القس عيسى دياب
بالنظر إلى التنوع الكبير الذي نجده في الكنائس البروتستانتية، إن كان لجهة اللاهوت، أو الممارسات، أو التنظيم الكنسي، من الصعب أن نجد موقفًا أو نظرة بروتستانتية موحدة من المجمع الفاتيكاني الثاني. غير أن الموضوع يصبح قابلاً للبحث إذا أخذنا التنوع البروتستانتي بعين الاعتبار. توجد طرق عديدة لاستعراض تنوع الكنائس البروتستانتية، إلا أننا نجد أن العرض الأبسط هو الأنسب لموضوعنا. يمكننا تقسيم الكنائس البروتستانتية إلى فئتين: كنائس الإصلاح الأساسي، وهي الكنائس المُصلحة والكنيسة اللوثرية والكنيسة الأنكليكانية، والكنائس الناتجة عن إصلاحات راديكالية متنوعة. فالفئة الأولى كنائس منفتحة على الآخرين، وخاصة الكنائس التاريخية، ومنخرطة في العمل المسكوني؛ أما الفئة الثانية فهي تضم كنائس إنجيلية محافظة غالبًا ما تكون منغلقة على نفسها، متخذة مواقف من الكنائس الأخرى، وخاصة التاريخية (الأرثوذكسية والكاثوليكية) لا تخلو من السلبية، ورافضة للعمل المسكوني. بعد هذه المقدمة التأسيسية، غني عن القول بأنه توجد “نظرات بروتستانتية” في الفاتيكان الثاني متقاربة وأخرى متباعدة.
ملاحظة أخرى جديرة بأن تُؤخذ بالاعتبار هي أنه وبحسب علمنا، لا توجد مواقف كنسية بروتستانتية رسمية من الفاتيكان الثاني؛ لم نجد مواقف صريحة صادرة عن كنائس بروتستانتية بطرق قانونية وتعبّر عن مواقفها الرسمية من المجمع المذكور، بل نشك بوجود هكذا مواقف لأن مسألة الفاتيكان الثاني قضية كاثوليكية بامتياز وليس من المفروض أو المنتظر أن تصدر مواقف بروتستانتية بشأنه. لكن بالمقابل، يوجد نظرات وتحاليل صادرة عن لاهوتيين وقادة بروتستانت عبروا عنها في كتب ومقالات منشورة.
نحاول، في هذه المقالة أن نستعرض أهم النظرات أو الآراء البروتستانتية في المجمع الفاتيكاني الثاني آخذين بعين الاعتبار الملاحظة الأولى التي أبديناها في المقدمة.
أولاً: المجمع الفاتيكاني الثاني بمنظور الكنائس الإنجيلية المحافظة
غني عن القول بأنه لا يُنتظر أن يصدر موقف إيجابي من المجمع الفاتيكاني الثاني عن هذه الفئة من الإنجيليين كونهم يرفضون أصلاً أركانًا أساسية للاهوت الكاثوليكي وردت في وثائق المجمع مثل الأسرار والكهنوت والليتورجيا. وبشكل عام، الكنائس الإنجيلية المحافظة لا تتابع التطورات اللاهوتية في الكنائس الكاثوليكية أو الأرثوذكسية (بأنواعها) التي تظهر بين وقت وآخر.
طبعًا صدرت كتب ومقالات عديدة، في دوائر الكنائس الإنجيلية المحافظة، تبحث في المجمع الفاتيكاني الثاني. ونستطيع أن نتوقع ما تنتهي إليه هذه الكتابات وهو أن معظم الكتاب الإنجيليين المحافظين يجمعون على الرأي القائل بأنه طالما لم يُغيّر المجمع في الكنيسة الكاثوليكية أي أمر عقائدي من الأمور الأساسية التي يختلفون بها مع هذه الكنيسة، ما زالت الكنيسة الكاثوليكية بعد المجمع كما قبله تمامًا. وقد عبّر عن هذا الرأي أكثر من كاتب كما نرى فيما بعد.
