Almanara Magazine

دور العائلة في تربية الإنسان والإيمان

   المطران انطوان-نبيل العنداري

                                                                رئيس اللجنة الأسقفية للعائلة والحياة


المقدمة

    تواجه العائلة في أيامِنَا العديدَ مِنَ التَحَدّيات والأَزمات، ومنها عدم الاستقرار، وتقلّص عدد أفرادها، وغياب الوالدين عن المنزل، وعدم قدرة بعض الأزواج على نقل المبادئ التوجيهية للحياة والقيم. فيُوَلِّدُ هذا الأَمرُ مَزيداً من الاضطرابات النفسية لدى الأطفال، وصعوبةَ الإندماج لدى الشباب في المجتمع، وعدم وجود شخصية متّزنة وواثقة من ذاتها. إنَّ استقالة الآباء تجاه مسؤولياتهم التربوية يترك الشباب أنفسهم، دون توجيه أو دعم، دون بوصلة للحياة، ويخلق فيهم حالة من الخواء.


تُبَيِّنُ هذه الثغرات الكثير من السلبيات التي تحول دونَ التَوَصُّلِ إلى نُمُوِّ، لا بَل إلى بُلوغِ المُستَوى المَطلوب مِنَ النضجِ والرُشد للعديد من شباب اليوم. لقد استكشَفَت العلوم الإنسانية، كَعلم النفس، وعلم الاجتماع، والفلسفة الأخلاقية إلى حد كبير هذه القضيّة، وهيَ تساعدنا على فَهمِ العمَلِيَّةِ التَربَوِيَّةِ في قَلبِ العائلة. ومع ذلك، فإن الكنيسة لديها أيضا ما تَقولُهُ في هذه المسائل، لأنها تَعتَبِر نَفسَها مُلتَزِمَةً شَأنَ الإنسان، وبالتالي تعمل مع الأهل والمُرَبّين والساسَة والفعاليات الإجتماعيّة لِتَجَنُّبِ تَدهور أَوضاع عائلَةِ الغد وما يَنتُجُ عَنها مِن عواقِبَ وخيمة.


سَنُحاوِل، في هذه المُداخَلَة، تقديمَ وجهةِ نَظرِ الكنيسة الكاثوليكية، عبرَ مختلف الوثائق الصادرة عن السلطة التعليمية، بِشَأنِ دورِ العائلة في تَنمِيَةِ شخصية الطفل الإنسانِيَّةِ والإيمانِيَّة. 


I – لمحة عن الحالة الراهنة


أ- الأزمة الراهنة للعائلة


   إنَّ ضُغوطات الحَياةِ الحَديثَة، سواءَ في لبنان، أو في مُجتَمعاتِ الشَرقِ الأَوسَط وبُلدان العالم، تَضَعُ العائلة أَمامَ حالات متزايدة من الصعوبات التي تُضعِفُ استقرارها، وتحدّ من حجمها، وتُغَيِّر في شكلِ تكوينها، وتطرحُ الأسئلةَ حولَ كيفيةِ استمرارِ رسالتها مُستَقبلاً كخَلِيَّةٍ أَساسية في المجتمع.


1) حقائق وأرقام مُذهِلَة


   تُشيرُ الإحصاءات في الولايات المتحدة الأَميركيّة إلى أَنَّ أربعةً من أصل عشرة أطفال لا يعيشون مع والديهم. وقد تضاعف عدد العائلات الأحاديّة الوالدين منذ عام 1970. أمّا عدد الأطفال المولودين خارج إطارالحياة الزوجية فتَصاعدَ إلى نسبة 500٪ مُؤَخَراً. وانخفض في أوروبا الغربية عدد الزواجات بنسبة 40٪، وأصبح معدل الولادات بنسبة 25٪، بحسب مصادر المجلس الحبري للعائلة.
   حدثت هذه التغييرات على خلفيّة التغيّرات الاقتصادية التي أدّت بالملايين من النساء إلى سوق العمل، وخلق التنافس على الوظائف، مِمّأ حَدا غالبا بالآباء والأمهات إلى العمل  بَعيداً عَنِ البَيتِ والعائلة.
إنَّ الراغِبينَ في أَيامِنَا تَأسيسَ وتَكوين عائلة عديدة الأولاد، والإهتمامَ بِتَربِيَةِ أبنائهم، يُواجهونَ عَقَباتٍ كَثيرَة، ويُواجهونَ تحدّيات لا يمكن التغلب عليها أحياناً.


2) من العائلة المؤسّسة الى العائلة الميثاق والعائلة المُثليّة


   في الوقت الذي تُؤذي فيه هذه التطورات العائلة، نَشهَدُ تَغييراً في مَفاهيمِ القِيَم يَتَزامَنُ مَعَ انخفاضٍ لِمَفاهيم الواجب والمسؤولية الاجتماعية، والبحث عن مزيد من الحرّية الفرديّة وإشباعِ الرغبات الذاتية.
وخَلُصَ تقريرٌ صدرَ مؤخرا حول الوضع الديموغرافي في بلدان الاتحاد الأوروبي يستَخلص فيه  أن “العائلة التي كانت في الماضي تعمل كمؤسّسة ووسيلة اندماج اجتماعي، أصبحت اتفاقاً بين فَردَين باحِثَينِ عَنِ الارضاء الذاتي ” (عن لوس أنجلس تايم 1995). ولمّا تَمَّ التوصل إلى هذا الإتّفاق، ازدادَ انهيار وحدة العائلة. وطالَعَنا في آخِرِ شهرِ نَيسانَ المُنصَرِم إقرارُ الدَولَةِ الفَرَنسِيَّة قانونَ الزَواجِ المُثُلي.


3) تَضاؤل الوقت المُعطى من الأهل لأبنائهم

    أعقبَ هذا الإضعاف للعائلة، وهذا التحوّل الذي سعى إلَيهِ الآباء والأمهات، أي العمل خارج المنزل، إلى نَقصٍ كَبير في ما كانَ عليه الدورُ التَقليدي لِلعائلة، أي التربية.



   إنَّ النَتيجَةَ الأَبرز لهذا التَحَوُّل هِيَ تَقَلُّصُ الوقت الذي يَقضِيهِ الأَهلُ معَ أَولادِهم. أَظهَرَت إحدى الدِراسات  في الولايات المتحدة الأَميركيّة أَنَّ حُضورَ الأَهلِ تَراجَعَ إلى نسبةِ 40٪ ممّا كانَ يقضيه الأَهلُ معَ أولادِهم في الأجيال السابقة. وأظهرت دراسة تَحليليّة لإحدى الجَمعيات البَريطانيّة “رعاية الأسرة” أن أكثر من نصف الآباء الذينَ  شَملَهم الاستطلاع، أمضى أقلّ من خمس دقائق يومياً مع أطفالهم. ولَم يَتِمَّ تَعويضُ هذا الغياب لِلأَب، عن طريقِ حُضورٍ أكبَر لِلأُم، بسبب دخولِ النساءِ عالمَ العمل نَظَراً لِلإحتياجات المادّية، أوالبحث عن تحقيقِ اكتِمالهم الذاتي، أو كلا الأَمرَين.


4) غيابُ أحد الوالدين


إنَّ المُشكِلَةَ في تزايد هذه الحالات، لا تَعودُ إلى أن الآباء يُمضونَ الكثير من الوقت في العمل، لكنَّ المسألَةَ تَكمُنُ في غِيابِ أحد الوالدين: إمّا بِسَبَبِ الإنفِصال، وإمّا بِسَبَبِ الهجرَة والعَمَلِ في الخارِج. وهذا ما نَراه في بَعضِ البُلدانِ النامِيَة، كالعُمّال الأَفارِقَة والأَسيويين. فَفي الفيليبين، على سبيل المثال، حوالي 10٪ من السكان الإناث تَعمَلنَ في الخارج كخادماتٍ في الشَرقِِ الأوسط أو في البلدان الآسيوية الأكثر ثراء.


