الأب كابي ألفرد هاشم
إنّ الارتباط الوثيق بين الإيمان والخلاص والمصير أمرٌ بديهيّ في الحركة الدينيّة يفسّر الإقرار بوجود مطلقٍ متسامٍ فوق إدراك البشر وقوّتهم، قادرٍ على إتمام الخلاص وإضفاء صبغةٍ إيجابيّة على مصير البشر والكون، بل على الوجود بأسره. وهذا الارتباط يرتدي في ديانات الشرق الأقصى طابعًا حلوليًّا، كما في البوذيّة والهندوسيّة والكونفوشسيّة… ووجهًا شخصيًّا في ديانات الشرق الأوسط التوحيديّة، أي في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام. وسواءٌ لجأنا إلى قوى الطبيعة الإلهيّة وعدنا إليها لنستقي القوّة اللازمة للترقي والسموّ حتى بلوغ الغاية والحلول في الكون الإلهيّ، أم استعوذنا واستغثنا ليخلّصنا الله بواسطة الوحي والكتب المقدسة والأنبياء، بل بتجسّد ابنه، فإنّنا في جميع الأحوال نقرّ بمعطوبيّة الطبيعة البشريّة وحاجة الإنسان الأساسيّة إلى الخلاص الذي لا يمكن أن يحصل عليه بقواه فقط، بل بعون قوّةٍ فائقة للطبيعة، متسامية ومطلقة. وهذا الأمر يشرح مكانة الصراع بين الخير والشرّ في تاريخ الفكر البشريّ وفي سلّم قيمه الأخلاقيّة لأنّ المصير كلّه مرتبطٌ بغلبة أحدهما. والمثير الانتباه، أنّ الفكر الإنسانيّ بات يعي تأثير هذا الأمر على الكون وليس فقط على البشر لأنّهم ذات عقلٍ مدرك، وإرادةٍ حرّة.
التساؤل حول معنى الخلاص وحاجة الإيمان
مع بداية الألف الثالث، يتساءل الكثيرون حول معنى هذا الخلاص وأهميّته، ولا سيّما أن الإنسان المعاصر بات يعيش ليومه وكأنه لن يموت أبداً، ويتصرّف وكأنّه سيّد الكون بلا منازع، ويتباهى بكل ما توصّل اليه في شتّى حقول التقنيّة والاختراع، متغافلاً عن كل ما أتلفه من جمال الخلق وروعة الطبيعة وحسنها، متعاميًا عن معاني الوجود البعيدة الغور، ومنصرفًا الى ما هو سريع الخدمة وسهل المنال، حتى أضحى المال والجاه والعظمة والسلطة آلهةً يسجد لها ويهابها. بالإضافة إلى ذلك، يبدو مطلع القرن الحادي والعشرين وكأنّه زمن العلمنة بلا منازعٍ، فيه الإنسان لا يبالي بالموت ولا بالمصير، بل يكتفي بالحياة دون ان يتساءل حول قيمتها الأساسيّة، عابثًا بكل ما وصلت اليه يداه، حتى بالجينات الأكثر دقّةً وتعقيدًا.
لماذا الإيمان إن لم تكن ثمّة حاجةٌ إلى الخلاص ؟ ما معنى الارتباط الكيانيّ بآخرٍ إن كان الإنسان يستطيع الاكتفاء بذاته، والخلاص بقواه؟ كثيرون يظنّون في أيّامنا أنّ ملء الحياة هو أن تعيش لنفسك فقط، وأن تتغاضى عن كلّ ما حولك، ولا سيّما إن كان يزعجك أويقلق راحتك. وهؤلاء يسعون في حياتهم إلى توفير رفاههم وتأمين مستلزمات حياتهم كما يحلمون بها، غير مبالين بأمرٍ آخر. ولكنّهم يفقهون في نهاية المطاف أنّ هذه الأنانيّة الفرديّة وهمٌ، وأنّ الحياة صراعٌ مستديم لخلاص الحياة من مزالق الموت وبنوعٍ خاص من موت الأنانيّة. إن مصير الناس رهنٌ بالموت الذي نسير نحوه ونقترب منه يومًا بعد يوم، منذ الولادة. ومعطوبية الحياة بالموت يواكبها حال المرض الذي لا يفرّ منه إنسانٌ، وما يرافقه من ألمٍ وشعورٍ بهشاشة الدنيا على الرغم من جميع التأمينات والتحصينات، وتقدّم الطبّ والعلوم على اختلاف أنواعها. إنّ سرّ الإيمان هو كسرّ الحبّ، خروجٌ من الذات حتّى النهاية، ووهب لها حتّى الإخلاء التامّ كما نقول في المسيحيّة. فالإيمان هو أن تثق ثقةً مطلقة، والحبّ هو أن تحبّ حتّى حدود الحب. وفي القرار الذي يتخذه كلّ واحدٍ سواءٌ لجهة الانغلاق على نفسه أم الانفتاح على المطلق والآخر يرتبط مصيره الفرديّ، أي خلاصه.
