الأب ساسين زيدان
الرئيس العام الأسبق لجمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة
مقدّمة
لدى عودتهما إلى أنطاكية، في ختام رحلتهما الرسوليّة الأولى، بولس وبرنابا «جمَعَا الكنيسة، وأخبرا بكلّ ما أجرى الله معهما، وكيف فتح باب الإيمان للوثنيّين» (رُسُل 14/27).
من هذا الحدث الكتابي استعار البابا بندكتوس السادس عشر عنوان رسالته الرسوليّة، باب الإيمان، تاريخ 11/10/2011، التي أعلن فيها «سنة الإيمان»، وحدّد بدايتها في 11/10/2012، الموافق الذكرى الخمسين لافتتاح المجمع الفاتيكاني الثانيّ، وختامها في 24/11/2013، الواقع فيه عيد المسيح الملك، حسب روزنامة الكنيسة اللاتينيّة، متوخّياً أن «يعرض لجميع المؤمنين قوّة الإيمان وجماله»، ويدعوهم إلى التعمّق في معرفة إيمانهم، وعيشه في كلّ ميادين الحياة، وإلى التجنّد في خدمة المجتمع وتبشير جديد بالإنجيل[1].
«باب الإيمان» هو باب الملكوت، باب السماء، باب الكنيسة، بل إنّه شخص حيّ، يسوع المسيح، مخلّص العالم الوحيد، «باب الخراف»، الطريق والحقّ والحياة، الذي لا يمضي أحد إلى الآب إلاّ به، ابن الله وابن الإنسان، به ومعه نلج بيت الآب، وفي نور الإيمان باسمه نكتشف حقيقة الإنسان في ضوء حقيقة الله، ونهتدي إلى الباب الضيّق المؤدِّي إلى الحياة (راجع يو 4/24، 10/8، 14/2-6؛ تك 28/12؛ متى 7/13-14).
هذا الباب، فتحه الله للجميع، دون استثناء، وسيبقى دائماً أبداً «باباً مفتوحاً»، وما من أحد يستطيع إغلاقه (راجع رؤ 3/8). فهو هو بالذات «قلب يسوع المفتوح بالحربة» (راجع يو 19/34)؛ ونحن نعلم أنّ الجرح في الجسم بعد الموت لا يعود يندمل؛ وأنّ الله لن يوصد بابه في وجه طالب، كائناً من كان: «فلا رجعة في هبات الله ودعوته» (روم 11/19).
المشكلة، من ثمّ، ليست عند الله. إنّه يدعو الجميع؛ وما زال ولن يزال يذهب في طلب الخروف الضالّ، ويُنادي آدم المختبئ فيما بين أشجار الجنّة (راجع متى 11/28؛ لو 15/3-7؛ تك 3/8-9). لا بل إنّه واقف على باب كل إنسان، يقرعه أولاً، وثانياً، وباستمرار، «فإنّه يريد أن يَخلُص جميعُ الناس، ويبلغوا إلى معرفة الحقّ» (1طيم 2/4).
المشكلة عند الإنسان، الغارق في «الهموم والغنى وملذّات الحياة الدنيا» (لو 8/14)، والمعتدّ بنفسه، على مثال ملاك كنيسة اللاذقيّة، أنّه غنيّ لا يحتاج إلى شيء. ولا يعلم في الواقع أنّه شقيّ، بائس، فقير، أعمى، عُريان، أصمّ، لا يسمع الطارق بابه، ولا يفتح ويُدخل ضيفه الإلهيّ، ويجلس وإيّاه إلى مائدة الصداقة الحميمة، فيعود إليه البصر، ويغتني، ويسعد (راجع رؤ 3/14-24).
في عتمة هذه المأساة، أشرقت شمس «سنة الإيمان»، علَّ نورها يهدي إلى الحلول الموآتية، والمبادرات الناجعة. على هذا الأمل، وتجاوباً مع الإرادة البابويّة السنيّة، وإسهاماً في تحقيق أهداف هذه السنة المميّزة، وجني ثمارها المرجوّة، كان هذا العدد الخاص المزدوج من مجلة «المنارة». تبرّعت بتحريره، مشكورة، نخبة من ذوي الاختصاص، وتوسّعت في معالجة قضايا الإيمان في عالم اليوم. وبالتالي، سيقتصر هذا المقال الافتتاحي على عرض وجيز لإشكاليّة الإيمان، وما تطرحه وتُمليه من معضلات، وتساؤولات، وتطلّعات. وكأنّنا بذلك نضع الإيمان في الميزان، في محاولة متواضعة لسبرغوره، وتفحّص كنوزه، علّنا نكبر عظيم قدره وقدرته، ونؤخذ بسحر بهائه: «إنّه لأمر عظيم أن تؤمن! ابتهج لأنّك آمنت!»[2].
أولاً: طروحات أوّليّة.
فعل الإيمان المسيحي فعل مميّز بامتياز، فريد بنوعه. يختلف تماماً عن الإيمان بشخص بشريّ، نقدّره ونحترمه، ونمحضه ثقتنا، ونصدّقه، مثل الولد والدَيه، والتلميذ معلّمه، أو الصديق صديقه. فعل الإيمان المسيحي، في حقيقة جوهره، هو التصاق الإنسان بالله التصاقاً شخصيًّأ، وإخضاع عقله وإرادته، وكامل كيانه وأعماله، لله إخضاعاً كاملاً، وقبول تام لكلّ الحقيقة التي أوحى بها الله[3].
«هذا الكلام، لا يفهمه جميع الناس» (راجع متى 19/11). وبديهي أن ننتفض، ونرفض، ونتذمّر مع يهود مجمع كفرناحوم: «هذا كلام عسير، مَن يُطيق سماعه؟» (يو 6/60). يسمعه بانبساط ويقتنع، مَن يهتدي إلى مفتاح التوفيق ما بين عمل الله وعمل الإنسان، كما وما بين الإرث العائلي والقرار الذاتي، وما بين الاقتناع بحقائق وعقائد والاعتناق المحبّ لشخص حيّ، نُدخله قلبنا وحياتنا، ربًّا ومعلّماً ومعبوداً.
1. المسعى البشري والجود الإلهي.
فعل الإيمان، مع ما يقتضيه من استعدادات، ويتضمّنه من مواقف، ويقود إليه من مسلك عمليّ ومسيرة حياة، هو فعل إنسانيّ، وجوديّ، يفعّل كلّ طاقاتنا وحواسنا، الخارجيّة والباطنيّة، البصر والبصيرة، سمع الأذن والقلب، العقل والإرادة، كامل كيان الإنسان. يؤمن من يريد أن يؤمن. هذا ما يقوله يسوع لليهود: «أنتم لا تريدون أن تقبلوا إليّ فتكون لكم الحياة» (يو 5/40، راجع أيضاً 7/17). وكان يوحنا أعلن في مقدّمة إنجيله: «الكلمة الذي من البدء لدى الله، وهو الله، […] جاء إلى خاصّته، وخاصّته لم تقبله، أمّا الذين قبلوه فهم الذين آمنوا» (يو 1/1، 11-12). بالإيمان نَقبَل ونُقبِل. وكلاهما من أفعال الإرادة؛ موقف حرّ، وجداني، عبور من الظلمة إلى النور، من الموت إلى الحياة: «مَن يُقبل إليّ فلن يجوع، ومن يؤمن بي فلن يعطش أبداً» (يو 6/35).
