“فضيلة الإيمان”
الخوري شوقي كرم
فضيلة الإيمان Livio Fanzagaباللغة الايطالية عن دار نشر البولسية الايطالية، سنة 2003 تحت عنوان: “الفضائل الإيمانية”. وبمناسبة سنة “الإيمان”، رأى الخوري شوقي كرم، من كهنة الأبرشية البطريركية المارونية على منطقة جونيه، وهو عضو في فريق التنشئة في الاكليريكية البطريركية المارونية في غزير، أهمية الموضوع، فنقل بتصرف إلى العربية الفصل الثاني الذي يتحدث فيه الكاتب عن “فضيلة الإيمان”. لقد هدف الخوري شوقي كرم إلى تعزيز معرفة المؤمن الناطق باللغة العربية وهو يلبّي النداء للسير إلى العمق في “سنة الإيمان” وليقوي فهمه لفضيلة الإيمان وعيشه لها.
بعد عرضه لمقدمة يشرح فيها الكاتب كلمة “فضيلة”، ينتقل ليتوسّع في درس “فضيلة الإيمان” تحت العناوين التالية:
- الإيمان هو أساس الحياة المسيحية
الإيمان هو الأساس في الفضائل الإلهية الثلاث. بالإيمان ينفتح الإنسان على سرّ الله ويعرف حبّه. بالإيمان يحقق الإنسان قفزة نوعية في حياته. بدون الإيمان يبقى أفق الإنسان مغلقًا على هذه الدنيا. أمّا بالإيمان فينفتح عقله على الأبدية، وهذا يطبع حياته بختمٍ يغّير في نوعية حياته. بدون الإيمان يفتش الإنسان عن السعادة ومعنى الوجود، ويبقيان مثل الرمل بين يديه. مع الإيمان تصبح السعادة ممكنة ويكتسب الوجود معنًا عميقًا يستحق العيش. بدون الإيمان يشبه الإنسان مركبًا في عرض البحر لا يعرف الغاية من السفر. الإيمان يحدد للإنسان الهدف الأخير لحياته.
حين يدخل الإيمان بالنعمة على حياة إنسان يقلب حياته رأساً على عقب. تماماً مثلما حدث لبولس على طريق دمشق. وهذا يحدث لكل مؤمن بالوراثة حين يضيء نور الإيمان الحقيقي في حياته، يشعر بولادة جديدة.
يمكن تشبيه الإيمان بجذور الشجرة. منها تأخذ شجرة الفضائل كل ماويتها لتنمو وتتجدد. ومهما حدث للشجرة، تواصل الحياة امكانيتها ما دام الإيمان حيًّا وفاعلاً. ولكن حين ييبس الإيمان لسبب أو أخر، تموت الشجرة.
في الزمن الذي نعيش لم يعد يكفي الإيمان الموروث. فالإيمان الذي يستطيع أن يواجه التحدّيات هو الإيمان المتجذّر بالمعرفة والإختبار الشخصي ليسوع المسيح.
- الإيمان عطية النعمة
من أين يأتي الإيمان؟ ما هي المسؤولية الخلقية تجاه الإيمان التي تحوّل الإنسان إلى مسيحي؟ أسئلة أساسية تطرح أمام تأكيد الكتاب المقدّس على ضرورة الإيمان للخلاص. البعض يدّعي أنه لا يؤمن لأنه لم تعطَ له الفرصة. يمكن أن يكون هذا صحيح. من ناحية ثانية لا أحد يمكنه أن يصل وحده للإيمان. من أين إذا سرّ هذا الإيمان الذي يزهر قلب الإنسان؟
يأتي الإيمان من علُ. هو عطية من النعمة الإلهية. بدون لمسة الله لا يمكن لا للقلب ولا للعقل أن ينفتحا ويريا العالم الإلهي. لذلك فالمبادرة الإلهية هي في أساس الإيمان، ولهذا السبب يدعى فضيلة معطاة. يشكل الإيمان عطيّة من الروح القدس، الذي بدونه لا يمكن الإيمان. حتى ولو جاء الإيمان على يد إنسان فهذا لا يلغي أبداً هذه الحقيقة الجوهرية. في سرّ المعمودية الذي يطلبه الأهل لأولادهم، تعمل قوّة الروح القدس، الذي إلى جانب نعمة التقديس يفيض أساس فضيلة الإيمان وباقي الفضائل في قلب الطفل. الله هو الذي يطرق الباب قبل الدخول إلى البيت. والبيت، الإنسان، بدون نور الإيمان يبقى غارقًا في ظلمة الجهل والموت، وعاجزًا عن القيام بأي خطوة نحو الحياة والخلاص.
بدون النعمة، لا يستطيع الإنسان المجروح والمُظلم بالخطيئة أن يؤمن. وهذه النعمة ليست خاصة أحد، لأن الله يريد خلاص الجميع. فعمل التبشير ليس وحده السبيل إلى الإيمان، بل وأيضاً عمل الروح في ضمير الإنسان قادرٌ أن يفتح قلب كل إنسان على الإيمان. ولهذا لا يوجد في العالم إنسان بالعمق لم يلمس بنور المسيح القادر أن يقوده إلى الإيمان.
الروح القدس هو المبشر الأول والعامل في قلب الكنيسة وفي العالم من خلال ضمير الإنسان. لهذا فالإيمان عطية مجانية معروضة على الكل، لأن الخلاص متعلّق بها. ولكن إذا لم يخلص الكلّ فلأن الخلاص شامل ومعروضٌ على الكل ومرتبط بحريتهم.
- الإيمان نورٌ عظيم.
في حدث الإيمان، يكشف الله ذاته للإنسان، ويهبه في الوقت عينه نوره وحبّه. لذلك فالإيمان هو لقاء بين الله والإنسان. المبادرة إلهية ولكن الجواب بشري. في الأناجيل نرى يسوع يبادر إلى لقاء البشر ويطلب منهم فعل الإيمان به. يبادر يسوع ويكسر كل عدم إمكانية التواصل بين الله والإنسان، ويؤسس الإيمان على مستوى القبول المتابدل. “أعطني أن أشرب” تؤكد هذه المبادرة الإلهية التي تجعل يسوع في وضع إرتباط وحاجة للإنسان. يلعب تواضع الله الدور الأهم بالنسبة إلى الإيمان. لا يفرض الخالق نفسه، بل يضع نفسه في موقف الشحاذ. فهو يطلب أن نساعده ليساعدنا. السامرية المنذهلة بسر يسوع، وتحت تأثير النعمة، صارت قادرة على فهمه وعلى قبوله: “تعالوا انظروا رجلاً قال لي كل شيء فعلته. لعلّه المسيح؟”.
