن تمييز الدعوة في مسيرة تنشئة المرسلين اللبنانيين الموارنة، لن أتطرّق إلى التطوّر التاريخي لهذا الموضوع، مع أنّه طُرِحَ منذ فجر المسيحيّة، عندما بدأ يسوع يختار تلاميذه (راجع لو 6/12)، ومن بعده لمّا بدأت الكنيسة تطرح السؤال حول من تختار ليقوم بخدمة معيّنة في قلب الجماعة الناشئة (أعمال، 1/15-26). كما أنّ هذا المقال، لن يكون دراسة معمّقة حول ما جاء في تعاليم آباء الحياة الرهبانيّة، إنّما خلاصة خبرة شخصيّة عشتها على مدى سني حياة الكهنوتيّة الخمس والعشرين، والتي قضيتها بغالبيتها في دور التنشئة، أتعلّم ممّا سبقوني أو أعلّم الآخرين ما حصّلته من معرفة في هذا المجال.
عجالتي هذه ستطال أربع نقاط مترابطة فيما بينها بحيث تشكّل دائرة متكاملة لا يمكن الاستغناء عن أيّة واحدة منها خوفاً من حدوث خلل في عمليّة تمييز الدعوة. الحلقة الأولى هي صفات شخصيّة المرافق، الحلقة الثانية تتضمّن مراحل تمييز الدعوة، الحلقة الثالثة تعرض الطرق العمليّة لتمييز الدعوة وأخيراً علامات صحّة الدعوة.
أولاُ: خصائص المرافق السبع:
- الإيمان بأنّ الله الآب، يدعو الأفراد بواسطة أبنه يسوع وبقوّة الروح القدس، بطريقة مباشرة وشخصيّة (أعطيكم رعاة، 38)[1]، ومن خلال تاريخها الخاص بها. هذا ما حصل مع إبراهيم وموسى وصموئيل وغيرهم في العهد القديم، ومع زكريّا ومريم ومتى العشّار وبولس في العهد الجديد. تمييز الدعوة هنا، لا يعني، قراءة تخمينيّة من قبل المرافق بغض النظر عن إحساس، ومشاعر، ورغبات، وخبرة طالب التكرّس الإنسانيّة والروحيّة إنّما العودة إليها والانطلاق منها؛
- الإيمان بأنّ الله يدعو الأفراد بالاسم. هذا واضح من خلال دعوة الرسل ألاثني عشر “وسمّاهم رسلاً، وهم: سِمْعان وسَمَّاه بُطرُس، وأَندَراوُس أخوه، ويَعقوبُ ويوحَنَّا، وفيلِبُّسُ وبَرْتُلُماوُس، ومَتَّى وتوما، ويَعقوبُ بْنُ حَلْفى وسِمْعانُ الَّذي يُقالُ لَه الغَيور، ويَهوذا بْنُ يَعقوبَ ويَهوذا الإِسخَرْيوطِيُّ الَّذي انقَلَبَ خائِناً (لو 6/13-16). من المهم التأكيد هنا، أنّه ليس الجماعة، كما يقول البعض، هي من تختار، وتدعو، إنّما الله من يفعل ذلك من أجل الجماعة “لم تَخْتاروني أَنتُم، بل أَنا اختَرتُكم وأَقمتُكُم لِتَذهَبوا فَتُثمِروا ويَبْقى ثَمَرُكم فيُعطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ ما تَسأَلونَهُ بِاسمي” (يو 15/16). المجمع الفاتيكاني الثاني يعلّم أن الدعوة لاعتناق المشورات الإنجيليّة هي “هبة إلهيّة نالتها الكنيسة من ربّها، ولا تزال بنعمته تحافظ عليها بأمانة. كما أنّ سلطة الكنيسة نفسها، التي يوجهها الروح القدس، حرصت على أن تشرحها، وأن تنظّم تطبيقها، وأن تنشئ أنماط حياة ثابتة مستمدّة منها” (نور الأمم، 43). إذاً ليس من حق أي مسؤول عن مرافقة الدعوات، أن يرفضها انطلاقاً فقط من مبدأ الاكتفاء الذاتي أو المزاجيّة الإداريّة؛
