Almanara Magazine

الكنيسة والإعلام : قصّة تباعد وتلاقي

كاتيا ريّا

مقدّمة

دخلت الكنيسة الكاثوليكية في العصر الحديث، عصر الإتّصالات والإعلام مع المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي عُقد من 1962 الى 1965. لم يتم تغطية حدث كنسي من ​​قبل الصحافة العالمية وشبكات الاتّصالات الدولية يومًاً كما حصل  في هذا المجمع. التغطية العالميّة اليوم لاستقالة البابا بنديكتوس السادس عشر وانتخاب البابا فرنسيس الأوّل تندرج في  هذا المنطق، إذ أصبحت الكنيسة موضع نقاش وسائل الإعلام.

ما هو هذا الجديد الذي أتى به المجمع الفاتيكاني الثاني في مجال الإعلام ؟ ما هو موقف الكنيسة المشجّع للتطوّر التقني ؟ كيف تؤثّر وسائل الإعلام على الأخلاقيّات التي تمسّ باحترام كرامة الإنسان ؟ هل دخلت الكنيسة في الثورة الرقميّة أم  ما زالت تراقب وتعظ ؟ للإجابة على هذه الأسئلة أردنا من خلال هذا المقال أن نعرض تاريخ علاقة الكنيسة بوسائل الإعلام قبل، أثناء وبعد المجمع الفاتيكاني الثاني، لنرى التقلّبات التي مرّت بها نظرة الكنيسة للإعلام ونموّها الإيجابي المستمرّ ولنقوم بعدها بتقييم هذا التطوّر انطلاقاً من حاجة المجتمع اليوم وانتظارات المؤمنين من الكنيسة.

من الحذر إلى الثقة

بدأ اهتمام الكنيسة بالوسائل الإعلاميّة مع البابا إنوسنت الثامن، عبر مرسوم “multiplices Inter” الذي يُعتبر أوّل وثيقة بابويّة عن الصحافة، ونُشِر في 17 تشرين الثاني 1487.

نظرت الكنيسة إلى الوسائل الإعلاميّة، في الفترة التي سبقت المجمع الفاتيكاني الثاني، بنظرة قلق وتخوّف وحذر. واعتبرت أنّ حريّة الصحافة تنتهك الأخلاقيّات والإيمان وتعزّز اللامبالاة الدينيّة. ففي رسالته Christianae Republicae Salus، التي صدرت في 25 تشرين الثاني 1766، عرض البابا كليمندوس الثالث عشر مخاطر المحتوى العقائدي والاخلاقي، وأعلن الحرب على الكتب لأنّها تشكّل خطرًا على إيمان المسيحيين قائلاً: ” إنّ صحّة المجتمع المسيحي تتطلّب منّا أن نكون يقظين أمام التراخيص الوقحة والرهيبة المعطاة للكتب يوميًّا بأعداد متزايدة، كي لا تسبّب بمزيد من الضرر.”

وكتب البابا غريغوريوس السادس عشر في رسالته البابويّة “النظر الثاقب” Mirari Vos)) في 15 آب ،1832 عن حريّة الصحافة معتبرًا أنّها الحريّة الأكثر ضررًا قائلاً: “هي حرّية شنيعة، لا ينفذ خوفنا واشمئزازنا منها، ونحن نرى بعض الأشخاص يجرؤون، وبكثير من الصخب والإلحاح، على طلبها ونشرها أينما كان”. ويضيف “منها تخرج كلّ أنواع اللّعنات التي تغطّي وجه الأرض والتي تجعل دموعنا تسيل[1]“.  ونشر البابا بيوس التاسع، في 8 كانون الأول 1864، لائحة باسم سيللابوس Syllabus (أي لائحة الأضاليل)، وهي وثيقة معارضة للتحديث، دانت الكثير من الحريّات التي كانت قد دخلت في العالم الحديث ومنها حريّة الصحافة.

تطرّق البابا بيوس الحادي عشر إلى موضوع السينما في رسالته “السهر الدائم” Vigilante Cura، الصادرة في 29 حزيران 1936، حيث عرض ما يمكن أن تقدّمه المشاهد من خير وشرّ، معتبرًا إيّاها منبعًا للأعمال اللاأخلاقيّة، قائلاً: “إنّ هذا الفنّ وهذه الصناعة تشردان بخطوات كبيرة خارج الخطّ المستقيم، وتعرض لكل جمهورها الرذيلة والشرّ والخطيئة”.

مع البابا بيوس الثاني عشر، بدأنا نشهد مقاربة إيجابيّة لوسائل الإعلام وخاصّة السينما من خلال الرسالة الحبريّة “التجديد المدهش” Miranda Prorsus، التي نشرت في 8 أيلول 1957. يمكن اعتبار هذه الرسالة من أهمّ وأروع وثائق السلطة التعليميّة في الكنيسة خلال هذه الفترة بفضل تحليلها العميق. أكّد من خلالها البابا على أهميّة وسائل الاتّصال “كعطايا من الله”، واعتبر البث الإذاعي والتلفزيوني كأدوات من لدن الله بغية بناء مجتمع أفضل ، قائلاً: “إنّ التقدّم التقنيّ الهائل الذي يتباهى به عصرنا اليوم هو بالتأكيد من ثمار عبقريّة وعمل الإنسان، ولكنّها في الأصل، هبة من الله خالقنا،  الذي منه ينبع كلّ عمل صالح. فهو لم يكتف في الواقع ببعث الخليقة إنّما ما زال يحفظها ويصونها. بعض هذه التقنيّات يساهم في مضاعفة قوّة الإنسان الجسديّة وموارده، وبعضها يساهم في تطوير ظروف عيشه، وأخرى أيضًا – وهي تتعلّق بشكل وثيق بحياة الروح فيه – تؤثّر في الجمهور بشكل مباشر من خلال التعبير الفنّي الخاص بالصورة والصوت، وتضع في متناولهم معلومات وأفكارًا وتعليمًا بسهولة كبيرة، من شأنها أن تغذّي عقولهم وأرواحهم حتى في ساعات الاستجمام والراحة”[2].

