Almanara Magazine

الديمغرافيا في قضاء كسروان

من خلال الإحصاءات الرسمية

عرف لبنان إحصاءات سكانية رسمية منذ عهد متصرفية جبل لبنان لغاية نشأة لبنان الكبير. فما هي الصورة الديمغرافية التي أعطتها الإحصاءات المتوافرة لعيّنة من بلدات قضاء كسروان؟

أولاً: نشأة متصرفية جبل لبنان

بعد ثورة جبل لبنان الدموية خلال العام 1860، اجتمعت لجنة دولية في بيروت، ضمّت ممثلين عن السلطنة العثمانية والدول الخمس الكبرى أي فرنسا وبريطانيا والنمسا وبروسيا وروسيا، وسعت إلى وقف الثورة ووضع حد لتكرار مثلها. بعد مناقشات طويلة محتدمة وأراء عديدة متضاربة، توصّلت اللجنة، بتاريخ 9 حزيران 1861، إلى إنشاء نظام سياسي جديد لجبل لبنان عُرف بـ”النظام الأساسي” الذي جعل من الجبل المذكور متصرفية ممتازة يتولى الحكم فيها مباشرة متصرف مسيحي كاثوليكي عثماني، تختاره الدول الخمس الكبرى بالاجماع مع السلطنة العثمانية التي أصدرت، بتاريخ 1 حزيران 1861، بروتوكول تعيين داود باشا (1861-1864) المتصرف الأول على جبل لبنان لمدة ثلاث سنوات[1].  

ثانيًا: المادة الـ 17 من بروتوكول 1861

بعدما تسلم المتصرف داود باشا مهامه السياسية الإدارية رسميًا، باشر بتنفيذ مواد بروتوكول 1861 بغية ترتيب شؤون متصرفية جبل لبنان سياسيًا وإداريًا وأمنيًا وصحيًا…إلخ. ومن تلك المواد، المادة الـ 17 التي أوجبت تعجيل الشروع في إحصاء نفوس المتصرفية، محلاً محلاً وملة ملة[2]، بهدف توزيع مال الأعناق المترتب على المكلفين وتحديد عديد الضابطة بنسبة 7 بالألف لعدد السكان. شكّل المتصرف لجنة المسح السكاني لتنفيذ مادة بروتوكول 1861 المذكورة، وكلف بالمقابل مهمّة تنظيم الضابطة للكابيتين ليون فان (Léon Fain) الذي وضع تقريرًا مفصلاً قدّر بموجبه عدد السكان بغية تعجيل تنظيم القوى الأمنية وتسهيل سير العمل في إدارة المتصرفية[3]، على أن تنهي لجنة المسح المذكورة أعمالها التي باشرتها من قضاء جزين جنوبًا نحو الشمال[4]. وعندما بلغت اللجنة قضاء كسروان، سنة 1864، عارضها السكان، ما أوقف متابعة الإحصاء خلال الولاية الأولى لداود باشا (1861-1864)[5].  

بعدما جدد داود باشا ولايته (1864-1868)[6]، أحيا لجنة المسح السكاني التي عاودت أعمالها في قضاء كسروان، بمؤازرة راعي أبرشية بعلبك المطران يوحنا الحاج (1861-1890)، البطريرك لاحقًا، الذي دعى الأهالي للتعاون. تمّمت اللجنة أعمالها خلال العام 1868 في عهد المتصرف فرنكو باشا (1868-1873)، فكانت ولادة الإحصاء السكاني الرسمي الأول في عهد المتصرفية[7]. والتساؤل الذي يبادر إلى الأذهان هنا هو التالي: ما هو الواقع الديمغرافي الذي أعطاه إحصاء 1861-1868 للمتصرفية؟