الخلاص والمصير في الفكر المعاصر
في مطلع القرن العشرين، قلّ الكلام على الخلاص والمصير حتّى في الأدب المسيحيّ، لكنّ هاتين المسألتين عادتا إلى واجهة اهتمام العديد من المفكّرين ومن بينهم من لا يدّعي الإيمان، إذ انكبّوا على دراسة مفهوم الخلاص وتساءلوا بجدٍّ حول مصير الإنسان والكون. وقد شدّد بعضهم، من أمثال حنّة آرنت، على وجوب إخراج مسألة المصير من حيّزها التاريخيّ الضيّق ومن مجال الفعل الإنسانيّ أو البشريّ المحدود لأن غياب المعنى في عالم اليوم الحديث يتخذ أبعادًا خطيرة عندما يصل إلى معنى المستقبل والنهاية[1]. لقد اعتقدت آرنت أنّ حصر المصير البشريّ في أطر التاريخ يعني تغريبه عن نفسه وإبعاده عن تحقيق إنسانيّته في عمقها لأنّ الإنسان يأتي من قبل التاريخ، ويتخطى في أبعاده الوجوديّة أطر التاريخ. فلا يجوز لنا بعد اليوم أن نتسرّع بالقول أنّ بعض الأسئلة التي تتعلّق بالخلاص والمصير والآخرة والأبديّة أسئلةٌ تخطّاها الزمن. يقول سيوران، وهو كاتب علمانيّ، في كتابه التاريخ والوهم : ” هنالك أبديّةٌ حقيقيّة وإيجابيّةٌ تمتد إلى ما بعد الزمن، ولكن ثمّة أبديّةٌ وهميّةٌ وسلبيّة تقع ضمن حدود الزمن، تلك التي نرتع فيها بعيدًا من الخلاص وخارجًا من كفاءة أيّ فادٍ”[2]. فإن كان مفكّرون غير متديّنين يتجرّأون في طروحاتهم، وكأنّي بهم يذكّرونا نحن المسيحيّين بصفحاتٍ طوتها ذاكرتنا، وبكلماتٍ ومفاهيم لم يعد لها وقعُها في آذاننا، فما يمنعنا نحن من الخروح من خجلنا المزيّف لإعادة طرح هذه المسائل بكثيرٍ من الجدّ والحذر العلميّ والنقد السليم؟ هذا الأمر يقودنا إلى طرح العديد من الأسئلة حول ما يعني لنا نحن المسيحيّين الخلاص الذي حمله الينا ابن الله يسوع المسيح، الذي بشّرت به الكنيسة منذ نشأتها، وما يتضمّنه من ارتباط بمعنى الوجود والموت والآخرة والمصير والأبديّة.