5) فَراغٌ تَملأه وسائل الإعلام المُتَعَدِّدَة


    اذا استمرَّ هذا الغِياب الوالِدي، وغياب الشَراكَة العائلِيَّة، مَهما كانَت الدَوافِعُ، فَإنَّها تَعودُ بِالفَراغِ والضَياعِ على الأَطفال وتَخلو الساحَةَ  للعَوامِلِ الخارِجِيَّة التي تَملأُ هذا الفَراغ. أَشارَ تَقريرٌ للامم المتحدة، نُشِرَ مُؤَخَّراً مَفادُهُ أنَّ وسائلَ الإعلام تُمَثِّلُ المصدرَ الرئيس للتأثير في حياة الأطفال الصغار. ويضيفُ التقرير أن هذا الأَمرَ عائدٌ إلى انحِدارٍ في الأَجواءِ العائلِيَّة باعتبارها المكان الرَئيس لِتَكَيُّف الولد معَ الحياةِ العائلِيَّة والإجتِماعِيَّة.  إنَّ تَأثيرَ هذه التِقَنِيّاتِ والوسائلِ الإعلامِيَّة في الأَطفال، بِنَظَرِ العَديدِ مِنَ المُراقِبين، أَمرٌ مُقلِقٌ للغاية.


ب– دور العائلة في عَمَلِيَّةِ التَكامُلِ والإندِماج

  1. العائلة هي مؤسَّسة ديناميكية، متعدّدة الأجيال



تَحمِلُ كُلُّ عائلَةٍ إطارَها وميراثَهَا التَاريخي والثَقافي والديني. إنَّهُ إطار وميراث مُتَحَرِّك. فالعائلَةُ نَفسُهَا هي مُؤَسَّسَةٌ دِيناميكِيَّة لَها، في نُمُوِّهَا، دَورَتُهَا وصيرورتُها الخاصّة. ويُمكِنُنَا بِالتالي تَجزِئةَ مَراحِل نمُوّ الحياة فيها إلى سَبعَة: الإعجاب والخطوبة، الزواج، الولادات، توطيد أواصرالإلفة، التَقَلّص بِسَبَب زواج الأولاد الذين يتركون البيت، العلاقة الزوجية النهائية، والزوال. في كل مرحلة من هذه المراحل تَقومُ العائلة بِمهمة التنمية، لأَجلِ خَيرِهَا الخاص ولأجل خَيرِ كُلِّ فَردٍ مِن أَفرادِهَا. ويَفتَرِضُ الإنتِقالُ مِن مَرحَلَةٍ إلى أُخرى دَوراً خاصّاً لِلزَوجَين، كَما تَقتَضي هذه الدورة التَنمَوِيَّة التَلاقي بَينَ عائلَتَي الزَوجِ والزَوجَة، والتَواصُلَ، أَقَلَّهُ، بَينَ أَجيالٍ ثَلاثَة.   


2) متانَةَ العَلاقَة بَينَ الزَوجَين


    يمكننا التمييز بين مُستَوياتٍ ثلاثة داخلَ مَنظومة النُواةِ العائلِيَّة: علاقةُ الزوجان،  علاقة الأهل بالأولاد، وعلاقة الإخوة والأخوات. فالمَكانَةُ الأُولى هِيَ لِلزَوجَين، ويَتَوَقَّفُ نُمُو مُستَوياتِ العَلاقاتِ الأُخرى على نَوعِيَّةِ عَلاقَةِ الزَوجين. فَمِنَ الضَروري أَن يُشَكِّلَ الزَوجان ائتِلافاً مَتيناً ويُحافِظا على التَمييزِ بَينَ الأَجيال، أَي بَينَهُما كزَوجَينِ ووالِدَين وبَينَ أولادِهِما أو ذُرِّيَتِهما، لِيَضمَنَا تَنمِيَةً وتربيةَ وتَطويراً أَفضَل لِلأَولاد.


3) دور الأب والأم في النظام العائلي


   يَلعَبُ كُلٌ مِنَ الأَبِ والأُمِّ دَورَه المُوافِق بانتِظام. تَقومُ الأُمُّ بِدَورِهَا الجَوهَري أي في زَرعِ الثقةِ الأَساسِيَّةِ في الطَفلِ بِخُصوصِيَّتِه وتَمايُزِ فَرادَتِه. كما يجبُ التَأكيد على دَورِ الأب. إذا ما أدخَلت الأمّ الثقةَ والتمايز، يُدخِلُ الأَبُ الناحِيَةَ الاجتماعية بجوانبها التاريخية والثقافية والأخلاقية. إنَّ حُضورَ الوالد الفاعِل إلى جانِبِ الطِفلِ لِدَعمِهِ ومُسانَدَتِه يَبدو أَمراً أساسِيّاً لِتَحقيقِ شَخصِيَّةِ الطِفلِ ونُمُوِّه المُتَوازِن، خاصَّة بِما يَتَعَلَّقُ بالأولاد الذُكور أَي البَنين. تُؤَكِّدُ الدراسات العِلمِيَّة أنَّ البَنينَ الذينَ لديهِم تَماهِياً قَوِيّاً مع شخصية الأب،  لديهِم أَيضاً مَقدِرَةً كَبيرَة على الأحكام الأخلاقيّة، والتزاماً أَكبَر بالقيم الأخلاقية من البَنينَ الضَعيفي التَماهي أو التَماثُلِ معَ شَخصِيَّةِ والدِهِم.


ج – العائلة المكان الأصلي للإختبار الأَخلاقي

 
   تُظهِرُ الدراسات في عِلمِ النفس والاجتماع أنَّ العائلةَ تلعب دورَها، في إنماءِ شخصيةِ الطفل، من خلال إدخالِهِ في نظام العلاقات والإختبارات الإنسانية الذي يكتسبُ فيهما الثقةَ بوالديه وبذاته، والإستِقلالِيَّة والانفتاح على الآخر. لكنَّ هذه الدراسات لا تَقولُ لَنا كلَّ شيءٍ عن أداءِ العائلة دورَها، وكيف أن العائلةَ المُتَّحِدَة، المُتَضامنة، حَيثُ تُعاشُ الشَراكَة المُتَبادَلَة، هِيَ المَكانُ الأَمثَل لَتَكوينِ شخصيةِ الإنسان. إنَّها بِحاجَةٍ، لِحُسنِ الحَظ، إلى وجهات النَظر الأخلاقية والفلسفية والدينيّة.


   مَعلومٌ أَنَّ العائلةَ هي في أساسِ الشخصِ البَشَري، وبالتالي في أساسِ المُجتَمَع. ولأَجل ذلك ندعوها  “الخَلِيَّةَ الأساسية للمجتمع”. فإذا كانت هذه العائلة مصدر الحَياة البيولوجيّة، ومصدر الحياة الثقافيّة والأخلاقِيّة، فهيَ في الوقتِ عَينِه الوسيطَةَ بينَ الوظيفة الطبيعية والوظيفة الثقافية.
    على خَلفِيَّةِ هذا الأساس الطَبيعي والعام لِلأَخلاقيّة الإنسانية، هل يُمكِننا تَحديد القيم العائليّة العامّة ؟ تُشَكِّلُ  العائلة دائما النموذجَ الأَمثَل، حيث نحيا كَوكبةً مِنَ القِيَم: كَالحُب، والمعاملة بالمثل، والعدالة والحرّية، والتضامن، والاعتراف المتبادل، والتفاهم، وقبول الآخر والإنتِباهِ إلَيه، وتقاسم المسؤولية، واحتضان الحياة، والكرم، الخ … تُشيرُ هذه القيم إلى فضَائل تفرض ذاتها على الكائنِ البَشَري وتَليقُ بِالإنسان.



د- العائلة مكان الحب المُعاش


   لا يمكن اختزال العائلة بِالاتّحادِ بينَ الجِنسَين، أو بِخَلِيَّة المجتمع. إنَّها أَكثر مِن دَورٍ أَو وظيفة أو مَنفَعَة. إنَّها المكان الذي نعيش فيه الحب، مكان الشراكة والتبادل المِثَالي الذي لا يمكن لأَيَّةِ مُؤَسَّسَة أَن تَحُلَّ مَحَلّها.