في هذا نرى كل تركيبة الإيمان: الله يبادر والإنسان يجيب. وحتى جواب الإنسان هو بحاجة للنعمة، لأن الإنسان بقوته لوحده لا يستطيع أن يجيب على هذه المبادرة. ولكن قراره الحرّ يبقى أساسيًا بالنسبة إلى لخلاص. يخلص من يجيب على نعمة الإيمان ويهلك الذي يرفضها نهائياً. ويمكن للإنسان أن يرفض استقبال يسوع يوم يقف على باب القلب. يجعله كبرياؤه ورغباته أعمى وأطرش. هذا التحجر أمام حب الله الرحوم هو الخطيئة ضد الروح القدس الذي يحمل من الله خلاص النفس البشرية.
حبّة الإيمان التي يزرعها الله في قلب الإنسان تقتضي فضيلة التواضع لكي تزهر. فأرض التواضع تعطي بذرة الإيمان أن تنمو وأن تتجذّر في قلب الإنسان. كثيرون لا يؤمنون لأنهم ليسوا متواضعين. والتواضع هو حالة الذين يعترفون ببعد المخلوق المحدود والضعيف الحاضر فيهم، وهذه المحدودية تحتاج إلى الله؛ فالله يساعدهم ليخلصهم. الكبرياء هو الحاجز الأكبر بالنسبة إلى الإيمان. كل نفس تتربّع على عرش الله تصبح وثنية وتأخذ تمجيداً وعبادة من البشر. كيف يمكن أن نركع أمام الله العليّ؟ تللزمنا فضيلة التواضع التي تعطي الإنسان أن يقبل ما هو عليه بضعفه ونقصه كمخلوق. المتواضع يقبل بعقله حقيقة تتخطاه. لا يمكن للقلب المتواضع أن لا يثق بحب الله. فالمتواضعون لا يجدون صعوبة في أن يؤمنوا، حتى وإن كانوا غير معفيين من الشك، والمحن والتجارب. في حين المتكبر يغلق على ذاته ولا يسمح لنور الإيمان بأن يدخل إليه، فالمتواضع يقبلهما بفرح!!
- الإيمان ثقة وتسليم.
على عكس ما يعتقد أن الإيمان قفزة في المجهول، فالذي لديه نعمة الإيمان ينعم في غمر من النور يؤهله لأن يرى ما لا يستطيع أن يراه فقط بقدرته العقلية. فالإيمان يشحذ العقل بنور يقدّره أن يدرك حقائق في الحياة لا يستطيع إدراكها لوحده. فمن يقبل عطية الإيمان يعبر من الظلمة إلى النور، كما حصل لبولس على طريق دمشق. هذا العبور من ظلمة الجهل والخطيئة إلى نور المعرفة والنعمة، هو قدرة تعطي الإنسان أن يفهم ذاته ويدرك معنى وجوده، ويجد الأجوبة على أسئلة وجودية مثل الألم والشر والخير والموت، ألخ. بدون نور الإيمان يمكن للإنسان كما كانت حال الفريسيين (متى 15/14) أن يعتقد أنه يملك ملء المعرفة وحياته صالحة وهو لا يحتاج شيئًا. ولكن حين يضيء الرب بنور الإيمان على الشخص يفتح بصيرته فيدرك نقصه وخطيئته ورحمة الله في آن واحد. مع نور الإيمان نتحول، مثلما تحوّل الأعمى، إلى أشخاص قديرين أن نبصر جمال الكون والحياة ونمجّد الله ونشكره ونعبده ونتبعه. هذا لا يعني أنه في مسيرة الإيمان لا نمّر بظلمات الشك والخطيئة، ولكن الإيمان يغذي الشخص بالثقة بمواعيد الله ما يكفي ليبدد هذه الظلمات. ويضيء نور الإيمان العقل ليستطيع أن يفهم أيضاً حقيقة الله. ويشبه الإيمان بسراج مضيء يستطيع أن يقود في طريق المسيح. لذلك فالمسيحي والكنيسة التي تحسن إبقاء سراج الإيمان مضاء تتحول بفعل نوره إلى “نور العالم”، كما قال المسيح نفسه.
بما أن الإيمان يفترض خضوع العقل لحقيقة تتخطاه، فهو يحتاج إلى موقف تواضع. ولكن هو أيضاً فعل ثقة مطلقة بالله الذي يكشف حبه. ولهذا فالقلب القاسي أمام نداءات الله يحتاج لجهد كبير ليلين. من السهل التسليم لله حين تكون مسيرة إيماننا سهلة بسبب حضور الله ورؤياه الدائمة. ولكن حين ندخل في صمت الله وظلمة الإيمان وحين نواجه العاصفة والشدّة يصعب علينا التسليم ويصبح الجهد أعظم لنحافظ على ثقتنا بحضور الله. الرسل عاشوا هذا الإختبار أكثر من مرّة في بحر طبريا، وجاء الرب إلى معونتهم لئلا يشكّوا ويغرقوا في الظلمة.
في الإيمان نعرف بمن آمنّا كما يقول بولس في رسالته إلى تلميذه تيمتاوس1/12. والذي سلمنا أمرنا له ووثقنا به هو الحقيقة نفسها، وهو لا يُغش ولا يغش، وأمينٌ دائماً لمواعيده. لا يمكن لله الآب إلا أن يكون آب حتى ولو اختبرنا صمته أحياناً. يسوع، مريم، إبراهيم، كلهم تابعوا المسير بالرغم من صمت الله واثقين بأن الله لا يترك من وضع ثقته به. يُمتحن إيماننا خاصة في المرض والألم والموت، فإذا كان مبنيًّا على العواطف يحترق وإذا كان كالذهب فسيتألق. ويسوع أعطى مثلاً عن هذا التسليم الضروري في الإيمان حين دعا بطرس للسير نحوه على الماء (متى 14/22-32).
