قدس الأب مارون مبارك م.ل
رئيس عام جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة
مقدمة عامة
1- يسرّنا بهذا المساء أن نلتقي معًا عبر شاشة تلفزيون المحبّة وكلّ مواقعها وتطبيقاتها، لنكون مجتمعين حول مار يوسف في السنة المخصّصة لنتذكّر فضائله ونطلب شفاعته.
2- الجميل في مار يوسف هو أن المعطيات المكتوبة عنه في الأناجيل قليلة ولكن حقيقة حضوره غنيّة جدًّا فإنّ الكثيرين من يروا فيه الغنى بالفضائل والخصائص والباباوات أعطوه التسميات الكبرى؛ مثل البابا يوحنا بولس الثاني «حارث الفادي»؛ والبابا فرنسيس «القلب الأبوي». ومن الاعتبارات المعبّرة عن يوسف هي «وهو في خفائه، وفي صمته، وفي تلبيته الدائمة لإرادة الله أظهر لنا «قدرة الله وحكمته»، بحيث تبرز القوة عندما نكون نحن في حدودنا وفي خفائنا. لذلك مار يوسف يمثّل «حضور الله في الخفاء بامتياز» ولهذا أعطاه البابا فرنسيس في رسالته لقب «في ظل الآب».
3- إذا أردنا التعمّق بعبارة أو لقب «قلبًا أبويًّا» يمكننا القول:
«قلبًا أبويًّا» – بحث الربّ عن إنسان عنده قلب:
- منفتح على الأسمى وحاضر ليصغي الى إلهاماته.
- عنده قلب منفتح على القريب وجاهز ليتعاون معه لأجل الحياة.
- عنده قلب منفتح على الحقّ وهو جاهز ليلبّي الحقيقة حتى يخدمها بكلّ عطاء وبكلّ تفانٍ.
- عنده قلب فيه الحكمة حتى يميّز ما هو للربّ وفيه الجرأة حتى يأخذ قرارات فعّالة وفيه الصبر حتى ينفّذ ويعمل ما يأمره به الربّ.
- عنده قلب محبّ لا يخاف أن يتحرك وأن يبدّل كلّ مخطّطاته حتى تمشي مخططات الله. لذلك فتّش عن هكذا قلب، فوجد «قلبًا أبويًّا» في يوسف، كما يحدثنا قداسة البابا في رسالته لافتتاح سنة مار يوسف.
4- «يوسف النجار»: عنوان محاضرتنا الثالثة من سلسلة محاضرات عبر أثير صوت المحبة وشاشتها، والعنوان الأكبر هو «يا يوسف ابن داوود»، الرجل المختار، نعم ناداه الربّ باسم ابن داوود، السلالة التي منها سيأتي المخلّص. إنّه النداء الدعوة، وإنه الاختيار الذي يقوم به الربّ وهو يلقي بنظرته على الشخص ليرى فيه «القلب الأبوي» حتى يحمل رسالته الأبويّة، فيحمل يسوع ويقدّمه للآب ويسمّيه «يسوع» أي يلده للمجتمع فيكون حاميًا له وراعيًا للعائلة المقدّسة. سميناه «الرجل المختار» لأنّه حمل دعوته وحقّقها بطواعية للآب السماوي، وعرف أن يعمل كلّ ما طلبه منه الآب ليتمّ ما يريده الآب.
يأتي هذا العنوان الثالث ليكمل العنوانَين السابقَين:
- يوسف البار رجل الأحلام الأربعة التي فيها صنع كما أمره الربّ،
- ويوسف خطيب مريم وهو يعلمنا العفة الزوجية ومعنى الأبوة والتربية المنزلية.
وأما يوسف النجار فهو يوسف العامل وشفيع كلّ العمّال كما تعلّمنا أمّنا الكنيسة.
سوف نتوقّف في حديثنا حول يوسف العامل وشفيع كلّ العمّال عند المحطّات التالية:
- مفهوم العمل في الكتاب المقدس وعند الآباء
- مار يوسف شفيع العمال
- روحانية العمل
- العمل اليوم في الزمن الصعب
- 1- مفهوم العمل بحسب الكتاب المقدّس:
لقد استخدمت عدّة عبارات للتعبير عن العمل: الخدمة يعني الخادم العبد، العامل في الحقل (الزارع)، (الراعي)، لم تكن بالبداية تدلّ على معنى مثالي: كانت تدل بالعكس على الشقاء، على التعب، «بعرق جبينك تأكل خبزك» وكان العمل هو نتيجة خطيئة الإنسان، لأنّه بالبداية في الجنة كان الإنسان مرتاحًا، الله خلق له كلّ شيء، وكانت وظيفته أن يتماشى مع عمل الله.
