Almanara Magazine

المطران يوسف الخوري والمجمع الفاتيكاني الثاني

الخوري ميخائيل قنبر

“كان المجمع الفاتيكاني الثاني بمثابة أشمل مراجعة حياة أجرتها الكنيسة عبر تاريخها”.[1] يحلو لي أن أبدأ هذه المقالة في الذكرى الخمسين على انعقاد “عنصرة الكنيسة” في عصرنا بهذا القول للمثلّث الرحمة المطران يوسف الخوري، الذي بدأ به إحدى محاضراته عن هذا المجمع تحت عنوان “نحن والمجمع الفاتيكاني الثاني”. وأستعير عنوان مقالتي من نفس عنوان محاضرته لأعنونها: “المطران يوسف الخوري والمجمع الفاتيكاني الثاني”.

كان المطران يوسف الخوري “حبراً متعدّد الأبعاد” بكل ما في الكلمة من معنى. ومن الأبعاد الرئيسيّة في حبريّته بعده المجمعي الذي أتينا على ذكره في كتابنا الصادر عن دار المشرق سنة 2013 تحت عنوان “يوسف الخوري الحبر المتعدّد الأبعاد”، والذي قال عنه صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي في مقدّمة الكتاب “ وعن بعده المجمعي، يذكر الجميع دوره الرائد في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، وما تميَّز به من رؤية واضحة وشاملة للشؤون الكنسية المحليّة منها والعالمية، مع عمق التفكير وسعة الاطلاع وفصاحة التعبير، وبهذه الميزة وضع الأسس للمجمع البطريركي الماروني.”[2]

مستعينين بوثائق مخطوطة للمطران يوسف الخوري، محفوظة في مكتبتنا الشخصيّة وفي مكتبة جامعة الروح القدس الكسليك، وبشهادات من عَرَفَهُ، سنعمد في هذه المقالة على إبراز مساهماته القيّمة في المجمع الفاتيكاني الثاني أثناء انعقاده. ثمّ نبيّن تأثير مقرّرات هذا المجمع على مسار أسقفيته في كنف الكنيسة المارونية، مظهرين تركيزه على ترجمة تلك المقرّرات في أرض الواقع من خلال ترجمتها بورشة الإصلاح، الذي كان من أهمّ محرّكيها في الكنيسة المارونية، وإطلاق مشروع “الوحدة الإنطاكية” في مسيرة العمل المسكوني، مع المغفور له الخوري يواكيم مبارك، وترسيخ قواعد “العيش معاً” في إطار التفاهم الإسلامي المسيحي الذي أرساه مع الإمام موسى الصدر في جنوب لبنان.   

  1. مساهماته المباشرة في سير أعمال المجمع

          بعد حربين عالميتين هزّتا البشريّة بأسرها، وإثر المآسي الكثيرة التي اجتاحت دولاً عديدة، وفتكت بشعوب وأعراق، باسم الدين واللادين. رأت الكنيسة بإلهام من الروح القدس، ضرورة إحداث صدمة إيجابية. على أعتاب بداية ألفية جديدة للمسيحيّة. فكان انعقاد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في أواسط القرن العشرين. هذا المجمع الذي دُعي إليه كل كرادلة العالم الكاثوليكي وأساقفته، ترك في كواليسه المطران يوسف الخوري بصمات لا تُمحى؛ فحامل لواء الكنيسة المشرقية المتجذّرة في العالم العربي رفع الصوت عاليا للمطالبة بإنشاء القسم العربي في دوائر الفاتيكان. والحبر الجريء حتى القسوة شارك في صياغة ومناقشة مجمل الوثائق المجمعيّة، وبخاصّة تلك التي تناولت موضوع الكنائس الشرقيّة، ولقد حث المشرقيين على عدم القبول بأية وثيقة لا تحترم كنائسهم وهويتها، وتقاليدها، ولا تكون دعوة للوحدة.