فعل الإيمان، يتطلّب تدخّل الإرادة، لأنَّ مَن وما نؤمن به لا يفرض ذاته حتماً بمثابة قناعة اليقين، مثل 2 + 2 تساوي أربعة. فالقول: «يسوع هو المسيح ابن الله الحيّ» (متى 16/16)، بذات حرفيّته لا يفرض حقيقته على العقل. يعوزه برهان وإثباتات. وهنا عقدة العقد، والمشكلة المعضلة.
ولا شكّ، إنَ فعل الإيمان هو عمل إنسانيّ أصيل، يفعّل كلّ قدراتنا البشريّة، لكنّه ليس مجرّد عمل إنسانيّ عاديّ؛ يعوزه تدخّل إلهيّ فائق الطبيعة، نسمّيه نعمة مجّانيّة من سخاء الجود الإلهيّ، بمبادرة حبّه اللامتناهي. هذا ما أوضحه يسوع لسمعان بطرس: «ليس اللحم والدمّ كشفا لك هذا، بل أبي الذي في السماوات» (متى 16/17).
«لكي يؤمن، الإنسان يحتاج إلى نعمة من الله تتداركه وتعضده، كما يحتاج إلى عونٍ داخليّ من الروح القدس، يحرّك القلب، ويردّه إلى الله، ويفتح بصيرة العقل، ويعطي العذوبة في قبول الحقيقة والإيمان بها»[4].
عملنا وعمل الله، عملنا بنعمة من الله، الإيمان هو إذاً في جوهره نعمة من الله، يعطيناها لا بنوع عابر، وينتهي، بل بشكل موهبة ثابتة تعضد إرادتنا، وتُنير عقلنا، تؤهّل قوانا الإنسانيّة وتؤهّبها للمشاركة في الحياة الإلهيّة، وعيش علاقة حميمة مع الثالوث القدّوس. بهذا المعنى نحصي الإيمان في عداد الفضائل الإلهيّة التي تستند مباشرة إلى الله الذي هو مصدرها، وعلّتها، وموضوعها[5].
وتكمن العقدة في انفتاح الإنسان الإراديّ، الحرّ، على نعمة الله التي تحرّكه: «ما من أحد يستطيع أن يُقبل إليّ إلاّ إذا اجتذبه الآب الذي أرسلني» (يو 6/44).
هذه النِعمة مقدّمة إلى الجميع. الله يكلّم الجميع، ويجود على الجميع بالنور والخلاص، والمشاركة بحياته الإلهيّة: «إنّه يريد أن يَخْلُصَ جميعُ الناس ويقبلوا إلى معرفة الحقّ» (1طيم 2/4). لكنّه يحترم حريّة الإنسان، يعرض ولا يفرض. ولا يرفض أحداً. يُرحّب بالجميع: «من أقبل إليّ لا أطرده خارجاً» (يو 6/37).
وبالتالي، مصير الإنسان بيده. نعمة الله، لا تنتقص من مسؤوليّته، ولا حرّية قراره. بل تفترضها وتقتضيها. جاء النور إلى العالم ليُنير الجميع، ففضّل الناس الظلام على النور، لأنّ أعمالهم كانت سيّئة. فأبغضوا النور، ولم يقبلوا إليه لئلاّ تُفضَح أعمالهم. وبملء إرادتهم رفضوا أن يؤمنوا (راجع يو 3/19-20، 5/40). في عمليّة الإيمان، لا إكراه. لا أسر، ولا كسر، ولا قسر. فقط، برباط القلب يجتذبنا الربّ حسب تعبير أغوسطينوس (في شرح إنجيل يوحنا 26/2-7). «لكلّ إنسان شهوة تفتتنه وتغويه» (يع 1/14). ومن ثمّ «في الإيمان يُسهم العقل والإرادة البشريّتان مع النِعمة الإلهيّة: الإيمان فعل عقل يعتنق الحقيقة الإلهيّة بأمر الإرادة التي يُحرّكها الله بالنعمة»[6].
2. الإرث العائلي والقرار الذاتيّ.
المسيحيّون، بأكثريّتهم الساحقة، مسيحيّون بالولادة. أبصروا النور في عائلة مسيحيّة، وقَبِلُوا العماد المقدّس وهم أطفال. ويَعِي المسيحيّي مسيحيّته، مثل، ومع، وعيه لإنسانيّته. يرث الإيمان مثل، ومع، سائر خيور عائلته؛ وحسب تعبير أجدادنا المأثور: «يرضع الإيمان مع الحليب».
هذا الواقع الحياتي يطرح إشكاليّة مزدوجة: فيعترض البعض على رهن حريّة الشخص البشريّ منذ الطفولة، ويتناسى الكثيرون ضرورة الانتقال من الإيمان الموروث إلى الإيمان المعيوش بتحويل الإرث العائليّ إلى قرار ذاتيّ.
لندع الطفل يترعرع، وينمو، وينضج، فيقرّر حينئذٍ هو بنفسه ما يريد، يقول البعض، بحجّة أنّ المعموديّة منذ الطفولة والتنشئة على الإيمان تشكّلان نوعاً من إرتهان لحريّة القاصر. وهذا أمر جائر، وتعدٍّ على حقوق الطفل غير جائز. ولكن، إن صحّ هذا القول، فلماذا لا يسري أيضاً على سواه من شؤون العناية بالطفل. لننتظر أيضاً بلوغه سنّ البالغين لنُطعمه ونسقيه ونكسوه، ونعرّفه بالأهل والأصدقاء، ونهتمّ بتعليمه وتنشئته الإنسانيّة والاجتماعيّة والمهنيّة؟ أَوَليس البُعد الديني، بُعدٌ جوهريّ من أبعاد الشخص البشريّ؟
فالخلل، ليس في المعموديّة والتنشئة على الإيمان، بل في خطر البقاء على هذا الإيمان الموروث، بدون الانتقال به إلى الإيمان الشخصيّ، الواعي، المعيوش. «وكان يسوع يتسامى في الحكمة والقامة والنِعمة عند الله والناس» (لو 2/52). أَوَليس هذا ما يجب أن نتوقّعه من كلّ طفل مسيحيّ؟ فالإنسان يبني ذاته يوماً بعد يوم، من خلال خبرات الحياة، وتأثير البيئة، وأمثولات الحوادث والظروف. يكتسب، ويكتنز؛ يحتفظ بأمور، يتخلّى عن سواها؛ يكبر وينمو على كل ّالأصعدة. وبشأن الإيمان، كما في سائر الأمور، يبقى للإنسان كامل الحريّة، بل حريّ به، أن يأخذ القرار الذاتي، سلباً أو إيجاباً، يقبل ويتبنّى، أو يرفض ويتخلّى.