التسامي والحسّ الكيانيّ عتبة الإيمان
إنّ ما سمعناه في الماضي حول التسامي والعالم الآخر، ألا يكشف لنا ما يسمّيه الفيلسوف بول ريكور الحسّ الوجوديّ أو الكيانيّ، أي معنى الكينونة والوجود البشريّ الذي لا يتخلّى عن العقل، بل يذكّرنا بهويّتنا وبما نحن عليه أو حتّى ما يجب أن نكون عليه، بأنّنا مدعوّون إلى ما هو أسمى وأكبر. فهذه الأفكار حول التسامي تفتح أمامنا أبوابًا تترك الأفق ممتدًا أمام ناظرينا التي لا تحتويه، وهي في الوقت عينه لا تملي علينا أي شيء، بل تحرّك حسًّا في أعماقنا لا يلبث أن يعتلن في حياتنا. ومفهوم التسامي هذا يدفعنا إلى البعيد ويقودنا إلى داخلنا كما يفعل بنا المحيط الذي ينتشلنا من الشاطىء ويقذف بنا إلى اللامتناهي، ولا يلبث أن يعود بنا إلى هذا الشاطىء عينه مع الموجة العائدة. ومن هذه الرحلة نعود وقد تذوّقنا بعضًا من اللامتناهي واللامحدود الذي يعانق بحنوًّ كبير عالمنا. عندها نفقه أنّ لا بدّ لنا من أن نتصدّى للتردّد وأن نواجه عدم اليقين لأنّ الحقيقةٌ أمرٌ نبحث عنه باستمرار ولا نملكه أبدًا امتلاكًا تامًّا. وهذا يبيّن جوهر الإيمان. التسامي يحثّنا على التساؤل الدائم، ويتحوّل إلى دعوةٍ ملحّة للبحث والمعرفة يتردّد صداها في أعماقنا، ولا يدعنا نستسلم للطمأنينة الزائفة، بل يشدّنا دون كللٍ نحو ما يجب أن نكون عليه، أن نصيره، أن نتحوّل إليه. إن ما يسعى اليه الإنسان بجريه وراء السعادة، لا يقتصر على الشكل الخاصّ أو المنحى الشخصيّ في اختراق انسداد الواقع عبر إيجاد الحلول الفرديّة، بل يتخطّاه إلى السعي الشامل لجميع الخروقات، أي إلى رؤيةٍ شاملة، وهدفٍ عامٍّ نسمّيه المصير. يؤكّد الفيلسوف ريكور أنّ ” السعادة هي بلوغ المصير وليست تحقيق الرغبات الخاصّة “[3]. إن أعمق ما يختبئ وراء مفهوم الخلاص قد يكون مسألة المصير نفسها. فهل يكتفي الإنسان بأن يقيس نفسه فقط بالواقع الذي يصيبه، مهما كان هذا الواقع غنيًّا وهامًّا، والذي قد لا يكون، كما يقول ليفيناس، “النعمة الفائقة أو الأسمى”[4]؟
لمحة عن الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ في القرن العشرين في خطابه حول الإسخاتولوجيا[5]
تناول الفكر اللاهوتيّ في القرن العشرين مسألة الإسخاتولوجيا من باب تفسير أقوال يسوع حول “حلول الملكوت” المرتقب وانتظار مجيئه في كنيسة القرن الأوّل اللذين كانا يبدوان أمرين راهنين، أي قابلين للحصول في أيّ وقتٍ، في الأشهر أو السنين التي تلت الحدث الخلاصيّ المتمثّل بموت الربّ وقيامته. واحتلّت الإسخاتولوجيا هذه في اللاهوت الإنجيليّ الليبراليّ مكانةً مرموقة، لا سيّما حين بيّن يوهانس فايس وآلبرت شفايتزر، في مطلع القرن العشرين، أنّ هذا الانتظار الإسخاتولوجيّ طبع تعليم يسوع وحياته بطابعٍ دامغٍ فريد. ولكنّ مرور القرون دون تحقّق المجيء الثاني قد أدّى إلى التحوّل من خطابٍ حول عودة يسوع إلى خطابٍ حول الإسخاتولوجيا. ولا شكّ في أنّ اللاهوتيّ كارل بارت شكّل في موقفه نقطة تحوّل حاسمة عندما صرّح في كتابه “الرسالة إلى الرومانيّين“، بالردّ على ترولتش الذي نفى علاقة المسيحيّة بالإسخاتولوجيا، ما مفاده بأنّ المسيحيّة، إن لم تكن في طبيعتها إسخاتولوجيا، فهي ليست على علاقة بالمسيح. وهكذا نقل بارت الفكر الإسخاتولوجيّ من توقّع حدثٍ زمنيّ إلى حصول أمرٍ حاليّ مرتبط بحياة الإنسان، أي إلى قرارٍ يقوم على الانفتاح على كائن الله المطلق. في نظرالكردينال راتزينغر، تغاضى بارت عن اعتبار المسيحيّة عقيدةً أو مؤسّسة، وجعل منها فقط فعل لقاءٍ متجدّد بالله باستمرار[6]. القيامة في خطاب بارت هي الحياة الأبديّة، والإسخاتولوجيا هي الزمن الممتد بينها وبين الزمن الأخير وفق ما يتخذه كلّ إنسانٍ من قرار في علاقته مع المسيح. ولكنّ حصر الإسخاتولوجيا بالتاريخ على هذا النحو لم يرضِ الكثيرين في اللاهوت الليبرالي. فعاد بارت وبنى خطابه في كتابٍ حول “عقائد كنسيّة” انطلاقًا من تمحورٍ حول شخص المسيح في العهد الجديد.