كمال الثقة في الإيمان هو التسليم. والتسليم يتطلب انفتاح القلب بثقة على حب الله وعنايته ورغبته في خلاص الإنسان، وتسليم الحياة بكليتها له. في هذا التسليم، يتخلّى الإنسان عن مشاريعه الخاصة ليتبنى مشروع الله الخاص به فيكشفه له بيسوع المسيح ويحققه له بقوّة الروح القدس. ومريم هي مثال في مسيرة التسليم المطلق هذه لمشيئة الله.
- الإيمان قرارٌ شجاع
طلب الرب من إبراهيم أن يترك أرضه وعشيرته ويتبعه. فانطلق إبراهيم كما أمره الربّ (تكو 12/1-4). مسيرة الإيمان هي عبور. يطلب الله منّا أن نتخلّى عن عالم بنينا فيه طمأنينتنا لندخل في عالم جديد لا ندرك آفاقه باللحم والدم. ولذلك فعل الإيمان لا يطلب تسليم القلب والعقل فقط بل الإرادة الحرة، لنأخذ قرارًا جذريًا بالنسبة إلى الحياة العادية. في الإيمان يقرر الإنسان مصيره في الزمن والأبدية.
في بداية مسيرة الإيمان يترك الإنسان الطمأنينة ليدخل في مغامرة تتطلب منه قرارات نبيلة وشجاعة. قبل دعوته كان لابراهيم كل ما يحلم به إنسان من أرض وعائلة ووطن وبيت ومشروع حياة. دعوة الله له خلقت قطعاً جذرياً مع الماضي. طلب منه انفصالاً جذريًا، موتًا داخليًا حقيقيًا إضافة إلى التسليم الخارجي. لقد وضعته دعوة الله أمام خيار لا يمكنه تجاهله ولا تأجيله. لا يمكن لأحد أن يتوّهم، فباب الدخول للحياة ضيّق. وللدخول في هذا الباب، لا بد من الموت عن الذات، والقرار باتباع دعوة الله التي لا تقبل تردداً أو تماهلاً.
نقرأ في دعوة مريم الفائقة الطبيعة، شرحًا من قبل الله لمشروعه ونورًا للعقل ونعمة استطاعت بها مريم فهمه. لقد اجابت مريم بتصميم كلّي :”ها أنذا أمة الرب” (لوقا 1/38) وصارت شريكة في مشروع الخلاص. لا أحد يستطيع أن يعانق الإيمان دون التعرّي عن الإنسان القديم والسير نحو المستقبل الذي يوجه إليه الله. وفي قلب هذه المسيرة الشجاعة يكتشف الإنسان إلها يكشف له معالم الدرب خطوةً تلو خطوة حتى يقوده إلى ملء النور، إلى الأبدية.
وكما ترك سمعان بطرس وأخوه والدهما والشباك وتبعا يسوع (متى 4/18-19) هكذا في الإيمان نحن مدعوون أن نترك كلّ شيء وننطلق في مسيرة مغمّسة بالسرّ. يتعلق الأمر بالمراهنة على يسوع وعلى الثقة المطلقة بكلامه. هذا الأمر يتتطلب قراراً شجاعاً: فهو قفزة في عالم جديد وحده الله يعرف كل أسراره. لأجل يسوع ولأجل كلمته ألقي شبكتي.
- قلب الإيمان هو يسوع المسيح
يختلف الإيمان المسيحي عن الإيمان في باقي الديانات التي بفضل نور العقل تؤمن بالله الخالق والصالح والمخلص؛ إنه إيمان بإله تجلّى لمخلوقاته الضعيفة بفيض حبّه العجيب. لولا مبادرة الحب الإلهية التي تجلّت بتجسد الإبن الوحيد يسوع المسيح في قلب التاريخ البشري لما استطاع إنسانٌ أن يعرف الله المحبة، الله الكثير المراحم، إله التواضع والسلام، إله النعمة والفرح.
لذا فالإيمان المسيحي هو إيمان بيسوع المسيح إبن الله، مخلص الجنس البشري وفاديه، يسوع الذي يضيء كل تاريخ الخلاص من آدم حتى نهاية الأزمنة حين سيأتي بالمجد. كمسيحيين لا نؤمن بالله بالمطلق، بل بأبي ربنا يسوع المسيح، الذي رأيناه في وجه الكلمة المتجسد: “من رآني يا فيلبس رأى الآب” (يوحنا 14/9)، أي معرفة لله التي لا تمرّ بيسوع المسيح تبقى معرفة بشرية محضة.
كثيرون من المسيحيين يبقون على هامش هذا الإيمان المتجسد، ما لم يسجدوا أمام المسيح ويعلنوا مثل توما: “ربي وإلهي” (يوحنا 20/28). بيسوع وحده، الإنسان الحق والإله الحق، نستطيع الدخول إلى سرّ الله في جوهر حياته كحب ثالوثي.
كل حقائق الإيمان الأخرى الخاصة بالمسيحية تنبع من سرّ الثالوث الأقدس وتجسد الإبن الأزلي، نواة الإيمان المسيحي في صلاته وعبادته.
- الإيمان يتخطى العقل
لا شك أنّ الإيمان يتخطى بكثير العقل. لا أحد يستطيع الدخول إلى قلب الإيمان المسيحي بدون النعمة المُنيرة. ينير يسوع المؤمن في ما يخص شخصه: “لا أحد يستطيع أن يأتي إليّ ما لم يجتذبه الآب الذي أرسلني” (يو6/44). ويؤكد القديس بولس أن أفكار ومشاريع الله هي جنون بالنسبة إلى العقل البشري: “لا يمكن للإنسان الطبيعي أن يفهم أمور روح الله؛ فهي جنون بالنسبة إليه، وليس قادرًا على أن يسمعها، لأنه لا يمكن أن يُحكم فيها إلاّ بواسطة الروح القدس”. ولعل الصليب الذي تمّ به فداؤنا هو علامة الجنون هذه بالنسبة إلى العالم الذي لا يستطيع أن يرى فيه سوى جهالة وعلامة شك وعثرة (1 كور /18-20).