هذا مع التذكير بأنّ الإيمان، ليس فقط معرفة، بل وأيضاً يقين وفضيلة، وعطيّة إلهيّة مجّانيّة؛ تنمو بالإصغاء لكلام الله، وتتقوّى وتُثبَّت بالعيش، وتكتمل بالمحبّة. فمن أقدس واجبات المسؤولين، مساعدة النشء على الانتقال من الإيمان الموروث إلى الإيمان القرار الحرّ الذاتيّ المعيوش. وإلاّ، فإيمان الكثيرين مُهدَّد بالضياع والزوال. من يجهل قيمة ما يملكه من كنوز، يتخلّى عنها بأبخث الأثمان.
3. العقائد الإيمانيّة والعلاقة الشخصيّة.
يتمحور الإيمان المسيحيّ، قواماً ومرتكراً ومضموناً، ما حول شخص حيّ، المسيح يسوع، الإنسان الإله. قبل أن نؤمن بعقائد، وحقائق، ومبادئ، نحن نؤمن بشخص، محضناه ثقتنا، اقتنعنا به فاعتنقناه، وأدخلناه القلب والحياة. أُخِذنا بسحره، فأخذناه إلى خاصّتنا، الربّ والمعلّم، والإله المعبود. تدريجاً، تطوّرت العلاقة إلى تعلّق حبّ وشغف، واتّحاد حميم. لسماعه يحدّثنا في الطريق، ويفسّر لنا ما يختصّ به في جميع الكتب، اتّقد قلبنا في صدرنا (راجع لو 24/27، 32)، فأخذنا، مع سمعان بطرس، نردّد: «يا ربّ إلى من نذهب، وكلام الحياة الأبديّة عندك؟ نحن آمنّا، ونعرف أنّك قدّوس الله» (يو 6/68-69). نقبل الحقائق، ونؤمن بها، وإن سمت إدراك عقلنا، لأنّنا نثق بمن كشفها لنا وعلّمناها. «ونحن نعلم أنّه صادق، ويعلّم سبيل الله بالحقّ» (راجع متى 22/16). بل هو «الطريق والحقّ والحياة» (يو 14/6) «يتكلّم بما يعلم ويشهد بما رأى» (يو 3/11).
في الكتاب المقدّس، إشكاليّة الإيمان لا تتناول معضلة وجود الله أو عدم وجوده، بل مشكلة لقاء الإنسان بالله ودخوله معه في حوار حبّ وعهد قران. وهذا جوهراً معنى كلمة «عهد قديم وعهد جديد»، نستعملها تقليديًّا لتسمية كتبنا المقدّسة. في كلّ تدبير الله الخلاصيّ وتاريخ علاقته مع الإنسان، يصدق ما يقوله الربّ في حزقيال النبيّ لشعبه الممثّل رمزيًّا بأورشليم: «مررتُ بِكِ ورأيتكِ، فإذا زمانكِ زمان الحبّ. فبسطُّ ذيل ردائي عليكِ، وأقسمت لكِ، ودخلت معكِ في عهد، يقول السيّد الربّ، فصرتِ لي» (حز 16/8). بذات المعنى ورد في هوشع: «في ذلك اليوم، يقول الربّ، تدعينني زوجي، ولا تدعينني بعد ذلك بعلي […] وأخطبكِ لي للأبد، أخطبكِ بالبرّ والحقّ، والرأفة والمراحم، أخطبكِ لي بالأمانة، فتعرفين الربّ» (هو 2/18-22). مع التذكير بأنّ المقصود بالعبارة «تعرفين»، ليس فقط مجرّد معرفة عقليّة، بل الارتباط بالربّ بعهد حبّ وقران، وحميميّة. ومراراً، في لغة الكتاب المقدّس، فعل «عرف» يُشير إلى العلاقة الزوجيّة بين الرجلّ والمرأة (راجع لو 1/34).
ويذهب الرسول بولس إلى أبعد، فيجعل من علاقة المسيح وكنيسته المرتكز والمثال لسرّ الزواج المسيحي: «إنّ هذا السرّ لعظيم. وإنّي أقول هذا في المسيح وكنيسته» (أف 5/22-33).
ومن ثمّ، فمن لم يعش هذه الخبرة الشخصيّة، يبقى إيمانه سطحيًّا، منقوصاً؛ بالاسم فقط مؤمن، والهويّة. إيمان هزيل، تُطفؤه أدنى ريح خفيفة. إنّها، للأسف، حال الكثيرين. آمنوا بحقائق، وجدول عقائد، ولم يهتدوا إلى معرفة شخص يُقيمون وإيّاه علاقة وثيقة: «فيقوى فيهم الإنسان الباطن، ويُقيم المسيح في قلوبهم بالإيمان […] ويعرفوا محبّة المسيح التي تفوق كلّ معرفة، ويمتلئوا بكلّ ما في الله من كمال» (راجع أف 3/14-21).
ثانياً: تساؤلات مصيريّة
لدى الجميع، مؤمنين وغير مؤمنين، يُثير الإيمان العديد من التساؤلات، في شأن الفعل والفاعل، والمضمون، والمقتضيات، والأفراد والجماعات، والمؤسّسات، والحياة والموت، والخير والشرّ، والزمن والأبديّة. وعلى نوعيّة جوابنا يتوقّف نمط عيشنا، وسلّم أولويّاتنا، ومعيار خياراتنا وقراراتنا، ومن ثمّ مصير حياتنا. من أهمّ هذه التساؤلات المصيريّة، ما يعود إلى إشكاليّة الإيمان والعقل، الإيمان وتعابيره، وثالثاً الإيمان والكنيسة.
1. الإيمان والعقل.
مع التنويه بما يتّصف به الإيمان من طابع يتخطّى الطبيعة، لا يسعنا إغفال ما يتميّز به أيضاً من طابع عقلاني. فالعقل البشريّ لا يُقهر، ولا يتلاشى عندما يُذعن لمضمون الإيمان. وكما أنّ النِعمة تفترض الطبيعة وتكمّلها، الإيمان يفترض العقل ويكمّله؛ يلتمس العقل ويثق به؛ لا يخشاه يل يعتمد عليه، ويدعمه.