- الإيمان بأنّ الله لا يدعو فقط بالاسم بل يدعو إلى عائلة مكرّسة معيّنة؛ رهبانيّة كانت أو غير رهبانيّة. فكما أنّه يدعو المؤسسين ويمنحهم موهبة خاصّة، كذلك يدعونا كأبناء لهم أن نعيش هذه الموهبة ونخصبها في حياتنا الشخصيّة والجماعيّة والرسوليّة والإداريّة (الحياة المكرّسة، 19.د)؛
- امتلاكه معرفة حقيقيّة لماهيّة الحياة المكرّسة ودورها في قلب الكنيسة والعالم. فالحياة المكرّسة بالنذور الثلاثة هي، إن جاز التعبير، بمثابة سرّ ثامن في الكنيسة (راجع نور الأمم، 44). فهي تمثّل يسوع العفيف والمطيع والفقير وتقدّمه بشخص من يعتنقها كسبيل وحيد للخلاص (الحياة المكرّسة، 19.ب و ج)؛
- امتلاكه معرفة حقيقيّة لمفهوم الموهبة. إنّ مؤتمر الرؤساء العامّين حول ”الحياة المكرّسة اليوم: مواهب في الكنيسة من أجل العالم“، روما، 22 – 27 ت2 1993، يقول: ”إنّ في حياتنا حقيقة لاهوتيّة هامّة واحدة تبدو كافية لتوحيد مختلف الإتجاهات، هي حقيقة الموهبة. إنّ كل مؤسّسة تنشأ بدافع موهبة من الروح يعطيها للمؤسّسين، وهؤلاء يسلّمونها إلى تلاميذهم. تشكّل الموهبة طريقة وجود خاصّة، ورسالة وروحانيّة خاصتين، ونمط عيش أخوي، وبنية معيّنة للمؤسّسة، في خدمة الرسالة الكنسيّة. إنّ عطيّة الروح هذه هي ذات دافع قوي، فهي تنمو بنوع متواصل، بتناغم مع جسد المسيح، نمواً مستمراً. إنّ تلك العطيّة يَكِلُها الروح إلى المؤسّسة لتحياها، وتفسّرها، وتخصبها وتشهد لها في شركة مع الكنيسة، في مختلف الأطر الثقافيّة“ (عدد، 3).
- امتلاكه معرفة موضوعيّة للإنسان وللعلوم الإنسانيّة: إنّ الإرشاد في “الحياة المكرّسة” يقول بصريح العبارة إنّ “معارف الحكمة الروحيّة يجب أن تقرن بالمعارف المستمدّة من الوسائل البشريّة والمفيدة في تمييز الدعوة وتنشئة الإنسان الجديد ليتحرّر حقاً” (الحياة المكرّسة، 66). المفكّر الكبير، في التربية على الحياة المكرّسة، أماديو تشنشيني Amedio Cencini يشير إلى أنّ دور المربّي، من الناحية الإنسانيّة، يطال خمس نقاط مهمّة[2]: 1) معرفة محدّدة لنقاط القوّة ونقاط الضعف لدى طالب التكرّس؛ 2) القدرة على تمييز وجود اضطرابات أو مشاكل لا واعية لديه؛ 3) القدرة على مساعدته لمعرفة ذاته، ومشاكلها، وصعوباتها وجذور هذه المشاكل والصعوبات ونتائجها؛ 4) القدرة على مساعدته ليس فقط على معرفة مشاكله، إنّما أيضاً على حلّها؛ 5) مهمّة المرافق ليست فقط مساعدته على تخطّي الدوافع اللاواعية التي تشدّه إلى التكرّس إنّما، الوقوف إلى جانبه لكي يبني حياته بمختلف أبعادها على أسس جديدة.