ثالثًا: مدلولات إحصاء 1861-1868 الديمغرافية

  1. مضمون إحصاء 1861-1868

إن الأرقام المنشورة لغاية الآن تشمل الذكور الملكفين فقط، أي الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين سن الـ15 والـ65 سنة والذين يدفعون ضريبة الأعناق إلى خزينة المتصرفية، وإن هذه الأرقام تختلف بين باحث وآخر[8]. فقد تطابقت الأرقام التي نشرت في سالنامه جبل لبنان لسنة 1305هـ/1887م مع الأرقام التي نشرها المتصرف اسماعيل حقّي (1915-1917)، ولكنها تختلف مع الأرقام التي وردت عند القنصل الروسي في مدينة بيروت قسطنطين بتكوفيتش (1869-1882)[9]. وقد جاءت الأرقام المنشورة على الوجه التالي:

جدول إحصائي رقم 1: أرقام إحصاء 1861-1868 المنشورة

الطائفة الدينيةسالنامه جبل لبنان/اسماعيل حقّيقسطنطين بتكوفيتش
موارنة5742057377
روم أرثوذكس1355213977
روم ملكيين86178706
دروز1246712278
مسلمون سنّة33943267
مسلمون شيعة42124142
بروتستانت، أرمن وسريان172180
المجموع9983499927

إنّ أرقام إحصاء 1861-1868 المنشورة لغاية الساعة تكشف عن أعداد الذكور المكلفين فقط في بلدات متصرفية جبل لبنان ومزارعها. إلاّ أن المسح السكاني الميداني المتوافر عن قضاء كسروان شمل عدد الذكور، من عمر يوم إلى عمر مئة سنة، المقيمين في بلدات القضاء المذكور والنازحين عنه باتّجاه بلدات المتصرفية ونواحي السلطنة العثمانية. كما شمل المسح المذكور عدد المهاجرين باتّجاه القطر المصري والعواصم الأوروبية. فضلاً عن ذلك، سجل المسح الهوية الدينية للسكان، ومواصفاتهم الأساسية، والعلل الجسدية الظاهرة، والصفات العامة المميزة لكل واحد.  

 التساؤل المطروح هنا هو التالي: ما هي الصورة الديمغرافية التي رسمها إحصاء 1861-1868 لعيّنة من بلدات قضاء كسروان، هي: إغبه، بزمّار، دلبتا، شحتول، عرمون وغادير؟

  • الديمغرافيا في كسروان 1861-1868

أظهرت عيّنة إحصاءات سكانية لبلدات من قضاء كسروان تحركات ديمغرافية داخل القضاء وباتّجاه نواحي السلطنة العثمانية والدول الأوروبية، على الصورة التالية:

جدول إحصائي رقم 2: عيّنة من التحركات السكانية في قضاء كسروان

البلدةعدد الذكور المسجلينعدد الذكور المقيميننسبة الذكور المقيمينعدد الذكور النازحيننسبة الذكور النازحينعدد الذكور المهاجريننسبة الذكور المهاجرين
إغبه261869،24 %830،77 %  
بزمّار1026361،77 %3938،24 %  
دلبتا29819364،77 %9732،55 %82،68 %
شحتول22818078،94 %4720،61 %10،45 %
عرمون29916856،19 %12641،15 %51،68 %
غادير452 44398،01 %91،98 %  

       المصدر: إحصاء 1868 السكاني لبلدات إغبه، بزمّار، دلبتا، شحتول، عرمون وغادير.

يبيّن الرسم البياني التالي نسبة الذكور المقيمين والنازحين والمهاجرين لعدد الذكور المسجلين في البلدات موضوع البحث.

رسم بياني عمودي رقم 1: نسبة الذكور المقيمين والنازحين والمهاجرين

يظهر الرسم البياني العمودي أعلاه نسبة نزوح مرتفعة للذكور عن البلدات موضوع البحث بالنسبة لعدد الذكور المسجلين فيها. لقد لامست النسبة المذكورة الثلث في إغبه ودلبتا والربع في شحتول والنصف في عرمون، وقد تخطّت الثلث في بزمّار. وتبيّن مراجعة إحصاءات البلدات موضوع البحث العائدة إلى سنة 1867، ولبلدات كسروانية أخرى، نسبة نزوح للذكور مرتفعة نحو مدينة بيروت مقارنة مع نسبة نزوح الذكور داخل أراضي المتصرفية وباتّجاه نواحي السلطنة العثمانية التي تراوحت بين 1,03 % كحدٍ أدنى و8,51 % كحدٍ أقصى.

