Almanara Magazine

الألم والإيمان

الأب جورج رحمه  ر. أ

قبل الكلام على علاقة الألم بالإيمان، لا بدّ لي أوّلاً من أن أحدّد فلسفيًّا ولاهوتيًّا أبعاد كلٍّ من العنصرين لنرى كيف يتفاعلان وجوديًّا في الكائن البشري. فمنذ وجود الإنسان  والألم مواكب وملازم للطبيعة البشريّة  بمفهومه كلعنة، ولم يأخذ البعد الخلاصي إلاّ مع موت المسيح على الصليب وفدائه للبشر. ومع ذلك بقي كلعنة إلى أن  منع قسطنطين الكبير بعدئذٍ، وإكراماً  لموت السيّد المسيح على الصليب، الموت صلباً كما كانت العادة في الإمبراطورية. لذلك لا يمكننا تناول موضوع الألم والإيمان منفصلين عن معنى الصليب ومعنى التجسّد والقيامة. وهذا ما سنراه في سياق هذا الموضوع.

أوّلاً : معنى الصليب.

      كان الصليب وما يزال، بالنسبة إلى الناس، علامة تناقض ومبدأ اختيار. فتخيّر الصالح من الطالح، وعزل العناصر المختارة من العناصر التي لا تصلح للإستعمال، في قلب الإنسانيّة، إنّما يحصل ذلك، كما يقول الإيمان، تبعاً لتأثير الصليب على نفوسنا في القبول أو الرفض. فحيثما يظهر الصليب لا يمكن التملّص من الفوران أو الاعتراضات. كما ينبغي ألاَّ يُثار هذا التنازع على غير طائل وبشكل مثير وغير ملائم في التبشير بعقيدة المسيح المصلوب. كثيراً ما يُعرض الصليب كي نعبده لا كهدفٍ سامٍ ندركه بتخطّي نفوسنا، ولكن كرمزٍ للحزنِ والتقييدِ والامتناع.

      هذه الطريقة في التبشير بآلام المسيح تعود تماماً، وفي كثير من الأحوال، إلى سوء استعمال الألفاظ التقويّة حيث تستعمل أعظم الكلمات (كالتضحية والذبيحة والتكفير) وقد أُفرغت من معانيها السامية بالعادة والتكرار، أو تستعمل بخفّة وفرحة لا شعوريّة. نتلاعب بالتعابير، ولكن هذه الطريقة في الكلام تنتهي بنا إلى الشعور بأن مُلك اللـه لا يمكن أن يقوم إلاَّ على الحداد وهو يعترض دوماً تيّار الطاقات والأمنيات الإنسانيّة. ولا شيء أقلّ مسيحيّة من طريقة العرض هذه، مع ما هنالك من أمانة في استعمال المفردات. وما نذكره عن التآلف المحتّم بين التجرّد والتعلّق يسمح بأن يُضفي على الزهادة المسيحيّة معنىً أغنى وأكمل.

    ولو نظرنا إلى عقيدة الصليب في مجملها لوجدنا أنها الأمر الذي يتعلّق به  كلّ إنسانٍ اقتنع بأنَّ ، تجاه  الهيجان الإنساني المترامي الأطراف ، طريقاً تنفتح إلى مخرج ما، وأنَّ هذه الطريق صاعدة. وعلى ذلك فهي تفترض اتّجاهاً للسير، موجهاً بالفعل نحو أسمى تَرَوْحُنٍ بواسطة أعظم جهدٍ. فإذا قبلنا بهذه الشلّة من المبادئ الأساسيّة انخرطنا، بالحقيقة، في سلك تلامذة المسيح المصلوب وإن يكن ذلك عن بُعْدٍ أو ضمناً. وانطلاقاً من هذا الاختيار الأوّل يتمّ الانفصال الأوّل بين الشجعان الذين سينجحون والمتخمين الذين سيخفقون، بين المختارين والمغضوب عليهم.

   إنَّ المسيحيّة تحمل إلى هذا الوضع، الذي ما يزال غامضاً، إيضاحات وتمديدات على السواء. فهي، قبل كلّ شيء، توضح لعقلنا، بالوحي عن الخطيئة الأصليّة، سبب بعض الاسرافات المدهشة في فجور الخطيئة وعظمة الألـم. ثم هي تكشف، بعد ذلك، لأعيننا ولقلوبنا، كيما تكسب حبّنا وترسّخ إيماننا، حقيقةَ المسيح التاريخيّة القويّة الشغف والتي لا يسبر لها غور، حيث حياة إنسان فرد مثاليّة تحمل في طيّاتها هذه المأساة العميقة: إنّ سيّد العالـم ( المسيح )، الذي عاش كعنصرٍ من عناصر العالـم لا حياة بدائيّة فحسب، بل  حياة الكون بكامله، الكون الذي جاء ليأخذه على عاتقه ويتحمّل مسؤوليّته بأَنْ يختبره بنفسه. وأخيراً، بموت هذا الكائن المعبود مصلوباً فإنّ المسيحيّة تشرح لعطشنا للسعادة أنّ علينا أن نفتّش عن غاية الخلق لا في مناطق هذا العالـم المنظور الزمنيّة، وأنَّ ما يُنتظر منا من جهد أمانة ينبغي أن يكتمل بعد تحوّل كامل، تحوّل شخصيّتنا وتحوّل كلّ ما يحيط بنا.