إن خير ما يعبّر عن قولنا أعلاه هو ما كتبه اللاهوتي الأميركي الإنجيلي المحافظ لورين بوتنر (Loraine Boettner) في كتابه “الكاثوليكية الرومانية”:
“تؤكد الوثيقة المجمعية المسماة ” الكنيسة (دستور عقائدي)”[1] على العقائد الكاثوليكية الأساسية كما هي، وكما كانت قبل انعقاد المجمع… لقد أُعيدت صياغة عقيدة العصمة البابوية دون تغيير جوهري يستحق الذكر… لم يخسر البابا أيًا من سلطاته. وهو يبقى مدبر الكنيسة الكاثوليكية المطلق. وإذا كانت المراسيم البابوية، ماضيًا وحاضرًا، لا رجوع عنها، أي أمل في الإصلاح يبقى في الكنيسة الرومانية.”[2]
ويتلطى هذا الفريق وراء كتابات كاثوليكيين تقليددين يعترفون بأن الفاتيكان الثاني لم يُغير شيئًا من عقيدة الكنيسة التي صيغت في القرون السابقة، مثلاً كتاب أفيري دالّس (Avery Dulles)، “إعادة صياغة الكاثوليكية”[3]، الذي يقدم فيه قائمة تحتوي على عشرة بنود من التعاليم الكاثوليكية الأساسية الصادرة عن المجمع الفاتيكاني الثاني. ويرى دالّس أن هذا يوضح للعيان، لأي شخص يبحث عن تفسير للمجمع غير متحيز، بأن هذا المجمع لم يغير شيئًا من العقيدة الكاثوليكية.
وعلى الرغم من كل ما قلنا أعلاه، ترانا نظلم عددًا من مكوّنات هذه الفئة من الإنجيليين المحافظين إذا تكلمنا عن موقف واحد أو موحد من المجمع الفاتيكاني الثاني. إن نظرة هذا الفريق إلى “المجمع” مرت بتغيّرات وتبدلات كانت نتيجة مسيرة العلاقات بين الكنائس االإنجيلية المحافظة وكنيسة روما الكاثوليكية. لقد عرفت الستينيات من القرن الماضي علاقات شديدة التشنج بين الطرفين شبيهة العلاقات التي كانت سائدة في قرون الإصلاح. وكان من الطبيعي أن لا ترى هذه الكنائس الإنجيلية المحافظة أي نوع من التغيير في الكنيسة الكاثوليكية بعد المجمع الفاتيكاني الثاني. لكن منذ السبعينيات وحتى اليوم، أي الفترة التي عرفت نهوض الكنائس الإنجيلية المحافظة المؤسسة على ممارسة المواهب الروحية (خاريسما)، وظهور حركات روحية مشابهة في الكنيسة الكاثوليكية، وتعاون هذه الحركات الروحية الإنجيلية والأخرى الكاثوليكية معًا، بدأنا نلمس تغيرًا في الموقفي الإنجيلي المحافظ من الكنيسة الكاثوليكية، وبدأ الكلام عن “كاثوليكية ما بعد الفاتيكان الثاني”.
بتاريخ 27 كانون الأول/ديسمبر 2012، كتب ترّانس ل. تيسِّن (Terrance L. Tiessen) مقالة بعنوان “تفكرات إنجيلية في كاثوليكية ما بعد الفاتيكان الثاني” في مجلة “أفكار لاهوتية”[4] يحلل فيها موقفًا لزميله غْلِن سكورجي (Glen G. Scorgie) ورد في مقالة كتبها بعنوان “خمسون سنة على الفاتيكان الثاني”[5]. توقف تيسن عند الكثير من الصور الإيجابية عن الفاتيكان الثاني التي عكسها سكورجي في مقالته، وبعد أن أيدها، تكلم عن رحلته الشخصية إنطلاقًا من عدائه للكنيسة الكاثوليكية واعتبار الكاثوليك “عبدة أوثان” إلى حدوث كثير من التغيير في موقفه بعد أن قرأ وثائق وقرارات المجمع الفاتيكاني الثاني. وبعد عرض نظرته الإيجابية جدًا، ختم مقاله قائلاً:
“إني أشكر الله من أجل عمله في كنيسة روما الكاثوليكية، كما أشكره أيضًا من أجل عمله بين البروتستانت. كلانا نحتاج إلى إصلاح مستمر لأن لا أحد منا وصل إلى ملء المسيح، وتوجد أشياء كثيرة يجب أن نتعلمها بعضنا من بعض”
وعندما نكثر القراءة في هذا الموضوع ونتعرف على الآراء المتنوعة والمختلفة، نرى أن ثمة انقسامًا في النظرة إلى “المجمع” في هذا الفريق، أعني الكنائس الإنجيلية المحافظة. فعدد منهم يرون بأن “المجمع” أحدث تغييرات إيجابية مهمة في الكنيسة، منها إدخال الكتاب المقدس بكثرة في الليتورجيا، والانفتاح على المسيحيين الآخرين بعد عصور من التشنج. وتجسد هذا الانفتاح في أن الفاتيكان أدخل على هيكليته الأجهزة المتخصصة في حوارات لاهوتية مع المسيحيين الآخرين إنخرط فيها الفاتيكان بعد عصور من القطيعة. بينما عدد آخر من هذا الفريق الإنجيلي المحافظ يرى بأن “الكاثوليكية” لم تتغير، فالبابا ما زال رأس الكنيسة، والتقليد ما زال يحتل مرتبة مساوية للكتاب المقدس، وما زال التعليم المُصلح “التبرير بالإيمان، الذي هو الركن الأول في منظومة الإصلاح البروتستانتي غير مُعترف به وغير مُطبّق.