- اكتسابه الاتزان النفسي والعاطفي والفكري والروحي: من المهم أن لا يكون المرافق يعاني من الخوف والحذر والشك من الآخرين، كما من المهم أن لا يكون صاحب ردّات فعل عنيفة وأحكام عاطفيّة متسرّعة، أو يملك أفكاراً خاطئة حول الدعوة أو الإنسان أو الحياة الروحيّة. بالعكس على المرافق أن يكون منفتحاً حليماً، طويل الأناة، صبوراً ومتفهماً لعالم الشباب، مملوءً حكمة من جرّاء تواصله المستمر والمتواتر مع الرب يسوع في كلمته، وقربانه، وجسده السرّي.
ثانياً: مراحل تمييز الدعوة وأهدافه:
من المهم التأكيد أنّ هذه المراحل مرتبطة من جهة، بطبيعة الدعوة للحياة المكرّسة، ومن جهة ثانية بمحطّاتها المختلفة.
المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل الابتداء
تقوم أولاً، على التمييز بين “الدعوة العامّة” أو “الدعوة الشاملة” وبين “الدعوة الخاصّة“. فكل مولود في هذا الكون مدعو بالأساس ليكون على “صورة الله وكمثاله”، إي أن يكون ابن الله وكاملاً مثله. هذا ما نسمّيه الدعوة العامّة أو الدعوة الشاملة. أمّا الدعوة الخاصّة، فهي، كما يقول الإرشاد الرسولي في “الحياة المكرّسة” “عيش ملمح من ملامح سر يسوع الواحد” (عدد32)، “إمّا في تأملاته على الجبل، وإمّا بتبشيره الشعوب عن ملكوت الله، وإمّا أيضاً عندما كان يشفي المرضى وأصحاب العاهات، ويردّ الخطأة إلى حياة خصبة، عندما كان يبارك الأطفال ويوزّع خيراته على الجميع متمّماً دوماً، في الطاعة إرادة الآب الذي أرسله” (نور الأمم، 46). كما تقوم هذه المرحلة ثانياً، على التمييزبين الحياة المكرّسة بشكل عام وبين العائلة المكرّسة بشكل خاص. وأخيراً، من الناحية الإنسانيّة يطال التمييز في هذه المرحلة الدوافع الحقيقيّة لاختيار هذه الطريقة في الحياة. من المهم في هذه المرحلة اكتشاف إذا ما كان هناك من دوافع لا واعية أدّت إلى هذا الخيار: كالخوف من الله، أو الخوف من المجتمع، أو التفتيش عن ضمانات إنسانيّة واجتماعيّة وروحيّة، أو الوفاء بنذر معيّن، أو الاعتراف بالجميل بعد مرض أو حادث مؤلم، أو التعتيم عن فشل أو انحراف عاطفي أو جنسي…الخ
المرحلة الثانية: التمييز بين “الأنا المثاليّة” و”الأنا الحاليّة”: مرحلة الابتداء
يصل طالب التكرّس إلى الابتداء وفي قلبه ووجدانه وروحه أحلامٌ كبيرة، في غالب الأحيان، تكون أكبر من طاقاته وإمكانياته الشخصيّة. من هنا أهميّة متابعة ما تمّ البدء به في المرحلة السابقة من تمييز الدعوة الخاصّة والموهبة الخاصّة. من ناحية ثانية، يتركّز التمييز على الدوافع الحقيقيّة للدعوة، إذ أنّ هذا العنصر يحمل في طياته حقيقة مفادها أنّ المساحة البعيدة أو التناقض النافر بين “الأنا المثاليّة” و”الأنا الحاليّة” يستر في حناياه براهين عدم وجود الدعوة، إذ أنه عندما يدعو الله دعوة خاصّة، يمنح صاحبها الإمكانيّات الإنسانيّة الضروريّة لتحقيقها. من هنا التشديد في الابتداء على أن يطال التمييز كل نواحي البعد الإنساني ومدى قدرته على التناغم مع دعوة الله للتكرّس، حتى ولو اقتضى الأمر اللجوء إلى المرافقة النفسيّة في بعض الظروف غير الاعتياديّة.