رسم بياني عمودي رقم 2: نسبة النزوح من كسروان إلى مدينة بيروت

التساؤل المطروح هنا هو التالي: لماذا هذا الارتفاع بنسبة النزوح عن بلدات كسروان باتّجاه مدينة بيروت؟

بحسب القنصل الروسي في بيروت قسطنطين بتكوفيتش، أغرت المدينة نسبة مرتفعة من النازحين بسبب توافر سوق العمل ووسائل العيش فيها، حيث عمل النازحون في مهن مختلفة وحرف صغيرة. ويضيف بتكوفيتش، جذبت المدينة المذكورة حوالي أربعة الآف عامل من مسيحيي جبل لبنان[10].

بينما كان النزوح نحو بلدات المتصرفية ونواحي السلطنة العثمانية، أي باتّجاه السهول المجاورة للمتصرفية إن في البقاع أو عكار أو الجنوب، بهدف العمل بموجب عقود الشراكة الزراعية والعودة إلى بلدته في المتصرفية بعد جني المواسم. على هذه الصورة، كان النزوح من الريف بداية تباشير الهجرة[11]

أما بالنسبة إلى الهجرة من البلدات موضوع البحث، فأظهرت عيّنة الإحصاءات نسبة الذكور المهاجرين لعدد الذكور المسجلين بين 0,45 % كحدٍ أدنى و2,68 كحدٍ أقصى. وسجلت الإحصاءات المذكورة طلائع الهجرة من دلبتا وعرمون وشحتول إلى الإسكندرية وباريس وروميه ولندن.

بعد إحصاء 1861-1868 توقفت الإحصاءات السكانية الرسمية في متصرفية جبل لبنان، وبدأت سلسلة من التقديرات لعدد السكان.

رابعًا: التقديرات السكانية في المتصرفية

 عرفت متصرفية جبل لبنان تقديرين لعدد السكان، الأول بحدود العام 1882 للقنصل الروسي قسطنطين بتكوفيتش[12]، والثاني في مطلع القرن العشرين (1906) لعضو مجلس إدارة متصرفية جبل لبنان ابراهيم بك الأسود (1855-1940)[13]. وقد جاء عدد سكان البلدات موضوع البحث في التقديرين المذكورين على الوجه التالي:

جدول إحصائي رقم 3: تقدير عدد السكان في بلدات العيّنة المختارة

البلدةتقدير بتكوفيتش (1882)تقدير الأسود (1906)
إغبه2727
بزمّار3820
دلبتا317317
شحتول210226
عرمون277286
غادير4551027

المصدر: قسطنطين بتكوفيتش ، لبنان واللبنانيون، ص 61-62؛ ابراهيم بك الأسود ، دليل لبنان، ص 659-662.

بعد هذين التقديرين، جاء الإحصاء السكاني الرسمي الثاني خلال عهد متصرفية جبل لبنان، وأعطى بأرقامه مدلولات وافية عن حال المتصرفية الديمغرافي.