ثم مع الكتب الحكميّة أخذ العمل المعنى الإيجابي أكثر بحيث دلّ في سفر الأمثال على غنى العامل وعلى قيمة حياته ووجوده وعلى خسارة الكسلان وقلّة قيمته… إذًا العمل هو جزء مهمّ في وجود الإنسان، هو الذي خلقه الله على صورته ومثاله لكي يتابع العمل على الخلق من خلال العناية بالفردوس.
أما بالنسبة إلى العهد الجديد فلقد ذكر أنّ يسوع هو نجار ابن نجار، وأنّ تلاميذه عملوا في حقل الصيد. لم يتحدّث العهد الجديد عن قيمة العمل، بل تحدّث عن أنواع الوظائف لأنها تدخل في طبيعة الحياة: الراعي، الكرام، الزارع، الصياد، البائع، الخدم والعبيد…
أما من ناحية ثانية فالإنجيل لا يشدّد على كثرة الهمّ في العمل كأنّه المرجع الوحيد للحياة: مثل الطيور وزنابق الحقل – للاتكال على العناية الإلهيّة.
فالإنجيل لا يقلّل هنا من قيمة العمل، بل يدعو إلى وضع العمل في مكانه الصحيح. ومار بولس شدّد على العمل بعكس الفكر اليوناني القديم الذي كان يترك العمل اليدوي للعبيد أما الأسياد فيفكّرون فقط. ولذلك بولس حكى عن العمل اليدوي إلى جانب العمل الفكري هو الذي صنع الخيام حتى لا يكون عبئًا على أحد. كما وطالب الناس الذين لا يعملون لكي يشتغلوا ليستحقّوا طعامهم (2تس 3/12).
إذا مفهوم العمل هو أكثر إيجابيّة منه تشاؤمية، لأنّه دعوة إلى مشاركة الله في الخلق.
مفهوم العمل مع التعاليم الكنسية عبر الأجيال:
بدأت النظرة بالقرون الوسطى أن تكون تشاؤمية نحو العمل لأنه كفارة عن خطيئة الإنسان، إنّه لعنة وهو قصاص، لذلك قال التيّار الأغوسطيني أن نقبل بالعمل كفعل توبة لأنه يحمل الآلام والتعب. لذلك دعا مار اوغسطينوس إلى العمل حتى يغلب الراهب الكسل.
- أما من ناحية ثانية فالحياة الرهبانيّة وقعت في صراع إذ على الراهب مثل طيور السماء، أن يتّكل على نعمة الله ولذا ليس عليه أن يعمل. ولكن من ناحية ثانية فإنّ مار بولس يطلب في (2تس 3/12) العمل حتى يكسب الإنسان طعامه وألاَّ يستسلم إلى الكسل. من هنا قسمت الحياة الرهبانيّة يومها بين ساعات الصلاة والتأمّل وساعات العمل اليدوي «Ora et Labora».
- أما القديس توما الأكويني فإنّه يوسّع المفهوم الايجابي للعمل في تأمّله حول رسائل مار بولس (أفس 4/17-28 و2تس 3/ 7-12)؛ ليقول أنّ العمل ليس فقط علاجًا ولكنه أيضًا هو وسيلة لتأمين العيش، ولتوقيف شهوة الجسد وهو وسيلة لتقديم المساعدة والحسنة».
- أما بالنسبة إلى عامة الشعب، غير الرهبان، فإنهم مثل كلّ الخلائق لهم مكانتهم في الخليقة، وفي تصميم الله فإن العمل هو ضروري لبنيان الاتزان الاجتماعي وفي قلب الجماعات، فالأشخاص مرتبطون بعضهم ببعض ومرتبطون بمجتمعهم. وهكذا عندما يعملون يكونون في خدمة الآخرين وهم بدورهم يتلقون خدمات الآخرين، هكذا فإن كلّ واحد يتكامل في عطائه مع غيره، وهو يعمل لسدّ حاجات الجماعة. ولهذا في مفهوم مجتمع القرون الوسطى «العمل هو دعوة من الله» مثل مراتب الملائكة العشرة التي ينظم الله عمل كلّ مرتبة منها (وعظة حول الملائكة Berthold de Ratisbonne (1210-1272). وهكذا إذًا على الإنسان أن يعمل وهو يطيع إرادة الله نظرة لاهوتية للعمل.