إنها لحقيقة أن العقل البشري بمحدوديته لا يستطيع أن يفهم أسرار الله بدون النعمة. كيف للعقل البشري أن يقبل سرّ التجسد أو سرّ القيامة؟ وكيف للعقل البشري أن يقبل الكنيسة في بعدها الإلهي كسرّ الخلاص وهي مؤسسة بشرية منظورة؟
مهما بلغ العقل من درجات الإستنارة، لا يستطيع أن يصل إلى أكثر من عتبة كشف السرّ الإلهي. وهنا لا بد من الإشارة إلى وجود الخطيئة التي تزيد من محدودية العقل في كل ما يخص الله. إذا أضفنا الخطايا الشخصية إلى خطيئة البدايات التي فقد الإنسان بسببها النعمة والحكمة، يصبح لدينا قوّة من الظلمة القادرة على إعماء العقل والسير به بعيداً عن الله. بالرغم من سمّو العقل وقدرته على الوصول إلى حقائق خلقية وروحية، فإن الشهوة والرغبات تعمل على إظلامه وتبلبل قدرته على الحكم الصحيح (روما 1/18-23).
بالرغم من أن العقل البشري يميل بطبعه للبحث عن الحقيقة، فكم مرّة تنكّر هذا العقل بأن لهذا العالم المنظور خالقًا؟ وأن الإنسان حيوان متطور؟ وجعل من الرذائل فضائل؟
- الإيمان لا يناقض العقل
الآباء واللاهوتيين أهمية دور العقل في مسيرة الإنسان نحو الله. ونتكلم هنا على العقل المستقيم، أي على استعمال نور العقل، الذي دعوته الأساسية هي التفتيش عن الحقيقة. إلى جانب هذا التأكيد يشير هؤلاء الآباء واللاهوتيون محدودية العقل الذي بدون النعمة والإيمان لا يستطيع أن يصل بالإنسان إلاّ لمسافة قصيرة من الطريق إلى الله. وحده العقل المنار بالإيمان يستطيع أن يستوعب هذه القفزة من الطبيعي إلى الفائق الطبيعة.
والله من فيض محبته يعطي علامات كثيرة للإنسان تؤكد وجوده وحضوره في تاريخ البشر لكي يستطيع العقل البشري أن يعبر من الظلمة إلى النور، نور الإيمان، ويفهم أن فعل الإيمان ليس فعلاً مبهماً. ولهذا فاستعمال العقل بطريقة صحيحة يمكنه أن يجهز الأرض الخصبة للإيمان.
بدون شك، احتاج الرسل لكي يؤنوا بحقيقة معلّمهم إلى وحي الداخلي من الآب: “ليس اللحم والدم كشفا لك ذلك يا بطرس، بل أبي الذي في السماوات” (متى 16/17). ولكن هذا الإعتراف الشخصي لبطرس لم يكن خالياً من التفكير الشخصي، خصوصًا أنه عاين الكثير من الآيات التي صنعها معلّمه الذي دعاه لاتباعه. ولهذا فالنعمة تأتي لمعونة العقل حتى يستطيع أن يحسن قراءة علامات الأزمنة ويعبر إلى الإيمان.
يستطيع العقل البشري أن يكون خير خادم للإيمان وبالأخص في نقل البشرى. فالإيمان المنوَّر بالعقل يستطيع أن يجيب بمنطق على الأسئلة الوجودية التي يطرحها كل إنسان حول الوجود ومعنى الوجود، وأن يقدّم له براهين وحججًا مقنعة. يمكن التأكيد أن الفكر البشري الصحيح لا يبعد عن الله بل يقرّب من الله، وهذا ما يتأكد لإنسان اليوم في مجالات كثيرة من نتائج العلوم التي وصل إليها.
يتناغم العقل مع الإيمان، ويضفي نور الإيمان قيمة كبيرة على العقل ويقوده إلى حقائق لا يمكن لوحده أن يدركها. والشواهد في التاريخ كثيرة تؤكد إلى أي مدى يستطيع الإيمان أن ينير العقل وينقيه.
- ليل الإيمان المظلم
لا شك أن الإيمان هو نور عظيم يكشف سر الله والإنسان. وليتورجيا المعمودية، وبالأخص ليلة الفصح، تشير لهذه الناحية من الإيمان، وهي عبور من الظلمة إلى النور. لهذا كان المعمدون الجدد يدعون المنوَّرين (عبر 6/4). ولكن من الضروري التأكيد أنه بالرغم من هذا النور الإلهي الفائق الطبيعة، يبقى الإيمان مظلمًا. هذا لأن العقل البشري الذي قبل الحقيقة الموحاة، يبقى في مجال معرفة محدودة ومجزّأة، لن يستطيع مرّة أن يدرك بها سرّاً يتخطاه بكثير ولا يتركه أبداً يمتلكه.
ما دمنا حجاجًا على هذه الأرض، لا يمكننا أبداً أن ندّعي هذه المعرفة المطلقة التي ستعطى لنا كمكافأة في الآخرة حين نرى الله وجهاً لوجه (1 يو3/2). أمّا الآن “فنَحنُ اليومَ نَرى في مِرآةٍ رُؤَيةً مُلتَبِسة، وأَمَّا في ذلك اليَوم فتَكونُ رُؤيتُنا وَجْهًا لِوَجْه. اليَومَ أَعرِفُ مَعرِفةً ناقِصة، وأَمَّا في ذلك اليَوم فسَأَعرِفُ مِثْلَما أَنا مَعْروف” (1قور13/12). صحيح أن المؤمن في مسيرة الإيمان يدخل تدريجياً في أبعاد هذا السر لكنه لا يدّعي يوماً أنه أدرك هذا السر بكليته، كما يؤكد كبار النساك والروحانيين الذي أعلنوا عماهم وعدم قدرتهم على التعبير بكلمات بشرية عن الذي اختبروه ورأوه.