   قال جان لاكروا، أحد المُفَكّرين الفرنسيين، إنَّ الشيءَ الأول الذي يُكَوِّنُ العائلة ويحدّد دورها هو إرادةُ الاتّحاد بينَ الزوجين، إذ لا يمكن لأَيِّ نوعٍ مِنَ الإتّحاد الإدّعاء بأن يكون عائلة إذا لَم يؤدِّ هذا الإتّحاد إلى التزامٍ مُتَبادَل كُلّي ومطلق، على مستوى الحب والعطاء الذاتي بين الزوجين.


كما أنَّ الدورَ التربوي في العائلة ليسَ أمراً إضافِيّاً أو ثانَويّاً، بل دوراً نَابِعاً مِن إرادَةِ هذا الإتّحاد ويَتَحَقَّقُ عَمَلِيّاً في الأولاد. إنَّ الولَد ليس هدفَ أو غايةَ الزواج وحسب، إنَّهُ ” الفكرة المُتَجَسِّدَة” للزواج. إنَّ عظَمَةَ وإبداعَ خِصب الزَوجين في إعطاء الحَياة لا يتَوَقَّف عند الحبل والولادة. فالتَربِيَة هي جِزءٌ مِن عَمَلِيَّةِ الوِلادَة التي يَجِبُ تَنمِيَتُهَا. وأن يكونَ الإنسانُ مُؤَيِّداً ومُدافِعاً عن الحَياة، لا يَعني الحِفاظَ  فقط على حَياةِ الطفلِ في بَطنِ أُمِّه، بل يَعني أيضاً الإهتمام بِظروف تَربِيَةِ الولد وشروطها. لأَنَّ العَمَلِيَّةَ التَربويّة  ليسَت ترويضاً، ولا تَعلِيماً، بَل عمليّة تدريب واكتساب. إنَّها تُنَشِّيءُ الإنسانَ في “مدرسةِ العاطفة والإحساس والوجدان” وهي المَدرَسَةُ الأَقوى والأَفعَل. وعلى هذا الأساس نُدرِكُ أَن العائلَة هي المَكانُ الحَقيقي لِلتَربِيَة.


II – وجهة نظر الكنيسة


    بعدما استَعرضنا آراء علوم النفس والفلسفة والأخلاق، من الضروري تَبيان تَوافُقَ العلوم الإنسانية، اليوم، على الاعتراف بأهمية التربية العائليّة في عمَلِيَّةِ تَكامُلِ الإنسان وانفِتاحِه، وهذه هي غايَةُ التربية. إنَّ الكنيسة تأخذ في حِسابِهَا هذه الدراسات والتحاليل، وتُعطيها آفاقاً أَوسَع لأَنَّها تَنطَلِقُ مِنَ حَقيقَة الإنسان الأنتروبولوجِيَّة، وعلى وجه الخصوص، من حَقيقةِ الحَياةِ الجِنسِيَّة كما تَظهر في المؤسّسة العائلِيَّة، وفي منافع وغايات الزواج.



أ – أضواء وظلال: مُعايَنَةُ الكنيسة


   تَلتَقي التَقارير الواردة من لجان راعوية العائلة والحركات المَعنِيَّة بِشؤون العائلة، على اختلاف البلدان والمناطق في العالم، على أن القاسِمَ المُشتَرَك في نُمُوِّ شَخصِيَّةِ الأَولاد يَتَبَلور في الوضع العائلي حيثُ يكبر الولد.


   إنَّ تَفَكُّكَ العائلات، والخيانات الزوجِية، ورفض أو خوف الأهل مِن تَحَمُّل مسؤوليتهم كَمرَبّين، لها بالطبع، تأثير سلبي جدّاً في الأولاد. ونُلاحِظُ، في المُقابِل، الفَرقَ في الجماعات المسيحية، والحركات الرسولية، حَيثُ الأولاد والشباب يَنمونَ بِارتِياح، ويُعَبِّرونَ عَن اتِّزانِهِم وسُلوكِهِم المَسؤول.
   وتُشيرُ الإختبارات الحياتِيَّة، بِوضوح، وعلى سبيل المثال، إلى أن الأولاد الذين يعانون من مشاكل المخدّرات هُم أولاد البيوت والعائلات المُفَكَّكَة، أو العائلات القليلةِ الأَولاد (كالولد الوحيد)، أو العائلات التي تفتقد أحد الوالدين والسلطة الوالديّة، إلى جانِبِ غياب العاطفة والعلاقات العائليّة السليمة، وغياب الإخلاص الزوجيّ.


   لكنّنا نرى في موازاة ذلك، أَنَّ العائلات التي حافَظَت على وحدتها، والشراكة، وعطاء الذات، والقِيَم، حيث تَصَرَّف الأهل كَمُرَبّين على الحرية والمسؤولية، أعطَت نتائجَ وآثاراً إيجابية جدا في الشبيبَة.

فَمِنَ الضروري، إذاً، أن يَجِدَ الأَهلُ الوقتَ للعيش مع أولادِهِم  ويَتبادلونَ معهم الحوار. إنَّ الأَولادَ، عَطِيَّةٌ ومسؤولِيَّة، هُم رِسالَةُ الأَهلِ الأكثر أهمية. إنَّهُم أَكثَرَ أَهَمّيَةً مِنَ العمل، وأكثر أهمية من الترفيه، وأكثر أهمية من المَكانَةِ الاجتماعيّة.


   إنَّ أَهَمَّ عَمَلٍ يَقومُ بِهِ الأَهلُ، في مَجهودِهِم التَربَوي، هو معرِفَة منحِ أولادِهِم الوقتَ الكافي، والإصغاء إلَيهِم، والسَعيِ إلى التَفاهُمِ معهم.



ب– واجب الوالدين التربوي

 
1) فرح ورجاء


    يتحدّث المجمع الفاتيكاني الثاني بوضوح، في الفصل العاشر من الدستور الراعوي “الكنيسة  في عالم اليوم”،  فرح ورجاء، عن مهمّة الأهل التربوية، باعتبارها جزءاً أساسياً من  حياة الزوجين، كالإنجاب. وبالتالي، يُدرك الوالدان بواسطة تعليم الكنيسة الرسمي أَنَّ الإنجابَ يَكتَمِلُ بِالتَربِيَة التي تُشَكِّلُ جزءاً من دَعوتِهم الزوجيّة.


    ويُؤكّد المجمع هذا التعليم قائلا: ” …والغاية من تأسيس الزواج والحب الزوجي، في طبيعتهما، إنجاب البنين وتربيتهم. وهذان يُتَوِّجان الحُبَّ والزواج كما تُتَوِّجُ القِمَّةُ الجَبل” (ك.ع.48: 1). ويُكمِلُ لاحِقاً: “إنَّ الزواجَ والحُبَّ الزوجي مُوَجَّهان بِطَبيعَتِهِما لإنجابِ البنين وتربيتهم”(ك.ع.50: 1).


     ويُقَدِّمُ النص المجمعي كِلا الوالدين كَشَريكَينِ في عَمَلِ اللهِ الخَلاّق: “إنَّ الأزواجَ يَعرفون بِأَنَّهُم المُساهِمونَ في حُبِّ اللهِ الخالِق والمُتَرجِمونَ عنه، عندما يَقومون بِواجِبِهم المُلقى على عاتِقِهِم في نَقلِ الحَياة وتربيةِ البنين. وهذا ما يجب اعتباره كرسالتِهم الخاصّة”(ك.ع.50: 2).

 
     وتُشَدِّدُ الوثيقة المجمعية على أهمّية انسجام دور الأب والأم وتكامله في واجب التربية: ” إنَّ العائلة هي، نوعاً ما، مدرسة غنى إنساني. ولكي تَستطيع أن تبلغ كمال حياتها ورسالتها، تقضي بِاتّحاد النفوس اتّحاداً مطبوعاً بالحُب وبوضع الزوجين أفكارهما تحتَ تصرّف بعضهما، وبتعاون الوالدين تعاوناً واعياً في تربيةِ الأَبناء. إنَّ حضورَ الأَب حضوراً فَعّالاً له أهمّية بالغة في التَنشِئة؛ كما أنّه من اللازم أن يُوَفِّرَ لِلأُم بأن تَعتَني بعيلتها دون أن يُهمَلَ مع ذلك تقدّم المرأة الإجتماعي المَشروع…”(ك.ع.1:52).