إذا العمل هو فعل جهد بمفهوم هذه الفترة. فالإنسان يعمل على المادة ليكون شريك مع الله في الخلق.
- مع الرهبان اليسوعيّين أخذ العمل معنى «النظام الزهدي» حياة منظّمة، مرتبة، عاملة نشيطة. ولكن العمل هنا دخل في حياة الطبقة البورجوازية بحيث أصبح عمليّة اكتمال، تحقيق ذات. أما بالنسبة إلى الطبقة الفقيرة فيظل عمليّة تكفير. (وهنا عدم التساوي الاجتماعي والطبقيّة تدخل أيضًا على المفاهيم الروحيّة).
- سنوات الخمسين الستين بدأت نظرة لاهوتيّة جديدة للعمل، حتى تخلّصه من فكرة «التكفير».
- صار الإنسان يشارك بعمله عمل الخالق
- البابا يوحنا بولس الثاني سنة 1981 تحدّث في رسالة رسوليّة «النشاط العملي» وفيها يخصّص قسمًا كبيرًا حول موضوع «روحانيّة العمل».
- العمل هو مشاركة لعمل الله الخالق، قصة الخلق والإنسان على صورة الله ومثاله
- إنّه اتحاد مع يسوع العامل الذي أخذ الأعمال والحرف كوسيلة للدلالة على عمل الله.
- وقريب من العمل الخلاصي. التعب في العمل والتضحية يشبهان حمل الصليب، وهذا أيضًا يعمل على تطوير الإنسان وكماله وتغيير وجه العالم. يصبح فعل سرّ خلاص، سرّ الفصح.
2- شفيع العمّال
تاريخيّة عيد العمال في الأول من أيار:
أيام الامبراطوريّة الرومانيّة كان أول أيار مكرّساً لعبادة الآلهة Flore آلهة الجنائن والحدائق. أما في العصر الوثني الجرماني فكانت أوّل ليلة من أيار تدلّ على يوم الراحة السنوي للساحرات. أما في القرون الوسطى فكان أول أيار مخصّصاً للاحتفال بنهاية فصل الشتاء والعبور إلى فصل الربيع.
أما عيد العمال فيعود إلى القرن الثامن عشر مع تقدّم الآلات وعصر الصناعة والآلة، وصار العمال يطالبون ببعض الحقوق لتخفيف ضغط الحياة عليهم. وتعيّن اليوم الأول من أيار كتذكار لمطالبة العمال بتحديد ساعات العمل بـ 8 ساعات بالنهار في نهاية القرن 19. ففي كلّ قطاعات العالم اميركا، أوروبا، آسيا، بدأت المطالبة بهذا اليوم كتذكار لمعركة العمال لإظهار قيمة العمل وحقوق العمّال واستذكار الشهداء منهم في هذا النهار خلال الاحتفالات. وفي القرن 20 تحدّدت ساعات العمل بثمانية في النهار:
- أول أيار 1919، مجلس النواب الفرنسي حدّدها بثمانية، وجعل من أول أيار يوم عطلة.
- سنة 1947 بعد الحرب العالمية الثانية، تحدّد أول أيار عيدًا للعمّال وهو عطلة مدفوعة بدون أن يكون عيدًا وطنيًّا ورسميًّا.
- في 29 نيسان 1948 تحدّد رسميًّا تسمية «عيد العمّال» في الأول من أيار.
إذا مصدر هذا العيد هو مدني وليس دينيًّا، من الذي حوّله إلى عيد ديني في الكنيسة؟
- البابا بيوس الثاني عشر في أيار 1955 عيّن الأول من أيار عيدًا روحيًّا وحدّد مار يوسف شفيعًا للعمّال بالاستناد إلى تعليم الكنيسة في الرسالة الرسوليّة «الأشياء الجديدة» Rerum Novarum للبابا لاوون الثالث عشر في 15 أيار سنة 1891، ومنها حدّد قداسته حقّ التملّك الشخصي؛ دور العمّال تجاه سادتهم ودور أصحاب المصانع بالمعاش الذي يحاكي قيمة الإنسان حتى يكفي حياته، حقّ العمّال بالمطالبة بحقوقهم.