  1. رسول لغة الضاد

كان ينقص المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي أطلق عليه اسم “عنصرة القرن العشرين”، لغة من أهم لغات الأرض، ألا وهي لغة الضاد. فلا يمكن لعنصرة أن تكتمل بلغة ناقصة. من هنا كان لا بد من صوت صارخ يطالب بحقوق الكنائس الشرقية، وبحقوق المسيحيين العرب الراغبين بسماع صوت الكرسي الرسولي بلغتهم الأم. وكان هذا الصوت هو صوت أسقفٍ من شرقنا “أسهم إسهاماً حاسماً في تأسيس القسم العربي لمكتب الصحافة التابع للكرسي الرسولي”[3] على ما يقول السفير البابوي المطران منجد الهاشم في شهادته عن المطران يوسف الخوري، الموثّقة في كتابنا الآنف الذكر: “بعد وفاة البابا يوحنا الثالث والعشرون في 3 حزيران 1962. خلَفَهُ البابا بولس السادس الذي أعلن متابعة المجمع. كان هذا البابا قد لاحظ بعض التقصير في عمل مكتب الصحافة وتلقّى شكاوى بعض الإعلاميين فقرّر إنشاء لجنة أسقفية تشرف على مكتب الصحافة وعيّن رئيسا لها المطران أوكونور  Oc’Connorرئيس اللجنة البابوية لوسائل الإعلام وتضم اثني عشر مطرانا يمثلون مختلف القارات واللغات وكان المفروض أن يكون أحدهم شرقيا يمثّل الشرق الأوسط والكنائس الشرقية. وقع اختيار قداسة البابا على سيادة المطران يوسف الخوري مطران صور والأراضي المقدسة (لبنان). أعلنت أسماء أعضاء اللجنة وحدّدت مهامها وصلاحياتها قبل افتتاح الدورة المجمعيّة الثانية بأسبوع وكرّست لها وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية فسحة كبيرة.”[4]

يتابع صاحب السيادة المطران هاشم روايته فيُبيّن كيف أن المطران يوسف الخوري الذي فوجئ بتعينه في هذا المنصب، أخذ يستعلم عن المهمّات الملقاة على عاتقه لكي يتمكّن من القيام بها على أكمل وجه. غير أن هناك أمراً ما كان يشغل باله ما جعله يستدعي المطران هاشم، الذي كان في تلك الأثناء كاهناً يعمل في مكتب الصحافة في روما كمساعد لمدير القسم الفرنسي. وعندما حضر بين يديه إذ كانا يقيمان في نفس الفندق قال له المطران يوسف: “خذ هذه الورقة واكتب”. وبدأ ينص عليه رسالة موجّهة إلى قداسة البابا بولس السادس يقول أنه لم يحتفظ بنسخة منها ولكن يمكن الاطلاع عليها في أرشيف المجمع الفاتيكتني الثاني ومما جاء فيها:

“يا صاحب القداسة،

أشكركم شكرا جزيلا على تعيينكم لي عضوا في اللجنة الأسقفية للإشراف على مكتب الصحافة ولكن اسمح لنفسي أن ألفت نظر قداستكم إلى ما يلي: أتعجّب من عدم وجود قسم عربي في مكتب الصحافة بالرغم من أهميّة اللغة العربية وهي لغة الكنائس الشرقيّة الكاثوليكية والأورثوذوكسيّة، لغة العالم الإسلامي . أعتبر أنه لا فائدة لوجودي في اللجنة إذا لن ينشأ قسم عربي. واسمحوا لي أن أفيد قداستكم أنه لا صعوبة البتّة لإيجاد مدير لهذا القسم كون الأب منجد الهاشم يحمل دبلوم دراسات عليا في الصحافة وقد عمل طيلة الدورة الأولى كمساعد لمدير القسم الفرنسي ولا يزال حاليا في هذا المركز. وفي حال عدم إنشاء هذا القسم وتعيين الأب منجد مديرا له. إنني أطلب من قداستكم قبول استقالتي من اللجنة الأسقفية لأنني أعتبر أنه لا مبرّر لوجودي فيها”.[5]

بعد هذه الرسالة التي بعث بها رسول لغة الضّاد إلى خليفة الرُسل، أخذت الأمور في الدوائر الفاتيكانيّة منحاً جديداً. “فبعد مرور أقلّ من أربع وعشرين ساعة وصله جواب قداسته ملبيا جميع طلباته ووصلتني رسالة تخبرني بإحداث قسم عربي في مكتب الصحافة وتعيني مديرا له”.[6]

يتابع السفير البابوي المطران منجد الهاشم أن الفضل في إنشاء القسم العربي في قاعة الصحافة الفاتيكانية يعود إلى سيادة المطران يوسف الخوري “الذي فرض وجوده في اللجنة الأسقفية للإشراف على  عمل الصحافيين وحده، فأصبحت اللغة العربية حاضرة بين اللغات العالمية وتمكّن آباء المجمع الشرقيون والسفراء العرب والاعلاميون العرب من متابعة أعمال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني باللغة العربيّة. وألقى سيادته عددا كبيرا من المحاضرات وعقد عددا مرموقا من الندوات والمؤتمرات الصحفيّة شرح فيها للمشاركين ومن خلالهم إلى قرّاء الصحف والمجلات ومشاهدي التلفزيونات ومستمعي الإذاعات أهم ما جاء في مداخلات آباء المجمع وملخصا للدساتير والمقررات والبيانات التي صدرت عن المجمع الفاتيكاني الثاني.[7]