يأتي الإيمان المظلم من الله نفسه الذي يكشف وجهه ويخفيه عنا في مسيرة حجّنا على هذه الأرض. فهو يختفي حين يتجلّى. إنه كالشمس الطالعة وراء الغيوم، نشعر بحرارتها ولا نراها. والوحي الإلهي وصلنا عبر وسائط كشفته ولكن بقي محتجباً وراءها. فهو يعطينا ما يكفي لنؤمن، لكنه ينكر علينا هذا اليقين الذي يزيل كل شكّ. لذلك، فجواب الإيمان عند لذي يغامر في دربه، هو نور وظلمة في آن واحد.
ويسوع في بشريته يجسد هذه الحقيقة. فهو إله ولكنه يختفي وراء الإنسان. فبشريته تكشف سرّ الله وتخفيه في الوقت نفسه. لذلك فالإيمان نور وظلمة في آن واحد.
وإذا ما فكرنا في كل حقائق الإيمان وجدنا فيها هذين الوجهين: الظلمة والنور. الكتاب المقدس هو بدون شك كلمة الله، ولكن متجسدة بكلمات بشرية وبكاتب بشري. الكنيسة هي بدون شك حقيقة إلهية لأنها بطبيعتها تشكل جسد المسيح السري. ولكنها في الوقت عينه مؤسسة من بشر محدودين، مع نقائصهم وخطاياهم. وهذا ما نقوله في كل الأسرار أيضاً.
يكشف الله نفسه محتجباً، في عمل الخلق والخلاص. هنالك ما يكفي من النور لنؤمن، وما يكفي من الظلمة حتى لا نؤمن، يقول باسكال. وشاءت الحكمة الإلهية أن يكون الأمر كذلك، حتى يكون الإيمان فعل ثقة وتسليم، وبالتالي استحقاق. بهذا الشكل، يمكن التكلم على الإيمان كخيار حرّ ومسؤول.
- الإيمان حرّ
إن تأكيد حرية الإيمان يشير قبل كل شيء إلى حرية المخلوقات تجاه الله. وقد شاء الله أن يكون كذلك، لكي يكون للبشر إمكانية قبول أو رفض حقيقته وحبه. هي مغامرة الحب الإلهي التي شاءت أن يكون عند الإنسان القدرة ليرفض كل مبادرة إلهية. ومنذ بداية التاريخ حتى اليوم، كثير من البشر أداروا ظهرهم لله. وهذا يؤكد أن الإنسان بمواقف يمكنه أن يقرر مصيره الإلهي، ويقبل حتى العمق تحدّي الحرية المعطاة له.
تماماً كما الأهل الذين يضعون في الوجود ولداً يمكنه أن يكون تعزيتهم في المستقبل أو سبب ألم واضطراب. وبالرغم من ذلك يأتون به إلى الوجود بفرح ويقودونه في طريق الحياة.
في الواقع الحرية البشرية موجهة نحو الخير بالرغم من ثقل الشهوات وتجارب الشرير. وكل إنسان يبني مصيره في الزمن وفي الآخرة من خلال خيارته الحرّة. الله يأتي لنجدة هذه الحرية ليعطيها النعمة لتقود الإنسان في طريق الحق، ولكن لا ينزع أبداً هذه الحرية عن إنسان، لئلا ينقص من كرامته ويناقض ما سبق وأسسه في مشروع الخلق.
لقد خلقنا الله أحرارًا ووضع أمامنا طريق الخير والشر، طريق الموت والحياة. وبصوته الذي يتردد في ضمائرنا يدلنا على طريق الخير التي يحقق الإنسان فيها سعادته ولكنه لا يفرض ذاته عليه. لا يرغم الله أحدًا على شيء، بل يدعو. فالحب الذي ينتظره منا لا قيمة له إذا لم يكن قراراً شخصياً حرّاً من القلب والعقل كل الكتاب المقدس يشهد لهذه الحرية المعطاة لنا. فالله آب يدعو، يشجّع، يؤدّب، ولكن لا يرغم أبداً البشر على صنع ما لا يريدون.
هذا التدبير الإلهي يتجلّى بشكل خاص في الإيمان الذي هو عطية ولا يمكن أن يُفرض على إنسان. في المعمودية يقدّم الأهل الولد ليدخل في مسيرة الإيمان، ولكن على المعمّد أن يختار البقاء في المسيرة أم لا.
ولهذا لا يمكن لأحد على الأرض أن يفرض الإيمان على شخص، بل يعرضه عليه بالتبشير والمثل الحيّ والشهادة الحقة، تاركاً للنعمة أن تفعل فعلها، وأن تنمي الزرع. صحيح أن الله يريد قلبنا، ولكننا وحدنا مؤهلون لأن نعطيه إياه.
ليس الإيمان فعلٌ حر، بل أيضاً يحرّر. وهذا ما نختبره بالإيمان حين يعبر بنا من عبودية الخطيئة إلى حريّة أبناء الله. فإذا ترك المسيحي طريق الخير، سيجد أن إيمانه ذبل ومات، ويعود إلى عبودية الشرير والموت. في حين الإيمان المشتعل بالنعمة يعطي الإنسان أن يذوق حرية أبناء الله.
- الإيمان أكيد.
كما أشرنا في السابق أنّه بالرغم من نور الإيمان، يبقى إدراك سرّ الله يتخطى بكثير قدرتنا البشري. هذا ما يؤسس حرية فعل الإيمان. لهذا الإيمان المظلم لا يمنع أن يكون في الإيمان يقين عميق أعمق من كل الحقائق العلمية التي يدركها العقل البشري. يقين الإيمان إختبار يعرفه جيّداً المؤمن. فهو قوّة تعطيه أن يصمد في وجه تجارب الحياة وعواصف الشك. هذا ما يجعل المؤمن مستعدًا لأن يبذل ذاته في سبيل الإيمان.