هنا نجد أنّ البابا وجد دور الكنيسة الحقيقي وهي رسوليّة، يعني مثل الرسل تعمل في حقل العالم دون أن تكون من العالم؛ ولهذا فهي تشارك أبناءها معاناتهم وتطالب بما هو نبيل من أجل حقوقهم.
بهذا روحن البابا هذا العيد وذلك:
- ليدلّ العمّال أنّ الكنيسة إلى جانبهم وهي تشعر بمعاناتهم.
- وليدلّ على قيمة العمل.
وحدّد مار يوسف هو شفيع العمال، لأنه عامل نجار.
- يذكر الإنجيل أنّ يوسف كان «نجارًا، «ابن النجار» يسمّون يسوع في (متى 13/54)؛ ولكن ترجمة عبارة نجار لا تفي العبارة اليونانيّة حقّها «Tekton» يعني حرفي، يعني من يستعمل حكمته وفنّه في تشغيل المادة الخشبيّة أو الحديديّة حتى يخرج منها أشياء تخدم الإنسان وحياته. فالحرفي لا يسعى إلى الربح ولا وإلى التسابق على المراكز وتحقيق الأرباح. فقط يعمل لإخراج مواهب التي يملكها ويستعملها بكلّ حبّ وبكلّ فرح ودقّة حتى يعطي أجمل ما عنده لخدمة الإنسان.
يعني التقنيّة: يعني Tekton – Tekny- المهارات التي يتحلّى بها الشخص. مار يوسف كان في الناصرة بلدة صغيرة، وهو النجار الذي يعمل ليس فقط في فبركته، بل هو صانع، عامل بكلّ مجالات الحرفية ومهاراته واسعة حتى يساعد الناس في بيوتهم وأشغالهم، إنه مرجع وهو يحوي في مهاراته على:
- العمل الصامت لأنه يركّز على الجوهر
- العمل وفيه الحكمة والخبرة لهذا يعمل بهدوء حتى تخرج الأشياء سليمة صحيحة وفاعلة.
- العمل وفيه الحبّ للحرفة التي يقدّم، والاحترام لمقدراته وحبًّا للناس حتى تعيش بفرح وبارتياح من خلال عمله
- العمل وفيه الفرح لأنه يتناول كلّ ما عنده وما أعطاه الله من مواهب.
- العمل وفيه التضحية احترامًا للقِيَم والمقدرات ولعطايا الله. التعب بفرح لأنّ الحقّ والجمال يلتقيان لخدمة الإنسان ولتمجيد الله.
نرى مع مار يوسف النجار «قيمة العمل» في بُعدَيه، العمودي لأنّه ترجمة لمواهب الله وحبّ لما أعطاه الله وتقدير للمواهب التي حصل عليها. والأفقي لأنّه عمل لأجل راحة الآخرين وخدمة حاجاتهم حتى يصلوا إلى حياة كريمة.
3- روحانيّة العمل:
بعدما شاهدنا يوسف النجار في مفهومه للعمل نصل معه إلى فهم روحانيّة العمل:
- عندما نتحدّث عن «روحانيّة» نقصد بها عمل روح الله في قلب الإنسان لكي تظهر فعاليّة حضوره في نوعية العمل. يتروحن العمل عندما يكون الإنسان مشبعًا من روح الله وبالتالي يعمل بهذا الروح فيأتي عمله مفيدًا وفاعلاً.
- عاش القديس يوسف عمله بروحانيّة خاصة، فلم يكن عمله للاستعباد ولا ليملأ وقته، بل عمل لأنّه أراد أن يكون مسؤولاً عن عائلته، ليؤمّن لها حاجاتها. ويسوع تعلّم من يوسف معنى العمل وقيمته والفرح بالعمل لأنّه يعطي الطعام عن استحقاق: الخبز هو ثمرة العمل.
- العمل هو أمر شريف؛ لأنّ الله هو بدوره عمل في الخلق واستراح من عمله في اليوم السابع. ويوسف عمل في النجارة، الرسل عملوا في الصيد، مار بولس عمل في حياكة الخيام…
- العمل هو مشاركة الله في الخلق وفي تطوّر الكون، وبالتالي إنه يساعد على الوصول إلى الملكوت.
- العمل يسهم في ترقية الإنسان والمجتمع، فالإنسان بعمله يطوّر كلّ ما ميّزه به الربّ لأنه يضعه في خدمة المجتمع وفي حالة شراكة مع الغير، الكلّ يستفيد من الكلّ في عمله.