من ناحية ثالثة، فعلى المربّي أن يميّز بين حالة الفرح والانشراح والارتياح والسكينة التي يعيشها المبتدئ في الدير، حيث كل شيء مهيّأ لذلك، وبين قابليته على اكتساب قيم الحياة المكرّسة: إتباع يسوع والعيش معه كفقير ومطيع وعفيف، عيش المحبّة الأخويّة ضمن الجماعة، تشوّق العمل الرسولي كوسيلة للشهادة ليسوع القائم من بين الأموات. يجب أن يطال التمييز قدرة المبتدئ على بلورة شخصيته الذاتيّة وكتساب مستوى جديد لها هو المستوى المواهبي أي مستوى مكانته في جسد يسوع السرّي (أية رسالة دعيت لأكتشف وأعيش وأبشّر وأنشر في هذا العالم). هناك من يأتي في عمرٍ متقدّم معتبراً ذاته أنّه كوّن شخصيته وما عليه في الدير إلاّ اكتناز معارف جديدة فيفشل في الانخراط في جسم العائلة المكرّسة ويعيش كضيف لا كعضو فيها.
المرحلة الثالثة: التمييز بين “الأنا الحاليّة” و”الأنا المثاليّة: مرحلة التحضير للنذور المؤبّدة
أود هنا أن أذكر معطىً علمياً حول زراعة شجرة الأرز ونموها. لقد لاحظ علماء الزراعة أنّ وضع نبتة الأرز في التربة من دون نزع الوعاء البلاستيكي أو النايلون لا يقتلها على الفور ولكنّه يخنقها بعد فترة ليست بقصيرة. ما الذي يحدث؟ من المعروف أن جذور شجرة الأرز تضرب مستقيمة في العمق، هذا في وضعها الطبيعي، أمّا إذا لم تتحرّر من الوعاء التي زرعت فيه، فهي تلتف على ذاتها، ومع مرور الأيام تخنق الحياة التي فيها أي تخنق ذاتها. في موضوع الدعوة إن لم يتحرّر الإنسان من الوعاء التي وضعت فيه الدعوة أي محدودية طبيعته البشريّة، فغنّه يلتف على ذاته حتى يخنق الحياة التي فيه أي دعوته الخاصّة. من هنا تمييز الدعوة في هذه المرحلة يقوم على:
التأكّد من أنّ المدعو ليس سجين قناعاته الإنسانية البحتة، ولا يعاني بالتالي من وجود حواجز نفسيّة أو عاطفيّة تمنعه من تلبية نداء الرب بالمضي إلى “العمق” وبناء علاقة شخصيّة معه؛ هو علّة وجوده ودعوته ورسالته.
في مثل شجرة الأرز، يقول الاختصاصيون إنّ الرياح العاتية لا تقلعها لأنّها تدفع بالجذور إلى الامتداد أكثر في العمق والتثبّت بالتربة. انطلاقاً من هذا التشبيه، يمكننا القول، إنّ التمييز في هذه المرحلة، يعني مساعدة المدعو على مواجهة الأوضاع الجديدة ليعي أنّ العواصف الهوجاء (عاطفيّة كانت أم تواصليّة) ليست علامة لعدم صحّة الدعوة إنّما للتجذُّر فيها أكثر فأكثر لأنّ الصليب فالقيامة هما قمّة مشروع الله الخلاصي.