يقين الإيمان الذي يعطي الإنسان كرامة وعظمة خلقية يأتي من الله. يقين الإيمان يأتي من عمل النعمة التي تفتح العقل على تألق الحقيقة الإلهية وتعطي القلب أن يذوق الحب الإلهي. نعمة الإيمان نفسها هي التي تقوّي الإرادة وتوليها القدرة على قبول الوحي الإلهي. لهذا، كما تقول الرسالة إلى العبرانيين، المسيحي مدعو أن يتقدّم في إيمانه ونظره مسمّرٌ بالمسيح أساس ومكمل الإيمان (عبر 12/2).
وبما أن يقين الإيمان هو نعمة من الله، فقبول هذه النعمة يعود إلى المؤمن وإلى سهره الدائم على التفاعل معها واستثمارها كأي نعمة أخرى لتنمو فيه وتعطي ثمارها. فالعالم وما فيه مستعد دائماً أن يغوي المؤمن ويبعده عن الثبات في إيمانه. فإن ترك المؤمن الشك يأسر قلبه، فإنه يعشعش فيه ويقوده تدريجياً إلى فقدان إيمانه. لذلك فالمؤمن مدعو أن يسهر حاملاً سراج الإيمان وعاملاً بالمحبة ليؤمّن له الزيت الكافي حتى يبقى مشتعلاً.
- الإيمان معرّض للامتحان.
وقالَ الرَّبّ: ” سِمعان سِمعان، هُوذا الشَّيطانُ قد طَلَبكُم لِيُغَربِلَكُم كَما تُغَربَلُ الحِنطَة. ولكِنَّي دَعَوتُ لَكَ أَلاَّ تَفقِدَ إِيمانَكَ. وأَنتَ ثَبَّتْ إِخوانَكَ متى رَجَعْتَ ” (لوقا 22/31-32). إن فضيلة الإيمان من بين كل الفضائل هي التي تتنقّى وتتطهّر في نار الامتحان. لهذا لا يجب أن نندهش إذا كانت مسيرة الإيمان ممتلئة أشواكاً وتحديات وصعاب، ألخ. فالمزمور يقول: “الله يمتحن القلب والعقل” (مز 7/10). إمتحان الله للإيمان يعطي المؤمن أن يتقدم في مسيرة النضج الروحي ويساعده على معرفة ذاته بحسب حقيقتها. ومثل بطرس واضح: متأكداّ من إيمانه، أعلن بطرس بأنه مستعد للذهاب مع يسوع حتى الموت (لوقا22/33). ولكن امتحان الإيمان الذي مرّ به كشف له ضعف إيمانه ونقصه. فإذا تخطى المؤمن المحنة بالإيمان بيسوع والثقة المتجددة بالله، فهذا يعطيه أن يتقوى في إيمانه وفي باقي الفضائل على طريق الخلاص. عندها يجد المجرّب ذاته أمام نفس أكثر خبرة وأكثر تصميمًا على الجهاد (1 بطرس 1/6-9).
تجدر الإشارة هنا إلى أن جهادنا اليوم للمحافظة على الإيمان أصعب بكثير نظرًا إلى كثرة مغريات الشرير في عالم اليوم. لذلك، فالسؤال يطرح عن عدد المؤمنين الذين يستطيعون أن يقولوا اليوم مثل بولس: “7جاهَدتُ جِهادًا حَسَنًا وأَتمَمْتُ شَوطي وحافَظتُ على الإِيمان” (2 طيمو 4/7).
- الإيمان الحيّ والإيمان الميت.
تعطى فضيلة الإيمان مع المعمودية إلى جانب فضيلة الرجاء والنعم الضرورية لنموّه. فبقدر ما يتفاعل المؤمن مع هذه النعم ويبقى متحدًا بالربّ، بقدر ما يبقى إيمانه حيًّا، كما قال يسوع: “أنا الكرمة وأنتم الإغصان. كل غصن يثبت فيّ يعطي ثمراً كثيراً، لأنه بدوني لا تستطيعون شيئاً” (يوحنا 15/5). والعكس صحيح، كل مؤمن لا يثبت في المسيح، يصبح كالغصن الذي ينفصل عن الكرمة، ييبس ويموت (يوحنا 15/6).
صحيح أن الخطيئة المميتة لا تستطيع أن تمحو الإيمان من قلب الإنسان، لكنها قادرة أن تدخل الإنسان في عبودية تبعده عن نبع الحياة وتقوده تدريجياً إلى اليباس والموت. من ناحيته لا يترك الله المؤمن بين براثن الشرير، بل يسعى بكل ما لديه ليتوب ويعود إليه ليحييه ويخلّصه. لذلك، فهو لا يطفئ سراجاً مدخناً ولا يكسر قصبة مرضوضة، بل يعيد إليهما الحياة في اللحظة التي يفتح له المؤمن الخاطئ أبواب قلبه من جديد.
فما معنى ادّعاء بعض المؤمنين أنهم مؤمنون ولكن غير ممارسين؟! فالإنقطاع عن الأسرار التي هي نبع النعمة يقود حتماً إلى موت الإيمان تدريجياً، بسبب حرمانه من معونة الله وخصوصًا في خضم التجارب والتحديات. ولكن وضع هؤلاء يبقى مختلفاً كلّياً عن الذين ينكرون الله ويجحدون به ويحولون قلبهم إلى عبادة المال والسلطة والملذات التي فتستعبدهم وتبعدهم عن الله.
في حين تبقى النعمة مطمورة، بسبب الإهمال، في قلب المؤمنين غير الممارسين. ويكفي أن يعودوا بالتوبة إلى الرب حتى يعود فيحييهم. يقول بولس في هذا المجال: ” إِذا مُتْنا مَعَه حَيِينا مَعَه وإِذا صَبَرنا مَلَكنا مَعَه وإِذا أَنكَرْناه أَنكَرَنا هو أَيضًا وإِذا كُنَّا غَيرَ أُمَناء ظَلَّ هو أَمينًا لأَنَّه لا يُمكِنُ أَن يُنكِرَ نَفْسَه ” (2 طيمو2/11-13).
في عالمٍ كالذي نعيش فيه، حيث كثرت الخطيئة والتيارات المعادية للإيمان والبدع، يبدو أن الشرير يزأر ليلتهم قدر ما يستطيع من المؤمنين. حتى يبقى الإيمان حيًّا فينا نحن مدعوون إلى السهر على عيش حياة روحية تغذي فينا الإيمان وتنميه لنستطيع الإنتصار بنعمة المسيح على كل هذه التحديات.