  1. صوتٌ من الشرق

أثناء مناقشة الدساتير والقرارات والمراسيم والبيانات المجمعيّة، كان للمطران يوسف الخوري الرأي المسموع والصائب، والكلمة الحرّة والجريئة. كيف لا، وهو الحبرُ العالم بشؤون كنيسته وشجونها، والطامح إلى إحداث التغيرات اللازمة فيها، منذ نعومة  أظفاره في الخدمة الكهنوتيّة. كيف لا، وهو أستاذ اللاهوت البارع المُتخصّص في اللاهوت العقائدي، والحقّ الكنسي، والآباء. كيف لا، وهو النائب البطريركي، لمدّة خمس سنوات، على البطريركيّة المارونيّة الإنطاكيّة الأعرق بين بطريركيات الشرق. كيف لا، وهو  الطامح إلى تحقيق وحدة الكنيسة جمعاء، إنطلاقاً من تحقيق “الوحدة الأنطاكيّة”. نتوقّف في هذه المقالة عند نقاش إحدى أهمّ الوثائق التي تعني الكنائس الشرقيّة، ألا وهي وثيقة “المرسوم في الكنائس الشرقية”، التي تمّ مناقشتها بين 15 و20 تشرين الأول 1964، أثناء الدورة الثالثة من أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني. فهذه الوثيقة تعني الكنائس الشرقية الكاثوليكية وعلاقتها بالكنيسة الرومانية من جهة، والكنائس الشرقية غير الكاثوليكية من جهة أخرى. بالعودة إلى الوثائق ومحاضر النقاشات التي تؤرّخ مراحل تكوين هذا المرسوم،  نستنتج أنه لاقى انتقادات لاذعة من قبل المشاركين في المجمع، وبالأخص الأساقفة الشرقيين. ومن أشد المواضيع التي لاقت اعتراضات كبيرة، كان موضوع المؤسسات البطريركية، بالإضافة إلى موضوع دور الطقس الواجب اعتناقه بعد ارتداد إحدى الكنائس والاتحاد بالكنيسة الكاثوليكية، وموضوع الاشتراك بالقدسيات مع الكنائس غير الكاثوليكية.[8] عن ما شاب هذا المرسوم من نقص وعيوب؛ يقول المطران يوسف الخوري بشيء من الحدّة في مداخلة له أثناء النقاشات في روما، أن المسؤوليات تتوزّع كما يلي:

  • “حماس أحمق من جهة (وخداع)
  • جهل كلّه نوايا حسنة من جهة ثانية

عدم وجود تفكير وتصميم وعمل واحد من جهة ثالثة نحن وسوانا.[9]” ويتابع تفنيد الشوائب مبيّنا أن الموضوع المطروح لم يكن يقتضي وثيقة منفردة، كونه كان يرى فيها أنها ” وثيقة مسلوقة (هذا أقلّ ما يمكن أن يقال فيها).[10]

فالمطران يوسف الخوري الطامح إلى وضع المسألة الشرقية للكنائس كافة في صلب الفكر المجمعي، كان يرغب أن تتوزّع المواضيع المطروحة في هذا المرسوم على الدساتير والقرارات المجمعية فيكون لها وقعٌ أقوى، بدل أن ترِد في مرسوم أو بيان. وكان اقتراحه يقضي بتوزيع الموضوعات المطروحة كالآتي:

  1. الاعتبارات العامّة في دستور الكنيسة
  2. قضايا البطريركيات في دستور الأساقفة
  3. قضايا التقارب مع الاخوان المنفصلين في قرار عن الحركة المسكونيّة.

وهذه القضيّة بالذات ضربت بالصميم في ما تقرّر عن أمر الراجعين من الانشقاق إلى الكثلكة:

  • لا حرّية في الطقس
  • لا تجمّع للطوائف فيما بينها
  • والعيد لا يزال قائما.[11]

غير أن حس النقد العلمي البنّاء عنده، لم يسمح له إلا أن يكون موضوعيا، فيُظهر المحاسن حيثُ توجد، بعد أن يكون قد أظهر المساوئ من أجل الإصلاح والتغيير. وعن هذه المحاسن يقول أن الوثيقة اقرّت بالآتي:

  1. ” أن هناك كنائس شرقية لا كنيسة واحدة
  2. أن الكنيسة هي كنيسة وكنائس لا كنيستين
  3. أن الطقوس كلّها يحق لها نفس الاحترام وأن الليتنة غير واردة
  4. أن الكنائس الشرقيّة وعلى رأسها المجامع البطريركيّة لها استقلالها الذاتي والحق بإدارة شؤونها بذاتها
  5. بعض وسائل التقارب مع إخواننا غير الكاثوليك كقضيّة الزواج الصحيح عندهم، أو المشاركة في الأسرار ببعض الظروف وما تبعه من رفع الحرم….”[12]