كذلك يؤكّد رودلف بولتمن أن المسيحيّة هي وجود إسخاتولوجيّ في نوعٍ من تخطّي الزمن، يرتكز خصوصًا على حدث اللقاء، وعلى القرار الذي يتخذه الشخص في الردّ على الدعوة الإلهيّة والتجاوب معها. أن تكون مسيحيًّا عنده، يستلزم أن تُقدم في حدث اللقاء هذا على أصالة الوجود. تتماهى عنده الإسخاتولوجيا مع فعل عطاء الذات عطاءً متواصلاً فيصبح حينئذٍ الزمنُ هذا التواصل خارج العلاقة مع نهاية الزمن. وهكذا أخرج بولتمن المسيحيّة من واقع التاريخ ومواجهته حتّى يتخيّل إليك عندما تقرأ كتاباته في هذه المسألة، أنّه لم يعد للإيمان شيءٌ يقوله للتاريخ. وهذا الأمر خطير. سنة 1948 وفيما بعد سنة 1965، جاء أوسكار كولمن، عبر أعماله اللاهوتيّة والتفسيرّية للكتاب المقدس، بمفهومٍ عن المسيحيّة يختلف بشكلٍ جذريّ عن مفهوم بولتمن معتبرًا التاريخ الواقعيّ أمرً أساسيًّا في الخطاب حول الإسخاتولوجيا، ومشدّدًا على قيمة تاريخ الخلاص الوجوديّة. الإيمان عنده يعني التضامن مع تاريخ الخلاص، وتقبّل الحدث الرئيسيّ فيه، والعمل انطلاقًا منه على ما لم يكتمل بعد[7]. وقد أوضح أن تاريخ الخلاص ليس ماضيًا وحسب، بل هو حاضرٌ ومستقبلٌ، وهو يتواصل حتّى عودة الربّ! ويكون كولمن، وفق ما قاله راتزينغر، قد أغنى مقولات الإيمان والرجاء والمحبّة بأبعاد تاريخ الخلاص الشاملة[8].
اختلف الموقف مع اللاهوتيّ الإنكليزيّ دود ومقولته حول “الإسخاتولوجيا المحقَّقة” التي تؤكّد أنّ عمل الله هو تدخّلٌ في التاريخ من خلال حدث يسوع المسيح، وبأنّ النظام الأبديّ قد حضر في الوضع الواقعيّ الذي هو حصاد الماضي”[9]. تجلّى ملكوت الله في سرّ موته وقيامته الذي ينفتح على الكنيسة محقِّقةً وضامنةً استمرار هذا التجلّي والانفتاح على المصير النهائيّ في الوقت عينه. صحيحٌ أنّ مفهوم بلتمن حول القرار الروحيّ والتقويّ، على الرغم من تأثيرها، قد جرّدت الإيمان من مضمونه وقطعت الطريق على كلّ تساؤلٍ لاهوتيّ حقيقيّ حول معنى العالم والتاريخ، ولكنّ لاهوت الرجاء الذي وضعه مولتمن[10]، واللاهوت السياسيّ كما عبّر عنه ميتس[11]، أعادا للإسخاتولوجيا في مركزيّتها ضمن الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ، البعد التاريخيّ عن طريق المستقبل وليس فقط عن طريق الحاضر. إنها لم تعد تحمل أذيال الواقع من ورائه، بل باتت تتقدّمه حاملةً الشعلة أمامه، بمعنى أنّها لا تنجم عن اختباراتٍ فقط، بل هي الرجاء بإمكانيّة اختبار أمورٍ جديدة. إنّ رجاء الوعد يجب أن يناقض الواقع الحاضر لصالح الواقع الآتي! ومثل هذا الرجاء كفيلٌ بتغيير العالم ممّا أفسح في المجال أمام قيام لاهوت الثورة، ولاهوت التحرير في أميركا اللاتينيّة، واللاهوت الأسود في الولايات المتحدة وإفريقيا… والخطر في هذا النوع من النظريّات والخطابات وهمُ مبادئ ومفاهيم ماسيويّة خاطئة، كما يؤكّد راتزينغر، قد تقود إلى أنظمة توتاليتاريّة شاملة. وفي نظره، مثل هذا الأمر يُفقد الإسخاتولوجيا قوّتها ومضمونها الخاصّ ويحوّلها إلى مسألةٍ مرتبطة بفعل الناس وصراعهم السياسيّ، مع العلم بأنّ مجيء ملكوت الله ليس عملاً سياسيًّا[12].