من ناحية أخرى، أظهر تخوّفًا على الأخلاقيّات بحيث أكّد أنّه لا ينبغي لهذه الوسائل أن تُستَخدَم في نشر الشرّ الأخلاقي ودعا السلطة المدنيّة أن تسهر عليها من أجل حماية الأخلاق العامّة.

تتابعت الخطوات الإيجابيّة قبيل المجمع الفاتيكانيّ الثاني، فأعلن البابا بيّوس الثاني عشر إنشاء لجنة بابويّة خاصّة بالسينما والراديو والتلفزيون، ثمّ ثبّتها البابا يوحنّا الثالث والعشرون عام 1959 كلجنة دائمة في الفاتيكان، وبعد المجمع، حوّلها البابا بولس السادس عام 1964 إلى لجنة حبريّة للإعلام الاجتماعيّ، وأنشأ دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي. ثمّ تحوّلت اللجنة، مع البابا يوحنّا بولس الثاني، إلى مجلس حبريّ للإعلام الاجتماعيّ عام 1989.

في نهاية هذا العرض للمرحلة التي سبقت المجمع الفاتيكانيّ الثاني، نرى أن الكنيسة، في علاقتها مع عالم الإعلام، عرفت تطوّرًا كبيرًا، إذ انتقلت من الشّك المنهجي الممثّل بالتحذير والتوتّر إلى التمييز بين الإعلام الصالح والإعلام السيّء، ثمّ إلى السهر والقلق الأخلاقي، والحذر، وصولاً إلى الإعتراف بدور الإعلام في المجتمع، وجاء المجمع الفاتيكانيّ الثاني ليؤكّد على هذا الدور الرئيسي في رسالة الكنيسة التبشيريّة. في الوقت عينه، نرى أنّ نظرة تعليم الكنيسة في وسائل الإعلام قبل المجمع الفاتيكاني الثاني تفتقر الى أمرين أساسيين. الأوّل، هو أنّها لم ترَ البعد الثقافي لوسائل الإعلام والثانية، أنّها تفتقر لوجود أخلاقيّات مسيحيّة خاصّة بوسائل التواصل الإجتماعي أي لرؤية مسيحيّة من قبل الكنيسة حول وسائل الإعلام، والمحترفين في هذا المجال، و صورة الإنسان التي ينبغي أن تنعكس من خلاله.

إنفتاح متجدّد في المجمع الفاتيكاني الثاني

كرّس المجمع الفاتيكانيّ الثاني مرسومًا لهذه الوسائل “Inter Mirifica”  (بين الاكتشافات الرائعة)، صدر في 4 كانون الأول 1963. أظهر من خلاله اهتمام الكنيسة الإيجابي بوسائل التواصل الإجتماعي وادراكها لأهميّة استعمالها، قتقول في مقدّمتها: “أحسّ الآباء بتأثير وسائل الإعلام القوي والفعّال في المجتمع البشري، شرط أن تُستَخدَم وفق الشرائع الأدبيّة، فعمدوا إلى تدارس إمكان الإفادة منها، واستعمالها في نشر الحقيقة، وإيصال البشارة إلى كلّ إنسان على وجه هذه البسيطة”.

ينقسم هذا المرسوم إلى مقدّمة وفصلين وخاتمة. تعترف الكنيسة  في المقدّمة أنّ وسائل الإعلام  الإجتماعي هي إكتشافات تقنيّة عجيبة “استلّتها عبقريّة الإنسان من الخلق، بعضد من الله”(§1).  ثمّ تقول إنّ هذه الوسائل ممكن أن تقدّم خدمات جلّى للإنسان إذا ما استُخدِمَت استخدامًا صحيحًا. ومن جهة أخرى، تقول إنّ “بإمكان الناس أن يستخدموها عكس تصميم الخالق الإلهي ويحوّلوها إلى هلاكهم بالذات” (§2).

الفصل الأوّل من هذا المرسوم  مخصّص لتعليم الكنيسة فيؤكّد على حقّ وواجب الكنيسة في استخدام وسائل الإعلام  الإجتماعي لتعلن رسالة الخلاص ولتعليم البشر حسن استخدام هذه الوسائل (§ 3). بعد التأكيد على مسؤوليّة المكرّسين والعلمانيين، تقوم بمعالجة المشاكل الأخلاقيّة: ضرورة تطبيق المبادئ الأخلاقيّة (§ 4) والحقّ في الحصول على معلومات صحيحة وصادقة (§ 5) وأولويّة الأخلاق على الفنّ (§ 6) وعرض الشرّ الأدبي الذي عليه أن يتماشى تمامًا مع الآداب خاصة (§ 7). ثمّ يعالج المشاكل الاجتماعيّة : أهميّة تشكيل الرأي العام (§ 8) وواجبات المنتفعين (§ 9) وواجبات الشبّان والأهلين (§ 10) وواجبات المنتجين (§ 11) وواجبات السلطات العامّة (§ 12).

الفصل الثاني، على عكس الأوّل الذي عالج موضوع تعليم الكنيسة، يركّز على العمل الرعوي. يمكن تقسيمه إلى قسمين رئيسيين. يتناول الجزء الأوّل بعض الإرشادات الرعويّة: إدخال وسائل التواصل الاجتماعيّة في النشاط الرعوي للكنيسة (§ 13) وتحديد التوجيهات الخاصّة بالصحافة والسينما والإذاعة والتلفزيون والمسرح (§ 14) وتنشئة متخصّصين من الكهنة والعلمانيين (§ 15) وتنشئة الجميع، وبخاصّة الشباب (§ 16)، ودعوة الجماعات والأفراد لدعم هذا النشاط ماديًّا (§ 17) واليوم السنوي الذي أطلقه الأساقفة (§ 18). أمّا الجزء الثاني فيتكوّن من معايير الكرسي الرسولي (§ 19) وواجبات الأساقفة في مجال التواصل الاجتماعي (§ 20) وضرورة تأسيس مراكز وطنيّة للصحافة والسينما والراديو والتلفزيون (§ 21) وتعاون المنظّمات الدوليّة (§ 22).