بعد عرض المساوئ والمحاسن في المرسوم المذكور، أبدى المطران يوسف رأيه القيّم فيما تقرّر وما كان يجب أن يقرّر. ولفت نظر الجميع إلى أهميّة احترام خصوصية الكنائس الشرقية الكاثوليكية العريقة في القِدم والتراث. ودعا الشرقيين إلى النظر في مشاكلهم من منظارهم، كما طلب منهم أن يقوموا برسالتهم في العطاء ولا يكتفوا بالأخذ:

  • ” الأمور التي قرّرت لم تكن تقتضي وثيقة
  • وما قرّر كان ناقصا وينتج عنه مشاكل عدّة
  • وما لم يقرّر هو كان الأولى بأن يتقرّر

قضية توحيد السلطة الكنسية والتشريع

وعدم تدبير مثل هذه الأمور يجعل من المتعثّر  تحقيق ما يدّعونه كنسيّا

  • هناك من يعيش بالماضي لا بالحاضر
  • أو يعيش بمستقبل يعلم الله إذا سيتمّ دون أن نهنأ له
  • أو يعيش خارج نطاق ولايته

نحن لسنا في القسطنطينيّة، ولا في اليونان، ولا في روسيّا، نحن في الشرق الاسلامي، نحن كثلكة هذا الشرق، ونحن نمثّل البطريركيات الثلاث الاسكندريّة، وأنطاكيا، وأورشليم

  • يجب أن ننظر إلى مشاكلنا من منظارنا لا من منظار سوانا
  • ويجب أن نضحّي قبل أن نطالب ونعطي قبل أن نأخذ.[13]

يتبيّن من خلال ما عرضناه قوّة شخصيّة هذا الحبر، الذي أراد أن تنسحب، هذه القوّة، على السلطة الكنسيّة في الكنائس الشرقيّة، فتُظهر أنها كنائس مُحافظة على شخصيّتها الشرقية الضاربة في التاريخ الكنسي العريق، بالرغم من اتحادها العضوي بالكثلكة. فأيام الإندماج بالكنيسة الرومانية حتّى الليتنة قد ولّت، وهذا ما يرتّب أخذ هذه الكنائس لزمام الأمور الخاصّة بها بنفسها، واحترام الآخرين لهذه الكنائس واحترام خصوصيتها. ولا يمكن لهذا أن يتحقّق ما لم تحزم هذه الكنائس المشرقيّة أمرها في أمور عديدة فتخرج من حالة التبعيّة إلى حالة النضج الذي يؤهّلها لرفض ما يُفرض عليها، إذا كان يمسّ بشخصيّتها الشرقيّة الفريدة.

إنّ هذه العيّنة التي أوردناها عن مداخلة المطران يوسف في مناقشة “المرسوم في الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة” تُظهر ثقافة، وصلابة، وجرأة، وكِبر هذا الحبر الاستثنائي. ولعلّ العودة إلى مُجمل محاضر مناقشات الوثائق الأخرى في المجمع ستُبيّن لنا المزيد من مزايا المطران يوسف الخوري الكاريزماتيكي، وغيره من الأساقفة الشرقيين الذين كان لهم الأثر البالغ في تكوين مقرّرات “عنصرة الكنيسة في القرن العشرين”..

  • تأثير مقرّرات المجمع على مسار حبريّة المطران يوسف الخوري

عاد المطران يوسف الخوري بعد انتهاء أعمال المجمع حاملاً إلى وطنه وكنيسته مشروعاً طموحاً تجلّى في مسارات ثلاث  ترجمها “الحبر المتعدّد الأبعاد” بورشة إصلاح البيت الداخلي الذي كان من أهمّ محرّكيها في الكنيسة المارونية، ومشروع الوحدة الإنطاكية في مسيرة العمل المسكوني، وترسيخ قواعد “العيش معاً” في إطار التفاهم الإسلامي المسيحي. 