يوجد أيضًا فريق من الإنجيليين المحافظين والرافضين للحركة المسكونية يقفون في الوسط بين الطرفين ويقدمون نظرة معتدلة فيرون أن الكنيسة الكاثوليكية أحرزت، في الفاتيكان الثاني، تقدمًا حقيقيًا، لكنها لم تصل إلى درجة رفضها العقائد التي يعتبرها الإنجيليون مخالفة للحقيقة الإلهية. لا تخلو مواقف هؤلاء من الأفكار المسبقة المبنية على معرفتهم “الخشبية” عن الكنيسة الكاثوليكية، فمنهم من يرى في المجمع الفاتيكاني الثاني مجرد عملية تجميل، ويكمن نجاحه الحقيقي في أنه استطاع أن يُحدث تغييرًا في البروتستانت أنفسهم لجهة نظرتهم إلى الكنيسة الكاثوليكية. فبعدما كانوا يرون عددًا من العقائد والممارسات الكاثوليكية تخالف تعليم الكتاب المقدس، أصبحوا يتفهمونها ويتقبلونها كونها وجهة نظر من زاوية مختلفة عن الزاوية التي ينظرون منها إلى هذه العقائد والممارسات.
بعد هذا العرض المختصر لنظرات الإنجيليين المحافظين إلى المجمع الفاتيكاني الثاني، نرى أنهم لم يتخلصوا بعد من الأفكار المسبقة حيال الكنيسة الكاثوليكية، ولا من الطابع السلبي في التعبير عن مواقفهم من الفاتيكاني الثاني والاستمرار في التنكر لأي تغيير أجراه الفاتيكان الثاني في الكنيسة الكاثوليكية. وباعتقادي الشخصي، لهذه النظرة السلبية لـ”المجمع” عند هذه الفئة من الإنجيليين المحافظين سببان: الأول، هو موقفهم المبدئي الرافض لكل شيء كاثوليكي، أو كل شيء مختلف عنهم؛ والثاني، هو أنهم لم يتعبوا أنفسهم بقراءة حيثيات المجمع والوثائق التي صدرت عنه قراءة متأنية وموضوعية- لربما قرأوا المادة بعيون نقد هدام تحركه الأحكام المسبقة. فحكمهم السلبي ناتج، إذًا، عن موقف رافض متصلب، وجهل بمجريات الأمور.
ويرى الفريق “الأصولي” بين الإنجيليين المحافظين بأنه طالما لم تُسَلِّم الكنيسة الكاثوليكية بوجهة نظرهم في جميع الأمور العقيدية التي يعتبرونها هي الحقيقة، فلا داعي للكلام عن “تغيير” في الكنيسة الكاثوليكية بعد الفاتيكان الثاني.
لا داعي للقول بأن هذا الموقف صادر عن جماعة مقتنعة بأنها امتلكت الحقيقة كلها، وبأنها لا تستطيع أن تتعلم شيئًا من الآخر المختلف عنها.
ثانيًا: المجمع الفاتيكاني الثاني بمنظور كنائس الإصلاح البروتستانتي الأساسي
كتب القس اللوثري الأميركي ريتشارد نيوهاوس (Richard John Neuhaus)- الذي تحول فيما بعد إلى كاهن كاثوليكي- قبيل موته سنة 2009 مقالاً عنونه “ماذا حدث فعلاً في الفاتيكاني الثاني؟”[6] تفحص الكاتب، في مقاله، كتابين يبحثان في تاريخ الفاتيكاني الثاني ودلالاته في الحاضر والمستقبل. الكتاب الأول “ماذا حدث في الفاتيكاني الثاني؟” كتبه جون أوملّي (John O’Malley)[7]؛ والثاني: “الفاتيكاني الثاني: تجدد في سياق التقليد” لعدة مؤلفين، أعده وراجعه ماثيو لامب وماثيو ليفيرينغ (Matthew Lamb and Matthew Levering).[8] وبحسب نيوهاوس، الذي يمثل رأيًا بروتستانتيًا، يمثل الكتابان الخطوط العريضة للتنافر، في السياق الكاثوليكي، حول دلالات الفاتيكاني الثاني واستمرارية تأثيره. كلاهما يريان المجمع الفاتيكاني الثاني باعتباره حدثا فاصلا في مواجهة العلم الحديث، والدراسات التاريخية، والعالم، لكنهما يختلفان في معاني ودلالات المجمع. وكتب القس المشيخي الأرثوذكسي داني أولنغر (Danny Olinger) مقالاً يُقوّم فيه المجمع الفاتيكاني الثاني، ووضعه تحت عنوان “مدخل إلى الفاتيكاني الثاني”[9] وتطرق فيه إلى الكتابين المذكورين أعلاه على خطى نيوهاوس. وكثير من المادة التي أستعرضها في هذا القسم تعتمد على الكتابين والمقالين الآنفي الذكر، كوني أراها تُعبّر عن وجهة نظر الكنائس البروتستانتية من الإصلاح الرئيسي (المصَلحون واللوثريون والأنكليكان (الأسقفيون).