في ما استعرضناه من اللاهوت الليبراليّ، يبدو لنا واضحًا التجاذب الدائم بين الإيمان المرتبط بالواقع والإيمان في علاقته بالمطلق وبما يتخطّى التاريخ والزمن. ويمكننا التوصّل إلى خلاصةٍ سريعة بأنّ الإسخاتولوجيا تنطلق من الإيمان وتعطي لهذا الإيمان بعدًا مطلقًا في إطار التجاذب بين الماضي والحاضر من جهة، والمستقبل والمصير من جهةٍ أخرى.
موقف اللاهوت الكاثوليكيّ ومسائل الموت والدينونة في البعد الإسخاتولوجيّ الفرديّ
يمتاز الفكر اللاهوتيّ الكاثوليكيّ بتشديده، ضمن المقاربة لسرّ الإسخاتولوجيا على مسألة الموت والمصير الذي ينتظر المسيحيّ المؤمن بعد هذه الحياة الأرضيّة. ولا مجال في هذه العجالة لتفنيد ما جاء في قوانين الإيمان وتطوّر الفكر اللاهوتيّ عبر العصور حول الخلاص الفرديّ، والدينونة العامّة والخاصّة والحالة الوسطيّة والمطهر وجهنم والسماء، والعذاب وخلود النفس وقيامة الأجساد كما يشرح ذلك بشكلّ دقيقٍ وعلميّ قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في كتابه الذي اعتمدناه في المقطع السابق. ولا شكّ بمتانة الرابط بين خلاص الفرد ومصير الكون. ولكنّ الانشداد المغالي إلى طرفٍ من الطرفين يُفقد الإسخاتولوجيا، في نظري، هذا التوازن الدقيق والسريع العطب. وما يجدر لفت النظر إليه، أنّ لاهوت الموت والخلود والدينونة، لم يتغيّر في اللاهوت الكاثوليكيّ على الرغم من تأثّره البيّن بما حمله تطوّر الفكر اللاهوتيّ البروتستانتيّ الليبراليّ في القرن العشرين من مقولاتٍ جديدة، إذ غالبًا ما يكتفي الرعاة والمؤمنون الكاثوليك، في تفكّرهم وتعليمهم وقناعتهم حول هذه المسائل بما ورد في تعليم الكنيسة الرسميّ، وبعض الوثائق الأخرى[13]. ويكتفي هذا التعليم في الفقرتين 11-12 (الأعداد 988-1065) من الفصل الثالث من القسم الأول الذي يتطرّق إلى الإيمان بالروح القدس، بشرح ما ورد في قانون الإيمان حول قيامة الأجساد والحياة الأبديّة، انطلاقًا من معطيات الكتاب المقدس والآباء، دون أن يحيد كثيرًا عن الخطاب الكاثوليكيّ في القرون الوسطى المعروف بتأثير الأوبئة، والديانة الشعبيّة، وردّ الفعل على الإصلاح البروتستانتيّ حول هذه المسائل مما يجعله خطابًا ترهيبيًّا يعتمد الدينونة الحسابيّة ويتغاضى عن مبدإ الرحمة الإلهيّة. فلا نرى مثلاً أيّ أثرٍ لربط الإسخاتولوجيا بالمصير، ولا نجد أيّ تلميحٍ إلى صراع الإيمان في بحثه عن المعنى النهائيّ في التجاذب بين الواقع والمطلق، بل نواجه اكتفاءً بالبعد الفرديّ ضمن بعدٍ جماعيّ محصورٍ في البعد الكنسيّ وكأنّ المصير مسألة لا تخصّ سوى المؤمنين. وقد وجدنا في كتاب اللاهوتيّ والفيلسوف البلجيكيّ أدولف غيشيه ” المصير “ ما قد يروي غليل الباحثين عن رؤية إسخاتولوجيّة متجدِّدة وعصريّة منفتحة على سائر العلوم وعلى الواقع في سعيه إلى المطلق[14]، نقدّم فكرةً موجزة عنها في الفقرة التالية.