2-1 ورشة الإصلاح في الكنيسة المارونية

          جمع المطران يوسف الخوري في شخصيّته الفذّة، بالإضافة إلى التبحّر في اللاهوت، والتعمّق في البيان، واكتناز العلم، ولعاً بالإرث الانطاكي الذي نشأ على حبّه، وتعلّقاً بالهويّة المشرقية الإنطاكيّة، التي كان يرى فيها النسخة الأصلية لبشرى الخلاص، كون المسيحيين قد تكنّوا بالمسيحية للمرة الأولى في أنطاكية، وكونهم انطلقوا من شواطئها ليصبغوا العالم بنور الإنجيل. أعطَى المطران يوسف الخوري الكنيسة كلّ علمه وفكره وروحانيته ليحافظ على الإرث الأنطاكي، الذي طالما حافظت عليه كنيسته المارونية بالغالي والنفيس، والذي استطاعت من خلاله أن تكون دوما صلة الوصل بين الشرق والغرب. هذه الكنيسة المفطورة على العطاء، مدعوة في نظره لتتابع لعب هذا الدور في الشرق من خلال عقد مجمع لبناني ثان إثر انتهاء أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني، على غرار المجمع اللبناني الأول الذي عقد إثر انتهاء المجمع التريدنتيني. ” كان المجمع بمثابة أشمل مراجعة حياة تجريها الكنيسة عبر تاريخها. يمكن فقط للمجمع التريدنتيني أن يقاربه، لكن الأخير كان محصورا بطابعه الدفاعي. أما الفاتيكاني الثاني فكان أكثر إيجابية. تبع المجمع التريدنتيني عندنا، ولو متأخرا قليلا، المجمع اللبناني الأول. غير أن انعقاده السريع وغير المتوافق مع مقتضيات الحال، جعل إمكانية تنفيذه عملية شاقّة. كان هذا المجمع سلاحا ذو حدّين، بدل أن يكون مرجعيّة إدارية صلبة. فالكثير من مقرراته بقيت حبرا على ورق.[14]” وكما كانت الكنيسة الأنطاكية رسولة الوحدة بين البطريركيات الخمس الأولى، في أيام الخلافات العقائديّة، كذلك دعا المطران يوسف الكنيسة المارونية الأنطاكية لتكون، من خلال مجمعها، رائدة الوحدة المسكونية في الشرق أولا، وفي العالم ثانيا، فقال: “الفاتيكاني الثاني هو دعوة للّبناني الثاني.

  • من أجل النظر فيما بقي من الأول.
  • من أجل متابعة تطبيق ما هو صحيح فيه.
  • من أجل إكمال عمله في تنظيم وتحديث كنيستنا.

على اللبناني الثاني أن يذهب أبعد من الأول. حقّق اللبناني الأول مشاركة الكنائس الشقيقة بما فيها الإرساليات اللاتينية في أعمال المجمع. يجب أن تكون المشاركة في اللبناني الثاني أكثر تنظيما لتطبّق وتكمّل عمل المجمع الفاتيكاني الثاني بما يختص بشرقنا. لأنه هنا أيضا يوجد ما يوجد وما لا يوجد.[15]

2-2- الوحدة الإنطاكية في مسيرة العمل المسكوني

بثّ المجمع الفاتيكاني الثاني في مسار العمل المسكوني روحاً جديدة تجلّت في الدعوة الملحّة لتكثيف اللقاءات بالكنائس الأخرى، وتمثّلت بحضور ممثّلي هذه الكنائس أثناء انعقاد جلساته. وبالعودة من روما بدأ نشاط المطران يوسف يكبُر ويتوسّع في هذا الإطار. فهو المسكون في العمل المسكوني، بداَ في خدمة هذا العمل كثير الحراك. فبعد مرور ثلاث سنوات تقريباً على انتهاء أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني تمّ تأسيس مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان سنة 1967. وانبثقت عن المجلس لجنة العلاقات المسكونيّة التي ترأسها المطران يوسف. ومنذ ذلك الوقت بدأت مسيرته في العمل المسكوني الذي أفرزنا له في كتابنا فصلاً كاملاً تحت عنوان “الحبر المسكوني”. وما سنبرزه في هذه المقالة ينحصر في حلم تحقيق الوحدة الإنطاكية التي طالما حلم بتحقيقها من خلال كنيسته المارونية الإنطاكية، وقد تشارك هذا الحلم مع رفيق دربه المغفور له الخوري يواكيم مبارك.

 بعد سرد تاريخي لواقع الكنيسة المأزوم بالمشاحنات العقائدية، يوم خروجها من زمن الاضطهاد. أبرَز المطران يوسف الخوري في إحدى مداخلاته عن أنطاكيا وروما بين الأمس واليوم، دور البطريركيّة الأنطاكية الموحّد، التي لعبته ضمن نطاق البطريركيات الخمس (روما، القسطنطينية، الاسكندرية، أنطاكيا وأورشليم). هذه البطريركية التي لعبت دور الوساطة في سبيل تقريب وجهات النظر ومنع الشقاق بين الإخوة، حافظت على هذا الدور وثابرت على هذا الموقف مدى أجيال. وعند نشوء البطريركيات المنفصلة والمزدوجة ضمن نطاق البطريركية الأصيلة، برزت الكنيسة المارونية الأنطاكية كخلفٍ صالحٍ، حافظت على تراث بطريركية أنطاكيا الأم:  “في هذا الخضم برزت كنيستنا المارونية الانطاكية حريصة من جهة على الاحتفاظ بتراثها المشرقي الأصيل، ومتميّزة من جهة أخرى منذ اللحظة الأولى، بانتمائها الوثيق إلى السدّة البطرسيّة، انتماء بدا فيما بعد، نسبة إلى مفاهيم تلك العصور، وكأنه مرهون بتبنّي الكثير من خصوصيات الكنيسة الغربية تثبيتا لإيمان أرادوا أن ينظروا إليه على مدى أجيال وكأنه أبدا ناقص، أو مهدّد.[16]