خامسًا: إحصاء سكان متصرفية جبل لبنان 1913-1915

01مضمون إحصاء 1913-1915

خلال العام 1913، أصدر الباب العالي بروتوكول تعيين أوهانس قوميجيان (1913-1915) متصرفًا على جبل لبنان، وضمّنه جملة مواد إصلاحية أوجبت المادة الرابعة إحصاء سكان متصرفية جبل لبنان، ذكورًا وإناثًا، من عمر يوم إلى مئة سنة، مقيمين ونازحين ومهاجرين[14]. عمل المتصرف الجديد على تنفيذ المادة المذكورة وسط موجة معارضة واسعة شعبيًا وصحفيًا على كامل أراضي المتصرفية. وتمّم أعمال المسح السكاني بين العامين 1913 و1915. فكان الإحصاء السكاني الرسمي الثاني في عهد المتصرفية. وجاءت أرقامه المنشورة في الدراسات متضاربة على النحو التالي:

جدول إحصائي رقم 4: أرقام إحصاء 1913-1915 المنشورة

دراسةمجموع السكان
اسماعيل حقّي[15]800 414
ابراهيم بك الاسود[16]800 514
عبد الله الملاح[17]540 407
هيام ملاط[18]800 418

التساؤل الذي يبادر إلى الأذهان هنا هو التالي: ما هي الصورة الديمغرافية التي أعطاها إحصاء 1913-1915 لسكان عيّنة البلدات موضوع البحث، أي إغبه وبزمّار ودلبتا وشحتول وعرمون وغادير؟

02 ديمغرافيا كسروان في إحصاء 1913-1915

أظهرت عيّنة الإحصاءات السكانية موضوع البحث تحركات سكانية بنسب متفاوتة نحو مختلف بلدات قضاء كسروان ونواحي السلطنة العثمانية، وبنسب مرتفعة باتّجاه القارات الإفريقية والأوروبية والأميركية.

جدول إحصائي رقم 5: ديمغرافية عيّنة من بلدات قضاء كسروان

البلدةعدد المسجلينعدد المقيميننسبة المقيمينعدد النازحيننسبة النازحينعدد المهاجريننسبة المهاجرين
إغبة2185525،23 %15671،56 %73،21 %
بزمّار251132 52،59 %6626،29 %53 11،21 %
دلبتا101261260،48 %13713،54 %26325،98 %
شحتول66743264،77 %14221،28 %9313،94 %
عرمون40325362،77 %8420،84 %6616،37 %
غادير64443267،08 %121،86 %20031،05 %

المصدر: إحصاءات السكان المسجلين في بلدات: إغبه، دون تاريخ؛ بزمّار، دون تاريخ؛ دلبتا، سنة 1914؛ شحتول، سنة 329/1913؛ عرمون، سنة 329/1913؛ غادير، دون تاريخ.

يبيّن الرسم البياني العمودي التالي نسبة السكان، الذكور والإناث سوية، المقيمين والنازحين والمهاجرين في عيّنة البلدات موضوع البحث استنادًا إلى إحصاء 1913-1915.

رسم بياني عمودي رقم 3: نسبة السكان المقيمين والنازحين والمهاجرين

يكشف الرسم العمودي أعلاه عن نسبتي نزوح وهجرة مرتفعتين في البلدات المشار إليها. وتبيّن مقارنة أرقام الجدول الإحصائي رقم 2 الواردة آنفًا بأرقام الجدول الإحصائي رقم 5 عن تزايد الهجرة في دلبتا بين الإحصاء الأول والإحصاء الثاني بنسبة 966 %، وتزايدها في شحتول بنسبة 3097 %، وفي عرمون 974 %. كما تبيّن المقارنة بين الجدولين الإحصائيين المذكورين بداية الهجرة من بلدات إغبه، بزمّار وغادير حيث سجلت الهجرة نسبة مرتفعة في البلدتين الأخيريين. فحصدت الهجرة في بزمّار حوالي ربع سكان البلدة، وفي غادير حوالي ثلث السكان.   

رسم بياني عمودي رقم: مقارنة الهجرة بين 1867 و1914

التساؤلات المطروحة هنا هي التالية: لماذا هذا التزايد في نسبة الهجرة في بلدات دلبتا، شحتول وعرمون بين عامي 1867 و1914؟ ولماذا طاولت الهجرة بلدات جديدة في المتصرفية مثل إغبه وبزمّار وغادير؟ وهي بلدات لم تعرف الهجرة سابقًا.

