الأب د. ميشال روحانا الأنطوني
مقدمة
اليوم، وقد بات لنا “حبرا رومانيا” جديداً هو قداسة البابا فرنسيس، يمكننا إنجاز قراءتنا بالروح القدس في العبور من زمن الفاتيكاني الثاني إلى زمن ما بعد الفاتيكاني الثاني على الشكل التالي:
إننا، بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخمسين لافتتاح الفاتيكاني الثاني، والمئوية السابع عشرة لـ “إعلان ميلانو” على يد الملك قسطنطين (313)، وإعلان هذه السنة كسنة للإيمان، وافتتاح زمن الكرازة الإنجيلية الجديدة، نؤكد أن تعاقب البابوات من يوحنا الثالث والعشرين ولغاية اليوم ليس عرضياً ولا موجّهاً من البشر. إنه بالأحرى مرتبط بروح الفاتيكاني الثاني ونصّه وموجّه من قبل الروح القدس البارقليط كما أنبأنا المسيح (يو 14، 26). وعليه، هل يحق لنا اعتبار تنحّي بندكتس السادس عشر جسر العبور من حقبة الفاتيكاني الثاني إلى حقبة ما بعد الفاتيكاني الثاني؟
كل شيء بدأ مع تنحّي بندكتس السادس عشر
ما إن يضع الإنسان ذاته على حافة الواقع البشري، أي عند الرصيف ما بين الإنساني والإلهي، حتى تسقط الألقاب. هكذا، جرّد جوزيف راتزينغر نفسه من كل لقب واستعاد الاسم الذي أطلقه عليه أهله وخصّه الله به، في سجل الحياة، منذ ولادته (رؤ 12، 23). لقد أعلن جهارة بإنه لا يرغب بعد الآن إلا أن يكون عابداً للصليب. لقد شاء أن يتحوّل إلى صفوف كبار “المتزهّدين” في الكنيسة. “سقطت حبّة الحنطة وماتت” و”خسر بندكتوس نفسه من أجل الملكوت” ولا يمكن أن تكون هذه الخطوة اعتباطية وخاضعة لمقاييس بشرية. إنها لإهانة للروح القدس بأن لا نقرأ فيها علامة من أهم علامات الزمن.
- جوزيف رتزينغر والطاقة الإلهية
لقد تشرّب بندكتس السادس عشر من الطاقة الإلهية ما يكفي لكي يشتعل بنارها. إنه كفراشة الليل التي تدور حول القنديل، مصدر الطاقة التي هي منه. راح يقترب أكثر فأكثر من فتحة مصدر تلك الطاقة المقدسة ليستفيد من نورها وحرارتها إلى أقصى حدّ. ولكنه كإنسان حَكَمهُ التردّد إلى حين خوفاً من احتراق جناحيه وفقدان ذاتيته، عاد في ملء زمن لم يحدّده هو، وقرّر، كما نلاحظ في حالة الفراشات الليلية تلك، أن يقوم بالخطوة القصوى، ألا وهي بأن يسلّم جناحيه للنار وأن يتحوّل إلى أثير في قلب القنديل، ويصبح “ناراً” من “نار”، و”نوراً” من “نور” ويقتحم المشاهدة المجيدة لوجه الآب. (يو 14: 8)
إنها بادرة الحب القصوى التي لا يقدر عليها إلا الذين لَمَسهم الحب الإلهي. القديس شربل شاهد على ذلك، وماء قنديله الذي تحوّل إلى مادة مشتعلة هو الإثبات الدامغ على قوّة الحب. هكذا، ينتهي البابوات العظام في المسيح. إنه لفي أحداث مماثلة، تستمر أعجوبة التحوّل والاستحالة الجوهريّين في الإنارة والتدفئة وجعل كل شيء جديداً (رؤ 21، 5).
- جوزيف راتزينغر والكتاب
على ما يشهد له جميع اللاهوتيين، عرف راتزينغر يسوع المسيح حق المعرفة، وكتب عنه من الكتب ما يكفي ليتحوّل هو بنفسه إلى كتاب مفتوح عنه. لقد اختبر معه حمْلَ الصليب لمدّة ثماني سنوات، و شاركه به على طريقة سمعان القيرواني حتى وجد نفسه في الخطوة القصوى، يذوب فيه، فيصبح بذاتيته “كتاباً” عنه، كتاباً ذا صفحات بيضاء بتصرّف المسيح شريكه، يكتب هو عليها، يملؤها ويبدّلها بالصفحات الناقصة من إنجيله (يو 21، 24).