      وهكذا فإنّ معنى الألم والكفر بالذات، الكامن في ممارسة الحياة، يتعاظم. وهكذا، أخيراً، نجد جذوعنا قد انسلخت، كما يطلب الإنجيل، عن كلّ ما هو حسّي في الأرض. ولكن هذا الاقتلاع قد يحدث شيئاً فشيئًا تبعاً لتطوّر لـم يُغضب ولـم يجرح الاحترام المتوجّب علينا لجمالات الجهد الإنسانيّ الرائعة.

    من الحقّ أن يقال إنّ الصليب يعني الهروب من العالم المحسوس، بل وقد يعني مقاطعة هذا العالـم. وهو، في أواخر حدود الارتقاء الذي يدعونا إليه، يحملنا، بالفعل، إلى أن نتخطّى درجة سلّمنا، نقطة مهمّة منها، لا يعود لنا أيّ اتّصال فيها بمنطقة الحقائق المحسوسة. إنَّ هذا “الإفراط” النهائي الذي نستشفّه ونقبله منذ الخطوات الأولى يلقي، حتماً، ضوءاً وروحاً مميّزين على جميع تصرفاتنا. وههنا يكمن الجنون المسيحي في نظر “العقلاء” الذين لا يريدون أن يجاذفوا بشيء ممّا في أيديهم حاليُّا ليربحوا مجموعة “ما بعد”. ولكن هذا الهروب المؤلـم خارج الحدود التجريبيّة والذي يمثّله الصليب؛ إنَّ هذا الهروب  ليس سوى التسامي بقانون كلّ حياة. نحن نرقى هذه القمم الكثيفة الضباب أمام عيوننا البشريّة التي يدعونا إليها الصليب، بواسطة الألم الخلاصيّ، سالكين طريقاً هي طريق التقدّم الشامل. إنَّ طريق الصليب الملكيّة ليست سوى طريق الجهد الإنساني المقوّم والممدّد بقوة خارقة. وإذا ما نحن استوعبنا بكليّة معنى الصليب والألم فلن يكون علينا خطر أن نجد الحياة حزينة قبيحة. كلّ ما هنالك انّنا غدونا أكثر تنبّهاً لنفهّم خطورتها الفائقة.

      باتّحادنا باللـه كحليف لنا نضمن دوماً خلاص أنفسنا. على أَنْ لا شيء يكفل لنا، وهذا ما نعلمه جيّداً، تجنّب الآلام، ولا حتى بعض الإخفاقات الداخليّة، التي يمكن أن نعتقد أنّنا أضعنا حياتنا بها. فإنّنا جميعاً نشيخ ونموت. وهذا يعني أنّنا، في لحظة أو أخرى، ومهما تسامت مقاومتنا، نشعر بتضييق القوى المضعفة التي نحاربها وبأنّها تسيطر علينا، شيئاً فشيئاً، وتشلّ قوانا الحيّة وتطرحنا أرضاً، وتقهرنا جسداً. ولكن، كيف لنا أن نُغلب ما دام اللـه معنا؟ وماذا تعني هذه الهزيمة؟

     إنّ مشكلة الشرّ، أعني تطابق ضعفنا، حتى ولو جسديًّا، مع الخير والقوّة الخلاّقة، ستكون دائماً، بالنسبة إلى عقولنا وقلوبنا، أحد أسرار الكون المقلقة. وكيما تُفهم آلام الخليقة (كعذاب الهالك مثلاً) فإنّها تفرض علينا تقييماً للطبيعة “وللكائن المشارك”، ذلك التقييم الذي ليس بالإمكان التوصّل إليه نظراً لانعدام وجه الشبه. هنالك شيء ينبغي أن ننظر إليه مع ذلك، وهو، من جهة، أن العمل الذي يتولاَّه اللـه في اتّحاد الكائنات المخلوقة اتّحاداً كلياً يقتضي تهيئة بطيئة لا تتمكن أثناءها أن تتهرّب، بطبيعتها، ممّا يعترضها من أخطار (زادتها ثقلاً الخطيئة الأصليّة) بسبب عدم تنسيق المركّب فيها وحولها، ومن جهة ثانية لأنّ النصرَ النهائي للخير على الشرّ لا يمكن أن يكتمل إلاّ في تنسيق العالـم الكلي بقدرة الصليب. إنّ حيواتنا الفرديّة، القصيرة جدًّا، لا تستطيع أن تفيد، في هذا العالـم، من الدخول إلى أرض الميعاد. ونحن بذلك نُشبه أولئك الجنود الذين يُصرَعون خلال الهجوم الذي ينجم عنه السلام. إنَّ هزيمتنا لا تعني أنَّ اللـه قد غُلبَ فينا، وذلك لأننا حين نموت شخصيًّا فإنّ العالـم الذي سنعيش فيه سوف ينتصر من خلال ميتاتنا.