تعليمنا المسيحيّ يُشدّد على التناغم، والتعاون، بين العقل والإيمان. ويرفض التناقض المزعوم ينادي به البعض بحجّة استقلاليّة العقل، أو عدم إمكانيّة الوحي الإلهي، أو لا صوابيّة فعل الإيمان العقلانيّة…. كما وإنّه يرفض الفصل ما بين الإيمان والعقل، ويعتبره مأساة مشؤومة، أدّت بالكثيرين إلى الحذر، حتى من قدرة العقل، فراحوا ينادون بالريبيَّة (= septicisme)، أو اللاأدريّة (= agnosticisme)، أو يعتمدون فقط الذهنيّة الوضعيّة (= positivisme)، والتقنيّات العلميّة، والإيدلوجيّات العدميّة (nihilisme)، جاعلين منها مرتكزات لخطط سياسيّة واجتماعيّة أدّت إلى قيام أنظمة توتاليّة خلّفت للبشريّة المظالم والدمار[7].
في ضوء العقل الطبيعي، وعلى الرغم ممّا في العقيدة المسيحيّة من أسرار، وحقائق فائقة الطبيعة، يبقى فعل الإيمان صوابيًّا معقولاً، أي موافقاً للعقل والمنطق، كما سيعرضه مقال خاصّ فيما بعد. صحيح أنّ بعض حقائق الإيمان لا تُدرَك، إنّما ليس ذلك بسبب عدم معقوليّتها، بل بسبب سموّ نور حقيقتها التي يعجز عقلنا المحدود عن اكتشافها أو سبرغورها، ويعوزه عضد الوحي الإلهيّ ونور الروح القدس ليتمكّن من إدراكها، على ما يحدث في مشكلة النظر بالعين المجرّدة المحدودة، والتي تتضاعف قدراتها بمساعدة «المنظار» وما يشبهه من الآلات الحديثة، فيبلغ مدى رؤيتها الآفاق الفسيحة، والمسافات السحيقة وآلاف وحتى ملايين السنين الضوئيّة.
ويصدق هكذا في كلّ مسيحيّ مؤمن قول القديس أغوسطينوس: «إنّي أؤمن لكي أُدرك، وأُدرك لكي أؤمن إيماناً أفضل» (عظة 43/7-9). وقوله الآخر: «إنّك تؤمن لأنَّك لا تفهم، لكنّك حين تؤمن تصبح قادراً أن تفهم؛ وإذا لم تؤمن لن تفهم، لأنّك بعدم إيمانك تبقى أقلّ قدرة على الفهم» (في إنجيل يوحنا، 36/7). فالعلاقة متبادلة بين الإيمان والمعرفة. المعرفة تقود إلى الإيمان، الذي بدوره يُنمّيها، ويكمّلها. «نؤمن لأنّنا عرفنا، ونعرف لانّنا نؤمن». هناك معرفة سابقة الإيمان، ومعرفة أخرى لاحقة. لأنّ الإيمان نور، وفي ضوئه نقرأ، ونميّز، ونفهم، فنعرف، ونتيقّن. هذا ما أكّده سمعان بطرس بقوله ليسوع: «نحن آمنّا ونعرف أنّك قدّوس الله» (يو 6/69). وبذات المعنى، يقول يسوع: «مَن آمن بي لا يبقَ في الظلام» (يو 12/16).
وهكذا، فمن غير الممكن، وفي شتّى ميادين المعرفة، أن يكون البحث المنهجي منافياً للإيمان. فلا تناقض بين العلم والإيمان كما سيوضحه باسهاب مقال لاحق؛ إنّهما يتكاملان، وبقدر ما يعرف الإنسان أن يحترم استقلاليّة كلٍّ منهما، مع ما تمتاز به، وتتميّز، من أساليب وقواعد، وتقنيّات، وميادين. فالله الواحد الذي بعث في الروح البشريّ نور العقل، هو ذاته الذي يوحي بأسرار الإيمان، ويهب الإنسان نور الإيمان[8].
2. الإيمان وتعابيره.
ليس الإيمان فقط إذعان العقل الباطنيّ، وتسليم القلب لله الذي يُكلّمنا. إنّه أيضاً وبخاصّةٍ اعتراف صريح ظاهر، وتعبير خارجيّ بيّن، بالقول والفعل، والطقوس والممارسات، وسائر سلوكيّات الحياة، في كلّ حقولها ونشاطاتها الفرديّة والاجتماعيّة، السياسيّة والاقتصاديّة، والثقافيّة، والأدبيّة والفنيّة.
وبداهةً، وبأحرف من نار ونور، يرتسم على ألواح الضمير والوجدان، السؤال المصيري: هل حقًّا نعي مسؤوليّاتنا في هذا المضمار، ونسعى بكامل قوانا إلى الإفادة من كلّ هذه المناسبات لنعبّر عن إيماننا، خير تعبير، جليٍّ، واضح، وجذّاب ومُقنع، يؤدّي دوره، ويفعل فعله بالسامعين والمشاهدين، على مثال مشهد العنصرة، في الجماهير المحتشدة، «من كلّ أمّة تحت السماء»، «فتفطّرت قلوبهم، وقبلوا كلام بطرس، واعتمدوا» (راجع رسل 2/5-41).
سيتناول هذه المواضيع أخصائيّون أكفاء، في غير مقال من هذا العدد، تكفي الإشارة هنا إلى أمرين بالغي الأهميّة. أوّلاً، «الليتورجيا هي قمّة التعبير عن حياة الإيمان وعيشه في الجماعة – فإنّها مدرسة الإيمان»[9]. من ثمّ يتحتّم على الجميع إحياؤها «بطريقة واعية، وفعّالة، ومثمرة»[10]. والسؤال المقلق هنا مزدوج: كيف أعيش، أنا المؤمن، الاحتفالات الدينيّة وماذا أجني منها، وثانياً ما هي انطباعات غير المؤمن لدى حضوره هذه الاحتفالات، في بعض المناسبات الاجتماعيّة؟
الأمر الثاني، الواجب أخذه بعين الاعتبار، ما الذي يميّزك أنت المسيحيّ المؤمن عن زميلك غير المسيحي، العائش بقربك والعامل معك؟ هل أنت له، كما يريدك مسيحك: «نور العالم وملح الأرض؟» (راجع متى 5/13-16). «بالمعموديّة، المؤمنون العلمانيّون هم بالتّمام والكمال أعضاء جسد المسيح، ومشاركون في رسالة الكنيسة الجامعة. […] إنّهم يُترجمون، بأعمالهم الواقعيّة، الإنجيل والعقيدة وتعليم الكنيسة. […] وحين تصبح رسالة الكنيسة صعبة، في الأوساط حيث التبشير بالإنجيل يلاقي عراقيل، أو هو مستحيل، «لتكن سيرتكم بين الأمم سيرة حسنة […]، فيشاهدوا أعمالكم الصالحة، ويُمجّدوا الله يوم الافتقاد» (راجع 1بطر 3/15)، «كونوا غيارى على تقديم دليل ما أنتم عليه من الإيمان» (راجع 1بط 3/15)، من خلال تناغم حياتكم ومسلككم اليوميّ[11].