وهكذا، وكما تبدأ مقدّمة كل كتاب بخاتمته، وكما أن التجسّد لا يُفهم إلا في ضوء الموت والقيامة، هكذا تُفهم قيمة انتخاب جوزيف راتزينغر انطلاقاً من قيمة تنحّيه وتحوّل جوهره نحو الكمال الذي لأبيه السماوي (متى 5: 48). لذلك، نؤكد بأن كل شيء بدأ معه مجدداً بالتحوّل إلى جديد، وأنه على هذا المستوى، ليس البشر هم الذين يتوقّعون ويدبّرون… إنما فقط الروح القدس.[1]
- العبور إلى حقبة ما بعد الفاتيكاني الثاني
في الذكرى الخمسينية للفاتيكاني الثاني، نرى أن جوزيف راتزينغر الذي بدأ حياته اللاهوتية مع التحضيرات لهذا السينودس، قد وجد نفسه كرأس للكنيسة الكاثوليكية مدفوعاً لإنهاء حياته كلاهوتي بوضع نقطة النهاية، نقطة الكمال لهذا السينودس.
إن نقطة الكمال هذه تقوم على تطبيق ما يُطلب من الآخرين على الذات، وذلك لمقاومة كل روح فرّيسيّة (لوقا 11، 46). أما نقطة الكمال هذه فقد شكلت بالنسبة إلى بندكتس السادس عشر، خطوة المصالحة مع الذين صُدموا في ذاك الوقت (1965) بالتغيير الكبير الذي حمله الفاتيكاني الثاني فابتعدوا. إن رأس “الكنيسة”، حبة الحنطة بامتياز، يسقط ويموت، كما فعل معلّمه، بعد إنجاز هذه المصالحات، لكي تكون للكنيسة الحياة، بل ملء الحياة (يو 10: 10). كان من الضروري أن يكون جوزيف راتزينغر، في منصب البابوية، حتى يتمكّن الروح القدس من وضع هذه النقطة النهائية والعبور معه إلى زمن ما بعد الفاتيكاني الثاني.
- ممَّ كانت تشكو الكنيسة ما قبل الفاتيكاني الثاني وممَّ تحرّرت خلال حقبته؟
كانت الكنيسة، منذ القرن التاسع الميلادي، قد تحوّلت إلى “امبراطورية المسيح”، وحلّت محلّ روما العظمى…
لقد بدأ كل شيء مع الامبراطور قسطنطين والشعار “بهذه العلامة ستغلب” (In Hoc Signum Vincit)، أي إشارة الصليب. يليه إعلان ميلانو بتحرير المسيحية على يد قسطنطين نفسه (313)[2]. تبع هذا الوضع الجديد إضفاء الطابع العسكري على الكنيسة من خلال الشعب وملوكه وأباطرته. في القرن العاشر، بلغ وجه الكنيسة الامبراطوري ذروته مما أدى فيما بعد إلى الانشقاق الكبير مع أمبراطورية الشرق البيزنطية، وكردّة فعل على احتلال القدس وتوسّع مطامع الإسلام، والتعديات على الحجاج، إلى الحروب الصليبية.[3]
تبع كل ذلك حرب المئة سنة بين الممالك المسيحية وأمراء الكنيسة، ثم محكمة التفتيش (من 1337 ولغاية 1453)؛ انتهاك المقدسات والأسرار بشيوع الاتّجار بالغفرانات وحلّ خطايا الموتى؛ الانشقاق اللوثري في منتصف القرن السادس عشر (1517)[4] ؛ المجمع التريدنتي (1545) الذي شكل محاولة أخيرة لاستعادة السيطرة الكاملة “الإقطاعية” على “خراف” المسيح، أرواحاً وأملاكاً دنيوية، ولكنه لسوء الحظ لم يؤدّ إلا إلى زيادة خط التشدّد بواسطة التهديد بـ”الحرم”…