    على أنَّ هذا الوجه الأوّل من انتصاره، وإِنْ كافياً ليضمن قدرته الكليّة، يبلغ أَوْجَ كماله بظاهرة أخرى لسيطرته الشاملة، قد تكون ربّما أكثر مباشرة، وهي، على كلّ حال، محسوسة من كلٍّ منّا. إنَّ اللـه، نظراً لكمالاته، لا يمكنه أن يجنّب عناصرَ عالـم آخذ بالنموّ، أو على الأقل، عناصر عالـم هوى وهو في طريقه إلى النهوض، الصدمات والمنقصات وحتى الخلقيّة منها: “فإنّه من الضروري أن تكون الشكوك”. وهو سيتدارك ما فرط منه، أو بالأحرى سينتقم، إن صحَّ هذا التعبير، وذلك بأن يجعل الشرّ نفسه، الذي لا تسمح حالة الخلق الحاضرة بإلغائه مباشرة، وسيلةً لخيرٍ سامٍ بالنسبة إلى المؤمنين. مثله في ذلك كمثل الفنّان الذي يعرف كيف يستفيد من خطأ أو إتّساخ فيستخلص من الحجر الذي ينحت، أو المعدن الذي يذيب، خطوطاً أكثر روعةً، أو رنّةً أكثر جمالاً، واللـه، على أن نهبَه نفوسنا بمحبّة، يحوّل، دون أن يجنّبنا الميتات الجزئية والموت النهائي، التي هي جزء مهمّ من حياتنا، إلى شكلٍ أحسن في صهرها بعضها ببعض. وبهذا التغيّر تغدو آلامنا، التي لا بُدَّ منها، مقبولةً، وحتى أخطاؤنا الأكثر إراديّة كذلك، على أن نندم عليها. ليس كلّ شيء، مباشرةً، حسناً للساعين وراء اللـه، ولكن كل شيء قابل أن يغدو حسناً. “كل شيء يتحوّل إلى خير”.

        تبعاً لأيّ تطوّر وبأيّة مراحل يقوم اللـه بهذا التحوّل الرائع حين يجعل من ميتاتنا حياةً فُضلى؟ بمقايسة ما نعرف نحن أن نحقّقه بأنفسنا، وبتفكيرنا في ما كان موقف الكنيسة وتعليمها العملي في مواجهة الألـم الإنساني، يُسمح لنا أن نحاول الالتفاف حوله نوعاً ما . كذلك يمكننا القول إنَّ الغاية الإلهيّة تحوّل، بطرقٍ ثلاث، الشرّ إلى خير بالنسبة إلى المؤمنين. فالفشل الذي نُمنى به أحياناً يحوّل اتّجاه نشاطنا نحو أشياء أو نحو إطار أكثر مُؤاتاة، وإن تكن هذه الأشياء دائماً على صعيد النجاح الإنساني الذي نلاحقه. هكذا يُمثّل لنا “أيّوب” الذي فاقت سعادته الحاضرة سعادته السابقة. وأحياناً أخرى، بل غالباً، فإن الخسارة التي تصيبنا تحملنا على التفتيش، في حقل أقلّ ماديّة، وبمعزلٍ عن الديدان والصدأ، عن إشباع رغباتنا التي بُخسنا حقّنا فيها. إنّ تاريخ القديسين، وبشكل أعمّ تاريخ الشخصيّات المشهورة بذكائها أو سلامة طويتها، مملوء بهذه الحالات التي نجد فيها الإنسان يخرج عظيماً متجدّداً مختبراً من التجربة أو من الزلّة التي كانت، على ما يظهر، لتُنقصَه أو لتحطّمه إلى الأبد. فالفشل حينئذٍ يكون، بالنسبة إلينا، كالمجذاف المثبّت للطائرة، أو إذا شئنا، كالمقصّ للغرسة. فهو يوجّه نُسْغَنا الداخلي ويعزل أنقى “مركّبات” كياننا بشكلٍ يجعلنا نندفع سُموًّا واستقامة. وهكذا تتحوّل الهزيمة، حتى الخلقيّة، إلى نصرٍ نظلّ نشعر به عمليًّا، وإن يكن روحيًّا. لا أحد يتردّد، عندما يفكّر بالقدّيس أوغسطينوس أو بالمجدليّة في التأكيد بأنّ “الألـم بَهْجٌ” وبأَنَّ “الخطيئة بَهْجة” (Felix culpa). وحتى في انتهائنا إلى هذه النقطة نظلّ على “تفهّمنا” للعناية الإلهيّة.