باختصار، فإنّ هذا المرسوم قد حثّ على استعمال وسائل الإعلام الاجتماعيّ في العمل الرعوي وألزم السلطات العامّة بواجب الدفاع عن الحريّة الإعلاميّة الحقيقيّة والصحيحة وحمايتها، كما أمر بإعداد كهنة ورهبان وعلمانيّين لاكتساب مهارة حقيقيّة في استعمال هذه الوسائل لغايات رسوليّة، وبنشر المعاهد والمؤسّسات لتنشئة الصحافيّين وصانعي الأفلام ومعدّي البرامج الإذاعيّة والتلفزيونيّة تنشئة مناسبة مشبعة بالروح المسيحيّة، وبتأسيس مراكز وطنيّة كاثوليكيّة لوسائل الإعلام الاجتماعيّ. كما أوصى جميع أبرشيّات العالم بتكريس يوم سنويّ عالميّ لدعم الإعلام الاجتماعيّ. بالتالي، أكدّت الكنيسة على دور وسائل التواصل الإجتماعي ولكنّها بقيت بالنسبة إليها وسائل، يجب الحذر منها ومن طريقة استعمالها. هذه الوثيقة لم تكن كافية لأنّها لم تحظَ بالوقت الكافي لدراستها، والتعمّق فيها، إذ عُرِضَت على الآباء في خلال الدورة الأولى، للترويح عن النفس، بعد الجدال اللاهوتي الحادّ حول الوحي الإلهي. فاستخفّ بعض الأساقفة بمضمونها، وتوقّعوا الإسراع في الموافقة عليها وإقرارها. لذلك كان يجب انتظار الإرشاد الرعوي “”Communio et Progressio (إتّحاد وتقدّم) الذي أتى ليكمّل المسار، حيث ترى الكنيسة في هذه الوسائل طريقة لتنمية الإنسان.

التغطية الإعلاميّة للمجمع

استحوذ المجمع الفاتيكانيّ الثاني على اهتمام الصحافة بشكل غير مسبوق فكُتبت صفحات عنه وأرسلت كلّ صحيفة ومجلّة ملحقًا صحفيًّا من قِبَلها لمتابعة مستجدّات المجمع طول مدّة انعقاده أي على مدى ثلاث سنوات. وعمل بعض الصحفيين على التقرّب من بعض الأساقفة للحصول على سَبَق صحفي وأخبار خاصّة. نذكر من الصحفيين الذي تابعوا قضايا المجمع: رينييه لوراتين من “لو فيغارو” وهنري فيسكي من “لوموند” وروبيرت سيرو من “باري ماتش” وأنطوان فنجر من “لاكروا”. هذا الأخير كان مقرّبًا من الأسقف جان فيللو.

كما قد تمّ للمرّة الأولى نقل مباشر للإفتتاح الإحتفالي للدورة الأولى العلنيّة للمجمع في 11 تشرين الأوّل 1962، على شاشة التلفزيون إلى العالم كلّه بواسطة القمر الصناعي الخاصّ للإتصالات “تلستار”، الذي كان قد أُطلِق قبل ثلاثة أشهر.

غير أنّ الصحف، وفي نقلها لأخبار المجمع، اعتمدت تحليلاً سياسيًّا استغلّ الخلاف بين الأقليّة المحافظة والأكثريّة التقدميّة. بالتالي اختُصر المجمع على صراع سياسي على السلطة بين التيارات المختلفة داخل الكنيسة. وركّزت ودعمت الصحافة الإقتراحات المتعلّقة باللامركزيّة الإداريّة للسلطة الرومانيّة، وارتقاء دور العلمانيين، وتحديث الليتورجيا (التخلّي عن اللغة اللاتينية)، والحوار مع الديانات الأخرى.

من خلال هذا المجمع، اقتحمت الكنيسة إذًا المشهد الإعلامي بشكل كبير، وأظهرت اهتمامها في هذا المجال تحت أشكال متنوّعة: رسائل حبريّة وإرشادات رسوليّة وتعاليم راعويّة ورسائل ومؤتمرات، وأوجدت “المجلس الحبري لوسائل الإعلام الإجتماعيّة” بهدف تجسيد نظرتها ورؤيتها فيما يختصّ بالإعلام. وتابع العالم المسيحي، في أربعة أقطار العالم، أخبار ونقاشات المجمع من خلال الصحافة. غير أنّ المجمع لم يقتصر فقط على الصراع بين “التقدميين” و”المحافظين”، بل كان مجمع الإيمان كما وصفه البابا بنديكتوس السادس عشر عشيّة استقالته أمام كهنة روما في 14 شباط 2013. إذ شدّد البابا المستقيل على أنّ هذا المجمع كان إعلاميًّا أكثر منه مجمع الآباء، ذلك لأنّ الصحافة طرحت المواضيع الدينيّة كما تُطرح المواضيع السياسيّة.   