إن الإجابة عن التساؤلين المطروحين تفرض أصول ومصادر تاريخية تتناول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للبلدات التي طاولتها الهجرة، ولكن ندرة مثل هذه الأصول والمصادر تحتّم دراسة واقع المتصرفية للإجابة عن هذين التساؤلين.

سادسًا: واقع متصرفية جبل لبنان

عندما تمّ ترسيم حدود متصرفية جبل لبنان، بموجب المادة الـ3 من بروتوكول 9 حزيران 1861[19]، حُرم الجبل من المدن الحيوية والأراضي الزراعية الخصبة، وهي طرابلس وعكار من الشمال، صيدا وصور من الجنوب، سهل البقاع من الشرق، بيروت ومرفأها التجاري من الغرب. فحصرت المادة المذكورة سكان المتصرفية داخل بقعة بلغت مساحتها حوالي 3727 كلم2 ذات طبيعة وعرة جرداء[20]، تمايزت بثلاثة أحزمة على الشكل التالي: سهول ضيقة وخصبة زراعيًا امتدت من ضواحي طرابلس شمالاً إلى ضواحي صيدا جنوبًا؛ ناحية وسطى واقعة بين ارتفاع 300م و700م عن سطح البحر، وهي منطقة مهملة وبائرة؛ ومنطقة جردية مرتفعة فوق الـ700م، أصبحت قفرًا وتجرف السيول تربتها، بعد أن كانت حافلة بالغابات الخضراء[21].

فضلاً عن ذلك، أشار بولس نجيم في دراسة اقتصادية تناولة واقع المتصرفية إلى تدني نسبة الأراضي المستثمرة زراعيًا ضمن المتصرفية وإلى عجزها عن تأمين الإنتاج زراعي للاستهلاك المحلي، ما خلق ضائقة اقتصادية[22]. والتقى بول هوفلان مع بولس نجيم، وبيّن من خلال تقرير بالأرقام رفعه إلى غرفتي التجارة في مدينتي ليون ومرسيليا الفرنسيتين حال المتصرفية. فقدر فيه مساحتها بحوال 450000 هكتارًا (4500 كلم2) وقدر المساحة المزروعة منها بـ 3% أي ما يساوي 13500 هكتارًا (135 كلم2). كما قدر هوفلان في تقريره المذكور المساحة الاجمالية الصالحة للزراعة بحوالي 20000 هكتارًا (200 كلم2) أي ما يساوي 4،4 % من مساحة المتصرفية[23]. ألقى هوفلان عبر تقريره الضوء على ضيق مساحة الأراضي الزراعية في متصرفية جبل لبنان مقارنة مع مساحتها وعلى ولادة أزمنة اقتصادية.

أدت الضائقة الاقتصادية المذكورة عند نجيم وهوفلان إلى نشوء أزمة معيشية وولادة فئة اجتماعية معدومة سبل العيش سعت جاهدة إلى تخطي الضائقة عبر إيجاد البديل عن الزراعة لتنشيط الاقتصاد، ولكن دون جدوى. فلم يكن أمام تلك الفئة الاجتماعية المعدومة سوى الهجرة نحو الأميركيتين والقطر المصري وغيرهما من البلدان التي كثر روّادها في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر، والتي حصدت الشبان أصحاب اليد العاملة الناشطة والطامحة في حياة أفضل.

سابعًا: انعكاس واقع المتصرفية على البلدات موضوع البحث

انعكست تداعيات الضائقة الاقتصادية على مجتمع بلدات إغبه، بزمّار، دلبتا، شحتول، عرمون وغادير. وأدت إلى خلق فئة اجتماعية معدومة سبل العيش، تبحث عن مخرج لحل أزمتها. فكان البحر المخرج المرجو، بحثًا عن حياة جديدة وأفضل يتوافر فيها العمل والمستقبل الآمن.