3. الإيمان والكنيسة.
«صحيح أنّ الإيمان أمر شخصيّ، لكنّه ليس مسألة خاصّة. إنّنا نتقبّل الإيمان من الكنيسة، ونعيشه حسب تقليدها الحيّ وتعليمها. المؤمن الفرد مدعوّ ليقول: «نحن نؤمن»، كما تقول الكنيسة[12].
فما من أحد يستطيع أن يؤمن منفرداً، كما أنّه لا يستطيع أن يعيش منفرداً: ما من أحد أعطى نفسه الإيمان، كما لم يُعطِ أحد نفسه الحياة. «فلا أحد يكون الله أباه، ولا تكون الكنيسة أمّه»[13]. كلّ مؤمن حلقة من سلسلة المؤمنين الطويلة، الكنيسة، جماعة المؤمنين. فهي التي تؤمن، أولاً.
إيمانها، يسبق إيماننا، ويبعثه، ويغذّيه. فلا أحد يستطيع أن يؤمن كيفما أراد، ولا يحقّ أن يصوغ الإيمان على هواه. إيماننا واحد، إيمان الكنيسة، «الإيمان المشترك» (طي 1/4). نلناه من الكنيسة، نعترف به مع الكنيسة، ونعيشه في الكنيسة، ونعمل على نشره في عالمنا، بغيرة وأمانة[14].
إنّما، – وهنا المشكلة المصيريّة !-، هذه الكنيسة المقدَّسة، أمّنا، جسد المسيح السرّي، والعروسة النقيّة للحمل النقيّ (راجع رؤ 19/7، 21/2، 21/9، 22/17)[15]، تضمّ في حضنها أُناساً ضُعفاء، خطأة، وتتكوّن من مؤسَّسات بشريّة، عُرضة للنقص والأخطاء، في البُنيات كما في الممارسات. وبعض الأحيان، وبدل أن تكون، كما ينبغي ويليق، البيئة الحاضنة الصالحة، والأرض الطيّبة للزرع الطيّب الذي يُثمر مائة ضعف (راجع لو 8/8)، تصبح عقبة كأداء، حجر عثرة وصخرة شك، بسبب سوء تصرّف البعض من أبنائها، وحتى من المسؤولين والخَدَمة الموسومين[16]، والذين يصدق فيهم حقًّا كلام الربّ عن مُسبّبي الشكوك، الأَولى بهم أن تعلَّق الرحى في عنقهم، ويُلقون في عُرض البحر (راجع متى 18/6-7). ولا نجهل براعة وسائل الإعلام، في عصرنا، في استغلال هكذا مناسبات للتشنيع بالكنيسة وهدم الإيمان في قلوب هؤلاء الصغار المؤمنين بالربّ!
وتقف الكنيسة حجر عثرة في رأي «ضعيف الإيمان» (راجع روم 14/1)، أو فاقده، الذي يتغنّى بالمسيح، وتعاليمه، ويرفض الكنيسة وتعاليمها: نعم للمسيح، لا للكنيسة!… وتبقى العقبة الكبرى المستعصية الممثّلة بالانقسامات والتباينات بين الكنائس، والتي تشوِّه وجه الكنيسة الناصع، وتقصي الكثيرين عن الإيمان، على مثال ما نقل التاريخ عن المهاتما غاندي، زعيم الهند الشهير.
أخطاء وأخطار، وأضاليل وانحرافات تهدّد صحّة الإيمان. وحده ينجو سالماً «من كان له أذنان، فيسمع ما يقوله الروح للكنائس» (رؤ 2/29، 3/6، 13، 22). «إنّ الروح هو الذي يُحيي، وأمّا الجسد فلا يُجدي نفعاً» (يو 6/63).
ثالثاً: تطلّعات مستقبليّة
في إنجيل لوقا، يُنهي يسوع مثل القاضي الظالم، متسائلاً: «ولكن، متى جاء ابن الإنسان، أفتراه يجد الإيمان على الأرض؟» (لو 18/8). في هذا السؤال، يرى علماء الكتاب «حكمة» مستقلّة عن المثل، تطرح موضوع الارتداد عن الدين، المرتقب حدوثه في آخر الأزمنة، وهو موضوع تقليديّ في الأدب الرئيويّ (راجع متّى 24/10-12؛ 2تسا 2/3).
وإن لم نبلغ بعد آخر الأزمنة، فإنّنا نجد في هذا السؤال دعوة ملحّة إلى معالجة «أزمة الإيمان» في عالم اليوم، عالم ما بعد العصرنة، السكران بفتوحاته العلميّة، وإنجازاته التقنيّة، ذلك بعمل راعويّ، علميّ مكثّف، يتمحور ما حول التطلّعات المستقبليّة التالية: نقل الإيمان، التجدّد المنشود، الحوار البنّاء.
1. نقل الإيمان.
أمر حيويّ، مصيريّ، نقل الإيمان هو أُولى الأولويّات وأسمى المهمّات، في حياة كلّ مؤمن. «فالإيمان من السَّماع، والسَّماع يكون سماع كلام على المسيح» (روم 10/17). منذ البدايات، قام الإيمان على التبشير بالإنجيل، بالكلام والأعمال وسفك الدماء، وما زال ولن يزال هكذا إلى منتهى الأدهار. ومنذ نشأتها، بتعليمها وحياتها وطقوسها، جاهدت الكنيسة الجهاد الحسن، لتحافظ على «الوديعة الكريمة» التي تسلّمتها من الربّ، ولتسلّمها تامّة، بمعونة الروح القدس المقيم فيها، إلى الناس أجمعين، جيلاً بعد جيل (راجع 2طيم 1/13-14، 4/7؛ 1قور 11/13؛ يهوذا 3)[17].
في عصرنا اليوم، وبخاصّة في عالمنا الشرق أوسطي، حيث يتقلّص الوجود المسيحيّ عاماً بعد عام، لا يجوز، ومهما كانت الأسباب، أن يبقى المؤمن مكتوف الأيدي، أصمّ، أَبْكَم. يلزمه، ومهما كانت حاله وأحواله، «أن يُعلن كلمة الله ويُلحّ فيها بوقتها وبغير وقتها» (2طيم 4/2). المسؤوليّة، مسؤوليّة الجميع، الكبار والصغار، العلمانيّون والمكرّسون، الكهنة والأحبار، البيت والمدرسة، والرعيّة، والمجتمع وسائر وسائل الإعلام.