2) أهمّية التَربية


   ويستعيد البيان في التربية المسيحية، هذا التوجيه، بقوّة أكبر، مضيفاً بأن دور الوالدين التربوي، هو حقٌّ وواجب، لا بَديلَ عنه:


“يعتبر الوالدون المربّين الأولين لأبنائهم وأهمّهم، وعليهم يقع الإلزام الخطير في تربيتهم لأَنهم هم الذين أعطوهم الحياة. وهذا الدور التربوي هو من الأهمّية بمكان، حتى إذا ضَلّوا فيه، صَعبٌ جدّاً أن يُعَوَّض…”(ت.م.3 ).


3 ) الشراكة العائلية


    ثلاثة عشر عاما بعد “فرح ورجاء”، طوَّرَ الإرشاد الرسولي: ” في وظائف العائلة المسيحية ” وتعَمَّقَ في موضوع التربية العائلية. فأَكَّد الطوباوي قداسة البابا يوحنا بولس الثاني أَنَّ التربِيَةَ لَيسَت أَمراً إضافِيّاً أو مُنفَصِلاً عنِ الإنجاب، بل اكتمالاَ له: “…وخصوبة الحُب الزوجي لا تقتصر على إيلاد البنين، ولو فهم الإيلاد بمعناه البشري الخاص: لأَنَّها تشمل جميع ثمار الحياة الأَدبيّة والروحيّة والفائقة الطبيعة وتَغتَني بها، وهذه الثمار ينقُلُهَا الأب والأم، وفقاً لدعوتهما، إلى أبنائهم وبواسطة هؤلاء إلى العالم “(عدد28).


   ويُكَرِّسُ الإرشاد فقرتين لِقَضية المرأة وكرامتها، والاعتراف بدورها الاجتماعي كزوجة وأم. ويطلب نصّ الإرشاد: “…من واجب الكنيسة وحقّها أن تُساعد المجتمع المعاصر، مفرغة جهد الطاقة، لكي تُطالب باعتراف الجميع، بحق، بعمل المرأة في البيت وبإيلائه ما يجب له من احترام وتقدير لما له من قيمة خاصّة لا بديل عنها. وهذا له شأن كبير في ممارسة فن التربية… ” (عدد23).

 
   ويتوجّه الإرشاد أيضاً إلى الأَب المَدعو إلى أن يأخذَ على محمل الجَد رسالةَ الأَبُوَّة: ” …ومحبةُ الزوجة التي أصبَحَت أُمّاً، وكذلك محبّة الأولاد، هي الطَريق الطبيعيّة التي تقود الزوج إلى تَفَهُّمِ أُبُوَّتِه وتَحقيقها…” (عدد25). ويُحَذِّرُ الإرشادُ الآباء مِن الغيابِ الأَبَوي: “…وحيثما تدفع الظروف الاجتماعيّة والثقافيّة الوالد إلى التَغَيُّبِ أحياناً عن العائلة أو على الأَقَل إلى التَراخي في القيامِ بِواجِب التَربية، يجبُ العمل على إقناع المُجتَمَع مُجَدّداً بما لِلأَب في العائلة ومن أجلها من دورٍ فَريد، بالغ الأَهمّية، لا يمكن الإستغناء عنه… ” (عدد25). ويُعَلِّمُ الإختبار أَنَّ غيابَ الأَب يُحدِثُ اضطراباتِ نفسيّة وأدبيّة ومصاعب خطيرة في العلاقات العائليّة…



4) “رسالة إلى الأُسَر


    في رسالته إلى الأُسَر، يقول الطوباوي قداسة  البابا يوحنا بولس الثاني عن دور الوالدين في التربية: “إنَّ الأهلَ هم المُرَبّون الأولون والرئيسِيّون لأولادِهِم، ويَنعَمون أيضاً بِكَفاءَةٍ أَساسِيَّة: إنَّهُم مُرَبّونَ لأَنَّهُم أَهل…” (عدد16). ويُضيفُ : ” إنَّ أحدَ المَيادين الذي لا يُمكنُ أن يُنابُ فيهِ عن الأُسرَة هو بالحَقيقَة مَيدانُ التَربِيَةِ الدِينيّة الذي يَسمَحُ لَها بأن تَنمو “كَكنيسةِ بَيتِيَّة”. إنَّ التَربِيَةَ الدينيّة وتَعليم الأولاد الديانَة يُحَدّدان موقعَ الأُسرَة في الكَنيسَة كَعُنصُرٍ فاعِل لِلتَبشيرِ والرِسالَة…” (عدد16).

ج – أيّة تربية ؟

 
1) نَقلُ ونَشرُ الحكمة


   من أهم جوانب التربية العائلية، بحسب الوثيقة المجمعيّة “فرحٌ ورجاء”، هو التربية على الحياة الاجتماعية، على تحمّل المسؤولية، على بلوغ الرشد في الحياة. فيجب على التربية العائليّة، أولاً،  تمكينَ الشباب بناءَ عائلة بأنفسهم وأن يَنهَضوا بِدورِهِم في المستقبل كآباء. إنَّها تَربِيَةٌ تَنقُلُ الحكمَةَ الإنسانِيَّة: “…وهكذا تُكَوّنُ العائلة أساس المُجتَمَع، لأنَّها المَكان الذي تَجتَمِعُ فيه أجيالٌ عِدَّة، يَتعاونون لِيَكسبوا حكمةً أوسع، فتَناغم حقوق الأشخاص مع سائر متطلّبات الحياة الإجتماعِيَّة ” (ك.ع.52: 2). 


2) تنشئة على الثقافة


   وهناك وجهٌ مُهِمٌّ آخر من وجوهِ تَربِيَةِ الوالِدين، وهو تَنشِئةُ الأبناء على ثقافَةٍ كامِلَة شامِلَة أَوَّلُهَا ثَقافَةُ القِيَم من ذكاء وإرادة وضمير وأخوّة، “تلكَ القِيَم التي تَجِدُ كُلَّ أساسِهَا في اللهِ الخالِق، قِيَم تَعافَت بالمَسيح وبه تَسامَت بِطَرقَةٍ عَجيبَة”. “إنَّ العائلَةَ هي، في بادىء الأَمر، بِمَثابَةِ الأُمِّ المُرضِع لهذه التَربية: ففيها، إذ يُحاطُ الأبناءُ بالحُب، يَكتَشفون بِمَزيد من السهولَة ما بينَ القِيَمِ من مَراتِب. بَينَما تَنطَبِعُ في عَقلِ المُراهِقين، كُلَّما تَقَدَّموا في العُمر، عَناصِرَ ثَقافَة امتَحَنها الزَمن بِطَريقَةٍ قَريبَةٍ مِنَ اللاوعي” (ك.ع.61: 1-2). 

 

3) تنشئة على الحب


    عَرَّفَ الطوباوي قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، في الإرشاد الرسولي: “في وظائف العائلة المسيحيّة”، بأَنَّ العائلَة هي “شَرِكَةُ حَياةٍ وحُب”، وقِوامُ رِسالَتِهَا أَن تُصبِحَ أَكثَرَ فَأكثَر ما هِيَ عَلَيه” (عدد17). واجبها الرئيس أمانتها للحب. فَقَبلَ الكلام على التِقَنِيّاتِ التَربَويّة والبحثِ عَن المدرسة لِلأولاد، لا بُدَّ لِلأَهل مِن عَيشِ الحُب. “وتَحيا المَحَبَّة بينَ الرجل والمَرأة في الزواج، وبالتالي وعلى نطاق أوسع، بين أعضاء العائلة الواحدة- بين الوالدين والأولاد، بين الأخوة والأخوات، بين الأقارب والأنسباء- وتنتعش بقوّة حميميّة باطنيّة مستمرّة تُفضي بالعائلة إلى شراكَةٍ تَتوَطّد وتتأصّل يَوماً بعدَ يَوم فتَكون من الشراكة الزواجيّة العائلِيّة الأساس والمُحَرِّك “(عدد18). إن التربية العائلِيَّة الحقيقيّة، من هذا المنظور، هيَ قبلَ كلِّ شيء التَنشِئة على الحب.