الإسخاتولوجيا في ارتباطها بالمصير عند أدولف غيشيه
تميّز أدولف غيشيه، اللاهوتيّ البلجيكيّ، عن غيره من المفكّرين حين فصل بين موضوع العلم والفلسفة واللاهوت في تعرّضهم لمسألة المصير. فالعلم الذي يبحث عن تحديد الواقع والتعريف به كما هو، يهتم بالمعرفة، والفلسفة التي تسعى إلى فهم الواقع، بالمعنى. وأمّا اللاهوت، في كلامه على الخلاص، فإنّه يتطرّق إليه بنظرة الإيمان ويهتم بالمصير، أي بما سيحلّ بالإنسان. صحيحٌ أنّ البحث عن المعنى ينوّر الإنسان حول هويّته، ولكنّه قد يبقيه أسير الفكر البشريّ الوجوديّ. أمّا اللاهوت الدينيّ، فيتخطّى ذلك للبلوغ إلى ما يحقّقه الإنسان في كيانه، أي إلى ما هو كمال وجوده الفعليّ. فعبارة المصير أساسيّة في هذا المجال، لأنّها تعبّر عن أهمّ ما في مفهوم الخلاص من أبعاد.
من جهةٍ أخرى، يؤكّد غيشيه أنّ المفاهيم الثلاثة الخاصّة بالإيمان التي تتعلّق بالخلق والوحي والفداء، لا يمكن حصرها بالمعاني الدينيّة بل هي ملك للفلسفة العامّة، كما يصرّح فرنس روزنزفيغ في كتابه نجم الفداء. فالإنسان كائن يحتاج إلى معرفة الأمور التالية : أنّه لم يخلق نفسه، أي لا يجد أصله في نفسه؛ وأنّه يتوجب عليه أن يعتلن لنفسه؛ وأنّه لا يجد معنى وجوده وغايته في ذاته. الإنسان، كلّ إنسان، ليس فقط كائنًا عاقلاً، واجتماعيًّا وناطقًا كما ورد عن الفيلسوف اليونانيّ أرسطو، بل هو أيضًا كائنٌ مخلوق ومعتلن ومخلَّص، يبحث عن اكتمال غايته. فمن خلال هذه المفاهيم نفقه حقًّا أنّ الله ليس مجرد نظريّة غير مجدية للعقل البشريّ وإلاّ أضحى الإنسان نفسُه نظريةً غير مجدية، ولا هوسًا بالحريّة العبثيّةالتي يدعو إليها الفيلسوف الفرنسيّ جان-بول سارتر.لأن موت الله يعني حتمًا موت الإنسان.
لا يُعنى اللاهوت فقط بما هو لمجد الله الأعظم، بل كما يؤكّد الكردينال والتر كاسبر، بل ايضًا بما هو لخلاصالإنسان الأعظم[15]. فإن شاء اللاهوت أن يضع نفسه في منزلة العلوم الإنسانيّة، ينبغي له أن يكون خطابه خطابًا يحتلّ مكانةً مرموقةً بين الخطابات البشريّة، ولا سيّما في سعيه إلى سبر معنى الخلاص. ولكي يحتل هذه المكانة، لا بدّ وأن يأتي بخطابٍ مختلفٍ ومتميّز، يشدّ الإنسان نحو المجهول، غير المنظور وغير المعلوم، الذي يرافق على الدوام المعرفة، ويحول دون تحوّل العلم إلى سيّدٍ مطلق. عليه أن يقود بالإيمان إلى السرّ! أي أن يكون النقطة التي تُسهم في تفسير الكلمة، والضوء الذي يحسّن الرؤية، واللمسة التي تلقي سحرًا خاصًّا على الواقع… وهذا يعنى أنّه على اللاهوت أن يلقي نوعًا من الإرباكعلى المعرفة البشريّة، يكون إرباكًا يحول دون التفسيرات المغلقة والمتفرّدة. أليس هذا معنى الخلاص والمصير اللذين يتخطّيان أطر التاريخ؟ ولكي يحقق اللاهوت هذه الغاية، لابدّ وأن يخضع هو نفسه لشروط هذه اللعبة، وأن يلتزم عدم الإقفال على التفسير، وأن يستمر بالإحساس بعدم اكتماله وبمعطوبيّة نظامه الفكريّ.