أمام هذا الإلزام الشامل، يعترض بعضهم مستنكرين: هل بوسع الإنسان نقل الإيمان؟ أَلَيس الإيمان نِعمة من الله؟ صحيح أنّ الله هو الذي يفتح قلب ليرَيا بائعة الأرجوان لتصغي إلى كلام بولس وتؤمن. ولكن على بولس المؤمن أن يجلس إلى ضفّة نهر مدينة فيلبّي يكلّم النساء المجتمعات هناك (راجع أعمال الرسل 16/13-16). الإيمان عمل الله وعمل الإنسان. والإنسان بتقاعسه عن القيام بعمله، يُعطّل عمل الله: ««ولمّا كان لنا من روح الإيمان ما كُتِبَ فيه: «آمنتُ ولذلك تكلّمتُ»، فنحن أيضاً نؤمن ولذلك نتكلّم» (2قور 4/13؛ مز 116/10).
ما يُعوزنا؟ أُناس «مُمتلئون من الإيمان والروح القدس» (راجع رسل 6/5)، «تأخذ بمجامع قلوبهم محبّة المسيح» (راجع 2قور 5/14)، «فلا تفتر همّتهم، ولا يسلكون طريق المكر، ولا يزوّرون كلمة الله، ولا ينادون بأنفسهم، بل بالمسيح يسوع ربًّا؟ همّهم الوحيد أن يُشرق في قلوب الجميع نور بشارة مجد المسيح الذي هو صورة الله» (2قور 4/1-6).
وليأذن لنا القارئ الكريم، ما زلنا في التطلّعات المستقبليّة، أن نحلم مع الحالمين، ونفترض، مع المطران فولتين شين، معاون رئيس أساقفة نيويورك في أواسط القرن الماضي، أنّ نكبة ما هوجاء حلّت بالكنيسة جمعاء فأبادتها، لا سمح الله! ولم يبقَ لا بشر ولا حجر، فقط نجا بأعجوبة سماويّة شخص واحد وحيد، رجل إسكاف، وضيع، فقير، لكنّه غنيّ بإيمانه الحيّ «الذي ينقل الجبال» (راجع متى 17/20، 21/21). فأخذ هذا الإسكاف، وعلى مدار سنة، وهو يدقّ المسمار في النعل، يدقّ باب قلب رفيقه في العمل، فجعله نظيره مؤمناً، متّقداً غيرة، مندفعاً بسخاء إلى حمل بشارة الإنجيل. ويذهب هذان يعملان سنة بأكملها، فيكسب كلّ منهما مؤمناً على مثاله. وهكذا دواليك الأربعة يكسبون أربعة، والثمانيّة ثمانية… فما عساه يصبح من جديد عدد المؤمنين، بعد مرور ثلاثين سنة؟
2. التجدّد المنشود
يتميّز عالم اليوم بتغييرات عميقة، جذريّة، سريعة، فوضويّة، تطال كلّ الأوضاع والأبعاد، ويرافقها صعوبات بالغة، وأزمات خانقة، مع تبدّلات سيكولوجيّة وأخلاقيّة، ودينيّة غالباً ما تقود إلى الشكّ واللامبالاة، وإنكار حقيقة الله، وإمكانيّة تدخّله في عالمنا. إنسان اليوم قادر على الأفضل والأسواء. معلوماته واكتشافاته، وتقنيّاته تستطيع أن تُسعده أو تسحقه، تُحييه أو تدمّره.
إنّ هذا الوضع الراهن، الرائع والمريع، يُسائل المؤمنين في الصميم، ويستحثّهم على حسن قراءة علامات الزمان (راجع متى 16/2-3)، والقيام بعمليّة تجدّد تجعلهم «دائماً مستعدّين لأن يردّوا على من يطلب منهم دليل ما هم عليه من الرجاء» (1بط 3/15). من أولى مقتضيات هذا التجدّد المنشود، العودة إلى الينابيع، والتعمّق في معرفة كنوز حقائق العقيدة الموحاة، بفضل تنشئة صحيحة، كاملة، متكاملة، ودائمة، ترافق كلّ مراحل الحياة، وبالمداومة على الصلاة وعيش الأسرار، والمواظبة بنوع خاصّ على «القراءة الإلهيّة» للتشبّع من كلمة الله وسلوك دروبها. فالتجديد لا يُناقض التقليد، بل منه ينطلق وعليه يرتكز، وقوامه، جوهراً، لا بتبديل قانون الإيمان؛ بل بالتأصّل في سبر أغواره، والتمسّك الراسخ بحقيقة مفاهيمه.
وكما أنّ دوام حياة الإنسان رهن التجدّد الدائم في خلايا جسده، هكذا دوام حياة الإيمان منوط بالتنامي المتواصل في تفهّم أسراره وعيش مقتضياته. وأَلَيس هذا ما سأله بولس في صلاته من أجل مسيحيّي أفسس: «أن تشتدّوا بروحه ليقوى فيكم الإنسان الباطن، وأن يُقيم المسيح في قلوبكم بالإيمان، حتّى إذا ما تأصّلتم في المحبّة وأُسِّستُم عليها، أمكنكم أن تُدركوا مع جميع القدّيسين ما هو العرض والطول والعلوّ والعمق، وتعرفوا محبّة المسيح التي تفوق كلّ معرفة، فتمتلئوا بكلّ ما في الله من ملء» (أف 3/14-19).
وبما أنّ الإنسان ابن البيئة، المؤمن أيضاً يتفاعل مع محيطه، ويتأثّر بمجتمعه، ويلزمه بالتالي الانفتاح على عالمه بموضوعيّة وإيجابيّة، ورويّة، وحكمة. «فجماعة المسيحيّين تعترف بتضامنها الحقّ والوثيق مع الجنس البشري وتاريخه […]. وآمال البشر وأفراحهم، وأحزانهم وضيقاتهم، لا سيّما الفقراء منهم والمعذّبين جميعاً، هي أفراح تلاميذ المسيح وآمالهم، وأحزانهم وضيقاتهم»[18]. فلن يستقيم التجدّد المنشود إلاّ بهذا الانفتاح الذي يُتيح للمؤمن معرفة ظروف الإنسان وأوضاعه وحاجات الكنيسة معرفةً تامّة. وفي ضوء الإيمان يحكم بفطنة على أحوال عالم اليوم، ويضطرم غيرة رسوليّة. ويهبّ لمساعدة الناس بفعاليّة أكبر[19].
وفي نور معرفته، ونار غيرته، يبدع المؤمن الحلول الموآتية، ويستنبط الوسائل الناجحة لتحقيق التجدّد المنشود. فيخلق ما يلزم من منظّمات ونشاطات، ويفيد من المعطيات المستجدّة، والتقنيات المستحدثة، ويجنّد القوى المتوافرة، في سبيل صيانة الإيمان، وخدمة الإنسان ومصالح الملكوت.