إن عقد المجمع اللبناني الأول في خضمّ الصراعات بين الكنائس، كان بمثابة تأكيد الكنيسة المارونية على الاحتفاظ بتراثها المشرقي الأصيل، وانتمائها إلى أنطاكيا. كما أنه جاء ليؤكّد انتماء هذه الكنيسة، بنفس الوقت، إلى السدّة البطرسيّة. “وقمة هذه التطورات، فيما يخصّنا، كانت في انعقاد المجمع اللبناني…، والذي كانت غايته المعلنة تطبيق مقررات المجمع التريدنتيني على الكنيسة الشرقية الوحيدة التي اعترفت بسلطانه كمجمع مسكوني، فصدرت تلك الوثيقة الفريدة من نوعها وغدَت دستورا فريدا لكنيسة فريدة، مع ما فيه من إيجابيات وسلبيات، قيل عنها الكثير…

جاء بعد ذلك المجمع الفاتيكاني الأول، الذي اشترك فيه الموارنة على نطاق ضيق (كما كان سبق لهم واشتركوا في المجمع اللاتيراني) دون أن يترك ذلك أثرا هاما في مسيرتهم سوى أنهم اقتبلوا المقررات الجديدة بما تعوّدوا عليه من طاعة وخضوع لما يأتيهم من أم الكنائس، إلى أن انعقد المجمع الفاتيكاني الثاني الذي اشتركت فيه الكنيسة المارونية والكنائس الشرقية عموما على نطاق لم يسبق له مثيل، واقتبلناه بنفس الروح التي هيمنت دائما على علاقتنا بالكرسي الرسولي الأول.[17]

لم يكن عند المطران يوسف مقاربة نظرية فقط للوحدة الكنسية إنطلاقا من الأرض الأنطاكية وبدءا بتوحيد عيد الفصح. بل كان عنده ميل ومحبّة عارمة لهذه الوحدة المسكونية. ولو قدّر له أن يصبح بطريركا للموارنة في تلك الحقبة، لنحَت الحركة المسكونية منحا آخر في الشرق الأوسط. نظرية الوحدة الإنطاكية لم تأت من العدم، ورؤية المطران يوسف المنطلقة من ثابتة أن الوحدة بين الكنائس تبدأ من العمل في إطار الكنائس المحلّية والبطريركيات. هي وليدة مشاركته في المجمع الفاتيكاني الثاني، خصوصا وأن روما أكّدت مكانية الكنائس ومحلّيتها مع هذا المجمع. من هنا كان طرح المطران يوسف أساسيا وتأسيسيا لإنطلاقة هذه الوحدة مع كنيستين محليّتين عريقتين في الكنيسة الأنطاكية هما الكنيسة المارونية والكنيسة الأورثوذكسية.

2-3 ترسيخ قواعد “العيش معاً”

بعد عودته من روما إثر مشاركته في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني وتطويب الأب شربل مخلوف. إبتهج المطران يوسف الخوري كون المجمع الفاتيكاني الثاني قد وضع في وثائق رسميّة العلاقات بين الكنائس وبقية الأديان. وبمناسبة عيد القديس مارون في صور سنة 1965، وأمام حشد من رجال دين ودنيا، شرح كيف أن عائلتنا اللبنانيّة المتعدّدة الطوائف هي عائلة عيش مشترك، وكيف أن هذا العيش المشترك ألهم آباء المجمع الفاتيكاني الثاني فأدخلوا الجديد للكنيسة جمعاء فيما يعني التقارب بين الأديان، وفيما يخص التفاهم الإسلامي المسيحي. قال أنّ أبلغ وأهمّ ما أتى به المجمع، إنّما هو وثائق ثلاث “بحثت في الحرية الدينية بصفة عامة، وفي تحقيق وحدة المسيحيين والتقارب مع سائر الديانات الأخرى وفي مقدمتها الدين الاسلامي الحنيف.

وهي أمور كانت شبه جديدة بل ثورية في أعين الكثيرين من الشعوب التي عاشت حياتها الخاصة منكمشة عن الآخرين غير شاعرة الشعور الوافي بوجود الآخرين. ولكنها أمور كان لبنان السبّاق في تحقيقها والسير فيها قدوة للآخرين ودعوة مباركة. فأي بلد كلبنان قدّس حريّة الأديان بأكمل ما في هذه الكلمة من معاني؟ وأي بلد سواه استطاع فيه المسيحي أن يختار له الطريقة في تفهّم الإنجيل دون التعرّض لطريق أخيه؟ وأي بلد كلبنان، التقت فيه المسيحية مع الاسلام في طريق نور، طريق الاحترام المتبادل، طريق المساواة الحقيقية، طريق الحرية والعدل معا؟ [18]