تطوّر في الموقف واللاهوت

عقب هذا البيان المجمعي “Inter Mirifica” سلسلة من التوجيهات الرعويّة والوثائق في كيفيّة التعاطي مع وسائل الإعلام الاجتماعيّ. نذكر منها الإرشاد الرعوي “[3]”Communio et Progressio (إتّحاد وتقدّم) للبابا بولس السادس سنة 1971 الذي جاء لتطبيق “Inter Mirifica” استجابة لتفويض خاصّ من المجمع الفاتيكانيّ الثاني. تطلّبت كتابته أكثر من ستّ سنوات بمشاركة أخصائيين وخبراء من كافّة أنحاء العالم. يُعتبر أهمّ نص مرجع للكنيسة الكاثوليكيّة في موضوع الإعلام بحيث تعمّق في الجانب العقائدي ووضع بذور لاهوت إعلامي أساسه التواصل بين أقانيم الثالوث: “بحسب الإيمان المسيحي، إنّ الإتّحاد بين البشر كغاية أساسيّة لكلّ تواصل، يجد جذوره وصورته المسبقة، في السرّ الرئيس لمجتمع الله الأبديّ، آب، إبن وروح قدس” (§ 8).

من أهمّ ما جاء في هذه الوثيقة أنّ الكنيسة تُعِدّ وسائل الإعلام الاجتماعيّ “عطايا من الله” وتشجّع على استعمالها بالتعليم والثقافة : إنّ “الكنيسة تعتبر وسائل الإعلام هذه “عطايا من الله” التي وفقًا لتخطيط عنايته الإلهيّة، تجمع البشر برباط الأخوّة وبذلك تساعدهم على التعاون مع خطّته لخلاصهم”(§ 5). واعتبرت الكنيسة أنّ المسيحي لا يستطيع أن ” يحسب نفسه وفيًّا لوصيّة المسيح، إن هو أهمل الاستعانة بهذه الوسائل لإيصال العقيدة والتعاليم الإنجيليّة إلى أكبر عدد ممكن من الناس” (§ 126). وشجّعت المؤمنين على إبداء رأيهم حول الأمور المتعلّقة بخير الكنيسة لأنّها “تحتاج رأيًا عامًّا من أجل الإستمرار بالأخذ والعطاء بين أفرادها، كونها جماعة حيّة”(§ 26). وعلى الرغم من أنّ حقائق الإيمان “لا تترك مجالاً للتفسير الاستبدادي، لكن هناك “مجال واسع يستطيع فيه أفراد الكنيسة التعبير عن وجهات نظرهم.” (§ 27)

مع هذا الإرشاد الرعوي، بدأت ترى الكنيسة في وسائل الإعلام عنصرًا أساسيًّا لتطوّر الإنسان، ولم تعد فقط وسائل يجب الإستعانة بها لنقل البشارة. كما بدأت تدافع عن حريّة الرأي العام والحقّ بالإستعلام وبنقل المعرفة، وتشجّع على استخدام وسائل الإعلام في التعليم والثقافة.  

من أهمّ ما كُتِب أيضًا حول موضوع الإعلام، الإرشاد الرعوي “Aetatis Novae” (العصر الحديث)[4] للبابا يوحنا بولس الثاني في 22 شباط 1992، أو عشرون سنة بعد “اتّحاد وتقدّم”. نرى فيه أنّ الكنيسة تذهب أبعد من مجرّد الرؤية الراعويّة لوسائل الإعلام لتطال الأوجه الإجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة والإقتصاديّة للواقع التاريخي المعاصر بمحاولة منها لخلق حوار مع العالم الجديد. “Aetatis Novae” تشجّع وسائل الإعلام على تولّي دورها الإجتماعي من خلال خمسة محاور: 1) وسائل الإعلام في خدمة الأشخاص والحضارة؛ 2) وسائل الإعلام في خدمة الحوار مع العالم المعاصر؛ 3) وسائل الإعلام في خدمة الجماعة البشريّة والتقدّم الإجتماعيّ؛ 4) وسائل الإعلام في خدمة المشاركة الكنسيّة؛ 5) وسائل الإعلام في خدمة الكرازة الجديدة.

ويشرح هذا الإرشاد أهمّ تحدّيات الإنسان في الألفيّة الثالثة بشأن وسائل الإعلام قائلاً : “إنّ تداخل وسائل الإعلام المتزايد في صميم الحياة اليوميّة يؤثر على مفهوم معنى الحياة. وإنّ لوسائل الإعلام القدرة على أن تؤثّر ليس فقط على طريقة التفكير بل على مادّة الفكر أيضًا. فالحقيقة عند الكثيرين تتّفق مع ما تحدّده وسائل الإعلام. وما لا تقرّه وسائل الإعلام صراحة يبدو كأنّه لا معنى له. وهكذا يمكن أن يُفرَض الصمت على صوت الإنجيل من دون أن يخنقه تمامًا”(§ 4). لذا تحثّ على تنشئة المسيحيين على حسّ النقد الجيّد كيما تتكوّن لديهم، أقلّه، نظرة شاملة على الأثر الذي تمارسه وسائل الإعلام الجديدة على الأفراد والمجتمع.

وأصدر المجلس الحبريّ للإعلام الاجتماعيّ وثائق عديدة في أخلاقيّات وسائل الإعلام وآداب الإعلان وفي أخلاقيّات الإنترنت وقواعد التعاون المسكونيّ والتعاون بين الأديان على الصعيد الإعلاميّ. نذكر منها : “أخلاقيّات الإعلان” في 22 شباط 1997، “أخلاقيّات الإعلام الإجتماعي” في 2 حزيران 2000، و”أخلاقيّات الإنترنت” في 22 شباط 2002. إضافة إلى “الكنيسة والإنترنت” الصادرة في 22 شباط 2002، والتي تقارب بدورها البعد الأخلاقي للإنترنت. هذه الوثيقة هي مستقلّة عن سابقتها ولكنّها أحيانًا مرتبطة ومتداخلة بها بحيث تتطرّق الوثيقتان إلى ضرورة استعمال الشبكة العنكبوتيّة في حياة الكنيسة ودورها. ودرج البابوات على إصدار رسائل حبريّة سنويّة في مناسبة اليوم العالمي للإعلام الاجتماعيّ الذي يُنَظّم عادة يوم الأحد السابق لعيد العنصرة في معظم أنحاء العالم.