       لكنّ ثـمّة أمورٌ أكثر صعوبة (وهي على وجه الدقّة الأكثر طبيعيّة) تدهش حكمتنا تماماً. نشاهد في كلّ لحظة، إمّا حولنا، وإِمَّا في داخلنا، مُنْقصات، ليس لأيّ مشجّعٍ، في أيّ حقلٍ ملحوظ، أن يقوم مقامها: من أمثال الميتات المبكّرة، والحوادث الحمقاء، والضعف الذي يأتي عن أسمى مناطق الكائن. إنَّ الإنسان، تحت أمثال هذه المصائب، لا يَنْهَدُ إلى اتّجاه قيّم، بل يختفي ويبقى منقوصاً بصورة محزنة. كيف لهذه المُنقصات، التي لا يعوّض عنها شيء، والتي هي الموت بما تنضوي عليه من مميت حقاً؛ كيف لها أن تغدو خيراً لنا؟ هنا يظهر لنا، في حقل مُنقصاتنا، الشكلُ الثالث لأعمال العناية الإلهيّة الأكثر فعاليّة والأكثر تقديساً.

      إنّ اللـه جلىّ آلامنا حين جعلها وسيلة لكمالنا المحسوس. فإن القوى المُنقصة غدت، بين يديه، وبشكل ظاهر، الآلة التي تقطع وتنحت وتصقل فينا الحجر المعدّ ليكون له مكانٌ واضحٌ في أورشليم السماويّة. إنّه سيقوم بعمل أكبر أيضاً، لأنه بفعل قدرته الكليّة الهابطة على إيماننا، سيجعل من الأحداث، التي لا تظهر عملياً في حياتنا إلاّ كفضلات، سيجعل من هذه الأحداث عاملاً مباشراً للاتّحاد الذي نحلم بأَنْ نحقّقه معه.

       إنّ الاتحاد هو، في كلّ الأحوال، أن نهجر ذواتنا ونموت، جزئياً، في ما نحبّ. ولكن إذا كان فناؤنا هذا في الآخر، كما نعتقد، ينبغي أن يكون أكمل بمقدار تعلّقنا بما هو أعظم منّا، إذا كان ذلك كذلك، فكيف ينبغي أن يكون إنقطاعنا عن ذواتنا ونحن في طريقنا إلى اللـه؟ مما لا شك فيه أن تحطيم أنانيّتنا التدريجي بإتّساع آفاق أبعادنا الإنسانيّة “الميكانيكي”، مقروناً بالروحانيّة التدريجيّة لأذواقنا ورغباتنا تحت تأثير بعض مثبّطاتنا، هذه كلّها أشكال حقيقيّة للاختطاف الذي ينبغي له أن ينتزعنا من ذواتنا ليخضعنا للـه. ومع ذلك، فإنّ مفعول هذا الانفصام الأوّل ليس له إلاَّ أن يحمل، حتى أقصى حدود ذاتيّتنا، نقطة ارتكاز شخصيّتنا. نستطيع، وقد وصلنا إلى هذه النقطة القصوى، أن نشعر بتملّكنا أنفسنا حتى أعلى درجة، فغدونا أكثر انعتاقاً وأكثر حيويّة من أيّة فكرة كانت. لـم نتجاوز بعد الموقف الحرج من ابتعادنا عن نقطة الدائرة، أي من  رجوعنا إلى اللـه.


فعلينا أن نخطو خطوة أخرى، هذه الخطوة التي تجعلنا ننسى ذواتنا ـ “يجب أن ينمو، وأنا أن أنقص”. لـم نَضَلَّ بعد.  ومن سيكون عامل هذا التحوّر النهائي؟ إنّه الموت، ولا شكّ.