تظهر مراجعة إحصاءات 1913-1915 السكانية لعيّنة البلدات موضوع البحث توزيع أعداد النازحين إلى بيروت ونواحي السلطنة العثمانية وأعداد المهاجرين على أصقاع الأرض كافة كما يلي:

جدول إحصائي رقم 6: أعداد النازحين والمهاجرين

البلدةعدد السكان المسجلينالنازحون إلى بيروتالنازحون إلى نواحي السلطنة العثمانيةالمهاجرون إلى القطر المصريالمهاجرون إلى أوروباالمهاجرون إلى أميركا الشمالية والجنوبية
إغبه2183 1 6
بزمّار25130 9 44
دلبتا10121729655164
شحتول6674328 83
عرمون40327419 47
غادير644115347154

المصدر: إحصاءات السكان المسجلين في بلدات: إغبه، دون تاريخ؛ بزمّار، دون تاريخ؛ دلبتا، سنة 1914؛ شحتول، سنة 329/1913؛ عرمون، سنة 329/1913؛ غادير، دون تاريخ.

يبيّن الجدول الإحصائي أعلاه أعداد كبيرة للمهاجرين من عيّنة البلدات موضوع البحث نحو القطر المصري والأميركيتين بالنسبة إلى أعداد النازحين منها باتّجاه بيروت ونواحي السلطنة العثمانية. فالتساؤل المطروح هنا هو التالي: لماذا أخذت التحركات السكانية في المتصرفية طابع الهجرة باتجاه دول العالم، وخصوصًا باتجاه القطر المصري وأميركا، وليس طابع النزوح باتجاه مدينة بيروت والأراضي الزراعية المجاورة للمتصرفية؟

تأتي الإجابة من خلال إشارة بولس نجيم وجهاد العقل إلى تعرض أهالي المتصرفية إلى تعديات، وحتى إطلاق نار، حين توجههم إلى المناطق المجاورة للمتصرفية بهدف الحصول على أراض لاستثمارها زراعيًا، أو تفقد أملاكهم في مدينة بيروت، أو متابعة مصالحهم الصناعية والتجارية فيها وخصوصًا استخدامهم مرفأ المدينة المذكورة للسفر أو العودة أو نقل البضائع[24].

في المقابل أخذت التحركات السكانية وجهة الهجرة لإستقطاب دول العالم وخصوصًا أميركا الجنوبية والقطر المصري اليد العاملة الشابة، بعد دخولهما في دائرة الاقتصاد العالمي. فجذبت الأولى المهاجرين بعد تصدير دولها للمواد الأولية إلى الأسواق العالمية، ولتقديمها أراض شاسعة المساحة ذات التربة الصالحة للزراعة، ولازدهار التجارة والصناعة فيها؛ وجذبت الثانية المهاجرين بعد تطور زراعة القطن فيها وفتح قناة السويس حيث ازدهرت الزراعة والصناعة والتجارة التي زاولها اللبنانيون المهاجرون وقطفوا ثمارها وخيراتها[25].

ثامنًا: تداعيات الهجرة على متصرفية جبل لبنان

أخذت تتوالى تداعيات الهجرة على اللبنانيين المقيمين كما على المغتربين واحدة تلو الأخرى مع بداية العقد الثاني من القرن العشرين، وتتفاعل لغاية اليوم. منذ ذلك العقد، تقاطعت العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية وولدت هوّة تتمدد ولا تزال بين اللبنانيين المقيمين والمغتربين.

من ناحية فوّض اللبنانيون المتواجدون في دائرة عالم الانتشار أقاربهم في بلداتهم الأم عبر وكلات قانونية لتسوية أوضاع أملاكهم وتصفيتها بالبيع. فشكل ذلك من قبل اللبنانيين المغتربين أولى أشاير قطع الاتصال بأقاربهم وتواصلهم مع الوطن الأم، وللأجيال الاغترابية المتحدرة منهم لاحقًا.