لم يستطع المطران يوسف الخوري إلا أن يتهلّل كون وطنه كان نموذجا للعيش المشترك بالنسبة للكنيسة الجامعة وللعالم الإسلامي. الشعور بوجود الآخر كأخ في الإنسانيّة، وتقديس الحرية الدينية، وجمع أتباع الأديان في طريق الاحترام المتبادل، والمساواة الحقيقية، والحريّة والعدالة، إنما هي قيم يجب أن تُحتذى، حتى بالنسبة لشعوب كثيرة تعيش المساكنة وليس العيش المشترك. كانت فرحته كبيرة أن ما هو جديد بالنسبة للكنيسة الجامعة، كان منذ زمن بعيد خبز الكنائس الشرقيّة، والمجتمع اللبناني اليومي. “هذه القيم التي كانت تفرضها علينا المقومات اللبنانية، أصبحت اليوم من صلب عقيدتنا وتصرفنا المسيحي، وعلينا أن نعتبر أن المجمع قد كرّس طريقتنا في الحياة، بل إنه يدعونا إلى ما وراء التعايش السلمي، أو التضامن الاجتماعي، أو المشاركة السياسية، إلى الخوض في أصول الدين، لكي نجد هناك الكنه المشترك الذي يعرِّفنا بعيدا عن الفوارق إلى وجه الله الصافي الكريم الدائم.[19]

بتوجّهه جمهورٍ متعدّد الأديان، دعا المطران يوسف الجميع ليدخلوا في خط إصلاح النفوس من أجل إنقاذ المجتمع اللبناني. وقد حث اللبنانيين على التضحية الشخصيّة من أجل إعلاء القيم الحتمية للعيش المشترك. وقد قال بصوت عالٍ أنه إذا كانت الطائفية هي مشكلة لبنان، فالحلّ هو بالعودة إلى القيم الروحيّة. “هذا الاصلاح كلنا يعرف مهما كانت التضحيات الشخصيّة التي يفرض، نحن بأمسّ الحاجة إليها في كل مستويات حياتنا وليس من شائبة تفوت أيا مناّ. هذا الاصلاح يستحق من قبلنا كل تشجيع وكل تقدير وكل مؤازرة. وهنا ينبري الكثيرون لكي يحمّلوا الطائفيّة كل وزر ويجعلونها العائق اللدود دون تحقيق أي صلاح. لا نريد أن نبحث في هذا وهو يقتضي كلاما كثيرا، ولكن إذا أردنا أن نبسّط الأمور لأستطعنا أن نقول: الطائفيّة هي عائق ولكن الدين هو المعين. وكل إصلاح في المجتمع لا يرتكز إلى إصلاح النفوس لا يرتكز على القيم الدينية والروحيّة والأخلاقيّة فهو عبس في عبس. وكل إصلاح لا تحياه كل يوم في الانتصار على الخطيئة، وعلى الشهوة، وعلى التجربة لا تكتب له حياة.[20]

إنّ ميزة المطران يوسف الخوري أنه عاش ما بشّر به. فكان التضامن الذي نما بينه وبين الإمام موسى الصدر في صور، وبين جماعتيهما خير دليل على أن إصلاح المجتمع يبدأ من خلال إصلاح النفوس. وما حالة السلام والأمن الذي عاشهما الجنوبيّون في كنف عباءتي الحبر والإمام إلاّ نتيجةً لتركيز أساسات هذا “العيش معاً” على القيم الدينية والروحيّة والأخلاقيّة.

هذه العلاقة القدوة من العيش المشترك في لبنان التي نعِم بها اللبنانيون عامة والجنوبيّون خاصّة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت بمثابة استقراء لما سيعلنه البابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني في الارشاد الرسولي “رجاء جديد للبنان” والذي قال فيه: “إن الخبرات العمليّة في ممارسة التضامن، هي ثروة لجميع الشعوب، وخطوة واسعة هامة على طريق مصالحة الأفكار والقلوب، بدونها لا يمكن القيام بعمل مشترك طويل الأمد. إنَّ الحكمة الطبيعيّة تقود الأفرقاء، إذن، إلى تواصلٍ بشري غنيّ، وإلى تعاضد يُمتّن النسيج الاجتماعي.”[21] إنّ تمتين هذا النسيج في المجتمع اللبناني كان النتيجة الحتميّة للشراكة، التي طالما ساهمت في ترسيخ السلام الحقيقي، الذي لم ينحصر فقط بانتفاء الحرب العسكريّة. إن ما أعلنه قداسة البابا في الإرشاد الرسولي، عاشه في جنوب لبنان الحبر الجليل يوسف الخوري والإمام الفضيل موسى الصدر، أربعين سنة قبل إعلانه بوثيقة كنسيّة رسميّة، وفي المدى الزمني القريب لإنعقاد الفاتيكاني الثاني.