        إنَّ الموتَ، بحدّ ذاته، ضعفٌ لا شفاء منه بالنسبة إلى الكائنات الجسديّة وهو معقّد في عالمنا بتأثير سقطة أولى. إنّه يمثّل ويختصر في ذاته هذه المُنقصات التي ينبغي علينا أن نحاربها دون أن نتمكّن من أن ننتظر، من نتيجة المعركة، نصراً شخصيًا مباشراً وفوريًّا. ولكن النصر الكبير الذي أحرزه المبدع والمخلّص، في أبعادنا المسيحيّة، هو أنّه حوّل هذه القوّة العالميَّة، المُنقصة والمنفية، إلى عامل إحياءٍ جوهري. فعلى اللـه، بصورةٍ ما، كي يدخل ذواتنا نهائيًّا، أن ينحتنا ليهيّء له مكاناً. عليه، كيما يدمجنا في ذاته، أن يعيد صنعنا فيذيبنا ويحطّم ذراتِ كياننا. والموت هو الذي نُدب لينبش، حتى الأعماق، الثغرة المطلوبة. وهو سيجري علينا عمليّة الانحلال المرتقبة. وهكذا يجعلنا في حالة يتطلّبها تركيبنا كي تحلّ علينا النار الإلهيّة. كذلك فإنّ قدرته المشؤومة على تحليل العناصر وتذويبها ستجد نفسها أسيرةَ أروعِ عمليّات الأحياء. إنّ ما كان بطبيعته فارغاً، ناقصاً، عائداً إلى التكثّر، يمكنه أن يُصبح، في كلّ وجودٍ إنسانيّ، كمالاً ووحدةً في اللـه.

    وباختصار نقول، إنَّ يسوع على صليبه هو الرمز والحقيقة على السواء للنشاط الواسع الدائب الذي يرفع، شيئاً فشيئاً، الروح المخلوقة ليقودها إلى أعماق الجوّ الإلهي. وهو يمثّل الخليقة التي تتسلّق، بمساندة اللـه، منحدرات الكائن، ملتصقة أحياناً بالأشياء، كي تتّخذها نقطة ارتكاز، منسلخة عنها أحياناً لتتخطّاها، معوّضة دائماً بجهودها الجسديّة عن التراجع الذي تسبّبه السقطات الأخلاقيّة.

       فليس الصليب شيئاً لا إنسانيًّا، بل إنسانيٌّ سامٍ. ولقد كان منذ نشوء الإنسانيّة الحاضرة، وهذا ما نفهمه، منتصباً في رأس الطريق التي تقود إلى أعلى قِمَمِ الإبداع. إلاَّ أنَّ ذراعيه العاريتين ظهرتا مكسوّتين بالمسيح وذلك بفضل نور الوحي المتعاظم. قد يبدو لنا هذا الجسد الدامي، لأوّل نظرة، محزناً. ولكن مع إشراقة نوره على البشريّة التي تخلّصت بموته لم يعد الصليب وما ينتج عنه من ألم سوى طريقً نحو الخلاص الذي وعدنا به. وهنا بإمكاننا أن نفهم تفاعل الإيمان مع الألم. أليس يشرق من قلب عتمة الليل؟ لنتقدّم أيضاً. وحينئذٍ سنتعرف على ملاك النور الملتهب، ذلك الذي تكوّن آلامه وتوجّعه “بخور العقل”. لذلك ليس على المسيحي أن يغيب في ظلّ الصليب، بل عليه أن يرتقي في نوره ليكون لآلامه معنىً خلاصيًّا يجعله يتسامى في سرّ قداسة الله.

***

ثانياً: الإيمان والتجسّد والقيامة.

      ليس الإيمان، كما نفهمه هنا بكلّ تأكيد، اتحادًا عقليًّا بالعقائد المسيحيّة. بل هو، بمعنى آخر وأغنى بكثير، الاعتقاد باللـه، ذلك الاعتقاد المثقل بما تستطيع معرفة هذا الكائن المعبود أن تثيره فينا من ثقة بقوّته الرحيمة. إنّه اليقين العملي بأنَّ الكون ما يزال بين يديّ الخالق ذلك الطين الذي يعجن فيه على هواه الامكانات العديدة. إنّه، بكلمةٍ، الإيمان الإنجيلي الذي ألحَّ عليه المخلّص أكثر من إلحاحه على أيّة فضيلة، وحتى المحبّة.