    إنَّ تربِيَةً كهذه على الحب ليست أمراً سهلا. إنَّها تَتطلب من الأهل ممارسة سلطتهم دون ضعف، معتبرين إياها خِدمَةً حَقيقِيَّة. وما يُؤَثِّرُ في الأَبناء، هو رُؤيَةُ تلكَ الشَراكَة العائلِيَّة المَبنِيَّةِ على التَضحِيَةِ والتَفاني. ” وهذا يَتَطَلَّبُ مِنَ الجَميع إرادَةً مُصَمِّمَة، سَمحاء، مَيّالَة إلى الرِفق والسَماحِ والغفران والإتّفاق والمُصالَحَة، بالرغم مِن الأنانِيَّةِ العَمياء والخلافات والمُشاحَنات والخُصومات التي تُمَزِّقُ الشَراكَةَ العائليّة وتَقضي أحياناً عليها…”(عدد21).



4) تنشئة على القيم


    ويدعو الإرشاد الرسولي ” في وظائف العائلة المسيحية ” إلى التَربِيَةِ على ما في الحَياةِ الإنسانِيَّةِ مِن قِيَمٍ جَوهريَّة. ” إنَّ قيمَةَ الإنسانِ هِيَ بِما هو أكثَرَ ممّا هي بما لَهُ ” (عدد37). لذلكَ يجبُ أَن يَنموَ الأبناء على فَهمِ الحُرِّيَةِ والعَدالَة، والكَرامَة الشَخصِيَّة، والحُبِّ الصَحيح، والخدمة المُجَرَّدَة والمجّانِيّة، والفضائل الإجتماعِيّة، ومعاني العَطاء والتضحِيَةِ والإحترام والأمانة والنزاهة والصدق في التَعاطي والمُشارَكة والتَضامن…

5) التربية الجنسيّة


    إنَّ التَنشِئةَ على الحُب، كَهِبَةٍ للذات، هي أيضاً شَرطٌ لا بُدَّ منه لِلوالدين المدعوين إلى تَوفيرِ تَربِيَةٍ جِنسِيَّة واضِحَة فَطِنَة لأَبنائهم. وأمامَ حَضارَةٍ تَنحَدِرُ انحِداراً كَبيراً بالجِنسِ إلى مُستَوى ” الإبتذال “، ما دامت تقبَلُه وتمارسه بطريقة ضَيّقة مُخزِيَة تربطه بالجسد، وبما يُوفّره من لذّة فيها أنانِيّة، يجبُ أن تعتمدَ خدمة الوالدين التربوية على ما يُسَمّى بِثَقافَةٍ جِنسِيّة تكون حقّاً وفعلاً شَخصِيَّة: فالجِنس في الواقع كنزٌ لِلإنسان بِكامِله- جسداً وإحساساً وروحاً- ويتَجَلّى مَعناه العَميق عندما يَحمل الإنسان على هبةِ ذاتِه في الحُب.

     ويجب أن تَتَحقّق التربية الجنسيّة تحتَ رِعايَةِ الوالدين وبِسَهَرِهِم، سَواءَ أكانَ في البَيت أم في المَراكِزِ التَربويّة التي يَختارونَها ويسهرون عليها.

     ولا يجوز على الإطلاق، في هذا المجال، إهمالَ التربِيَةِ على الطَهارَة والعِفَّة كَفضيلَة تَعمَلُ على تَطويرِ النَضجِ الأصيل لدى الشَخص وتُؤَهِّلُهُ لاحترامِ ما للجسد من معنى “زواجي” وللتَسامي بِه.

 III – هَل العائلة هي المكان لِنَقلِ الإيمان؟

  1. شَهادَةُ الكِتابِ المُقَدَّس

 يَتبادَرُ إلى الذِهنِ أَولاً مَكانَةَ العائلَة في العَهدِ القَديم مِنَ الكِتابِ المُقَدَّس. إنَّ راوي خُروجَ العِبرانيينَ مِن مِصرَ يَتَوَجَّهُ إلى الوالدين: “…ولِكَي تَقُصَّ على مَسمَعِ ابنِكَ وابنِ ابنِكَ…” (خر10: 2) لِيُخبِرَ عَن انعِتاقِ الشَعبِ المُختار مِنَ العُبودِيَّة، وتَوارُثِ مَكانَةِ الفِصحِ اليَهودي في العائلَة: “…وإذا قالَ لَكُم بَنوكُم: ما هذه العِبادَة في نَظَرِكُم؟ تَقولونَ: هيَ ذَبيحَةُ الفِصحِ لِلرَب…” (خر12: 26 – 27). فَمِنَ الواضِحِ أَنَّ عَمَلِيَّةَ نَقلِ الإيمانِ في العائلَة هِيَ عَمَلِيَّةٌ أَساسِيَّة بِالنِسبَةِ إلى الشعب اليَهودي.

لكنَّ نَقلَ الإيمانِ في العَهدِ الجَديد يِحتاجُ إلى تَوضيحِ بَعضِ الإعتِبارات. لَم تَكُن عَمَلِيَّةُ نَقلِ الإيمانِ في عائلَةِ يَسوع بَديهِيَّةً أَو سَهلَة. “…وبَلَغَ الخَبَرُ ذَويهِ فَخَرجوا لِيُمسِكوه، لأَنَّهُم كانوا يَقولون: إنَّهُ ضائعُ الرُشد…” (مر3: 21) “… ذلكَ بِأَنَّ أخوتَهُ أَنفُسَهُم لَم يَكونوا يُؤمِنونَ بِه…” (يو7: 5). فَبالرُغمِ مِن أَنَّ الغُرَباءَ بَدَأوا يُصغونَ إلَيهِ ويَتبَعونه، فَإنَّ شَهادَتَهُ وتَعليمَهُ لَم يَكونَا مَقبولَين في عائلَتِه ولا في بَلدَتِه بِحَسَبِ المَثَلِ القائل، والذي استَشهَدَ بِهِ يسوع: “لا نَبِيٌّ مَقبولٌ في وَطَنِه”. لذلكَ تَوجَّهَ يسوعُ مُباشَرَةً إلى ذَويهِ في الناصِرة لأَنَّهُم رأوا فيهِ سَبَبَ عَثرَة: “…لا يُزدَرى نَبِيٌّ إلاَّ في وَطَنِهِ وبَيتِه…” (متى13: 57). فَإذا كانَتِ العائلَة، بِكُلِّ تَأكيدٍ، مَكانَ الوِراثَةِ والنَقلِ والإنتِقال، لكن يَبدو أَنّها تَطرَحُ بَعضَ المَسائلِ الخاصَّة. وهذا ما نُحاوِلُ أَن نتَوَقَّفَ عِندَه قَبلَ الكَلامِ على نَقلِ الإيمان.

  • العائلةُ، مكانُ كلّ أنواعِ النَقلِ والتَواصُل

 تُوجَدُ في العائلَةِ جُملةٌ وأنواعٌ عَديدَة مِن عَمَلِياتِ النَقلِ والتَواصُل، معَ ما يَكمُنُ في طَيّاتِهَا مِن احتِمالاتِ مَخاطِر.

ومِنَ المُسَلَّمِ بِه أَنَّ العائلَةَ هيَ المَكانُ المُفَضَّل لِنَقلِ ما يُتَوارَثُ مِن شَعائر وعادات وتَقاليد. فهناكَ الكثيرُ مِنَ الأُمورِ التي نتَلَقَّاها طَبيعِيّاً، دونَ أَن نَشعُرَ بِهَا أَو أَن نَعيهَا تَماماً، وهيَ تَبني حَياتَنا: مفَاهيمَ وقَناعات وقِيَم وسَبُل تَفكير… وهناكَ أيضاً الكثير مِمَّا نَتَقَبَّلُهُ ونَنقُلُهُ دونَ التَفكيرِ بِه، لِكَثرَةِ ما أَلِفناه وتَكامَلَ فينَا. وهُناكَ أَشياءَ خاصَّة أُخرى تَبدو لَنا مُرتَبِطَةً بِالهُوِّيَةِ الخاصَّة بِعائلَتِنَا. وإنَّنَا، بِحَسَبِ الحالات وعِندَ الإقتِضاء، نَقبَلُهَا ونُدافعُ عَنها أو نَرفُضُهَا. إنَّها التَقاليدُ التي تَبنينَا وهي تُشَكِّلُ خُصوصِيَّتَنا. وهذا ما يَدُلُّ على أَهَمِّيَةِ العائلَة.