تقدّمت وسائل الإعلام الفاتيكانيّة عبر التاريخ على الشكل الآتي : من الطباعة والمنشورات في القرن السادس عشر إلى الاوسيرفاتوري رومانو سنة 1861. سنة 1896 نشأت مكتبة الأفلام الفاتيكانيّة، مع المكرّم الطوباوي يوحنّا الثالث والعشرون والتي جمعت ورتّبت موارد مصوّرة، وسنة 1931 تأسّست إذاعة الفاتيكان ومركز التلفزة الفاتيكاني سنة 1983، وبدأ ظهور المواقع الإلكترونيّة في التسعينيّات. كما أعلنت الكنيسة القدّيسة كلارا شفيعة لأهل الإعلام التلفزيونيّ، والقدّيس فرنسيس الساليزيانيّ شفيعًا لأهل الصحافة، والملاك جبرائيل شفيعًا لأهل الإعلام الإذاعيّ.

فرص وتحدّيات : الإعلام سيف ذو حدّين

لتقدّم وسائل الإتّصال فوائد وحسنات مهمّة للإنسان. فوثيقة “الكنيسة والإنترنت” تعرض هذه الفوائد من نظرة دينيّة، فتقول إنّ هذه الوسائل “تنقل الأخبار والمعلومات حول النشاطات والأفكار والشخصيّات الدينيّة. وهي بمثابة ناقلٍ للتبشير والتعليم الديني. وهي تؤمّن دون انقطاعٍ الإلهام والتشجيع وفرص العبادة للأشخاص الذين يلازمون منزلهم وعملهم. ولكنّ فوق كلّ ذلك، يتميّز الإنترنت بفوائد غير مألوفة إلى حدٍّ ما. إذ إنّها تقدّم للناس الوصول المباشر والسريع إلى المراجع الدينيّة : مكتبات كبيرة ومتاحف وأماكن عبادة ومستندات جامعيّة للسلطة التعليميّة وكتابات آباء الكنيسة والحكم الدينيّة القديمة. وللإنترنت قدرات ملحوظة للتغلّب على المسافة والإنعزال، وذلك عبر إدخال الناس في اتّصال مع الأشخاص الذين يشبهونهم في المزاج والتفكير، ذوي الإرادة القويّة، المشتركين في جماعات الإيمان الحقيقيّة لتشجيع ودعم بعضهم…. كما وأنّها تزوّد الكنيسة بوسيلة للتواصل مع جماعات خاصة يصعب الوصول إليها، كالشباب والبالغين، المسنّين والمقعدين والأشخاص الذين يعيشون في مناطق بعيدة وأفراد جماعات دينيّة أخرى”.

لوسائل الإعلام أيضًا دور ومسؤوليّة وطنية في إحلال السلام كونها تؤثّر بشكل مباشر في الحياة الإجتماعيّة والسياسيّة. هذا ما أكّده البابا يوحنا بولس الثاني خلال صلاة التبشير الملائكي في الأوّل من حزيران 2003، قائلاً: “إنّه من الضروري أكثر من أي وقت مضى التفكير في وسائل الإعلام في بناء عالم مسالم، مبنيّ على الحقيقة والعدالة والمحبّة والحريّة. في الواقع، إنّ وسائل الإعلام الاجتماعية تستطيع أن تساهم في بناء السلام من خلال هدم أسوار عدم الثقة، وتشجيع التفاهم والاحترام المتبادل، وأيضًا في تعزيز المصالحة والرحمة”.

تكون الصحافة مسؤولة حين تحترم المعايير المهنيّة والاخلاقيّة وتلتزم المسؤوليّة الوطنيّة في نقل الخبر، وتلعب دور المهدئ وليس المحرّض، ولكن ممكن أن تكون أيضًا أداة هدم وإشعال فتنة بين أبناء الوطن الواحد عبر الافراط في الإثارة وتشويه الحقائق ونشر أخبار مغلوطة وغير دقيقة وتفضيل السبق الصحافي على اعتماد الدقّة والموضوعيّة في نقل الخبر. غير أنّ المحافظة على الاستقرار العام في البلاد أهمّ بكثير من سعي أي مؤسّسة إعلاميّة إلى زيادة نسبة مشاهديها، وبالتالي ارتفاع عائدات إعلاناتها. من غير المقبول أن يكون الإعلام آلة بروباغندا سياسيّة او آلة تجاريّة تبغي الربح بأي ثمن.

للإعلام رسالة ودور كبير في خدمة كرامة الإنسان بحيث تعتبر الكنيسة أنّ عمليّة تقييم وسائل الإعلام ترتكز على هذا المبدأ والأساس. فلا يجوز أن يدوس الإعلام على كلّ القيم الانسانيّة والمهنيّة، إن في نقل الصورة أو في نشر المعلومات، وأن يندفع في سباق محموم ومتعثّر ومتسرّع بحثًا عن السبق الصحفي خصوصًا عند الحوادث الخطيرة ذات الطابع الأمني والكوارث الطبيعيّة. وقد طلبت الكنيسة أن يكون الشخص والجماعة البشريّة هما الهدف النهائي والمعيار لكل عمليّة إعلاميّة. كما طالبت بضرورة المحافظة على الإنسان وكرامته وحقوقه وحرّيته. لقد شرح ذلك يوحنّا بولس الثاني بوضوح عندما قال في رسالته لليوم العالميّ الثامن والثلاثين لوسائل الإعلام، سنة 2004، بعنوان “وسائل الإعلام الاجتماعية في الأسرة: خطر وثروة”، قائلاً: “إنّ عمليّة الإعلام، في كلّ أشكالها، يجب أن تستوحي على الدوام معيار أخلاقيّة احترام الحقيقة واحترام كرامة الشخص البشريّ”.