إن خطاب الإيمان، مهما امتدّ في التسامي، لا يسعه أن يغالي فيتغافل عمّا يجب أن يحمله للإنسان اليوم في واقعه المعاش. فلا يكفي أن نعرض للإنسان بعدًا ماورئيًّا وغايةً قد يتحوّلان إلى نوعٍ من الاستعارةٍ أو إلى أشبه بخطّةٍ لا رجاء واقعيّ فيها. ألا يجدر بالحريّ بالإيمان أن يحمل إليه من خلال الرؤية المتسامية حضورًا فاعلاً ومتميّزًا يطال واقعه اليوميّ، من خلال غنى السرّ، أي ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن (1 كور 2، 9)، واهبًا للعالم وعدًا حقيقيًّا وواقعيًّا؟ هنا تكمن مسؤوليّة المسيحيّين ولا سيّما اللاهوتيّين منهم بأن يبحثوا بصدقٍ ونزاهةٍ عن سبل جعل فحوى الرسالة الإنجيليّة أكثر من رمزٍ أو مضمونٍ بين مضامين متعدّدة، بل كلمةً تطال جميع أبعاد الإنسانيّة. ولأجل تحقيق مثل هذه الغاية، لا بدّ من التخلّي عن الاسترخاء والسبات العقيديّ لخوض مغامرة فحص الخطاب اللاهوتيّ الإسخاتولوجيّ من حيث الشكل والمحتوى، على ضوء مستلزمات الإيمان في انخراطه في الواقع التاريخيّ. وهذا الفحص شبيهٌ إلى حدٍّ كبير بشكّ ديكارت العلميّ والفلسفيّ الرامي إلى تثبيت الحقيقة لا إلى إنكارها. ويجدر في هذا المجال لفت الانتباه الى أن الشكّ لا يمكن أن يكتفي بالشكّ، بل يجب أن يبقى على الدوام في خدمة الحقيقة. فهل نجرأ اليوم الإقبال على فحص مفهومنا للخلاص والمصير في سبيل جعلهما قابلين للاستيعاب والفهم في عالمنا المتطوِّر عبر التواصل الاجتماعيّ والتقدّم العلميّ والنسبيّة الأخلاقيّة؟
لم تتوخَّ هذه المقالة السريعة الإجابة الأكيدة في مسألة الخلاص والمصير، بل تعمّدت التحاشي عنها أمانةً لأهميّة فحص هذه المسألة على ضوء المعطيات العلميّة والفكريّة واللاهوتيّة المعاصرة. لقد سعت لأن تجعل إجابة الإيمان والتعبير عنها قابلةً للتداول بلغةٍ وتعابير يفهمها أبناء جيلنا. أردت فقط أن أذكّر بأنّ العالم الآخر والخلاص والمصير ليست مسائل بلا معنى، بل هي موضوع الإيمان الذي يحاكي الفلسفة واللاهوت في دأبهما تنوير الإنسان بشأن ذاته ومستقبل الكون. وإني أؤكّد أن دور اللاهوت في هذه العمليّة لا يقلّ أهميّةً عن دور الفلسفة، شرط أن نعطي المفاهيم مدلولها وأن نشحنها بالمعنى القابل للاستيعاب. فمسألة الخلاص، وإن نَدُرَ الحديث عنها، لا تزال مرتبطة بمسائل أخرى جوهريّة مثل السعادة، والنجاح، وتحقيق غاية الحياة، والحاجة الى الآخر، والبحث عن المعنى… في مجالٍ هو أرحب بكثيرٍ من المجال الذي زجّيناها فيه أحيانًا، أي في مقارباتٍ لاهوتيّة وثيقة الصلة ومنحصرة بالخطيئة والعقاب. وكذلك الأمر بالنسبة الى مواضيع الحياة والموت والآخرة.