- العمل هو واجب وحقّ، لأنه مناسبة حتى يحقّق الإنسان ذاته وأيضًا يحقّق حياة الخليّة الأساسيّة في المجتمع وهي العيلة. ولهذا فالعيلة التي تتعرّض إلى نقص في العمل تتعرّض بالوقت نفسه إلى صعوبات وأزمات حتى التفكّك… وهذا ما نشهد اليوم في زمن الأزمات التي نعيش.
- بالعمل تتكوّن شخصيّة الإنسان لأنّه كلّما كان خلاّقًا كان على صورة الخالق؛ فالإنسان في عمله يتعاون مع الله ويصبح خلاّقًا معه.
- يعمل مار يوسف حتى ينعكس في شغله عمل الله؛ وهذا ما حمل يسوع إلى القول في يو 5/17 «إنّ أبي ما يزال يعمل، وأنا أعمل أيضًا». لأنّه صنع أعجوبة يوم السبت واعترض عليه اليهود. ولكن بالأكثر تحدّث يسوع عن علاقة الأب والابن بالعمل حيث قال: «لأنّ الآب يحبّ الابن ويريه جميع ما يعمل ويريه أعمالاً أعظم فتعجبون» (يو 5/20). هذا الكلام يقوله يسوع وهو يتعلّم إلى جانب يوسف العمل والحب بالعمل، ولهذا تمكّن من نقل الصورة بين أب وابن والعمل بينهما… يدلّنا يسوع في كلامه على العلاقة بين العمل والحبّ. فالعمل الذي نعمله بحبّ يحرّك الشعور بأن نقدّم للغير الذين نحبّهم سرّ عملنا.
هكذا بالتالي لا يعود العمل منفصلاً عن العلاقات الإنسانيّة الباقية، لا بل فإنه يقوّيها.
وهنا لا ننسى أبدًا أنّ العمل موجود ليكون مصدر وحدة وأخوّة. هكذا نرى أنّ حياة يسوع في عمل النجارة ومن بعدها في الوعظ حول الملكوت توجتها الافخارستيا وهي حصيلة الخبز والخمر وهما ثمرة عمل الإنسان ونعمة الله. هكذا استطاعت الافخارستيا وما تحمله من معنى العمل والنّعمة أن تختصر تقدمة يسوع التي شاركنا فيها.
- عمل يوسف النجارة- أي في مجال الخشب وظهر ذلك في 3 أماكن أساسيّة في حياته:
- في البيت: حيث تتمثل فضيلة «الضمير المهني» بمعنى يعمل لأجل تحسين الطبيعة، ولأجل نموّ الإنسان، وهكذا بالتالي تتقدّس الحياة اليوميّة؛ لأنّه بالعمل نساعد الناس للتقرّب من الله ولتمجيده.
- في الهيكل: لقد علّم الله يوسف كيف يبني الهيكل وأيضًا كيف تبنى سفينة نوح (هنا نستعرض التفاصيل العمرانيّة والخشبيّة) فالله هو نجار بامتياز ويوسف تعلّم منه معنى العمل على بناء بيت الله في علاقته بالله؛ لقد بنى يوسف «هيكل نفسه» ليحمل يسوع ويكمّل رسالته. هنا العمل هو انعكاس لإرادة الله في علاقتنا معه حتى نبني ذاتنا بطريقة صحيحة كما يرسمها هو ليجد له مكانًا يرتاح فيه.
- الصليب: عليه مات يسوع. هنا نلمس علامة وإشارة البساطة. لقد اشتغل يسوع بالخشب كنجار وها هو يموت على خشبة التي عليها حمل خلاص البشريّة. هكذا نتعلّم نحن أنه ببساطة حياتنا اليوميّة نشتغل ونعمل حتى بالصبر ومع الوقت، بالأمانة الصامتة نصل إلى رفع عالمنا إلى القداسة.
- بالعمل نتمكّن من ممارسة أفعال المحبّة: فالخيرات التي وضعها الله بين أيدينا ليست حتى نحتكرها، بل إن المحبّة تدعونا إلى مشاركتها مع الغير. يقول مار بولس في اختباره الشخصي للعمل في كتاب أعمال الرسل 20/34-35: «تعلمون أنّ هاتين اليدَين كانتا تخدمان حاجتي وحاجة الذين كانوا معي. ولقد بيّنت لكم أنه هكذا ينبغي أن نتعب لنساعد الضعفاء، متذكّرين كلام الربّ يسوع حيث قال: «إنّ العطاء أكثر غبطة من الأخذ».