يرى أولينغر بأن أوملّي يقدم فهمًا متطورًا للفاتيكان الثاني، وبأن المجمع كان أكثر من الست عشرة وثيقة التي صدرت عنه، وأبعد منها، وبأن المجمع أحدث تبدلاً كبيرًا في روح الكاثوليكية الرومانية ولاهوتها، وتجسيد لهدف البابا يوحنا الثالث والعشرين وعمله في “مجمع التحديث” أو “مجمع التأوين”. ووُضعت تعريفات جديدة للكنيسة وعبادتها، والعلاقات المسكونية، والخروج إلى العالم وأخذ المبادرة حياله، وكلها نابعة من روح جديدة.
بينما نيوهاوس رأى أوملّي وكأنه ينسج قصة مدهشة ومثيرة: إنها دراسة سيكولوجية وسوسيولوجية وألسنية لأعمال “المجمع” أُنتجت من أجل قراءة ممتعة.[10] وعلى الرغم من ذلك، لاحظ نيوهاوس أيضًا أن أوملّي “اقترب من القول بصراحة ما يُقال ضمنيًا في أغلب الأحيان: إن المجدّدين مارسوا خدعة وتخلصوا من الطرق التقليدية وعرضوا ما هو بالحقيقة كاثوليكية مختلفة.”[11] بينما على الجانب الآخر، يتموضع لامب وليفرينغ، فيريان أن الفاتيكاني الثاني قد وفّق بين الإيمان المسيحي والعلم الحديث من خلال هرمنيوطيقية إصلاحية، دون انقطاع عن التعاليم القديمة. ومقاربة أوملّي المرتكزة على “روح المجمع” ليست ذات شأن مهم مقارنة بتحليل ما صدر فعلاً عن المجمع. نجد نيوهاوس يؤيد نظرة لامب وليفرينغ ويراهما قد أصابا في تحليلهما لـ”المجمع” في خضم هذا الجدل. وقد ربحا البابا بندكتوس السادس عشر إلى جانبهما. ففي مقالته “الهرمنوطيقا المناسبة لفهم المجمع الفاتيكاني الثاني”، أفاد قداسته بـ”أن مشكلة تطبيق تعاليم الفاتيكان الثاني تكمن في أن نوعين مختلفين من الهرمنيوطيقا تقابلا وجهًا لوجه وتنازعا الواحد ضد الآخر.”[12] فهرمنيوطيقا “القطيعة” مع الماضي سببت كثيرًا من البلبلة ويجب أن تُرفض. بينما الهرمنيوطيقا الإصلاحية، ليست هي الصحيحة التي تقدم لنا فهمًا صحيحًا عن الفاتيكاني الثاني فحسب، بل قد أعطت أيضًا ثمارها الجيدة.[13]
إذًا، ترى هذه المراجع المعبرة عن الفكر البروتستانتي بأنه بينما كان “المجمع” منعقدًا، كان يدور صراع، أحيانًا هادئ وأحيانًا أخرى حامٍ، بين التقليديين والمجدّدين، بين من أراد أن تؤكد الكنيسة على ما كانت قد شرعته في الماضي، ومن أرادها أن تخرج من عالم القرون الوسطى وأن تدخل عصر الحداثة. وكان الصراع يدور على أرضية إعداد الوثائق المجمعية، وكلٌ يريدها أن تُعبّر عن رؤيته.