هناك أمر ثالث، في موضوع تمييز الدعوة في هذه المرحلة، مأخوذ أيضاً من واقع شجرة الأرز، ألا وهو النمو ببطء وليس بسرعة كباقي الأشجار. فالدعوة تنمو بهدوء ورويّة وليس عبر حرق المراحل. فكلام القدّيس بولس عن الطول والعرض والعلو والعمق (الطول يدل على علاقة الإنسان بالعمل والثقافة والعلم والمال، والعرض يشير إلى علاقة الإنسان بالمجتمع الإنساني –بعد علائقي، والعلو يعني علاقة الإنسان بالله، والعمق يدل على علاقة الإنسان بذاته)، يعلّمنا أن الدعوة التي تلد في الكيان الداخلي للإنسان بحاجة إلى وقت ليس بقصير لتمتد وتنبسط إلى كل أبعاد الشخص البشري وبالتالي إلى كل مفاصل هذه الأبعاد.
المرحلة الرابعة: ما بعد النذور المؤبّدة أو السيامات الكهنوتيّة:
التمييز في هذه المرحلة لم يعد قائماً على تبيان وجود الدعوة أو نفيها، في هذه العائلة أو تلك، ما هو صالح وما هو طالح فقط، إنّما يصبح قائماً على الاختيار بين خيرين وذلك بحسب القدّيس بولس “كل شيء يحل لي، ولكن ليس كلّ شيء ينفع، كل شيء يحلّ لي، ولكنّي لن أدع شيئاً يتسلّط عليَّ” (1قور 6/12). هناك أمرٌ آخر مهم جداً تطله مسيرة تمييز الدعوة في هذه المرحلة ألا وهو التوفيق بين مشروع تحقيق الذات الذي هو مطلب جوهري لدى كل كائن بشري، وبين تحقيق مشروع الله الخلاصي. من المهم جداً مساعدة المكرّس بالنذور المؤبّدة أن يعي أنّ تحقيق مشروع الله لا ينفي تحقيق ذاته، بل بالعكس يقوده إلى ملئه، لأنّ الرب يسوع أتى ليجعلنا كاملين كما أنّ أبانا السماوي كاملٌ هو.
في هذه المرحلة يمكن الحديث عن تمييز الدعوة على المستوى الجماعي. فعلى العائلات المكرّسة أن تميّز على صعيد دعوتها الأساسيّة (الموهبة الخاصّة) ماذا يريد الله منها الآن وذلك انطلاقاً من تجاوبها مع نداءات الروح، من القراء ة الحكيمة لعلامات الأزمنة، من تواصلها العميق مع تعاليم الكنيسة ومن خلال الإصغاء لحاجات الناس وانتظاراتهم الروحيّة.
ثالثاً: طرق تمييز الدعوة
منذ سنة 1996 وأنا أضع بين أيدي الشباب والصبايا الذين يقصدوني لاكتشاف دعوتهم مجموعة من التمارين التي تساعدهم على تمييز دعوتهم في الحياة.
- مرحلة قبل الابتداء: هناك ثلاث محطّات أساسيّة غير مرتبطة بفترة زمنيّة معيّنة إنّما بحالة الوعي الداخلي للشخص.
- المحطّة الأولى هي محطّة دخول الشاب أو الشابّة إلى عالمهم الإنساني الداخلي والقيام بقراءة شخصيّة لنوعيّة أفكارهم وأحاسيسهم ومشاعرهم وأحلامهم وإيمانهم. هذا الأمر لا يتم من خلال محاضرات علميّة متخصّصة إنّما عبر نصوص منتقاة تلعب دور المرآة التي تعكس ما يدور في داخلهم إن على الصعيد الإنساني أو الروحي؛
- المحطّة الثانية التي تعتبر الأهم وهي محطّة “مرشد الدعوة” الذي هو عبارة عن تمرين يستغرق نحواً من ثماني ساعات. في هذا التمرين يجب تحاشي ثلاثة أمور: إعطاء مواضيع روحيّة ذات تأثير مباشر على الشاب أو الصبيّة، القيام بقراءة شخصيّة تخمينيّة بمعزلٍ عمّا يشعران به، والدخول معهما بعلاقة شخصيّة تؤثّر على حقيقة ما يختلج في أعماق ذاتهما. “مرشد الدعوة” هذا يمنح الفرصة للشاب والصبيّة بأن يكتشفا إذا ما كان هناك من خللٍ علائقي بيّن، بينهما وبين أهلهما، أو مع الآخر المختلف أو مع ذاتهما. كما يعطي الفرصة لمعرفة إذا ما كان الشعور الروحي هو على مستوى “الدعوة الشاملة” أو على مستوى “الدعوة الخاصّة” وإلى أيّة عائلة مكرّسة يريدهما الرب أن ينضمّا؛
- المحطّة الثالثة هي عبارة عن تمارين مرتكزة على نصوص من الكتاب المقدّس يكتشف من خلالها طالب التكرّس جوهر الدعوة الخاصّة وماهيتها ودورها في قلب الكنيسة والعالم.