– لكنَّ الصُعوبَةَ تَكمُنُ، أَولاً، في أَنَّ ما هو مَنقول قَد يَتَجاوَزُ كَثيراً نِيَّةَ أو قَصدَ الناقِل. عندَما نتَكَلَّمُ عَلى طُقوسيةٍ أَو عادَة أَوعَلى نَصٍّ، يَكونُ هذا النَقلُ، تَقريباً، مُحتَفِظاً بِالأَمانَة. أَمّا عندما نُريدُ نَقلَ القِيَم، لا بَل الحَياةَ المَسيحِيَّة، تَتَفاقَمُ الصُعوبات. إنَّنا نَنقُلُ، في الواقِع، إلى الأَهلِ والأَقرَبين ما نَحنُ عَلَيه ولَيسَ ما نَتَمَنّى نَقلُه.

– تَظهَرُ الصُعوبَةُ الثانية بَينَ الناقِلِ والقابِل في حالَتَين: عِندَما نَتقبَلُ رسالَةً مِن شَخصٍ غَريب نُصغي إلَيها بِكُلِّ انتِباه ونَقبَلُهَا بِأَمانَة. أَمّا إذا صَدَرَت هذه الرسالَة عَن أَخٍ أَو صَديقِ أَو شَخصٍ قَريب فَإنَّ مَعرِفَتَنَا بِهِ، وَأَحكامَنا المُسبَقة عَلَيه، تُشَوِّشُ قَبولَنا لِرِسالَتِه.

– وتَكمُنُ الصُعوبَةُ الثالثة مِن جِهَةِ المُتَقَبِّلِ في إطارِ العائلَة التَقليدِيَّة، إذ أَنَّ كُلَّ ولدٍ يَبني ذاتَهُ إنطِلاقاً مِن قَبولِ مَضمونِ ما يَتَقَبَّلُهُ وأَحياناً مِن رَفضِ هذا المَضمون؛ لأَنَّ نُضوجَ الوَلَد ونُمُوَّ شَخصِه وتَركيزَ شَخصِيَّتِه يَفتَرِضُ التَمايُزَ عَن شَخصِيَّةِ والِدَيه. لكن، بِالمُقابِل، يَنمو الأَولادُ ويَتَقَبَّلوا مِن والِديهِم أَشكالَ الحَياةِ، والقَناعاتِ والقِيَم بِفَضلِ المُتابَعَة والمُثابَرَة والتَكرارِ والإعادَة. ولَعَلَّ مَثَلَ الإبنُ الضال أو الابنُ الشاطِر في الكِتابِ المُقَدَّس يُبَيِّنُ هذه الإشكالِيَّةَ في النُمُوِّ وكَيفِيَّةِ القَبُولِ لَدى كُلٍّ مِنَ الأَخَوينِ الأَكبَر والأَصغَر (لو15: 11-32 ).

– وتَبقى، رابِعاً، الصُعوبَةُ المُتَعَلِّقَة بِحُدودِ طَبيعَتِنَا البَشَرِيَّة وضُعفها عِندَما نَنقُلُ في رَسائلِنَا إلى أَولادِنَا إزدِواجِيَّةَ، لا بَل تَناقُضات، ما نَحنُ عَلَيه. نُبَشِّرُ أَولادَنَا بِقِيَمِ الصِدقِ وحُسنِ التَعاطي مَثَلاً، ونَتَصَرَّفُ أَمامَهُم بِعَكسِ ذلك. يَجِبُ أَن تَكونَ لَدَينا الجرأة والشَجاعَة، في عائلاتِنَا، لِنَعتَرِفَ بالشَهادَةِ الخاطِئَة، واستِطراداً بِغُموضِ بَعضِ تَصَرُّفاتِنَا في نَقلِ مِيراثِ القِيَمِ الإنسانِيَّة والإنجيلِيَّة.

– إنَّ ذِكرَ هذه الصُعوبات يُؤَكِّدُ لَنا تَعقيداتِ عَمَلِيَّةِ النَقلِ في العائلة. لكن هذا لا يَعني أَن العائلَة لا تَقومُ بِعَمَلِيَّةِ النَقلِ والتَوريث، بَل على العَكس فَإنَّها تَنقُلُ الكَثيرَ الكَثير، ومِن بينِهَا ما هو إرادي وبِخاصَّة ما هو لاإرادي.

  • نَقلُ الإيمان

 هَل يُمكِنُ انتِقالُ الإيمان في العائلَة؟إنَّ ما تَنقُلُه العائلَة عادَةً هِيَ العادات والمَبادِيء والقِيَم والذاكِرَة والتَقليد. لكِن هَل تَنقَلُ الإيمان؟  ما القَولُ بِإيمانٍ يَكونُ نُسخَةً “طبقَ الأَصل” لِتَقليدٍ عائلِي؟ عندَما يَكونُ الأَمر وارِداً، كَما في العَهدِ القَديم، فإنَّ النَقلَ يَكونُ ذاكِرَةَ الشَعب، مُطابِقاً لِسُلالَةٍ أَو ذُرِّيَة ولِطَريقَةِ عَيش، فَنُدرِكُ أَنَّ الأَمرَ مُمكِن، ولكِنَّنا نرى أَيضاً أَنَّ الأَمانَة لِلهِ ولِلعَهدِ معَهُ لِيسَت تَحصيلاً حاصِلاً. لَكِنَّنا نَجِدُ أَنفُسَنا، اليَومَ، في مُجتَمَعٍ لا يَسري الإيمانُ فيه مِن دونِ عَناء. فالتَقاليدُ التي يَقبَلُهَا أَبناؤنَا في العائلَة تَتَعَرَّضُ لِتَقاليدَ أُخرى مُغايِرَة يُواجِهونَها في المَدرِسَة والحَي وشاشَةِ السينما والتلفزيون والحاسوب… ويَجِدُ المَرءُ ذاتَهُ أمامَ تَجاذُباتٍ ومُعاناةٍ تُوصِلُهُ إلى خَيارٍ شَخصي، بِحَسَبِ ما أَعلنَ يسوعَ في الإنجيل: “… لا تَظُنّوا أَنّي جِئتُ لأَحمِلَ السَلامَ إلى الأَرض، ما جِئتُ لأَحمِلَ سَلاماَ بَل سَيفاً. جِئتُ لأُفَرِّقَ بَينَ المَرءِ وأَبيه، والبِنتِ وأُمِّهَا، والكَنَّةِ وحَماتِهَا. فَيكونُ أَعداءَ الإنسانِ أَهلُ بَيتِه” (متى10: 34- 36). إنَّ الرَبَّ يَتَكَلَّمُ بِالطَبعِ هُنَا على تَعارُضِ الإيمانِ الشَخصي والتَقليدِ العائلَي. أَما التَنَوّع الثَقافي والديني، الذي نَشهَدُهُ في أَيامِنَا، فَيَقتَضي تَحَوّلاً جَذرِيّاً يَضَعُ الإنتِقالَ القَديم في مَتحَفِ التاريخ.

أمامَ هذا التَغيير، هَل نَتَحَسَّرُ على الماضي ونَأسَفُ لِلتَطَوُّرِ الحاصِل في المُجتَمَع؟ يَجِبُ أَلاّ نَنسى  طَبيعَةَ الإيمان. إنَّ الإيمانَ خَيارٌ شَخصي يَستَنيرُ بِالروحِ القُدُس وبِتَعاليمِ الإنجيل. إنَّ الإيمانَ فِعلٌ شَخصي قَد تُسانِدُهُ التَقاليدُ العائلِيَّة أَو تُعارِضُه. فهَل يَعني أَنَّ العائلَة لا تَنقُلُ الإيمان؟ لا بُدَّ هُنَا مِنَ التَوضيح أَنَّ العائلَة مَدعُوَّةٌ إلى نَقلِ أَشياءَ عَديدَة تُمَهِدُ السَبيلَ لِلإيمان وتُحَصِّنُه.