واليوم، بعد ما يقارب النصف قرن من صدور الوثائق المجمعية، يُخطئ من يظن بأن الصراع بين التقليديين والمجدِّدين توقف، لكن أرضيته تغيرت، فبينما كان خلال المجمع على أرضية إعداد الوثائق، نراه اليوم خلافًا على تفسير أعمال “المجمع”، فالتقليديون يريدونها تأكيدًا للاهوت الكنيسة الكاثوليكية التقليدي لكن بلغة عصرية؛ بينما التجديديون يريدونها انعكاسًا لعصر جديد دخلت فيه الكنيسة الكاثوليكية وصارت تحيا بـ”روح جديدة”، ويتجسد ذلك بإدخال أمور جديدة مثل الانخراط العملي في الحركة المسكونية على الصعيد المسيحي، وفي حوار الأديان على صعيد الديانات الإبراهيمية الثلاث، وأخذ مبادرات عملية حيال قضايا العالم الحديث.
كيف يقرأ اليوم البروتستانت الوثائق التي صدرت عن المجمع الفاتيكاني الثاني؟ لا نستطيع أن نتوقف عند الوثائق الست عشرة التي صدرت عن “المجمع”، لكن نتوقف عند بعضها:
الوثيقة المتعلقة بـ”الليتورجيا المقدسة” (دستور عقائدي) وضعت هدف مشاركة المصلين في الاحتفالات الليترجية بمرتبة أعلى من لغة الليتورجيا التقليدية. وبحسب المفهوم البروتستانتي، يُعتبر هذا تطور نحو الأفضل.[14] لأن ما هو أهم من “شكل” الصلاة التي نقدمها إلى الله فهم الناس واستيعابهم لمعاني وأبعاد الصلاة، بل واشتراكهم فيها.
ووثيقة “الوحي الإلهي” (دستور عقائدي) تمثل نوعًا من القطيعة مع الكاثوليكية القديمة بما يتعلق بعقيدة الوحي، خاصة وأنها تركز على الوحي الإلهي في الكتاب المقدس وتعطيه الثقل الأكبر حتى ولو لا يوجد فيها نفي صريح لوحي إلهي يأتي بواسطة الكنيسة. تناقش الوثيقة ثلاثة مواضيع رئيسية تتعلق بالوحي: علاقة الكتاب المقدس بالتقليد، تفسير عصمة الكتاب المقدس كوحي إلهي، والطابع التاريخي للأناجيل.[15] وواضح لكل من يتفحص الوثيقة بأنها انتصار للتقدميين في “المجمع” وفي الكنيسة إذ أنها تستبدل الفكر القديم الذي كان يرى في الكتاب المقدس مادةً عن الله والدين، بفكر جديد يرى فيه وحيًا يشهد ليسوع المسيح، الكلمة الحي. نحن لا نقول بهذا بأن الكنيسة الكاثوليكية لم تكن تؤمن بـ”وحي” الكتاب المقدس، لكن نقول بأن هذا الإيمان أصبح أوضح في الوثيقة المذكورة، إذ سُلِّط عليه الضوء وفُسِّر بعبارات واضحة وعصرية. وتفيد الوثيقة أيضًا بأن عصمة الكتاب المقدس تكمن في الرسالة وليس في المعطيات العلمية أو التاريخية أو الثقافية التي تمثل معرفة الكاتب البشري.[16] وهذه نظرة يجب أن يعرفها كل قارئ للكتاب المقدس خاصة الحرفيون منهم. إن هذه النظرة المتجددة للكتاب المقدس في وثيقة “الوحي الإلهي” تعكس تفهم الكاثوليك لأخوتهم البروتستانت في تشديدهم على الكتاب المقدس، خاصة في سياق كاثوليكية القرون الوسطى حيث كان الوضع يتطلب نقلة نوعية من الغموض إلى الوضوح.
في الوثيقة “نور الأمم”، التي تتكلم عن “الكنيسة” (دستور عقائدي)، يظهر تبدل النظرة إلى الكنيسة في الوعي الكاثوليكي، فلم تعد الكنيسة ذلك المجتمع المثالي. وبدل أن تكون الكنيسة “ضد” العالم أصبحت “في” العالم ولخدمته. لم يعد الكاثوليك ينظرون إلى البروتستانت كهراطقة بل كأخوة منفصلين. لم تعد الكنيسة مؤسسة يمكن أن يكون فيها المسيحي عضوًا، بل هي سر حياة روحية تحتضن المسيحي لخلاص نفسه. المسيحي هو مشارك في حياة الكنيسة. تجسد الكنيسة حضور الله المثلث الأقانيم على الأرض، لكنها، ونظرًا للبعد البشري فيها، لا تتمكن من تجسيد ملء هذا الحضور. ويُعتبر هذا تقدمًا بالنظر إلى إكليزيولوجيا القرون الوسطى.[17] أمر آخر في الوثيقة هو أنه تُركت لكل كنيسة محلية حرية اختيار مفاهيمها اللاهوتية والروحية الخاصة بالتعبير عنها بلغاتها الوطنية وبقوالبها الثقافية المحلية آخذة بعين الاعتبار سياسات البلدان المتواجدة فيها وشركاءهم في هذه الأوطان. وبذلك يكون التعبير عن وحدة الكنائس الكاثوليكية بجوهر الإيمان الكاثوليكي، بينما تتُرك قوالب هذا الإيمان، وكثيرًا من النقاط المعبرة عن الخصوصية للكنائس المحلية.