من هنا، أهميّة أن يتقيّد الإعلام بأخلاقيّات المهنة وأهداف المصلحة العامّة من خلال تطبيق شرعة مبادئ اختصرتها  لور سليمان مديرة الوكالة الوطنيّة للإعلام في لبنان، بأربع نقاط، ضمن محاضرة ألقتها بعنوان “صحافة السلام” سنة 2013، في قصر “الاونيسكو” في بيروت، في إطار مهرجان السلام تحت شعار “عيشوا معنا معنى السلام”. المبادئ هي التالية :

  1. “الإحجام عن نشر كلّ ما يحضّ على العنف والكراهية ويدعو إلى الانتقام ويقيم تمييزًا بين المواطنين على أساس انتماءاتهم، والعمل على تنقية الإعلام من لغة الشجار والتحقير والتشهير والتهجّم والبذاءة والتهكّم المسيء إلى كرامات الأشخاص والجماعات.
  2. محاذرة الانزلاق من النقد إلى الإهانة، ومن المعارضة إلى التهديد ومن المساءلة إلى القدح والذمّ ومن اختلاف الرأي إلى التخوين.
  3. تجنّب الإفراط في الإثارة وما تحتمله من مبالغة وتشويه وتحوير في سرد الوقائع ونقل المعلومات، وهو ما يساهم في التوتير والتعبئة وتعميق الانقسامات.
  4. 4-     التشديد على أنّ السرعة في نقل الخبر، في ظلّ المنافسة الشديدة، لا تبرّر التسرّع في الاستغناء عن المصادر الموثوق بها وفي عدم التحقّق من المصادر وصدقيّة هذه المصادر.”

كذلك على المستوى الديني، هناك خطر الوقوع في الوهم بأنّ المقدّسات أو الدين هما محدودان ب”كبسة زرّ”. فاليوم، للتعرّف على الله، نفتح google ونطرح السؤال، فتأتينا ملايين الأجوبة. فأصبح الإنترنت مكانًا للحصول على إجابات، يمكن مقارنته بنوع من سوبر ماركت كبير للدين. لذا من الوهم اعتبار المقدّسات “للإستهلاك” في وقت الحاجة.

والخطر يكمن أيضًا في أن تصبح الكنيسة مكاناً لل”إتّصال” connexion بدلاً من “التواصل” communion. الاتّصال في حد ذاته ليس كافيًا لجعل الإنترنت مكانًا مثاليًّا للتبادل البشري. فالكنيسة هي جماعة وليست شبكة إتّصال. وأخيرًا، خطر اعتبار الإيمان فقط “تناقل”، في حين هو مرتبط بالأعمال والحياة الشخصيّة الصادقة. المضمون المشترك هو دائمًا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالشخص الذي يعرضه بينما شبكات التواصل هي “محايدة”. كتب البابا بنديكتوس السادس عشر في الرسالة التي  وجّهها مؤخّرًا لليوم العالمي للاتّصالات 45، “إنّ الإنسان عندما يتبادل المعلومات، فهو يتقاسم نفسه ونظرته للعالم وآماله ومثله”. دور الكنيسة لا يقوم فقط على “بث” المعلومات إنّما على “الشهادة” في إطار أوسع من العلاقات بين المؤمنين من كلّ الأديان وغير المؤمنين والناس من جميع الثقافات.

قراءة نقديّة لعلاقة الكنيسة بوسائل الإعلام

إنّ اهتمام الكنيسة بالإعلام هو أقدم من المجمع الفاتيكاني الثاني. تحوّل مع الوقت من الخوف والحذر والدفاعيّة والقلق الأخلاقي إلى تزاوج يسوده الثقة والتعاون بدأً من المجمع الذي ركّز على نقطتين أساسيتين هما : خضوع الإعلام للشِرَع الأدبيّة، والتبشير من خلال وسائل الإتّصال الإجتماعي. أتى الإرشاد الرعوي “إتّحاد وتقدّم” ليتخطّى هذه النظرة الماديّة للإعلام والإرتقاء به الى رؤية مسيحيّة حول وسائل الإتّصال الإجتماعي والعاملين في هذا المجال وهيكليّته وصورة الإنسان التي يجب على الإعلام إظهارها. بعد عشرين سنة، ومع الحفاظ على نفس خطّ “إتّحاد وتقدّم”، أصدر المجلس الحبري لوسائل الإعلام :”إرشاد راعويّ – عهد جديد” tatis Novæ)Æ(، في 22 شباط 1992، الذي قاد عمل الكنيسة في عالم الإعلام وشدّد على ضرورة وضع خطّة اعلاميّة ملحّة بهدف رعويّ في كل أبرشيّة.

وأظهرت الكنيسة، على مرّ الأيام، تجديدًا في تفكيرها وتعليماتها حول الاتّصالات الاجتماعيّة من خلال الوثائق التي ينشرها المجلس الحبري للاتّصالات الاجتماعيّة وسلسلة الرسائل في اليوم السنوي للاتّصالات الاجتماعيّة. وعرفت مع البابا يوحنا بولس الثاني إنطلاقة مهمّة. فكان هو اعلامي بامتياز. ابتكر طرقًا جديدة، ذاهبًا عكس التيّار، الأمر الذي تطلّب تجديدًا في ذهنيّة الكنيسة من حيث تصوّرها للأمور وارشاداتها، مردّدًا شعاره “لا تخافوا” وتحديدًا “لا تخافوا من التطوّر التقني”. وتميّز هذا البابا بربطه بين الإعلام والتواصل والإيمان معتبرًا أنّ حاضر حضارتنا ومستقبلها مرتبطين بهذه العلاقة الثلاثيّة.