      فما هي السمات التي يُقَدَّم لنا بها هذا الوضع بإلحاح في أقوال وأفعال المعلّم؟ يُقدَّم لنا، قبل كلّ شيء وفوق كلّ شيء، على أنّه طاقة عاملة. ولكنّنا نشاء أحياناً، بسبب ما يعترينا من فتور حيال تأكيدات الفلسفة الوضعيّة غير المبرّرة أو برود حيال التطرّفات الروحيّة “للعلوم المسيحيّة” ـ نشاء أن نترك في الظلّ هذا الوعد المزعج من الفعاليّة الملموسة التي تؤمّنها لنا الصلاة. ومع ذلك، فنحن لا نستطيع إخفاء ذلك دون أن نحمرَّ خجلاً أمام المسيح. وإذا كنّا لا نؤمن فالأمواج تبتلعنا والهواء يهبّ علينا والغذاء ينقصنا والأمراض تقعدنا أو تميتنا، وإنَّ القوّة الإلهيّة عاجزة أو بعيدة. أمّا إذا آمنّا، فإنّ المياه تغدو مضيافة عذبة، والخبز يتضاعف، والعيون تنفتح، والموتى يقومون، وقوّة اللـه تبدو وكأنّها مصفّاة بالعنف لتغمر الطبيعة بكاملها. وإلاَّ كان علينا إمّا أن ننتقد الإنجيل بخبث وأَنْ نقلّل من شأنه على هوانا، وإمّا أن نقبل حقيقة هذه التأثيرات لا على أنّها إنتقاليّة وقد انتهى أمرها بل كأزليّةٍ وحقيقيّةٍ آنيًّا. ولكن لنحذر من إخماد ظاهرة الحيويّة الممكنة لإحياء ممكن، في اللـه، لقوى الطبيعة، بل على العكس ينبغي لنا أن نجعلها في قلب أبعاد العالـم على أن نتنبّه لفهمها جيّداً وحسب.

          الإيمان يعمل. ماذا يعني ذلك؟ أفيعني ذلك أنَّ العمل الإلهيّ سيستجيب لدعاء إيماننا فيقبل ليأخذ مكان التلاعب الطبيعي للأسباب التي تحيط بنا؟ وهل لنا أن ننتظر كاشراقيّين أن يعمل اللـه مباشرةً في المادّة أو في أجسادنا فيتمّم  النتائج التي حصلنا عليها حتى الآن بأبحاثنا الماهرة؟

      كلاّ ولا شكّ. لأنّه لا التسلسل الداخليّ للعالـم الماديّ أو النفسي، ولا الواجب الإنساني للجهد الأقصى، ليس هذان مهدّدين أو متروكين من أوامر الإيمان.  “لا تزول ألف أو نقطة ما”. بالتأثير المبدّل “للإيمان العامل”، تبقى جميع علاقات العالـم الطبيعيّة سالمة. ولكن يضاف إليها مبدأ أو قُلْ نهائيّة داخليّة، وقد نستطيع أن نقول روح جديدة. وهكذا يغدو الكون بتأثير إيماننا قابلاً، دون أن تتغيّر ملامحه ظاهريًّا، لأَنْ ينعم وينتعش حتى الغاية القصوى. هذا هو كلّ ما يفرضه علينا الإنجيل من معتقد وبشكل مبرم. إنّ هذا الانتعاش الفائق تعبّر عنه أحياناً أعمال عجائبيّة، عندما يدفع بها تجلّي الأسباب إلى قطاع “قوّتها الطواعيّة”. وهي أحياناً، بل وعادياً، تظهر عن طريق تعاضد الأحداث اللامبالية أو غير الملائمة في مستوى عالٍ، في عناية إلهيّة سامية.

       لقد حلّلنا آنفاً وضعاً نموذجياً بشكلٍ خاص من هذا اللون الثاني لتأليه العالـم بالإيمان (هذا اللون ليس أقلّ عمقاً ولا أدنى قيمة من أروع المعجزات). ولقد رأينا في معالجتنا للسلبيّات المنقصة من الآلام كيف يمكن لفشلنا وتخلّفنا وموتنا وأخطائنا أن تنصهر في اللـه، في سبيل الأصلح، وتتحوّر فيه. لقد آن لنا أن نواجه هذه الأعجوبة في جميع خطوطها العامّة، ومن وجهة النظر الخاصّة، بالنسبة إلى فعل الإيمان الذي هو، من جهتنا، شرطيّة العناية الإلهيّة.

     أجل، إنَّ العالـم والحياة (عالمنا وحياتنا) هما بين أيدينا جميعاً بـمثابة قربانة معدَّة أبداً لتعمر بالتأثير الإلهي، أعني بالحضور الحقيقي للكلمة المتجسّد. إنّ السرّ سيكتمل بشرطٍ واحدٍ ألا وهو: أن نؤمن أن “هذا” يريد ويستطيع أن يصبح بالنسبة إلينا العمل، أعني امتداد جسد المسيح. أنؤمن؟ إذن فكلّ شيء يتلألأ إشراقاً حولنا ويتّخذ أشكالاً: فتنتظم الصدفة، ويتّخذ النجاح شكلَ الكمال الذي لا يقبل الفساد، ويغدو الألـم عَوْداً ومداعبةً من قبل اللـه. أنتردّد؟ وإذن، فإنّ الصخرة تبقى صمّاء، والسماء سوداء، والمياه خائنة متحرّكة. وعندئذٍ نستطيع أن نسمع صوت المعلّم صارخاً في وجه حياتنا الزريّة: “يا قليلي الإيمان، لماذا شككتم؟”…