-هناكَ أولاً نَقلُ المَعلومات الذي لَهُ اَهَمِّيَتُهُ القُصوى، والذي لا يَتِمُّ إلاَّ في العائلَة والكَنيسَة. إنَّ النُصوصَ الكِتابِيَّة وعَيشَ الحَياةِ المَسيحِيَّة والتَقليدَ العائلي، كُلُهَا عَناصِرُ أَساسِيَّة تُؤَسِّسُ لِلإيمان. ولا نَنسَ، أولاً وآخراً، أَنَّ العائلَة هيَ المَكانُ الأَوَّل لِشَهادَةِ الحَياةِ اليَومِيَّة والقُدوَةِ الإيمانِيَّة في هَناءِ الحَياةِ وشِدَّتِهَا والتي لا يُمكِنُ استِبدالُ هذا المَكانِ بِأَيِّ شَكلٍ مِنَ الأَشكال.

    4)  شهادَةُ الحَياة العائليّة

    لا بُدَّ مِنَ التأكيدِ على أَنَّ واجِبَ العائلَة المَسيحِيَّة يَستَلزِمُ قُدوَةً ومِثالاً لِحَياةِ الأَفرادِ فيها الشَخصِيَّة والزوجية والعائليّة المَسيحِيَّة. ما مَعنى ذلك؟  نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا في عائلاتِنَا لَنا ضُعفُنَا، وأَنَّنا في مَسيرَتِنا، رُغمَ نَقائصِنَا وخَطايانا، مَدعوونَ إلى القَداسَة. فَالعائلَةُ المَسيحِيَّة هيَ عائلةُ تُخطيء ولكنَّها تَنالُ الغُفران في تَوبَتِهَا واتِّباعِهَا المَسيحَ والإنجيل. في قَلبِ الحَياةِ العائلِيَّة قَد نُخطيء ونَغضَب ونعيشُ بعضَ المَشاكِلِ والمُنازَعات. ولكنَّنا نَعتِرِفُ بِأَخطائنَا، نَتَعَلَّمُ  طَلَبِ المُسامَحَة والغُفرانَ ونَتَمَرَّسُ بِالتَوبَة ونَحُلُّ النِزاعات، وهذا ما يَجعَلُ مِن حَياتِنَا العائليّة حَياةً حُلوَة مَلأَى بِالرَجاء بِالرُغمِ مِن كُلِّ الصُعوبات. لَيسَ كَمالُ الحَياةِ المِثالِيَّة- الصَعبَةِ المَنال- هو الذي يَنقُلُ الأَشياءَ الجَميلَة والمُفيدَة، بَل طَريقَةُ حَياتِنَا البارَّة والخاطِئَة، بِصِدقِهَا وتَواضُعِهَا، هي التي تَنقُلُ ما يَجِبُ نَقلُهُ إلى الأَولاد. إِنَّ عَيشَ الوالدين لِلإيمانِ يُصبِحُ شَهادَةً وهَدِيَّةً يُقَدِّمونها لأَولادِهِم، إذا شاؤوا، بِالرُغمِ مِن كُلِّ الشَوائب التي تَعتَريها. فَالإيمانُ يُعطى ولا يُفرَض. يُعطى بِإيمانٍ ورَجاءٍ ومحَبَّة في مُناخِ مِنَ الحُرِّيَةِ والصَلاة، وبِنَوعٍ أَخَص بِروحِ الصَبر، صَبرِ اللهِ عَلَينَا بِحُبٍّ لامَحدود ولا مَشروط. وتُشَكِّلُ الأَعياد الدينيَّة والمُناسَبات العائلِيَّة خَيرَ مساحَةٍ لِتَغذِيَةِ الإيمان، عبرَ الإحتِفالِ والمُشارَكَة والحوار.

  IV– العائلة: مدرسة الإيمان

    عندما تُشَكِّلُ التربيةُ على الإيمانِ في العائلة، هدفاً وسَعياً جَدّياً، لا يَجِبُ فَصلُ زَرعِ بُذورِ التَعليمِ الإيماني عَنِ بُذورِ التَقوى: فالمَعرِفَةُ تَتَرافَقُ معَ الفَضيلَة، والفكرُ معَ الوُجدان. وفي هذا المَجال، أَكثَرَ مِن أَيِّ مَجالٍ آخَر، مِنَ الضَرورَةِ أَن يَسهَرَ الأَهلُ على تَأمينِ نَمُوٍّ مُتَوازنٍ لِلأَولاد. إنَّ الإكتِفاءَ بِبَعضِ المُمارَساتِ التُقَوِيَّة المُغَلَّفَة بِطَلاءٍ أَو مَظهَرٍ تَعليمي هي غَيرُ كافِيَة، مِثلُهَا مِثلُ أَيّ تَعليمٍ غَيرَ مُسانِدٍ أو داعِمٍ القَناعَةَ بِتَأدِيَةِ العِبادَةِ لِلّه، وعَيشِ مُتَطَلِّباتِ الرِسالَةِ المَسيحِيَّة. يَقتَرِنُ تَعليمُ الإيمانِ، إذاً، بِالحَياة، ويُعَبَّرِ عَنهُ بِالثَباتِ على المَقاصِد، غَيرَ بَعيدٍ عَن واقِعِ الحَياةِ اليَومِيَّة، وَيُؤَدّي إلى الإلتِزامِ بِمَحَبَّةِ المَسيحِ والناس.

    إنَّ العُنصُرَ الذي لا بَديلَ عَنهُ في التَربِيَة، كَما هو مَعلوم، هو المَثَلُ والقُدوَة، وشَهادَةُ حَياةِ الأَهل: كالصَلاةِ معَ الأَولاد(صباحاً، ومساءً، وعلى المائدَة)، وَإيلاءِ الاهتِمامِ اللازِم لِدَورِ الإيمانِ في الحَياةِ البَيتِيَّة (كالمُشارَكَة في القُدّاسِ الإلَهي أَيامَ الآحادِ والأَعياد، وَإيجادِ المَساحاتِ المُناسِبَة لِلراحَةِ والفَرَحِ والإحتِفال التي تَجمَعُ أَفرادَ العائلَة)، وتَعَلُّمِ نَقلِ الإيمانِ والدِفاعِ عَنهُ بِصِدقٍ وَإخلاص ونَشرِ مَحَبَّةِ المَسيح. ” إنَّ الأَبَ والأُمَّ اللَّذَينِ يُصَلِّيانِ معَ أَبنائهِمَا…يَنفُذانِ إلى أَعماقِ قُلوبِ أبنائهِمَا ويَترُكانِ آثاراً لا تَقوى على إزالَتِهَا أَحداثُ الحَياةِ المُتَعاقِبَة” (وظائف العائلة المسيحيّة، عدد60).

    يَجِبُ أَن يُخَصَّصَ الأَهلُ وَقتاً كافِياً لِلأَولاد: فَالوَقتُ، هو الحَياة، والحَياةُ هِيَ أَفضَلُ وأَجوَدُ شَيءٍ يُمكِنُ إعطاؤُه. إنَّ إيجادَ أَوقاتٍ لِلنُزُهات وتَنظيمِ رِحلات، والتَواجُدِ لِلمُشارَكَةِ في الكَلامِ والأَحادِيثِ عَنِ الأُمورِ البَيتِيَّة بِأَفراحِهَا وَهُمومِهَا ونَقلِ الإيمانِ فيهَا…يَتَطَلَّبُ حُضوراً وصَلاة. فَإذا خَطِىءَ أَحَدٌ اعتَذَرَ وَاختَبَرَ الغُفران، وإن أَحسَنَ لاقى التَشجيعَ وَالإعجاب…وهذا مِن شَأنِهِ أَن يُشَدِّدَ أَواصِرَ الحُبِّ والرَوابِط في العائلَة.