- مرحلة الابتداء: في هذه المرحلةنلحظ أربعة طرق مهمّة:
- العيش معاً: من المهم أن يكون المرافق هو المسؤول عن المبتدئين فيعيش معهم متنبهاً إلى المسافة التي تفصل أقوالهم ونواياهم عن أعمالهم ومواقفهم ومساعدتهم على وعي ذلك والسعي إلى التناغم فيما بينها؛
- اللقاءات المتواترة: من المهم أن تكون هذه اللقاءات مطبوعة بالحريّة والأمان والبساطة وعدم الاستغلال من قبل المسؤول “لتمريك” نقاط على المبتدئ أو المبتدئة. هذه اللقاءات هي من جهة، بمثابة “المنبر الحر” حيث يعبّر المبتدئ عمّا يفكّر ويشعر دون خوف من تأثير ذلك على قبوله أو عدم قبوله للنذور فيما بعد، وهي من جهة ثانية، بمثابة “جنّة عدن” حيث يمرّ الله ويسأل الإنسان عن أحواله، وما دور المربّي والمبتدئ إلاّ الإصغاء لصوته وتلمّس إرادته والعيش بإلهاماته؛
- الإصغاء الحقيقي: من المهم أن يصغي المربّي لما يقول المبتدئ، ولما يحمّل في كلامه من أفكار وأحاسيس دفينة لا يستطيع أحياناً التعبير عنها بشكل واضح. لا أغالي إن قلت، إنّه ليس المهم ما أريد أن أُسمِعَ من نصائح اعتقدها مهمّة للغاية، بقدر ما هو مهم اكتشاف ما يدور في عالم المبتدئ وكيف يتفاعل مع عمل النعمة وكيف ينسج علاقة شخصيّة مع الرب يسوع؛
- تمارين: تطال هذه التمارين الحياة الإنسانيّة وبالأخص النفسيّة والعاطفيّة، والحياة الروحيّة والحياة المكرّسة. من شأن هذه التمارين أن تكشف للمبتدئ والمربّي معاً ما يجول في خفايا العالم الداخلي من أمور يصعب ملاحظتها بدقّة في الحياة اليوميّة أو في اللقاءات العاديّة.
ج. مرحلة التحضير للنذور المؤبّدة: في هذه المرحلة يجب التنبّه لعدّة أمور هذه أهمّها:
- انتقال المكرّس إلى حالة جديدة، وجماعة جديدة وواقع جديد وهموم جديدة ونمط حياتي جديد وتحديات جديدة، الأمر الذي يدفعه من جديد إلى طرح الكثير من الأسئلة الأساسيّة حول دعوته؛
- غالباً ما يتغيّر المرافق ومعه تتغيّر عادة طريقة المرافقة ومفهوم تمييز الدعوة، الأمر الذي يضع الناذر الجديد في حيرة من أمره؛
- وجود تيّار متحرّر يعتقد بأنّه قادر على إدارة حياته لوحده الأمر الذي يتركه رهينة مزاجه وأهوائه الذاتيّة؛
- وجود فريق يقبل عن مضض بالمرافق الذي يعيّنه المسؤولون لحين انتهاء فترة التحضير للنذور المؤبّدة، الأمر الذي يؤثّر على نوعيّة مسيرة تمييز الدعوة؛
من هنا، كان ضرورياً تنظيم عمليّة تمييز الدعوة بين المسؤولين، بحيث تسد كل هذه الثغرات من خلال تأمين التناسق فيما بينهم على متابعة الموضوع، كما من المهم أيضاً أن يكون المسؤول عن تمييز الدعوة هو المسؤول عن جماعة الأخوة الدارسين في الجماعات المكرّسة الرجاليّة، والمسؤولة عن الراهبات الشابّات في الجماعات الرهبانيّة النسائيّة.