     إنّ رؤية الحضرة الإلهيّة الشاملة هي أساساً نظرةٌ، تذوّقٌ، أيّ نوعٌ من الحدس يتعلّق ببعض الصفات السامية للأشياء. وعلى ذلك فلا يمكن التوصّل إليها مباشرة بأيّ قياس عقلي أو أيّة حيلة إنسانيّة. إنّ هذه الرؤيا هبة كالحياة التي تمثّل، ولا شكّ، أسمى الكمال التجريبي. وهكذا نرانا مقودين، وفي أعماق نفسنا، إلى شواطىء الينبوع السرّي الذي تحدّرنا منه لنشهد اندفاقه. أن نشعر بجاذبيّة اللـه، وأَنْ نتحسّس الجمالات وديمومة الكائن ووحدته النهائيّة: هذا كلّه أسمى، وفي الوقت نفسه، أكمل “سلبيّات نموّنا” حيث الألم هو الركيزة الأساسيّة في تطهيرها. إنّ اللـه يميل، بمنطق قدرته الخلاّقة، إلى أن نفتّش عنه وأَنْ نراه: “وضع البشر… إذا أمكنهم أن يُمسكوه عرضاً”. إنَّ نعمته المنذرة أبداً هي دائماً وقف لإثارة أوّل نظرة نوجهها إليه أو صلاة نرفعها له. ولكنَّ المبادرة والإيقاظ ينطلقان، أخيراً، من لدنه. ومهما يكن من أمر التطوّرات التالية لقوانا الصوفيّة، فلن يتحقّق أيّ تقدّم في هذا المجال إلاّ بجوابٍ جديد لهبة جديدة. “ما من أحد يأتي إليَّ إن لـم يجذبه الآب”.

***

ثالثاً: الأمانة والإستسلام الكلّي لله في الألم والإيمان.

      بدون أمانة واستسلام حقيقي لإرادة الله لا قيمة للألم ولا للإيمان ولعلاقتهما بسرّ الخلاص. إن العبارة المأثورة لدى جميع المتألّمين من المسيحيّين: “لقد رماني اللـه بكارثة، فاستردّ ما وَهَب. لتكن مشيئته”. وبفضل هذه العبارة تفهّمنا، تحت وطأة الآلام التي تُفسد طويّتنا، وتحت وطأة الصدمات التي تحطّمنا من الخارج، تفهّمنا كيف يمكن أن تظهر يدا اللـه ثانيةً بأكثر فعاليّة وبأكثر عمق.  وإنّ هذه العبارة تضعنا، نحن المسيحيّين، في المستوى الذي يمكّننا من تدبير أولويّة الاستسلام وقيمته أمام سائر الناس.

      إنّ كثيرين من المخلصين اعتبروا، صادقين، هذا الاستسلام ووجّهوا إليه  الانتقاد على أنّه أحد العناصر المخدّرة للجنس البشري، أي إنّه: “أفيون ديني”. ليس هنالك موقف، بعد الإشمئزاز من الأرض، نِيْلَ منه بحقد كبير كموقف الإنجيل  الذي اعتبر أنّه يبشر  بالسلبيّة أمام  الشرّ ـ السلبيّة التي بإمكانها أن تصل إلى المواظبة الفاسدة على النواقص والألـم. ولقد سبق أن نوّهنا بذلك، فيما يتعلّق “بالتجرّد الزائف”: هذا الاتّهام، أو على الأقل هذا الشكّ، هو أكثر فعالية، في هذا الوقت،  للحيلولة دون ارتداد العالـم، من كلّ الردود المستمدّة من العلم أو الفلسفة. إنَّ ديناً حكم عليه بأنّه أدنى من المثل الأعلى الإنسانيّ لهو دين فاشلٌ مهما كانت الأعاجيب التي تحيق به. وإذن، فمن المهمّ، والمهمّ جدًّا، بالنسبة إلى المسيحيّ، أن يتفهّم ويعيش الاستسلام لمشيئة اللـه بالمعنى الإيجابيّ، المعنى الصحيح.