ومن ناحية ثانية، بتاريخ 30 آب 1924، عُقدت معاهدة لوزان بين لبنان وتركيا وفرنسا بحكم كونها دولة منتدبة. وأسست المعاهدة للهوية اللبنانية وسجلات الأحوال الشخصية، واعتبرت كل لبناني مقيم ضمن حدود دولة لبنان الكبير لبنانيًا حكمًا، ما لم يختر جنسية أخرى. وبالمقابل حرمت المعاهدة المذكورة اللبنانيين المهاجرين من الجنسية ما لم يختاروا ضمن مهلة سنتين الجنسية اللبنانية. ومُددت المهلة لغاية 29 أيلول 1958، ولم تمدد بعدها. وبذلك أصبح الذين هاجروا قبل تاريخ معاهدة لوزان ولم يختاروا الجنسية اللبنانية، وكذلك أولادهم من بعدهم، أي المتحدرين من أصل لبناني، محرورمون من الهويه اللبنانية على عكس ما هو معمول به في جميع دول العالم[26].

وبالإضافة إلى ذلك، يأتي الإحصاء السكاني للمقيمين والمهاجرين في دولة لبنان الكبير سنة 1924، ليبيّن تداعيات الهجرة، فضلاً عن مأسات الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، بالأرقام على بلدات متصرفية جبل لبنان عامة وعيّنة البلدات موضوع البحث على الصورة التالية:

جدول إحصائي رقم 7: أعداد السكان بين 1914 و1924

البلدةإحصاء 1914إحصاء 1924
إغبة218194
بزمّار251167
دلبتا1012424
شحتول667249
عرمون40382
غادير6442038

التساؤل المطروح هنا هو التالي: بعد قراءة هذا الجدول الإحصائي ومقارنة أرقام المقيمين سنة 1914 بأرقام المقيمين سنة 1924، أليس من الأفضل سماع كلام الأرقام بعرضهم للمأساة الديمغرافية التي عرفها لبنان آنذاك؟  


[1] رستم، أسد، لبنان في عهد المتصرفية، منشورات المكتبة البولسية، لبنان، 1987، ص 31-40؛ الملاح، عبد الله، متصرفية جبل لبنان في عهد مظفر باشا، مؤسسة خليفة للطباعة، الدورة، 1985، ص 7؛

Charaf, G., Communautés et pouvoir au Liban, Cèdre, Beyrouth, 1981, pp. 166-169; Rizk, K., Le Mont-Liban au XIXe siècle de l‘Emirat au Mutasarrifiya, Tenants et aboutissants du Grand-Liban, Kaslik, 1994, pp. 229-322; Akarli, E., The Long Peace Ottoman Lebanon 1861-1920, Center For Lebanese Studies & I. B. Tauris, London-New York, 1993, p. 29-32.

[2] رستم، أسد، لبنان في عهد…، ص 44.

[3] جاء عدد سكان متصرفية جبل لبنان في تقرير الكابيتان ليون فان على الوجه التالي 721 266 نسمة. عبد الله الملاح، “الحركة الديموغرافية في متصرفية جبل لبنان ومحاولة تنظيمها”، حنّون، 21 (1989-1992)، ص 9.

[4] رستم، أسد، لبنان في عهد…، ص 43 و52-53؛ الملاح، عبد الله، “الحركة الديموغرافية…”، في حنون، 21 (1989-1992)، ص 9.

[5] الملاح، عبد الله، “الحركة الديموغرافية …”، في حنون، 21 (1989-1992)، ص 6.

[6] لم ينه المتصرف داود باشا ولايته الثانية، فهو استقال قبل نهايتها مناورًا خلال العام 1868، فقبلت الاستقالة. لحد خاطر، عهد المتصرفين في لبنان، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1967، ص 27 و34-35.