لا يكفي اليوم أن تُصدِر الكنيسة نصوصًا حول دور الإعلام وأهميّته، فأمام هذه القوّة الجديدة، على الكنيسة أن تتفاعل وتعي حجم هذا التحدّي وتستفيد من هذه القوّة في رسالتها. لا بدّ أن تكون في قلب هذه الثورة لئلاّ تستبعد منها. كتب البابا بولس السادس عام 1967: “يمتلك الكنيسة الشعور بالذنب أمام الربّ إذا هي لم تستخدم هذه الوسائل الإعلاميّة الفاعلة التي لا يزال العقل البشري يحسّنها كلّ يوم”. فالتواصل هو في صلب المسيحيّة إذ تعلّمنا العقيدة أنّ الله ثالوث، ثلاثة أقانيم متّحدة بالحب وتتواصل فيما بينها. ورسالة الكنيسة هي نقل البشرى السارّة للإنسان أينما كان. الإنسان المعاصر يقضي معظم وقته في القراءة، والاستماع الى الراديو ومشاهدة التلفزيون أو تصفّح الانترنت، وعلى الكنيسة أن تلاقيه عبر هذه الوسائل التي لا يمكن اليوم الفرار منها.

إنّ الازدهار الجيّد لحضور الكنيسة الواسع على شبكة الإنترنت ناتج عن إبداع ومبادرات القواعد الشعبيّة أكثر ممّا هو ناتج عن استراتيجيّة مفروضة من سلطة عليا. فالكنيسة تفتقر اليوم إلى خطّة عمل تضعها عن طريق دراسة معمّقة وشاملة لواقع الإعلام المسيحي، مبيّنة نقاط ضعفه وقوّته. فبالوقت عينه، الكنيسة محاطة بالعديد من الشبّان الأكفّاء الذين لا بدّ من تشجيعهم والإصغاء إلى اقتراحاتهم من أجل التقدّم بإبداع في عالم الإعلام الجديد. ومطلوب اليوم من الكنيسة أن تحضّر أخصّائيين في مجال الإعلام يعملون بمهنيّة عالية من خلال تنشئة الكهنة، الإكليريكيين والمؤمنين لكي يحسنوا استعمال وسائل الإتّصال بما يتلاءم وتحدّيات اليوم، وتحدّيات هذه الوسائل. مطلوب من أساقفة الأبرشيات وضع برامج راعويّة لهذه الوسائل على المستوى الوطني والأبرشي.

تستطيع الكنيسة أن تستفيد من كلّ الوسائل الإعلاميّة كونها كلّها مهمّة حتّى التقليديّة منها. غالبًا ما تستخدم الأجيال الصاعدة الوسائل التكنولوجيّة الجديدة كالإنترنت، الآيبود أو الهواتف الجوالة وغيرها، إلا أنّ آخرين يحافظون على تعلّقهم بعاداتهم. ومن هنا يجب الاّ نتخلّى عن مجموعة مهمّة من القرّاء والمستمعين. فعلى سبيل المثال، البرنامج التشيكي في إذاعة الفاتيكان له صفحة على الإنترنت تحظى بزيارة كثيفة من قبل العالم الناطق بالتشيكية، إذ يصل عدد الزيارات إلى 300000 سنوياً، أي حوالي ألف زائر يوميًّا.

ومهمّ جدًّا أن لا يقتصر الإعلام المسيحي على الأمور الدينيّة فيصبح كعظة يوم الأحد أو درس في التعليم المسيحي. لا بدّ من طرح الأمور الإجتماعيّة ومعالجة قضايا العدالة بجرأة وشفافية. يقول البابا يوحنّا بولس الثاني إنّ في “قدرة الإعلام، ومن واجبه، تعزيز العدالة والتضامن، فينبئ بالأحداث على نحو دقيق وموافق للحقيقة، محلّلاً الحالات والقضايا بعناية، ومفسحًا في المجال أمام الآراء المتنوّعة”. هذا هو دور الكنيسة “النبوي” الذي يقضي من الإعلام المسيحي أن يتكلّم بحريّة وواقعيّة على أساس من المحبّة والحقيقة ويتلاءم في طرحه وخطابه ومضمونه المتغيّرات السريعة والمتواصلة في مجتمعنا وفي طريقة عيش أهل المنطقة التي تطغى عليها تغييرات عدّة.

البابا فرنسيس، ظاهرة إعلاميّة

يتابع اليوم البابا فرنسيس مسيرة الكنيسة قُدُمًا ليصبح الشخصيّة الأكثر تأثيرًا في الإعلام حتّى في الصين، إذ انتخب من بين العشرة أشخاص الأكثر شعبيّة في 15 كانون الأوّل 2013 واحتلّ المركز الثالث. كما تمّ انتخابه شحصيّة العام 2013، بحسب مجلّة تايم الأمريكيّة وهو البابا الثالث الذي يحظى بهذا اللقب بعد البابا يوحنّا الثالث والعشرين في العام 1962، والبابا يوحنا بولس الثاني في العام 1994. اعتبرت صحيفة الجارديان الفرنسية أنّ وجه البابا فرنسيس «غطّى أغلفة الأغلبيّة الساحقة من صحف العالم».

يذكر أن بعد أن تمّ وقف الحساب على موقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت “تويتر” بعد أن استقال البابا بنديكتس السادس عشر في شباط 2013، بحيث يمكن أن يقرّر خليفته ما إذا كان يريد الاستمرار في التغريد تحت الحساب نفسه. أعيد فتح حساب الفاتيكان على “تويتر” فورًا بعد اختيار البابا فرانسيس الأوّل رئيسًا للكنيسة الكاثوليكيّة. نذكر أنّ البابا بنديكتس فتح الحساب على “تويتر” في كانون الأوّل 2013 وسرعان ما جذب أكثر من 3 ملايين زائر. اليوم، هناك 10 ملايين شخص يتابع البابا فرنسيس على هذا الموقع.  واحتلّ حدث انتخابه المركز الثاني بأكثر التغريدات على موقع “تويتر” في تاريخ الموقع، بمعدّل 137.000 تغريدة في الدقيقة.