وهكذا، على خامة شعب مسيحي منهك بالحروب الدينية والمجاعات والأمراض والترهيب من الهلاك في الجحيم، نشأت الروح العلمانية التي أدّت مع حركة التنوير إلى الثورة الفرنسية (1789). فيما بعد، أطلّ كارل ماركس، مسيح البروليتاريا، بمادّيته الإنسانية وشعاره “الدين هو أفيون الشعب”. بفضل وعوده بجنّة ملموسة للكادحين، نجح في إفراغ الكنائس… وكان أنه في ختام القرن التاسع عشر، وجد إله الكنيسة نفسه خارج الجامعات والمجتمعات، وقد سادت مكانه الوضعية والمادية، وتمّت الاستعاضة عن اللاهوت بعلم النفس. حتى “فهرس” دائرة نشر الإيمان (البروباغاندا فيده) لم يعد قادراً على إخضاع المفكرين والإكليروس لها. وعشيّة الفاتيكاني الثاني، وجد المسيح نفسه مع ما يكفي من الشرائع ولكن محروما من “جسد سرّي” معدّ لحمل صليبه. بالتالي بات إحصاء عدد الكاثوليك سنوياً لمقارنته بعدد البروتستانت والعلمانيين والمسلمين إلخ، جردة في خدمة الاستهلاك الذي راح يزداد ضربا للقيم والأخلاق والاجتماعيات بقوة. أما كلمات المسيح المُدوّية: ” أيجد ابن الإنسان إيماناً على الأرض يوم يجيء؟” (لو 18، 8)، فكانت واقفة عند باب حاضرة الفاتيكان تقرع. كان من الممكن الاستمرار باتّهام الآخرين، أعداء المسيح، وشيطنتهم، أياً تكن معتقداتهم و انتماءاتهم.[5] ولكن، هل كان هذا ليفيد؟ في النهاية، إن أولئك، بحسب الكتاب المقدس، كانوا وسيبقون هنا كأداة بين يدي الله الآب لتقويم طرق شعبه، وإعادته إلى مراعي ابنه الخصبة، وتذكيره بمهمته الحقيقية في هذا العالم. إن التحدّي الذي رفعه المسيح الحيّ لكنيسته والذي يرفعه في كل حين هو أن تتذكّر وتدرك تماماً علّة وجودها الأولى والأخيرة وكل ما يتخلّلهما من عِلل وسيطة وأن لا تكفّ عن إعادة التواصل مع رأسها الأوحد الذي لا يقبل المساومة.
بهذه الروح، عام 1963، سمع البابا يوحنا الثالث والعشرون أنين معلّمه، قًبِلَ التحدّي، وفتح الأبواب للروح القدس ودعا إلى المجمع الفاتيكاني الثاني.[6] إنه دعا للتفتيش عن هويّة الكنيسة ورسالتها وهدفها في عالم ذاك اليوم، وكل يوم، في الضوء “الخفيّ” للإنجيل وأعمال الرسل وآباء الأزمنة الأولى حتى “مريم” العنصرة.
- بأي حق نعتبر تنحّي بندكتس السادس عشر جسر العبور إلى حقبة ما بعد الفاتيكاني الثاني ؟ وما الفرق الذي أحدثه الفاتيكاني الثاني؟
إن نهاية منفى الكنيسة في قلب الامبراطورية قد بدأت مع تنحّي بندكتس السادس عشر. فلنتبع مسار الأحداث ونحكم:
في ملء من الزمن الجديد، كما قلنا أعلاه، قرّر يوحنا الثالث والعشرون، نائب المسيح، أن تلامس قدماه الأرض لكي يتطابق شخصياً مع من يمثله. معه، دُعيت الكنيسة إلى الاقتداء به فكانت تلك الخطوة الأولى في مشروع المجمع الفاتيكاني الثاني. بعده، أكمل بولس السادس الخطوة، ليس فقط بمتابعة الأعمال النظرية للمجمع، إنما أيضاً بالتنقية العملية للكنيسة من الرواسب الامبراطورية التي كانت لا تزال تسمّمها، وبخاصة أحادية الرأي. لقد علّم: “يكفي أن نعمل، ونعطي الآخر عملاً، وندَعه يعمله”، وأضاف: “إن الحقيقة هي في الشراكة”. فبات هذان الشعاران لبولس السادس مفتاحَي القديس بطرس وبهما استمرّ العمل. أما عملياً، فإن كان يوحنا الثالث والعشرون قد استعاد الأرض ملمساً لقدميه، فإن بولس السادس سلّم إلى العالم الدنيوي ما يعود إليه، أي “تاج” الحبرية العظمى، لقاء سدّ عوز الجياع في العالم. ومنذ ذلك الحين، يتواجد ذاك التاج الامبراطوري الحبري في متحف في واشنطن.