أما الوثيقة المتعلقة بـ”الكنيسة في عالم اليوم”، فهي تتكلم عن إرسالية الكنيسة في العالم. فترى أن الكنيسة الكاثوليكية تتضامن مع البشرية جمعاء لمواجهة تحديات الحداثة. فمن جهة، الكنيسة مستعدة للولوج في حوار مع المجتمع الحديث للتعريف بذخائرها الروحية التي تستطيع أن تقدمها في محاولة حل مشكلات الحداثة. ومن جهة ثانية، فالكنيسة تنادي بإنجيل المسيح إيمانًا منها بأنه يتضمن حلولًا مناسبة للتحديات التي فرضتها الحداثة.[18] أرى هذا تقدمًا إلى الأمام بالنسبة لكاثوليكية القرون الوسطى التي حاولت مرارًا تطويع الثقافة، وحتى العلوم، لتتماشى مع الثقافة التي تراها الكنيسة منسجمة مع تعاليمها وتسمح بها. ولم تعد الكنيسة في العالم لتملي عليه قوانينها كما كانت عليه الحال في القرون الوسطى، بل هي في العالم لخدمته، ولمساعدته في البحث عن الحقيقة عن طريق محاورته والأخذ برأيه عند اللزوم.
وبرأيي الشخصي، أرى هنا أن الفكر البروتستانتي الذي أدخل علوم النقد التاريخي (تتضمن كل أنواع النقد) وكانت أحد الأسباب في جنوح اللاهوت البروتستانتي نحو الليبرالية، لم يُقدم روحانية مناسبة لمواجهة هذه الليبرالية، ما ساعد على انقسام البروتستانت إلى قطبين: ليبرالية مفرطة، يقابلها محافظة مفرطة أو حرفية. ولا ننكر تموضع عدد كبير من البروتستانت في منتصف القطبين.
الوثيقة المتعلقة بـ”الحركة المسكونية” (قرار مجمعي) “تدل على تبدل شامل في الرؤية والتوجه.”[19] لقد ألغت هذه الوثيقة، ولو ضمنيًا، كل القرارات الكنسية بحق الكنائس الأخرى والتي صيغت بلغة صدامية تعبر عن الروح التي كانت سائدة في تاريخ صياغتها. “أعلنت هذه الوثيقة أمام الملأ دخول الكنيسة الكاثوليكية إلى عالم العمل المسكوني من بابه الواسع، وأرست أسُسًا جديدة للتعامل مع الكنائس الأخرى…”[20] و”أصبحت مشاركة الكاثوليك في العمل المسكوني رسمية وشرعية، تحثهم على الإسهام في الجهود المبذولة إسهامًا فعالاً، وتشجعهم على السعي إلى التقارب والوحدة سعيًا حثيثًا. وقد اقتضت الخطوة تراجع الكنيسة الكاثوليكية عن مبدأ طالما تمسكت به على مر السنين، يُشترط “العودة إلى رومة، كنيسة المسيح الصحيحة والوحيدة”، سبيلاً وحيدًا إلى الوحدة.”[21] ولا ننسى، في هذا السياق، أن الحركة المسكونية تأسست بمبادرة من عدد من الكنائس البروتستانتية. فهذه خطوة جبارة أخذتها الكنيسة الكاثوليكية بشجاعة، ومن دون أن ينتابها أدنى شعور المهانة. وإن كان المسيح قد أوصانا بسير “الميل الثاني” مع خصمنا (مت 5: 41) فكم بالأحرى مسيرة نحو إخوتنا بالإيمان. إنها لمسيرة مباركة.