لقد كان المطران يوسف الخوري علامةً فارقة في كنيستنا المارونيّة، وكان حبراً متعدّد الأبعاد برؤيته الشاملة للأمور الكنسيّة والوطنيّة. طبع حضوره المميّز كواليس ومقرّرات المجمع الفاتيكاني الثاني. كان من أوائل الأساقفة الذين حرصوا على تطبيق مقرّرات “عنصرة الكنيسة في القرن العشرين” على جميع الأصعدة. أتمنّى أن أكون قد أضأت على بعض النواحي الأساسيّة من إسهاماته العديدة فيه، والتي سبق لي أن عالجتها في كتابي. صلاتي إلى الله، بشفاعة قديسيه وأبراره، أن يتمّ تطبيق مقرّرات المجمع البطريركي الماروني الذي انطلق بالأصل مع المطران يوسف الخوري تحت مُسمّى “المجمع اللبناني الثاني” كما كان يحلو له أن يسمّيه. وأن تعود الحياة بزخمٍ أكبر إلى العمل المسكوني، فتستعر من جديد الجذوة التي كانت أشدّ لهباً في أعقاب المجمع. وأن يسعَى اللبنانيون إلى إعادة تعويم مفهوم الشراكة الوطنيّة و “العيش معاً” في روح من الأخوّة والإلفة.

المصادر والمراجع

المصادر

إن الوثائق التي اعتمدناها هي أربعة مكتوبة بخط اليد باللغتين العربيّة والفرنسيّة، تتمحور حول موضوعات المجمع الفاتيكاني الثاني، والعمل المسكوني، والعيش المشترك. هذه الوثائق محفظة اليوم في مكتبة جامعة الروح القدس الكسليك، ونملك نحن نسخة عنها في مكتبتنا الخاصة. إليكم فيما يلي وصفاً لهذه الوثائق، وقد حافظنا في هذه المقلة على أرقامها كمّا رتّبناه في كتابنا عن المطران يوسف الخوري:

  • وثيقة رقم 9: عظة باللغة العربيّة ألقاها في كاتدرائية سيّة البحار في صور في 9 شباط 1965.
  • وثيقة رقم 16: محاضرة باللغة العربيّة تحت عنوان : “أنطاكيا وروما بين الأمس والغد”. بمناسبة اليوبيل ال 250 سنة للمجمع اللبناني، السبت 4 تشرين الأول 1986 في الإكليريكية البطريركية المارونية – غزير.
  • وثيقة رقم 17: خواطر باللغة العربيّة بمناسبة مناقشة المرسوم في الكنائس الكاثوليكية – المجمع الفاتيكاني الثاني في روما بين 15 و20 تشرين الأول سنة 1964.
  • وثيقة رقم 19: محاضرة باللغة الفرنسيّة تحت عنوان ” نحن والمجمع الفاتيكاني الثاني” من دون ذكر الزمان والمكان.

المراجع

قنبر ميخائيل (الخوري)، يوسف الخوري الحبر المتعدّد الأبعاد، المطبعة الشرقيّة، 2013، بيروت – لبنان.


[1]  وثيقة رقم 19: 1

[2]  قنبر: 9

[3]  قنبر: 233

[4]  قنبر: 234

[5]  قنبر: 235

[6]  قنبر: 236

[7] قنبر: 236

[8] يقسم المرسوم في الكنائس الشرقية الكاثوليكية إلى ستة أقسام، خمسة منها بمثابة مقدّمة للقسم السادس الذي هو بمثابة نتيجة للأقسام الأولى. يتوجّه المرسوم إلى الكاثوليك الشرقيين وينظّم علاقاتهم مع المسيحيين غير الكاثوليك. والأقسام الستة هي:

  1. في الكنائس الخاصة أو الطوائف
  2. المحافظة على تراث الكنائس الشرقية الروحي
  3. البطاركة الشرقيون
  4. في نظام الأسرار
  5. في العبادة المقدسة
  6. العلاقات مع اخوة الكنائس المنفصلة. 

[9]  وثيقة رقم 17 : 1.

[10]  وثيقة رقم 17 : 1.

[11]  وثيقة رقم 17 : 1.

[12]  وثيقة رقم 17 : 1.

[13]  وثيقة رقم 17 : 2.

[14]  وثيقة رقم 19 : 1.

[15]  وثيقة رقم 19 : 1.

[16]  وثيقة رقم 16 : 1.

[17]  وثيقة رقم 16 : 1.

[18]  وثيقة رقم 9 : 1

[19]  وثيقة رقم 9 : 1

[20]  وثيقة رقم 9 : 2

[21]  رجاء جديد للبنان § 91

Scroll to Top