        ليس للمسيحي الحقّ في أَنْ يتخاذل أمام واجبه في مدافعة الشرّ كي يمارس مسيحيّته بشكل كامل. ولقد رأينا أنّه على المسيحي أن يدفع، بمساعدة القوّة المبدعة للعالـم، بالشرّ إلى التراجع ويحاربه بكلّ إخلاص؛ فإذا فعل ذلك ضَمَنَ استمرار كلّ شيء فيه وكلّ شيء حوله. وفي هذه المرحلة الأولى يغدو المؤمن الحليف المقتنع لكل أولئك الذين يعتقدون أنَّ الإنسانيّة لن تنتصر إلاّ إذا دفعت بجهودها إلى الغاية القصوى. وكما سبق وقلنا في كلامنا على التطوّر الإنسانيّ، نقول هنا إنَّ الإنسان سيجد نفسه أكثر ارتباطاً من أيٍّ كان في ما يتعلّق بعظمة هذه المهمّة لأنَّ الانتصار على منقصات العالـم في نظره، حتى الجسديّة والطبيعيّة منها، تشترط جزئيًّا اكتمال واستكناه الحقيقة الواضحة جداً والتي يتعبّد لها. وما دامت المقاومة ممكنة، فإنّ ابن السماء سيتصلّب في موقفه، في وجه كلّ ما يستحقّ أَنْ يُبْعَدَ أو يُهدَم، كأبناء العالـم الأكثر تعلّقاً بالأرض.

      عندما يقوى إيمان قلوبنا النقيّة بالعالـم، فإنّ العالـم يفتح، حينئذٍ، أمامنا ذراعي اللـه. فلا يبقى علينا إلاَّ أن نلقي بأنفسنا بين هاتين الذراعين لتنغلق حول حيواتنا دائرة الجوّ الإلهيّ. وستكون هذه البادرة العمل الناشط لواجبنا اليومي. الإيمان يكرّس العالـم، أمَّا الأمانة فتجعلنا نتّحد به ونقدّس آلامه.

      الأمانة هي التي تستخدم الينابيع التي لا تنضب والتي يقدّمها كلّ شغفٍ لرغبتنا في الاتّحاد؟ بالأمانة نضع أنفسنا، ونثبت، بدقّة، في القبضة الإلهيّة حتى نغدو وإيّاها واحداً في ممارستها عملها. بالأمانة نفتح باستمرار في أنفسنا منفذاً ودوداً لإرادات اللـه ولمشيئته المطلقة حتى إنَّ حياته، كخبزٍ قدير، تدخل فينا وتهضم حياتنا.

    وبالأمانة، نجد أنفسنا، في كلّ لحظة، في النقطة الصحيحة التي تلتقي علينا فيها، بعناية إلهيّة، حُزَمُ قوى العالـم وآلامه، الداخليّة منها والخارجيّة؛ وبعبارة أخرى، نجد أنفسنا في النقطة الوحيدة التي يمكن، في وقت ما، أن يتحقّق لنا فيها الجوّ الإلهي.  فلا حدود إذن من ناحية الجوهر الإلهيّ الذي يستطيع كياننا أن يفنى فيه ويتناهى في ذلك الفناء المطلق. ولندع هنا كلّ صورة من الاتّحاد الثابت لأنَّها ستغدو غير كافية. ولنتذكّر هذا الأمر: إنَّ اللـه لا يقدّم نفسه بكياننا المحدود كشيء كامل علينا أن نتقبّله، ولكنّه، بالنسبة إلينا، الكشف الأزليّ والنموّ الأزليّ. وكلّما اعتقدنا أنّنا فهمناه، كلّما بدا لنا بشكلٍ آخر. وكلّما ظنّنا أنّنا أمسكنا به، كلّما ابتعد منّا وهو يجذبنا إلى أعمق أعماقه. وكلّما اقتربنا منه بكلِّ جهودنا الطبيعيّة وبفضلِ النعمة، كلّما ازداد، في الوقت عينه، جاذبه على قدراتنا وعظم، في الآن نفسه، تقبّل قوانا لهذا الجاذب الإلهي.

    إنَّ العالـم يذوب وينحني تحت تأثير عمل الأشعّة المتلاقية في طهارة القلب وإيمان العقل وأمانة الالتزام. فالمسرّات والقدمات والآلام والعثرات والأخطاء والمنجزات والصلوات والجمالات والقوى السماويّة  والأرضيّة: هذه كلّها تنحني أمام الأمواج السماويّة، التي تشعّ من آلام المسيح المجلببة بالإيمان والطهارة والأمانة لسرّ الخلاص الإلهي. فكما يشرق النور من أعلى الصليب ليطهّر العالم، كذلك يشرق الإيمان من قلب القيامة ليقدّس آلامنا.  وكلّ شيء يهب ما في طبيعته من طاقة إيجابيّة ليُسهم في إغناء الجوّ الإلهيّ. وما الآلام سوى الطريق إلى القيامة كما كان الصليب الطريق إلى المجد.

Scroll to Top