- العمل هو منبع للفرح، لأنّ الإنسان يعطي ممّا عنده ويقدّم للغير ما يفيده فتكثر الخيرات. يقول المزمور 116/5-6 «الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالترنيم. الذي ينطلق ذاهبًا باكيًا وهو حامل بذرًا يزرعه، سيرجع قادمًا مرنّمًا وهو حامل حُزَمَه».
نلاحظ غنى المعنى الروحي للعمل، والقديس يوسف عاشه بصمته لأنّه عمل من قلبه. وحيث يكون قلب الإنسان هناك يكون كنزه؛ وبما يمتلئ منه قلب الإنسان يفيضه في شغله، حتى ولو تعب. (قصة الابنة التي تحمل اخاها الصغير على كتفيها وتمشي حافية في طريق وعر؛ قال لها أحدهم: يا ابنتي أَليس الحمل كبيرًا عليك! أجابته بكلّ تصميم، هذا ليس حملاً إنّه أخي».
4- العمل والزمن الصعب
نحن نعيش اليوم في زمن صعب، بسبب جائحة كورونا والاغلاق والتسكير وتأثيرها على العمل ونوعية التواصل عن بُعد، وبسبب الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي نعاني منه وهو يزيد من حدّته وقوة ثقله على كاهلنا.
وهنا وصل وضع «العمل» إلى حالة متعبة، لأنّنا نعمل ولا نحصل على قيمة عملنا لنعيش بكرامة. نشعر وكأنّ شغلنا غير مقدّر ولا يأخذ قيمته.
ولكن بالمقابل نلاحظ نفسنا أننا نعمل على الرغم من كلّ ما يتعبنا؛ نشتغل ونجتهد ونتعب، وهذا يعود إلى عدّة أسباب:
- شغلنا كوظيفة نقوم بها من باب الواجب على ضميرنا؛ ومن باب أننا نحبّ شغلنا فهو يؤمّن لنا ليس فقط المعيشة بل الشعور بالحياة، الشعور بالوجود.
- شغلنا وحده لا يكفينا من ناحية المعيشة لذلك نسنده بالتعاون فيما بيننا، وهذا يبرز دور التفكير بعضنا ببعض، المساعدات التي نحصل عليها؛ «سند عند الشدّة حتى لا نهوي». وهذا نلمسه كثيرًا في زمننا.
- شغلنا له تاريخ ولهذا لا نتخلّى عنه لأنّه صار جزءًا منّا، وبالتالي نحن نضحّي فيه لأنّنا نعتبر هذه المحنة هي مرحلة؟ ونعمل جاهدين حتى نعبرها بأقل ضرر ممكن.
- شغلنا له دور في مسيرتنا، ولكننا نفتح إلى جانب الوظيفة، روافد، بدائل؛ وهذا يعني نعيد ترتيب حياتنا حتى نعيش، حتى نعطي للحياة قوّتها. هنا معنى الرجاء، لأنّ الذي ننتظره أقوى بكثير مما نعاني منه.
- شغلنا وهو في حالته الضيقة يبقى أافضل ممّا أن نكون بدون شغل. مثل الخبرية التي يقول فيها أحدهم: «بقيت أبكي طوال حياتي لأنّني لا لملك حذاء إلى أن التقيت بمن لا يملك رجلين».
- نعم عندما تعود هذه الصفات والمزايا التي نعيشها بشغلنا ونحن غارقون في بحر الصعوبة، نرى أن العناصر المشجّعة على العمل لا تزال موجودة. ولكن يبقى الإيمان، هو أساسها، بأنّ الله لن يتخلّى عنّا وهو الذي يعتني بطيور السما، فكيف لا بأبنائه. والله يعمل من خلالنا نحن عندما نكون بعضنا إلى جانب بعض؛ ليس فقط على المستوى المادي بل على المستوى الإنساني بالتشجيع والسند المعنوي والدعم الفكري والوحدة والالفة…هكذا نقوى حتى نغلب.
مار يوسف النجار، عمل متعاونًا مع مريم، مع يسوع، ومع الملاك وإلهاماته، فبقدر ما مدّ جسور التعاون نجح في تحقيق كلّ معنى حياته ووجوده وكانت ظروفه دائمًا فيها تحديات وصعوبات. عاش التكامل مع من هم حوله والاصغاء الى ألهامات الرب. وهكذا يعلمنا كيف نغلب نحن اليوم.