    ذَكَّرَ قَداسَةُ البابا الفَخري، بندكتوس السادس عشَر، الأَهلَ في خِطابٍ لَهُ، في شَهرِ حُزَيران سَنة 2011 أَمامَ المُؤتَمِرينَ في أبرَشِيَّةِ روما: “بِأَنَّ الأَولادَ مُنذُ صِغَرِهِم بِحاجَةٍ إلى الله، كَما أَنَّ الإنسانَ مُنذُ البَدءٍ هُوَ بِحاجَةٍ إلى الله؛ ولدى الأَولادِ القُدرَةَ على إدراكِ عَظَمَتِه: يُحسِنونَ تَقديرَ قِيمَةِ الصَلاة- والحوار معَ الله- والطُقوس، وَيُمَيِّزونَ الفارِقَ بَينَ الخَيرِ والشَر. فَاعرَفوا، إذاً، أَن تُرافِقوهُم بِالإيمان، في مَعرِفَةِ الله، في الصَداقَةِ معَ الله، بهذه المَعرِفَة بَينَ الحَقِّ والباطِل والخَيرِ والشَر. رافِقُوهُم بِالإيمانِ مُنذُ نُعومَةِ أَظفارِهِم”. إنَّ طَريقَةَ التَواصُلِ معَ العائلَة، بِهذا الشَأن، لَيسَت أَمراً مُضافاً أَو ثانَوِيّاً، بَل جُزء لا يَتَجَزَّأُ مِن حَيَوِيَّةِ الإيمانِ بِالذات. إنَّهُ تَحَدٍّ تَجِبُ مُواجَهَتُهُ بِطَريقَةٍ مُتَوازِنَة ومَنهَجِيَّة، بَعيداً عَنِ الإرتِجال. إنَّ المَعرِفَةَ في الحَياةِ العائلِيَّة مُهِمَّة، ومَهارَةَ التَدبيرِ ضَرورَة، وإرادَةَ التَدبيرِ واجِبَة.

    يُمكِنُ لِلعائلَة المَسيحِيَّة أَن تَنقُلَ جَمالَ الإيمانِ وَحُبَّ المَسيح عِندَما تَعيشُ، بِتَناغُمٍ ومَحَبَّة، يَتَناسَى الأَفرادُ فيهَا الهُمومَ، مُغَلِّبِينَ البَسمَةَ والإنشِراح، لِلإهتِمامِ بِبَعضِهِم البَعض. فَالحَياةُ الإيمانِيَّة لَيسَت مَجموعَةَ مَمنُوعاتٍ ومَسموحات، بَل مَساحَةُ حُبٍّ تُساعِدُ على التَغاضي عَنِ الإحتِكاكاتِ الصَغيرَة التي يُمكِنُ لِلأَنانِيَّةِ أَن تَجعَلَ مِنهَا جِبالاً مِنَ الحَواجِزِ وَالصِدامات. وتُساعِدُ المَحَبَّةُ على تَوظيفِ هذا الحُبِّ في الأَعمالِ والخَدَماتِ الصَغيرَة التي تَنسُجُ الحَياةَ اليَومِيَّةَ المُشتَرَكَة.

   إنَّ التَوجيهَ العائلِي، والتَربِيَةَ على الإيمانِ، يَقتَضيانِ وَضعَ الوَسائلِ التي تُمَكِّنُ الأَولادَ مِن إيجادِ طَريقِهِم ودَعوَتِهِم لِيَجعَلوا مِن وُجودِهِم بِالكامِل فِعلَ عِبادَةٍ لِلّه. ” فَالخَليقَةُ تَفنى دونَ الخالِق…حَتى أَنَّ نُسيانَ اللهِ يَجعَلُ الخَلِيقَةَ نفسها مُظلِمَة” (فرح ورجاء، عدد36). أَجَل، نَجِدُ في العِبادَة أساسَ النُضجِ الشَخصي: فَإذا تَراجَعَ الإنسانُ عَن جَمالِ عِبادَةِ الله، إستَبدَلَ هذه العِبادَةَ، بِعِباداتٍ أُخرى: كَعِبادَةِ الذات، والسُلطَة، والشَهوَةِ، وصَنَمِيَّةِ الغنى، ووَثَنِيَّةِ العِلمِ والجَمال. إنَّ تَشجيعَ الأَهلِ أَولادَهُم على العِبادَةِ وَالتَقوى يَعني وَضَعَ قُلوبِهِم وذَواتِهِم في قَلبِ يسوع لِكَي يُصغوا إلى صَوتِ الضَمير حَيثُ هيَ إرادَةُ الله، ويَتَمَرَّسوا بِالواجِباتِ والتَقاليدِ التي يَعيشُهَا أَهلُهُم أَمامَهُم، فَتُساعِدُهُم على الإلتِزامِ الإيماني الكامِلِ بِالله وَبِدونِ تَحَفُّظ. فَإذا تَمَنَّى الأَهلُ لأَولادِهِم النَجاحَ والسَعادَةَ في مَجالاتِ الحَياةِ المِهَنِيَّةِ والثَقافِيَّةِ والعاطِفِيَّةِ، فَمِنَ الطَبيعي أَلا يَتَمَنّوا لَهُم رَداءَةَ الحَياةِ الروحِيَّة.

    إنَّ الإيمانَ، بِطَبيعَتِهِ، فِعلٌ حُرٌّ لا يُمكِنُ فَرضُهُ، وهوَ في الوَقتِ عَينِه عَطِيَّةٌ تَستَمِدُّ جُذورَها مِن سِرِّ نِعمَةِ اللهِ وحُرِّيَةِ جَوابِ الإنسان. لِذلِكَ، مِنَ الطَبيعي أَن يُصَلّيَ الأَهلُ مِن أَجلِ أَولادِهِم، ضَارِعينَ إلى اللهِ أَن يُثَمِّرَ فيهِم بُذورَ الإيمان التي زَرَعوهَا في نُفوسِهِم. وغالِباً ما يَستَخدِمُ الروحُ القُدُس هذه الرَغبَة لِيُوقِظَ، في العائلاتِ المَسيحِيَّة، دَعَواتٍ في كُلِّ المَجالات مِن أَجلِ خَيرِ الكَنيسَة العام.

الخاتمة: ثقةٌ ورجاء

    مِمّا لا شَكَّ فيه، أنَّ العائلةَ هيَ من عجائبِ خَلقِ الله. فإذا كانَ الإيمانُ سِرّاً وعَلاقَةً شَخصِيَّة بينَ الله والإنسان، فإنَّ العائلةَ بِإمكانِهَا نَقلَ أُمورٍ كَثيرَةٍ بَهِيَّة ورائعة لأبنائها. فهي تُثبِتُ أولاً بأَنّه من الممكن العيش بِطريقةٍ مُغايرَة عن الذين يَعبُدون المالَ والأُمور الدُنيَوِيَّة السَخيفَة. إنَّها تَشهَدُ، بِمَثلها لإمكانِيّةِ أَن يكونَ الإنسانُ مُحِبّاً ومَحبوباً، وأن يَثِقَ الواحِدُ بِالآخَر، وأَن يعترف الإنسان بِخَطأه ويتصالح. إنَّها تجعلُ من الحياةِ المَسيحيّة واقِعاً وحَقيقَة، بِكِبَرِهَا، بجَمالاتها وصعوباتها.

    عندما يدخلُ الأولادُ في أجواءِ الإيمان ويَتَبَنّوا هذا الإيمان بِقَرارٍ شَخصي، يَغمُرُ الفَرَحُ حَياتَهُم وحَياةَ أَهلِهِم. وإذا ابتَعَدَ البَعضُ مِنهُم ابتِعادَ الابن الضال، يَبقى على الأَهلِ أَن يَعتَصِموا بِالرَجاء وبانتِظارِ الأَبِ المُحِب. ولنَتَأَمَّل مشهَدَ الرُسُلِ في العلّية يَنتَظِرونَ حُلولَ الروح القدس: “… وكانوا يُواظبون جَميعاً على الصَلاة بِقَلبٍ واحِد، معَ بعضِ النِسوَة ومَريَم أُمّ يسوع ومعَ إخوَتِه…”           (أع 1:14).

Scroll to Top