في الوقت عينه، أبصر نصّ الفاتيكاني الثاني النور مسبباً تشققات كثيرة، على الصعد كافة، في الممارسات القاسية والظلامية المتأتية من القرون الغابرة وأدبياتها.
عام 1978، دخل يوحنا بولس الثاني البابوية وكان عليه، بحكم الاسم الذي اتخذه، أن يدفع من لحمه الحي ثمن استكمال الخطوة التي بدأها سلفاه، وتطبيق تعاليم الفاتيكاني الثاني. لم يعد هناك من خيار آخر لا لجيله الذي يضم أيضاً جوزيف راتزينغر، ولا للأجيال التالية. بات التحدّي يكمن فقط في اختيار الطريقة والوسيلة لإحداث الفرق.
عليه، وإذا كان بولس السادس هو البابا الأول الذي غادر الفاتيكان نحو الهند، فإن يوحنا بولس الثاني سوف يحفر كوّة من الحنين إلى مسكنه ومكان راحته. إن التفتيش عن الإنسان بهدف إعادة بهاء صورة الله ومثاله إليه مكلف جداً. ومع “خروجه” من حاضرة الفاتيكان، سقط تقليد جديد من تقاليد الامبراطورية والذي هو الجمود على الكرسيّ وحفظ المسافة من الشعب.[7]
ما الذي تُرك لخليفة يوحنا بولس الثاني لكي يلغيه ليستمرّ في استكمال خطوة التنقية والتحرير الجبارة من رواسب الامبراطورية وإحداث فرق إضافي؟ إنه تقليد “الحكم لمدى الحياة” (Ad Vitam). إن القول في تعاقب هذه الأعمال التحريرية بأنه ليس ناتجاً عن تدخّل الروح القدس أمر عبثي. إن خيط التلازم واضح كما هو عليه في العهد القديم طيلة الإعداد للخلاص… ونعيد رسمه على الشكل التالي:
استعاد يوحنا الثالث والعشرون الأرض موطئاً لقدميه… سلم بولس السادس التاج الامبراطوري الشهير إلى العالم الذي يعود له… كاد يوحنا بولس الثاني يهجر الفاتيكان بحثاً عن الخراف الضالة وإستعادة لله ما يعود له تعالى، ومن ثم، أعاد للشبيبة، من خلال يوم الشبيبة العالمي، الكنيسة وحاضرتها، والتي بالأساس تعود لهم، هم مستقبل المسيحية الرسولة في هذا العالم…
وكان راتزينغر بقرب يوحنا بولس الثاني حاضرا في كل هذا حضور يوسف البتول، الذي حمل اسمه، لعائلة الناصرة. كان دائم الحضور من خلال الكتابة والإرشاد لأن قضية مجمعهما الفاتيكاني الثاني كانت على المحك. وبدوره، عندما أصبح هو “البابا”، أكمل تحرير الكنيسة تاركا امتياز “مدى الحياة” (Ad Vitam) للذين يعود بحق لهم، ملوك هذا العالم وأباطرته. لا يحاولنّ أحد إقناعنا بأن ذلك كان ممكناً من دون مسابير الروح القدس وبخاصة بعض المسابير الضرورية لأسس الكنيسة. نذكر على سبيل المثال أمومة مريم “والدة الإله” بالتجسد، مع لقبها الجديد “الشريكة في الخلاص” الذي أسبغه عليها بولس السادس ، بقوة الختم البابوي، في ختام المجمع. هذا هو الجديد والمختلف الذي حمله الفاتيكاني الثاني.[8]
وهكذا، بالروح القدس، نلاحظ الخط الإلهي الذي يشق عباب هذا العالم خلف سفينة كنيسة المسيح والذي يعمل على استكمال تحرّرها تطبيقيا. صحيح أن هذا التحوّل، على مدى نصف قرن، قد بدى وكأنه تجريد الكنيسة من كل امتياز وكل عظمة عالمية – بشرية، ولكن أليس هذا ما أراده المسيح بقوله: ” إن الأخيرين يصيرون أولين…”، و “إن من لا يخسر ذاته — بالحنوّ على الأكثر حرماناً –لا يربحها، سواء كان شخصاً مادياً أو معنوياً، حتى الكنيسة بذاتها ؟ (متى 16: 24-28)
في بدايات الكنيسة، كان البابوات يندفعون لمعانقة صليب الشهادة على صورة معلمهم ومثاله. مع الامبراطورية، بدأ تمني الحياة الطويلة والازدهار لهم، كما يتمناه سكان هذا العالم للمسلطين عليهم. وللتحرّر من نقطة المجد البشري هذه، كان لا بدّ من شخص يضع نفسه في تصرّف الروح القدس حتى يضع بدوره، من خلاله، نقطة النهاية الشاملة للفاتيكاني الثاني، نقطة رفض ألـ “Ad Vitam” في السدّة الحبرية. هذا الشخص كان جوزيف راتزينغر.