الوثيقة المتعلقة بـ”علاقات الكنيسة بالأديان غير المسيحية” (بيان)، تعبر عن موقف متقدم جدًا للكنيسة في علاقاتها مع غير المسيحيين، وبوجه الخصوص اليهود والمسلمين. فهي تلقي الضوء على التراث الإبراهيمي الذي يُبرز أرضية مشتركة بين الديانات الثلاث، وتعترف بجوانب من الحقيقة نجدها في هاتين الديانتين الإبراهيميتين. إن هذا لتطور كبير في النظر إلى الأديان الأخرى، وتأسيس لحوار موضوعي أصبح ممكناً بين المسيحية والديانات الأخرى. كفى الديانات أن تعيش حالة العداء وتسبب الضرر لسكان الأرض. إن روح هذه الوثيقة تنم عن اعتراف الكنيسة الكاثوليكية لأنها كانت، في بعض الأحيان، هي المسؤولة عن العلاقات المتشنجة بين المسيحيين والمسلمين أو اليهود، فأدى هذا التشنج إلى صدامات دينية دامية أودت بحياة الكثيرين وأودت بأملاكهم، وأدت، في بعض الأحيان إلى هجرات وتغييرات ديمغرافية. إن في هذه الروح الإيجابية التي ترشح من هذه الوثيقة مثالاً حيًا جدير بأن يُقتدى به من قِبَل التكفيريين وأتباع الأصوليات الدينية، من أجل بناء مجتمع متعدد الديانات مبني على التفهم والاحترام المتبادل والسلام والعدالة الاجتماعية، وفيه تُصان الكرامة الإنسانية وحرية الفرد والمساواة.
في مقاله المذكور أعلاه، يتساءل أولينغر : “إذا كان الكاثوليك الرومانيون أنفسهم قد انقسموا بالعمق على معنى ودلالة المجمع الفاتيكاني الثاني، والإنجيليون المحافظون متقلقلين في ردة فعلهم، ماذا يجب أن يكون فهم المُصلَحين [البروتستانت]؟ إن عددًا كبيرًا منهم لا يعرفون حتى من أين يبدأون؛ وأقل من ذلك بكثير، لا يعرفون في أي جانب يصطفون؛ أو حتى إذا كان موقفهم يُحدث فرقا.”[22]
نحن لا نوافق أولنغر الرأي، فكثيرون من البروتستانت رحبوا بالانفتاح الكاثوليكي الناتج عن الفاتيكاني الثاني، وقابلوا هذا الانفتاح بانفتاح مماثل، وانتقل على أثر ذلك الكاثوليك والبروتستانت من عصر التصادم إلى عصر التعاون في بناء ملكوت الله. وهذا ما نوضحه في القسم التالي.
الفاتيكان الثاني وإنماء العلاقات الكاثوليكية البروتستانتية
بمعزل عن نظرة البروتستانت إلى المجمع الفاتيكاني الثاني، نتكلم هنا عن تأثير الفاتيكاني الثاني على الحياة العملية البروتستانتية وعلى علاقاتهم مع إخوتهم الكاثوليك.
ها نحن نلمس ثمار الفاتيكان الثاني في مجالات مختلفة، فالبروتستانت والكاثوليك يعملون معًا اليوم في ميدان علوم الكتاب المقدس واللاهوت بشكل عام (رابطة الكتاب المقدس مثال حي)، وفي التربية والتعليم (تجمعات المدارس المسيحية)، وفي مجال الروحانية (كنائس بروتستانتية كثيرة تطبق اليوم القراءة الربية للكتاب المقدس). وكثيرًا ما نجد اليوم طلاب وأساتذة بروتستانت في جامعات كاثوليكية، والعكس صحيح أيضًا. وجمعيات المدارس والجامعات الكاثوليكية والبروتستانتية تعمل معًا بتكامل وتنسيق لمواجهة العلمانية الإلحادية في المجتمع؛ وها عدد كبير من الكنائس البروتستانتية تستعين بمنشطين كاثوليك في خلواتها الروحية وممارسة القراءة الربية للكتاب المقدس.
وبالإجمال، يميل العدد الأكبر من الكنائس البروتستانتية التقليدية (كنائس الإصلاح الأساسي) إلى لاعتقاد بأن الكنيسة الكاثوليكية شهدت تغييرات هائلة منذ المجمع الفاتيكاني الثاني. ويُعتقد على نطاق واسع بأن تغييرات جذرية طرأت، بين الكاثوليك، على مستوى كل من العقيدة والممارسة. ويرون أن هذا التغيير يصب في خانة التقارب المسيحي الذي نلمسه هذه الأيام على جميع الصعد: عقد خدمات مشتركة، تنفيذ مشاريع فيلوأنثروبوليجية مشتركة، مواجهة العلمنة الإلحادية بجبهة مشتركة.