- مسيرة الإيمان
يشبه الإيمان حبّة يزرعها الله في قلب الإنسان. فهي بحاجة إلى وقت حتى تنمو. ولأن الإنسان مخلوق ناقص، فهو بحاجة للوقت لينمو ويحقق ذاته في الخير. وبما أنّ طريق الخلاص طريق طويل وصعب، بعكس طريق الهلاك السهل، فلا يكفي خيار الإيمان الأول لعبور الطريق، بل جهد متواصلُ ومنفتح على النعمة، للثبات في السير في طريق الإيمان. ولا أحد يستطيع الإنطلاق بقناعة في مسيرة الإيمان هذه ما لم اللقاء الشخصي مع يسوع واختباره كإله حيّ.
وبقدر ما يتجذّر الإيمان في المسيح، يستطيع أن يمدّ جذوره أكثر فأكثر نحو السماء. وكما الشجرة بحاجة لعناية دائمة، من غذاء وتشجذيب، كذلك الإيمان بحاجة لعناية دائمة ليبقى حيًّا وينمو ويزدهر ويعطي ثمراً. من هنا ضرورة العمل الرسولي الرعوي لمساعدة كل مؤمن على عيش مسيرة نحو إيمان واعٍ وناضج وملتزم.
- الثبات في الإيمان
مسيرة الإيمان طويلة ومن يثبت إلى المنتهى يخلص. فخلاص النفس إذًا متعلّق بشكل أساسي بالثبات في الإيمان. صحيح أن في مساء حياتنا سنحاسب على الحب، ولكن الحب الذي يخلّص بحاجة إلى إيمان صلب يرتكز عليه. يتوهّم من يعتقد أنه يمكنه أن ينمو في المحبة بدون الإيمان. فالمسيح نفسه يقول: “إِن عَطِشَ أَحَدٌ فليُقبِلْ إِلَيَّ، ومَن آمنَ بي فَلْيَشَربْ كما ورَدَ في الكِتاب: ستَجْري مِن جَوفِه أَنهارٌ مِنَ الماءِ الحَيّ”. وأَرادَ بِقَولِه الرُّوحَ الَّذي سيَنالُه المؤمِنونَ بِه، فلَم يكُنْ هُناكَ بَعدُ مِن رُوح، لأَنَّ يسوعَ لم يَكُنْ قد مُجِّد (يوحنا 7/37-39).
تخلّى كثيرون من المعمّدين عن إيمانهم أمام إغراء السهولة الذي يعرضه العالم في مختلف مجالات الحياة. والسبب أن في المسيحية، الإيمان يطلب اتباع المسيح وحمل الصليب، صليب الحب والطاعة لمشيئة الله، الذي يلزم بالتشبه بخلقية المسيح التي كثيراً ما تناقض الخلقية التي يعرضها العالم.
ويتعب غيرهم من المسيحيين في مسيرة إيمانهم بسبب أوقات الصحراء والجفاف والشدّة وغياب التعزية والعلامات الإلهية التي تواجههم خلال مسيرة إيمانهم. وما هو بمثابة تربية إلهية لإنضاج المؤمن وتشجذيب إيمانه ليعطي ثمارًا وافرة، يتحول بالنسبة إلى هؤلاء إلى حجر عثرة، فيستسلمون للتعب ولمغريات الحياة السهلة.
يتراجع آخرون عن الإيمان في زمن الشدّة والاضطهاد. ومع أن يسوع نفسه نبّهنا إلى ما سيصيبنا بسبب الإيمان به من اضطهاد، تماماً كما أصابه هو. يسمح الله باضطهادات الشرير للمؤمن ويعمل بنعمته على أن تنقيّ إيمانه وتطهر قلبه من كل عبادات وثنية. وتتحول أوقات الإضطهاد إلى أحداث تعطي المؤمن فرصة لإعلان أمانته وحبه لله وتجسيدهما.
- شهادة الإيمان
“مَن شَهِدَ لي أَمامَ النَّاس، أَشهَدُ لَه أَمامَ أبي الَّذي في السَّموات. ومن أَنْكَرَني أَمامَ النَّاس، أُنْكِرُه أَمامَ أَبي الَّذي في السَّمَوات” (متى 10/32-33). كل مسيحي مدعو للشهادة الحيّة عن لإيمانه. فإذا ما شعر بأنه عبء عليه، يكون لم يصل بعد إلى نضوج الإيمان. لأن الإيمان نور، والنور بطبيعته لا يحبس بل يشع. والإيمان ملح، والملح يُستعمل ليطيّب الأكل (متى 5/13-14). دعوة المسيحي هي أن يشع بإيمانه ويبشّر إخوته ليكون لهم ما كان له من الفرح والخلاص.
ولو تظرنا في عالمنا المسيحي اليوم، لرأينا مؤمنين يعتبرون أن الإيمان هو شيء شخصي، فيبقونه لذواتهم يحترمون حرية الآخرين لدرجة لا يعرضونه عليهم. ولكن إذا كان الإيمان شعلة حيّة فكيف يمكن أن نحبسه في داخلنا: “الويل لي إن لم أبشر”. وشهادة الإيمان الحقيقية، أي المبنية على اختبار حقيقي لفرح وخلاص المسيح، قادرة أن تقنع غير المؤمن وتجذبهم.
لا تتعلّق المسيحية بإيديولوجيا يجب الدفاع عنها، ولا بمجموعات شرائع أخلاقية لحفظها. بل إنها علاقة مع شخص يسوع المسيح ضمن الكنيسة تحوّل الحياة وتعطي معنى الوجود وتولد فرحاً لا يوصف. لهذا لا يمكن لمن يعيش بعمق هذا الإختبار ألا ينقله لمن يفتش عن السعادة والسلام والحياة الأبدية. يقول التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليلية في هذا المجال: ” ليس من دعوة تلميذ المسيح أن يحافظ على إيمانه ويعيش منه فقط، بل أن يعلنه، أن يعطي شهادة حيّة بصدق وأن يدافع عنها… إن خدمة وشهادة الإيمان لا غنى عنهما بالنسبة إلى الخلاص” (ت. م. ك. ك عدد 1816).