إن الانتقال إلى حياة التنسك بتجرد كامل لكي لا يُعبد خلالها سوى المسيح المصلوب يعني، كما قلناه في الفراشة، مطابقة الذات بشكل شامل مع شخص المسيح. إنه الترقي إليه للتطابق معه في حالته ما بعد الصعود. أما في كافة حالات التطابق الأخرى (alter christus)، فتكون مع المسيح في حال التجسد الخاضع للخطر الوحيد الذي لم يسقط هو به، ألا وهو الخطيئة، خطيئة أن مطابقة الله الآب، بشكل صامت ونسبية لوسيفرية، على ذواتنا الوصولية، وإخضاع كل شيء، بدناءة سافلة، للأنانية الصماء كما لإله العالم المُسمّى في زمننا “الاستهلاك”.
- حقبة ما بعد الفاتيكاني الثاني
على هذه الخامة من الكنيسة المحرّرة، تبدأ اليوم حقبة ما بعد الفاتيكاني الثاني. لذلك، لم يكن من المستغرب أن نرى فرنسيس الأسيزي ينبعث من خلال الكاردينال جورج بيرغوليو ليخلف بندكتوس السادس عشر. يذكرنا هذا الانبعاث بالعلاقة التي ربطت مؤسّس الرهبانية اليسوعية القديس إنياس دي لويولا بملهمه القديس فرنسيس. أليس كاثوليك أميركا اللاتينية هم بالنتيجة نتاج تضافر الجهود (السينرجيا) بشكل أساسي بين هاتين الرهبانيتين الرسوليتين ؟
المفارقة المميّزة هي أن نلاحظ أن فرنسيس الأسيزي الذي كان قد أُرسِل من قِبَل العناية الإلهية، في ملء من الزمن، يطلّ مجدداً من خلال راهب يسوعي ينحني أمام “جسد المسيح السرّي المتألم ” الممثّل بالشعب المؤمن الحاضر في ساحة مار بطرس، ليسأله بركته قبل أن يعطيه هو البركة بدوره، وذلك كطلب أدبي منه لتأييده كما لو أنه تأييد المسيح بذاته.
إن ما قام به البابا فرنسيس مختلف بنوع مختلف عما عرفناه عند أسلافه في حقبة الفاتيكاني الثاني، لأن هذا الاختلاف ليس من زمنية هذا العالم. نضيف أيضا، من باب علامات الأزمنة، أنه ساعة إطلاق حركة “الكرازة الجديدة” السنة الماضية، ما من أحد كان يتوقع تنحّي بندكتس السادس عشر ووصول شخص بهذا المفهوم الأقصى للتواضع إلى السدّة البطرسية. إنه عمل الروح القدس.