الخاتمة
مقارنة بالمجمعين السابقين- المجمع التريدنتيني (1545-1563) والمجمع الفاتيكاني الأول (1869-1870)- يُعتبر المجمع الفاتيكاني الثاني نقلة نوعية. فالمجمع التريدنتيني تصدى “للهرطقات” البروتستانتية”، والفاتيكاني الأول مجمع تشريعي بامتياز حيال كل المشككين بسلطة الكنيسة الكاثوليكية؛ بينما نرى مناخ المجمع الفاتيكاني الثاني مناخًا تصالحيًا، فلم يعد البروتستانت “هراطقة”، بل “أخوة منفصلون”، ولم يعد العالم عدوًا للكنيسة، بل نرى الكنيسة تأخذ المبادرات نحو الانخراط في مشاكل العالم والالتزام معه في البحث عن الحلول المناسبة، ولم تعد الكنيسة الكاثوليكية “الشعب الكلي القداسة” بل أناس يسيرون في درب القداسة نحو الاكتمال. إن لغة الوثائق هي لغة تصالحية وبعيدة كل البعد عن كونها تصادمية. مواقف الكنيسة من كافة الأمور موضوع بقالب منفتح على تعدد التفاسير وليس بطريقة “الأسود أم الأبيض”. إن هذا كله وغيره يجعل الفاتيكاني الثاني مجمعًا مميزًا نقل الكنيسة الكاثوليكية من جو القرون الوسطى إلى العالم الحديث.
إن العلاقات الكاثوليكية البروتستانتية قد تحسنت كثيرًا بعد الفاتيكاني الثاني. واليوم، الكنيسة الكاثوليكية تمد يدها لكل مسيحي غير كاثوليكي للعمل معًا في مواجهة العلمنة الإلحادية التي غزت مجتمع الحداثة وما زالت مستمرة في مجتمع ما بعد الحداثة، إضافة إلى عصر السليكون والقرية الكونية وثورة الاتصالات وتحدياتها في عالم ما بعد الحداثة. إن موقف الكنيسة الكاثوليكية اليوم إيجابي حتى حيال الإنجيليين المحافظين الذين لم يلجوا بعد المناخ الحواري مع المختلفين عنهم بغية الانضمام إلى بقية المسيحيين في التبشير الجديد.
[1] اعتمدنا، في تسمية الوثائق المجمعية، الترجمة في كتاب المجمع الفاتيكاني الثاني الصادر عن منشورات المكتبة البولسية سنة 1992.
[2] Loraine Boettner, Roman Catholicism, https://www.chick.com/reading/comics/0112/vaticanii.asp, Retrieved April 1, 2014.
[3] Avery Dulles, The Reshaping of Catholicism: Current Challenges in the theology of Church, Harper Collins, ISBN: 0062548565 (ISBN13: 9780062548566)
[4] http://thoughtstheological.com/evangelical-reflections-on-post-vatican-ii-catholicism/ Retrieved April 7, 2014.
[5] Glen G. Scorgie, “50th anniversary of Vatican II” in http://glenscorgie.com/2012/12/01/50th-anniversary-of-vatican-ii/ retrieved April 7, 2014.
[6] Richard John Neuhaus, “What Really Happened at Vatican II,” First Things (October 2008): 23-27.
[7] John W. O’Malley, What Happened at Vatican II (Boston: Harvard University Press, 2007).
[8] Matthew Lamb and Matthew Levering (ed.),Vatican II: Renewal Within Tradition, (London: Oxford University Press, 2007).
[9] Danny E. Olinger, “A Primer on Vatican II” in Ordained Servant Online, http://opc.org/os.html?article_id=217#note1, retrieved April 1, 2014.
[10] Neuhaus, Op. Cit., p. 25.
[11] Ibid., 27.
[12] Pope Benedict XVI, “A Proper Hermeneutic for the Second Vatican Council,” pp. ix-x in Vatican II: Renewal Within Tradition.
[13] Ibid.
[14] See Edward Hahnenberg, A Concise Guide to the Documents of Vatican II (Cincinnati: St. Anthony’s Press), pp. 16, 26.
[15] Ibid., 29.
[16] See Strimple, “The Relationship Between Scripture and Tradition in Contemporary Roman Catholic Theology.”
[17] Hahnenberg, 40.
[18] Hahnenberg, 69.
[19] المجمع الفاتيكاني الثاني، جونية: منشورات المكتبة البولسية، 1992، ص543.
[20] المصدر نفسه.
[21] المصدر نفسه.
[22] Danny Olinger, Op. Cit.