كلّنا يعلم كم هو صعب الخطاب بشأن هذه القضايا التي لا يزال يكتنفها الغموض بسبب حشر اللامتناهي في أطر الزمن، وما لا يُتصوّر بما هو محسوس وملموس. لذلك يليق بنا الكلام على مصير الأشخاص أكثر من الكلام على الخيرات الآتية، حتى الروحيّة منها، وعلى علاقتنا بالله الأبديّ أكثر من كلامنا على الأرباح والمباهج الأخرويّة. فيتراءى لنا عندها بوضوح أن الخلاص لا يختص فقط بالآخرة، بل يتصل بالحياة المجتمعيّة ومصيرنا في هذه الحياة الأرضيّة. إن رسالة الإنجيل تطال حياتنا في هذا الزمن أيضًا حيث انتظاراتنا الجريحة بالاهتمامات والهموم الزمنيّة والماديّة والاجتماعيّة. أجل، الخلاص يتعلّق بالإنسان في جميع مضامير حياته ولا سيّما بما هو أكثر واقعيّة فيها. قد اقترب الملكوت! جاء الملكوت! ها هو الملكوت هنا!
[1] Hannah ARENDT, La Crise de la culture, Paris, 1989, p. 105.
[2] E. CIORAN, Histoire et utopie, Paris, 1987, p. 130.
[3] RICOEUR, Finitude et culpabilité, t. II : L’homme faillible, Paris, 1960, p. 81-83.
[4] LEVINAS, Transcendance et intelligibilité, Genève, 1984, p. 23.
[5] اعتمدت في صياغة هذا المقطع خصوصًا على كتاب الكردينال راتزينغر (البابا بندكتوس السادس عشر) : الإسخاتولوجيا: الموت والحياة الأبديّة، المكتبة البولسيّة، جونيه، 2011. نقله إلى العربيّة المطران سليم كيرلس بسترس، ص 51-69.
[6] الكردينال راتزينغر (البابا بندكتوس السادس عشر) : الإسخاتولوجيا: الموت والحياة الأبديّة، ص 52.
[7] Déjà-là et Pas encore.
[8] الكردينال راتزينغر (البابا بندكتوس السادس عشر) : الإسخاتولوجيا: الموت والحياة الأبديّة، ص 58.
[9] المرجع السابق، ص 59.
[10] Jürgen MOLTMANN, Théologie de l’espérance, Cerf/traditions chrétiennes, Paris, 1983. Traduit de l’Allemand par Françoise et Jean-Pierre Thévenaz, 4e édition.
[11] Jean-Baptiste METZ, Pour une théologie du monde, Paris, Cerf, 1971.
[12] الكردينال راتزينغر (البابا بندكتوس السادس عشر) : الإسخاتولوجيا: الموت والحياة الأبديّة، ص 58-62.
[13] تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة الصادر سنة 1992. ويمكننا أن نلقي نظره ولو بالتصفّح السريع على كتاب الأب أغسطين دوبريه لاتور، دراسة في الإسخاتولوجيا، دار المشرق، طبعة 1999 (دراسات لاهوتيّة) والتي تحمل عنوانًا أيضًا، الموت والقيامة والسماء والمطهر وجهنم، لنتحقّق من هذا الأمر. ويتبيّن لنا أن تعريب كتاب الكردينال راتزينغر حول الإسخاتولوجيا، بمعرفته الدقيقة بما ورد في اللاهوت البروتستانتي الليبرالي وفي الفكر اللاهوتيّ عمومًا، يفسح في المجال أمام الناطقين بالعربيّة لمزيدٍ من التعمّق بالمسألة الإسخاتولوجيّة من باب الخلاص والإيمان ولكن أيضًا من باب المستقبل والمصير، وذلك على الرغم من طغيان الطابع العلميّ وصعوبة فهم بعض النظريّات بسبب خيانة النقل من لغةٍ مثل الألمانيّة إلى العربيّة.
[14] .Adolphe GESCHÉ, La destinée, Cerf, Paris, 1995. (Dieu pour penser, 5)
[15] Ad maiorem Dei gloriam; Ad maiorem hominis salutem