أمّا وسائل التمييز في هذه المرحلة فهي عينها التي أشرنا إليها في مرحلة الابتداء مع الاستفادة من الخبرة الحياتيّة التي من خلالها يقود الله الناذر إلى الالتزام الكلّي بمشروعه الخلاصي.
د. مرحلة ما بعد النذور المؤبّدة أو السيامات الكهنوتيّة: أختصر الحديث في هذه المرحلة بالإشارة إلى بعض الوسائل العمليّة: المثابرة على قراءة الحياة مع المرشد الروحي، تأمين أوقات شخصيّة من الصمت والعزلة للإصغاء إلى العالم الداخلي وإلى إلهامات الروح الذي يصلّي فينا بأنّات لا توصف، عدم إهمال الرياضات السنويّة الجماعيّة.
رابعاً: علامات صحّة الدعوة
1) الصحّة العقليّة؛ 2) الصحّة النفسيّة؛ 3) الصحّة البدنيّة وذلك بحسب الموهبة الخاصّة؛ 4) الخبرة الروحيّة؛ 5) الاعتراف بالجميل؛ 6) المجانيّة؛ 7) روح البساطة والمرح؛ 8) الروح الأخوي؛ 9) الحريّة العاطفيّة، 10) الانفتاح على الآخر المختلف؛ 11) روح المسؤوليّة؛ 12) الحس الكنسي.
خاتمة
في النهاية، لا بدّ لي من شكر جمعيّتي الحبيبة، على كلّ الجهود التي بُذلت وتُبذل في هذا الجال، من أيّام المؤسّس حتى يومنا، كيما تتألّق الجمالات الإلهيّة في حياة المرسلين، فيعكسونها شهادات صادقة تدعو المؤمنين إلى اقتناء الملكوت، كما أشكر الله على دعوته لنا لنكون أولئك المدعوين، الذين لا يقفون على الأطلال بل الحاضرين في المجتمع لنبني “تاريخاً عظيماً” (الحياة المكرّسة، 110). إلا أنّ هذه المهمة الخطيرة تحتاج إلى رجال ونساء مقتنعين بدعوتهم متجذّرين فيها واضعين نصب أعينهم وصيّة البابا يوحنّا بولس الثاني: “اجعلوا من حياتكم فترة انتظار حارّ للمسيح، واذهبوا للقائه كالعذارى الحكيمات الذاهبات للقاء العريس. كونوا مستعدين، أمناء للمسيح وللكنيسة ولمؤسستكم ولإنسان عصرنا. هكذا يجدّدكم المسيح، يوماً بعد يوم، لبناء جماعات بمعاضدة روحه، ولغسل أقدام الفقراء، ولتأدية مساهمتكم التي لا بديل منها في تحويل العالم” (الحياة المكرّسة، 110).
[1] “الدعوة سر لا يسبر يوحي بالعلاقة التي يقيمها الله نفسه مع الإنسان، وهي، ولا شك، علاقة فريدة لا تتكرّر، يدركها الإنسان ويحسّها نداءً من الله يترقّب جواباً صادراً من عمق الضمير، وهو “الركن الأشد عمقاً في الإنسان والهيكل الذي يخلو فيه إلى الله، ويسمع فيه صوته”.
[2]CENCINI A., Per amore. Libertà e maturità affettiva nel celibato consacrato, Bologna, Edizioni Dehoniane Bologna 1994, pp.99-102.