3. الحوار البنّاء
يحتلّ الحوار في عالم اليوم مقام الصدارة. إنّه ميزة العصر، ويعتقد البعض أنّ فيه مفتاح الحلّ لكلّ المشاكل. والحوار أيضاً في الأساس من مقوِّمات إيماننا المسيحيّ، وعلاقتنا مع الله والناس. إلهنا إله حوار، وكنيستنا كنيسة حوار. وجيلاً بعد جيل، وبخاصّةٍ في مجمعها الفاتيكاني الثاني الأخير، شجّعت أبناءها على اعتماد الحوار وجهاً أوّليَّا من رسالتهم وسط التنوّع الحاصل والتعدّدية السائدة بمختلف أشكالها العرقيّة، والثقافيّة، والدينيّة[20]. ولقد أنشأت، في الكوريا الرومانيّة، مجلساً حبريًّا خاصًّا للحوار المسكوني، وآخر للحوار بين الأديان. وتوسّع الأحبار الأعظمون في مواعظهم ورسالاتهم العامّة في إرساء قواعد هذا الفنّ الدقيق، وتوضيح مفاهيمه، وتحديد حقوله، والتركيز على عظيم أهميّته وضرورته في الكرازة الإنجيليّة، والتنشئة للعلمانيّين وللإكليروس، وبالتالي معالجة شؤون إشكاليّات الإيمان[21]. خير قاعدة، في هذا المضمار، ما رسمه البابا يوحنا بولس الثاني، في سياق حديثه عن الحوار ما بين الكنيسة الكاثوليكيّة، والكنائس الأرثوذكسيّة، بقوله: «إنّ الأسلوب الواجب اتّباعه لبلوغ ملء الشركة هو حوار الحقيقة يغذّيه ويسنده حوار المحبّة»[22]. كلام مأذون، يُحدّد بوضوح خير ما تطمح إليه الكنيسة، القيادات والشعب، في البحث عن السُبُل المُجدية والحلول الموآتية لمعضلات فهم الإيمان، وعيشه، وصيانته، ونشره.
المقصود، أولاً بحوار الحقيقة، حقيقة العقيدة، والتعمّق في تفهّمها، والتمسّك بدقّة صِيَغِها. فالجهل الدينيّ عدُوّ فتّاك، كثيرون، عبر العصور، فقدوا الإيمان بسبب عدم المعرفة (راجع أش 5/13)، أو المعرفة الناقصة، حسب تعبير بصويت (Bossuet) الشهير: «قليل من العِلم يُبعد عن الله، كثير من العِلم يُرجع إليه». ومن يدخل الحوار دون معرفة وافية، عميقة، يغرق في لجج النسبويّة وكلّ الديانات تتساوى، ويذوب في نار الاعتراضات: «على المحاوِر أن يكون مُنسجماً مع تقاليده وقناعاته الدينيّة، ومُنفتحاً على تقاليد الآخر وقناعاته، لكي يتفهّمها بدون مراوغة ولا انغلاق، بل في الحقيقة والتواضع، والصدق»[23].
وتعني الحقيقة أيضاً، حقيقة المتحاورين، وصِدقهم، وصراحتهم، وخُلوص نواياهم، وقدرتهم على رؤية الأمور بموضوعيّتها، دون تلوين، ولا تضخيم، ولا تحجيم، والاعتراف بها بشجاعة، دون مواربة ولا مسايرة مزيّفة. والحوار عمل مشترك، لا قيام له ولا نجاح إلاّ بالمحبّة. فمن يحبّ يسعى إلى اللقاء والتبادل والمشاركة، وإلى التفاهم والتعاون بسخاء وإخلاص، بغية بلوغ الهدف الواحد، وإحقاق الحقّ، وتحقيق السلام والخير العام. فالحوار تبادل آراء وحياة، يتطلّب بذل ذات، لنُعير الآخر الانتباه اللازم، ونُصغي إليه، وإن لم تُرضنا لغّته، فنترك له المجال ليقول ما يريد، ونُكلّمه بلغة يفهمها. فالحوار عرض لا فرض، تفاهم لا تناحر، ولا رغبة في الغلبة والانتصار. مناخه السليم الصداقة والأخوّة، والخدمة بمحبّة وتواضع.
وذروة فنّ الحوار، إليه نتطلّع، أن نجعل الآخر يكتشف هو نفسه الحقيقة، ويعتنقها، كما انتهى إليه حوار يسوع مع المرأة السامريّة: «أرى أنّك نبيّ…» […] وتركت المرأة جرّتها وذهبت إلى المدينة تقول للناس: هلمّوا فانظروا رجلاً قال لي كلّ ما فعلت. أتراه المسيح؟» (يو 4/19، 28-29)[24].
خاتمة: حذار الكسل!
لا تكاسل في الإيمان، ولا تخاذل! الأمر خطير، قضية حياة وموت؛ مصير الإنسان وخلاصه؛ الله وملكوته؛ الدنيا والآخرة!
بهذا اليقين، كتب البابا بندكتوس السادس عشر في ختام الرسالة الرسوليّة «باب الإيمان» (عدد 15)، ما حرفيّته: «إنّ الرسول بولس وقد اقترب وقت رحيله، يسأل تلميذه طيموتاوس أن «يلتمس الإيمان» (2طيم 2/22). بذات التجلّد الذي كان عليه في صباه (راجع 2طيم 3/15). لنعتبرنّ هذه الدعوة موجّهة إلى كلٍّ منّا، فلا يكوننَّ أحد كسولاً في الإيمان».
مشروع الحياة، مسيرة الإيمان ليست مجرّد نزهة «شمّ النسيم» بين الرياحين. إنّها تسلّق قِمَم شاهقة، وعبور صحاري رمال حارقة، وسهر ليالي ظلمات كالحة. إنّها ميدان جهاد، نضال وجداني، وصراع مصيري، يخوضه المؤمن كلّ أين وآن، في كلّ لحظة، مع نفسه وأهوائه، مع العالم وشهواته، وحتى وبخاصّةٍ مع الله مثل يعقوب على ضفة نهر يبّوك (راجع تك 32/23-33).
محور هذا الصراع، ورهانه، التبدّل المطلوب في العقل والفكر، والقلب والضمير، والكيان، والعمل، ونمط العيش وسلّم القِيَم، ومبدأ القرارات، والمبادرات، لتكون هذه جميعها مطابقة بالتمام والكمال ما يراه الله، ويريده، ويرضيه. فيحيا المؤمن على مثال الابن الوحيد، في حالة نظر دائم إلى الآب، وإصغاء للآب، وعمل بما يرضي الآب. وهكذا يصبح عن حقٍّ وحقيقة «علامة حيّة لحضور المسيح الحيّ في العالم»[25]، وتصدق فيه كلمة الرسول بولس: «فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيّ» (غلا 2/20).