ختام:
بفضل تنحّي جوزيف راتزنغر قد تمّ كشف علامات زمن حقبة الفاتيكاني الثاني، واستنادا إلى هذه العلامات قد بنينا قرارنا باعتبار حبريّته جسر العبور إلى حقبة ما بعد الفاتيكاني الثاني. إننا مقتنعون بحريّة الضمير هذه التي تحترم حقّ التنحّي من السدّة البطرسية والذي طبّقه بندكتوس السادس عشر على نفسه حاكما عليها بميتة مسبقة للموت الطبيعي. إن هذه الخطوة لأنجيلية بالصميم وقد بات هذا البابا الذي، من لحظة تنحّيه أسبغت عليه فعاليات البشرية لقب “العظيم”، مرجعا لها، معترفة بالوقت نفسه بعظمة ما تنحّى عنه. ماذا ستكون عليه علامات الزمن التي ستحدّد خريطة طريق الحقبة الجديدة؟ ها إن قداسة البابا فرنسيس من مجرّد اختياره اسمه، قد بدأ بإبراز معالمها نظريا وتطبيقيا، بالفعل قبل القول، بالمثل المعيوش أكثر منه بالوعظ وأهمها اليوم، بالرغم من قلّة الأيام التي مرّت هي: “إخلاء الذات الفاتيكانية” وتجسّد البابوية بالإنسانية وحمل صليبها على مَنكِبَي كنيسة تتطابق مع مسيحها مطابقة تامة حتى الموت اليومي على الصليب فالقيامة اليومية، والتجدّد كما الفينيق. إذا ما رغبنا بمعرفة المزيد عن أهميّة “جسر راتزنغر” ما علينا إلا أن نتابع عن كثب إلهامات فرنسيس البابوي.
[1] إن الأجيال ستمدح تنحي البابا بندكتوس السادس عشر أكثر من أي عمل أتى به خلال بابويته لأنه من النادر جدا أن نجد إنسانا يوقع : “أنا ميت” من دون أن يكون قد أخذته السينرجيا الموجودة بين لغة البشر ولغة الله. إن توقيعا كهذا غير قابل للتصريف النحوي … (راجع (Cf. Geoffrey Bennington & Jacques Derrida, Jacques Derrida, série les Contemporains, Seuil, Paris, 1991, p.51) )
ليكن الروح القدس ممجّدا في أعماله. بهذا التوقيع خرق جوزف راتزنغر المستحيل. لقد أعاد تثبيت سلم القيم المسيحية بخاصة ما قاله الرب يسوع في حبة القمح التي تقع وتموت قبل أن يحين موتها الطبيعي حتى تعطي مئة ضعف ثمرا…
[2] إن الكلمات التي نقرؤها في رؤيا يوحنا (6: 2-3) تشكل الأساس وكتاب “مدينة الله” للقديس أغسطينوس الدستور. إن إساءت استعمال التدخل الإلهي في سياسة العصى والجزرة والتي لا يمكن التثبت من صحتها أو عدمه إلا في الدنيا الآخرة قد تم التأسيس له.
[3] إتى اختيار الله لمار فرنسيس في ختام تلك المرحلة التي كانت تتم فيها كل الشناعات باسمه. أنار الله افرنسيس وأرسله حافي القدمين ليعيد بناء كنيسته التي تتساقط إربا…
[4]” لقد سقطت أمور كثيرة خارج المشتهى من فكرة مملكة المسيح الأرضية. بطرق شتى، على ما قاله أحد أساقفة تلك الأيام، باتت الكنيسة في الأمبراطورية وليس الأمبراطورية في الكنيسة. راجع الأنسيكلوباديا الكاثوليكية http://www.newadvent.org/cathen/03699b.htm
[5] الرسالة البابوية Rerum Novarum de Léon XIII (1891)
[6] إن الفاتيكاني الأول فقد كان المجمع الذي دعى إليه البابا بيوس التاسع في حزيران 1868 والذي كانت أهم نقاطه مسألة “عصمة البابا”. لم يرى هذا المجمع ختاما لأعماله بسبب خصوم هذه المسألة من علمانيين وكنسيين…
[7] لقد وُضعت شمولية الخلاص لأول مرّة موضع التنفيذ دون طمع بالنعيم ولا خوف من الجحيم بل فقط حبا بالمسيح على أنه الطريق والحق والحياة. إنها المحبة المتعاطفة (compassion) واحترام شرارة الله (Étincelle divine) المتواجدة في كل روح بشري هي ما أوحى بالعودة إلى أسيزي وإلى فرنسيسها…
[8] وهنا يجد الشرق المسيحي نفسه مرة أخرى ، بخاصة شرق القديس أفرام السرياني، على قدم المساواة مع خليفة بطرس الروماني إذ أنه ليس عند الروح القدس شرق وغرب. إنه مؤسّس العولمة الشاملة التي بالفقر والطاعة والتواضع والتراحُم يجمع حتى بين كون المخلوقات وكون الخالق.