وفي رسالته ليوم الاتّصالات العالمي للكنائس الكاثوليكيّة الصادرة في 23 كانون الثاني 2014، امتدح الإمكانيّات الواسعة التي يقدّمها الإنترنت للمؤمنين في مجالَي “التعارف والتضامن”، واصفًا ايّاها ب”نعمة من الله”. ودعا الكاثوليك ليكونو من “المواطنين الرقميين” الإيجابيين في استعمالهم ­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­لشبكة الإنترنت للتضامن في ما بينهم. وأكّد أنّ على الكنيسة استعمال الشبكة العنكبوتيّة “لتقدّم للإنسان الجريح” عبر الطريق الرقمي “الزيت والنبيذ”. فيكون تواصلنا كالزيت المعطّر للألم والنبيذ الطيّب للفرح.

لا شكّ أنّ اهتمام الإعلام بشخصيّة البابا فرنسيس هو نتيجة لإتّباعه طريقة يسوع بالتبشير. بمواقفه وتصرّفاته، كان يسوع إعلاميًّا بامتياز. كان دائمًا محاطًا بالجماهير، يصغون إليه ويتبعونه. فهو لم يبنِ منزله على شاطئ البحر الميت ولكن في مدينة كفرناحوم على شاطئ بحيرة طبرية، مدينة صيّادي السمك، موقعًا استراتيجيًا للقاء العشّارين والقائد الروماني. لم يرفض يومًا دعوة للعشاء. خالط “النجس”، والمرضى والمحتضرين والخطأة وأولئك الذين يعيشون على هامش المجتمع. وكان صديق الخطأة والبائسين. وكان منهجه عدم الإدانة، ودعوتهم لتبنّي نمط حياة أفضل. إنّه يعلّمنا أنّه بوجودنا مع الناس يمكننا أن نساعد ونشفي ونبلسم الإنسانيّة المجروحة. يتكلم بثقة، لا غاية شخصيّة له، ولا مطامع ولا خلفيّات. يعمل بتجرّد وبمحبّة لا متناهية مع الناس وللناس.

بدوره، البابا فرسيس الأوّل  انتقد علنًا “البذخ” في الكنيسة، فحضّ المسؤولين على ارتداء ملابس أكثر تواضعًا وأمر أسقف ألمانيا بأن يشرح كيف صرف ثلاثة ملايين دولار على فناء من الرخام. خلال لقاء عام، دعا الفتى البرتو دي توليو، البالغ من العمر 17 عامًا ويعاني من أعراض متلازمة “التثلّث الصبغي” إلى مرافقته في سيّارته الشخصيّة الـ”باباموبايبل”، أمام أعين الآلاف من الحاضرين. احتضن رجلاً مشوّهًا بسبب مرض وراثي يجعله يصارع الألم يوميًا. بفعل هذه المبادرة، استعاد الرجل إيمانه بعد تعرّضه الدائم للسخرية في الأماكن العامّة. ندّد بالأحكام المسبقة على مثليي الجنس قائلاً :” إن كان شخص ما مثلي الجنس، ويبحث عن الربّ ولديه النيّة الحسنة، فمن أنا لأحكم عليه ؟”. أقام خدمة أسبوع الآلام الكبير في سجن “كازال دل مارمو” للأحداث، بدلاً من الفاتيكان. أثناء الخدمة، غسل البابا وقبّل أقدام 12 فتى من الجانحين. تسلّل من الفاتيكان ليلاً لإطعام المشرّدين مرتديًا زيّ كاهن عادي كما باع درّاجته النارية في المزاد العلني ليساعد في تمويل نزل ومطبخ لتقديم الحساء للفقراء في روما.

باختصار، مواقف البابا فرنسيس التي ذكرناها والتي لم نذكرها، تؤكّد أنّ على الكنيسة إتّباع طريقة يسوع بالتواصل ونقل البشارة، عبر الاستماع إلى الناس والعمل معهم ولهم ومن خلال الكلام المباشر أي تجنّب الوعظ والإرشاد بصيغة بطريركيّة أبويّة. مطلوب الإبتعاد عن الدوغماتيّة باستعداد دائم لاكتشاف الحقيقة بعيدًا عن المتاريس العقائديّة والثوابت المعلّبة واعتماد الكلام الصادق الذي تُؤكده الممارسة المعيوشة وإعطاء النماذج الايجابيّة التي تثير القناعة والاقتداء. فالمهمّ ليس إرضاء المجتمع بغية الإثارة. وأخيرًا، وسائل الإتّصال ليست مجرّد أداة لنقل الكرازة، بل هدف الكرازة، على الكنيسة أن تعمل على تثقيفها في الداخل، كالخميرة التي تخمّر العجين كلّه. الكنيسة إعلاميّة تكون او لا تكون. ليس الإعلام نشاطًا اضافيًّا او ثانويًّا في حياة الكنيسة بل هو ضروري جدًّا بحيث أنّ إهمال استخدام هذه الوسائل – بنظر البابا بولس السادس – هو خيانة للمسيح بالذات.” الويل لي إن لم أبشّر” يقول الرسول بولس.


[1] البابا غريغوريوس السادس عشر :”رسالة عامّة – النظر الثاقب”، حاضرة الفاتيكان، 15 آب 1832.

[2] البابا بيوس الثاني عشر : “رسالة عامّة – التجديد المدهش”، حاضرة الفاتيكان، 8 أيلول 1957، 1-2.

[3] اللجنة الحبريّة لوسائل الإعلام : “إرشاد راعويّ – اتّحاد وتقدّم”، 11.

[4] المجلس الحبري لوسائل الإعلام :”إرشاد راعويّ – عهد جديد”، حاضرة الفاتيكان، 22 شباط 1992.

Scroll to Top