إلى هذه الذروة تقود خطانا مسيرة الإيمان. ولأنّها لن تنتهي إلاّ بنهاية الحياة، فإنّها، لن ترتضي بالكسول الخامل، وتستحثّنا، كلّ يوم وفي كلّ لحظة وحال وحالة، على «أن نقوم ونمضي» (راجع لو 15/20)، ونسير بلا ملل ولا كلل، «من ذروة إلى ذروة حتّى يتجلّى الله لنا في صهيون» (مز 84/8)، «ونصبح أشباهه لأنّنا نراه كما هو» (1يو 3/2).
المراجع
- أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني: الوثائق المجمعيّة، نقلها إلى العربيّة، المطارنة عبده خليفه، يوسف بشاره، فرنسيس البيسري، طبعة ثانية 1984.
- الأعمال البابويّة.
- البابا بولس السادس، رسالة عامّة، كنيسته، تاريخ 6/8/1964.
- البابا بولس السادس، إرشاد رسولي، التبشير بالإنجيل، تاريخ 8/12/1975.
- البابا يوحنا بولس الثاني:
- رسالة عامّة، رسالة الفادي، تاريخ 7/12/1990.
- رسالة عامّة، تألّق الحقيقة، تاريخ 6/8/1993.
- رسالة عامّة، ليكونوا واحداً، تاريخ 25/5/1995.
- رسالة عامّة، الإيمان والعقل، تاريخ 14/9/1998.
- إرشاد رسوليّ، رجاء جديد للبنان، تاريخ 10/5/1997.
- البابا بندكتوس السادس عشر:
- رسالة رسوليّة، في صيغة إرادة ذاتيّة، باب الإيمان، تاريخ 11/10/2011.
- إرشاد رسولي، الكنيسة في الشّرق الأوسط، تاريخ 14/9/2012.
- البطريرك الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي، الرسالة العامّة الثانيّة، إيمان وشهادة، تاريخ 25/3/2013.
- ت.م.ك.ك. التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، الترجمة العربيّة، المكتبة البولسيّة، ومنشورات الرسل، جونيه، 1999.
باللغة الفرنسيّة.
- Aubert, Roger, Le Problème de l’Acte de foi. Louvain – Warny Editeurs, 1945.
- Dunas, Nicolas, Connaissance de la foi, Ed. du Cerf – Paris, 1962.
- Manaranche, André, Je crois en Jésus-Christ aujourd’hui, Ed. du Seuil – Paris, 1968.
- Moingt, Joseph. La Transmission de la foi, Ed. Fayard, Paris, 1976.
- Rahner, Karl. Est-il possible aujourd’hui de croire ? Ed. Mame, Paris, 1966.
- Ratzinger, Joseph. La Foi Chrétienne hier et aujourd’hui, Ed. Cerf- Mame, 1985.
- Ratzinger, Joseph. Foi et Avenir, Ed. Mame, Paris, 1971.
- Sesboué, Bernard. Croire. Ed. Droguet et Ardent, Paris, 1999.
- Testard, Gérard. La Foi, un Don à Vivre. Ed. Nouvelle Cité, Paris, 2012.
REVUES
- Lumen Vitae. Catéchiser dans une Eglise Contestée. Oct. Novembre – Décembre, n° 4, 2012.
- Nouvelle Revue Théologique, Janvier-Mars 2013, pp. 81-97 : Elena Torri. Foi Chrétienne er Retour du religieux : la position de Joseph Ratzinger.
- Communio, La Foi, XII-2, Mars-Avril, 1988.
- Communio, La Transmission de la Foi XXV, 4 n° 156, Juillet-Août 2001.
- Communio, Foi et Communication XII, 6, Novembre-Décembre, 1987.
1. راجع، البابا بندكتوس السادس عشر، رسالة رسوليّة، باب الإيمان، تاريخ 11/10/2011، الأعداد 1، 2، 4، 6.
2. القديس أغوسطينوس، مقالات في إنجيل يوحنا، 27/7، في منشورات المكتبة الأغوسطينيّة، رقم 72، ص 549-551.
3. راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، عدد 143 و150. نُشير إليه فيما بعد بالأحرف ت.م.ك.ك.
4. المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الوحي الإلهيّ، كلمة الله، عدد 5. نُشير إليه فيما بعد بالأحرف و.ل. راجع أيضاً ت.م.ك.ك. عدد 153.
7. راجع الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة جامعة، الإيمان والعقل، وبالأخصّ الفصل الرابع، الصلات بين العقل والإيمان، الأعداد 36-48.
8. راجع ت.م.ك.ك.، الأعداد 156-159، والمجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الوحي الإلهي، عدد 5؛ ودستور راعوي الكنيسة في عالم اليوم، عدد 36.
8. راجع البطريرك الكاردينال، مار بشاره بطرس الراعي، الرسالة العامّة الثانية، إيمان وشهادة، تاريخ 25/3/2013، عدد 6، ص 14.
10. راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الليتورجيا المقدّسة، عدد 10 و11.
11. البابا بندكتوس السادس عشر، إرشاد رسوليّ، الكنيسة في الشرق الأوسط، شركة وشهادة، عدد 56.
12. البطريرك الكاردينال بشاره الراعي، المرجع أعلاه، عدد 6 ص 13.
13. القديس قبريانوس، وحدة الكنيسة الكاثوليكيّة، 6.
14. راجع ت.م.ك.ك. الأعداد 166-181.
15. المجمع الفاتيكاني، دستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم، الأعداد 6/8.
17. المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الوحي الإلهي، كلمة الله، عدد 8.
18. راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء، عدد 1.
19. راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، قرار مجمعيّ في تجديد الحياة الرهبانيّة، المحبّة الكاملة، عدد 2-د.
20. راجع الوثائق المجمعيّة، الترجمة العربيّة، عبده خليفه، يوسف بشاره، فرنسيس البيسري، طبعة ثانية، 1984، فهرس هجائي، كلمة حوار، ص 981، حيث يرد ذكر ما يزيد على 40 مرجع.
21. راجع مثلاً، البابا بولس السادس، الرسالة العامّة، كنيسته، Ecclesiam Suam، تاريخ 6/8/1964، الأعداد 60-123؛ البابا يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامّة، ليكونوا واحداً، تاريخ 25/5/1995، الأعداد 28-79؛ الإرشاد الرسولي، رجاء جديد للبنان، تاريخ 10/5/1997، الأعداد 10-16، 85-86، 89-92؛ البابا بندكتوس السادس عشر، إرشاد رسولي، الكنيسة في الشرق الأوسط، تاريخ 14/9/2012، الأعداد 12-28.
22. راجع الرسالة العامّة، ليكونوا واحداً، عدد 60؛ وأيضاً رجاء جديد للبنان، عدد 12.
23. راجع البابا يوحنا بولس الثاني، رسالته العامّة، رسالة الفادي، تاريخ 7/12/1990، عدد 56.
24. راجع دليل التنشئة، في جمعيّة المرسلين اللبنانيّين، 2009، الأعداد 94-96.