[7] الملاح، عبد الله، “الإحصاء الديموغرافي الرسمي الأول في قضاء كسروان (1867)”، المسرّة، 82 (1996)، ص 688؛ الملاح، عبد الله، “الحركة الديموغرافية…”، حنّون، 21 (1989-1992)، ص 10.

[8] لمعلومات أوفر عن الاختلاف حول أرقام إحصاء 1861-1868، أنظر عبد الله الملاح، “الحركة الديموغرافية…”، حنّون، 21 (1989-1992)، ص 10-13 و29-31.

[9] سالنامه جبل لبنان، 1305هـ/1887م، ص 91؛ اسماعيل حقّي، (إشراف)، لبنان مباحث علمية واجتماعية، ج 2،  منشورات دار لحد خاطر، بيروت، 1993، ص 244؛ قسطنطين بتكوفيتش، لبنان واللبنانيون، دار المدى للطباعة والنشر، بيروت، 1986، ص 75. (معرّب).

[10] بتكوفيتش، قسطنطين، لبنان واللبنانيون، ص 77.

[11] لبكي، جوزف، الانتشار الماروني في العالم واقع ومرتجى 1840-2010، منشورات جامعة سيّدة اللويزة، لبنان، 2013، ص 77.

[12] بيتكوفيتش، قسطنطين، لبنان واللبنانيون، ص 75.

[13] الأسود، ابراهيم بك، دليل لبنان، المطبعة العثمانية، بعبدا، 1906، ص 705.

[14] الملاح، عبد الله، “الحركة الديموغرافية…”، في حنون، 21 (1989-1992)، ص 18.

[15] حقيّ، اسماعيل، (إشراف)، لبنان مباحث…، ج 2، ص 262.

[16] الأسود، ابراهيم بك، كتاب تنوير الأذهان في تاريخ لبنان، ج 1، مطبعة القديس جاورجيوس، بيروت، 1925، 136.

[17] الملاح، عبد الله، “الحركة الديموغرافية…”، في حنون، 21 (1989-1992)، ص 20.

[18] MALLAT, H., La démographie historique du Liban 1833-1868, in Histoire société et pouvoir aux Proche et Moyen Orient, t. 2, p. 204.

[19] رستم، أسد، لبنان في عهد…، ص 41.

[20] الملاح، عبد الله وديب، سليم، “حدود متصرفية جبل لبنان ومساحتها بين الواقع والاجتهاد”، قي حنون، 20 (1988)، ص 34.

JOUPLAIN, M., (Paul Noujaim), La question du Liban, 2e éd., Jounieh, 1961, p. 516.

[21] الملاح، عبد الله، متصرفية جبل…، ص 155؛ العقل، جهاد، الهجرة الحديثة من لبنان وتعاطي المؤسسات الرسمية والأهلية معها (1860-2000)، دار ومكتبة التراث الأدبي، بيروت، 2002، ص 60؛ لبكي، جوزف، الانتشار الماروني في العالم واقع ومرتجى 1840-2010، منشورات جامعة سيّدة اللويزة، زوق مصبح، لبنان، 2013، ص 76.

[22] JOUPLAIN, M., (Paul Noujaim), La question…, pp. 519-522 et 526-533.

[23] HUVELIN, P., “Que vaut la Syrie”, in L’Asie Française, décembre, 1921, p. 9.

[24] العقل، جهاد، الهجرة الحديثة…،ص 60.

 JOUPLAIN, M., La question…, p. 529.

[25] ضاهر، مسعود، الهجرة اللبنانية إلى مصر هجرة الشوام، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1986، ص 104-105؛ العقل جهاد، الهجرة الحديثة…، ص 58؛

JOUPLAIN, M., La question…, pp. 516-517; LABAKI, B., L’émigration Libanaise en fin de période Ottomane (1850-1914), in Hannon, 19 (1987), pp. 13-14.

[26] أبو ديب، بدوي، الجنسية اللبنانية، المنشورات الحقوقية، مكتبة صادر ناشرون، بيروت، 2001، ص 51-88.

Scroll to Top