- تؤهل عطايا الروح القدس الايمان وتقوده إلى الملء .
يحتاج الإيمان إلى عطية العلم والمعرفة وهي من مواهب الروح السبع. تشكل هذه المواهب عطايا تؤهب ، إضافة إلى النعمة المقدّسة، كبذور مع المعمودية، ويلتزم المؤمن أن ينميّها. وبقدر ما يستسلم المؤمن لإلهام الروح القدس ويتركه يقوده في طريق الإيمان، بقدر ما يواكبه إلى عيش الفضائل والسير بخطى ثابتة نحو القداسة.
فبقوة الروح القدس يستطيع المؤمن بعقله المنوَّر بالإيمان أن يدرك أبعاد الوحي الإلهي، وأسرار الإيمان، وحقائق الإنجيل، والعقيدة المسيحية، ويدخل في الرؤيا والتأمل الصوفي. بفضل نعمة العلم يستطيع المؤمن أن يترفّع عن المخلوقات لرؤية الخالق وعمله في الكون. وبفضل نعمة العلم يستطيع المؤمن أن يحكم في أمور الدنيا فلا يقلل من قيمتها ولا يؤلهها، بل يكتشف وراء جمالاتها جمال الله الخالق ويباركه ويسبحه. بفضل نعم الروح القدس يستطيع الأنسان أن يرى كل دقائق حياته وكل ما في العالم بعيون الله، وأن يصل إلى الثقة والرجاء الذي جمل القديسة تريزيا الأفيلية إلى القول: ” لا شيء يقلقك، لا شيء يرعبك. كل شيء يزول. وحده الله يبقى”.
- السلطة الكنسية تحفظ الإيمان وتشرحه.
يحمل الكتاب المقدس والتقليد الكنسي كنز الوحي الإلهي الثمين جدّاً، وهو يقتضي الحفاظ عليه ونقله بأمانة لكل إنسان في كل زمان ومكان. يحوي هذا الوحي كل ما هو بحاجة إليه الإنسان ليؤمن بقلبه وعقله. لقد سلّم الكلمة الأزلي المتجسد مسؤولية حفظ الكلمة ونشرها في العالم إلى بطرس والرسل. وعلى بطرس أسس كنيسته وأمره مع الرسل بأن يذهبوا في الأرض كلها ليعلموا ويتلمذوا ويعمدوا باسم الثالوث الأقدس.
من حيث المبدأ، كل مؤمن ينتمي بالمعمودية إلى الكنيسة وهو مدعو ليقبل هذا الوحي الإلهي ويحفظه ويحميه وينشره من حوله. ولكن يعود إلى السلطة الكنسية أن تحافظ على هذا الوحي وتشرحه بطريقة صحيحة، وتتعمق في فهمه، وتعلنه كاملاً. لولا هذه المهمة المعمول بها بمرافقة الروح القدس لتحوّلت كثير من حقائق الإيمان وتبدّلت كما يحدث مع الذين ينفصلون عن السلطة الكنسية.
ليست هذه المهمة بالأمر السهل، ولذلك أوصى بولس في رسالته الثانية إلى تلميذه طيموتاوس قائلاً: “أُناشِدُكَ في حَضرَةِ اللهِ والمسيحِ يسوعَ الَّذي سَيدينُ الأَحْياءَ والأَموات، أُناشِدُكَ ظُهورَه ومَلَكوتَه أَن أَعلِنْ كَلِمَةَ الله وأَلِحَّ فيها بِوَقْتها وبِغَيرِ وَقتِها، ووَبِّخْ وأَنذِرْ والزَمِ الصَّبرَ والتَّعْليم. فسَيَأتي وَقتٌ لا يَحتَمِلُ فيه النَّاسُ التَّعليمَ السَّليم، بل يُكدِّسونَ المُعلِّمينَ لأَنفُسِهِم وَفْقَ شَهَواتِهم لِما فيهِم مِن حِكَّةٍ في آذانِهم فيُحوِّلونَ سَمعَهم عنِ الحَقّ وعلى الخُرافاتِ يُقبِلون. أَمَّا أَنتَ فكُنْ مُتَقَشِّفًا في كُلِّ أَمْر وتَحمَّلِ المَشَقَّات واعمَلْ عَمَلَ المُبَشِّر وقُم بِخِدمَتِكَ أَحسَنَ قِيام” (4/1-5).
تجاه هذه الأمانة مع الجهد المطلوب من السطلة الكنسية في ما يخص الوحي الإلهي، يُطلب من المؤمن طاعة الإيمان الواعية. فالإيمان هو طاعة لـ الله من خلال الكنيسة التي تمثله. دعوة المؤمن، فيزمننا الضياع والمغريات، أن ينظر إلى بطرس حتى لا يفقد كنز الحقيقة الالهية التي أوكل إليه أن يؤمن بها ويحبها ويعيشها ويدافع عنها.
- مريم، مثال الإيمان
مريم، أم الله، هي المثال الأعلى للقداسة ولكل فضيلة. فمريم هي المؤمنة الأولى بيسوع وأول من تبعه. وأول طوبى في الإنجيل استحقتها مريم: “طوبى لتلك التي أمانت بأن ما قيل لها من الرب سيتم” (لوقا 1/45).
كل مسيحي يستطيع أن ينظر إلى مريم ويتخذها مثالاً له في مسيرة الإيمان، لأنها قادرة ليس فقط أن تلقي بضوء حياتها لتنير طريقه بل أن تقوده بشفاعتها للسير حتى النهاية في هذا الطريق، طريق الإيمان والملكوت.
تدّلنا مريم أيضاً على الحالة التي يجب أن نكون فيها لنستطيع أن نقبل نعمة الإيمان ونثبت فيها: التواضع والأمانة والسهر والثبات في مسيرة الإيمان.
وما وصلت إليه مريم من مشاركة في مجد المسيح، يؤكد لكل مؤمن يتشبه بها، أنّ الإيمان الثابت يقود إلى النصر الأخير.