Almanara Magazine

الحوار المسكوني والعلاقات مع الأديان غير المسيحيّة : المجمع الفاتيكاني الثاني صاحب ثورة : فأين هي اليوم ؟

الأب سليم دكّاش اليسوعيّ

من مآثر المجمع الفاتيكاني الثاني العديدة التي طبعت الكنيسة لا بل الوجود البشري بطابعها، ما أتى به هذا المجمع من خطاب متكامل في مجال العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكيّة والكنائس المسيحيّة الأخرى وحتّى المسيحيّين بوجه عام، وكذلك ما صاغه المجمع في شأن العلاقات مع الأديان الأخرى غير المسيحيّة. فعِبرَ الدساتير والبيانات والتصريحات التي أدلى بـها المجمع، هناك محاولة للإجابة على سؤال أساسي بالنسبة إلى المؤمنين في الكنيسة الكاثوليكيّة : من هم أولئك الآخرون المؤمنون المختلفون عن الكاثوليك ضمن العائلة المسيحيَّة ومن هم أولئك الذين يدينون بدين غير دين المسيح ؟

المجمع الفاتيكاني الثاني أجاب على هذه التساؤلات منذ خمسين عامًا في نصوص مختلفة منها نصوص كاملة كرّسها للدلالة على علاقة الكنيسة الكاثوليكيّة بغير الكاثوليك وكذلك علاقتها بالأديان الأخرى غير المسيحيّة. لقد صاغ المجمع موقفه عبر إعادة تأويل موقف الكنيسة فأراده موقفًا إيجابيًّا حيال المذاهب والأديان والاقتناعات أو اليقينيّات الأخرى. والنموذج الذي طوّره هو نموذج دائريّ الشكل. في الوسط تقوم الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة حيث إنّها المؤتمنة الوحيدة على كامل الحقيقة الموحى بـها من العُلى (وبالتالي على الحقيقة البشريّة) وعلى كامل وسائل الخلاص. وحولَـها تقوم دوائر أكثر اتّساعًا وأكثر بُعدًا عن محور الحقيقة الكاملة الذي يقوم في قلب الشكل الدائري. تأتي أوّلاً الكنائس الأرثوذكسيّة ثمّ الأنكليكانيّة التي تجمعها مع الكنيسة الكاثوليكيّة وحدة عقائديّة إلاّ في مواضع هامّة لكنّها ليست على مستوى العقيدة. ثمّ هنالك مجموعة كنائس الإصلاح البرتستنتي في دائرة جديدة تبدو بعيدة عن الوسط. وبعدها تأتي الأديان التوحيديّة مثل اليهوديّة والإسلام ومن بعدها البوذيّة والهندوسيّة وباقي الأديان التقليديّة. وبقدر ما تبتعد عن القلب، بقدر ما تمتلك تلك الأديان من شذرات الحقيقة. وهكذا فإنّ الفاتيكاني الثاني غيّر نظرة الكاثوليك على الآخرين. وبالرغم من أنّ هذا النموذج الدائري التوسّعي لا يفي بالغرض تمامًا، فإنّه يدلّ على أنّ نظرة جديدة إلى الآخرين قد تبلورت، إلاّ أنّها نظرة تبدو جامدة. فمع ذلك أدخل المجمع الكنيسة في ديناميّة انفتاح على الآخر المختلف وكذلك وضع المؤمنين الكاثوليك في حالة جديدة من العلاقات الديناميّة مع الآخرين المختلفين، وفتح آفاق جديدة في التعاطي مع اليقينيّات العلمانيّة التي تشدّد على أوليّة الإنسان في أيّ منظومة فكريّة، أكانت اليقينيّات ملحدة أم غير مبالية بالدين أو غير مرتبطة بأي إيديولوجيّة. وبمجمل القول، إنّ مختلف المذاهب والكنائس والديانات واليقينيّات قبلت، ومنها بتحفّظ، منطلقات المجمع الفاتيكاني الثاني، إلاّ أنّها تتطلّع إلى لقاء بالكنيسة على قاعدة المساواة والاعتراف بعقائدها، وهذا ما تحاشاه المجمع إيمانًا منه وتحاشيًا بعدم الوقوع في فخّ النسبيّة، في كلّ مكان.

في الصفحات اللاحقة من هذا المقال، نعرض أوّلاً لموضوع الحوار المسكوني ثمّ نتطرّق إلى موضوع الحوار بين الأديان غير المسيحيّة.

الحوار المسكوني

نستطيع القول إنّ الذين وُلدوا عبر الأجيال في كنائس منفصلة بعضها عن بعض هم ضحايا الماضي، وربّما كان هذا الماضي لا يزال حيًّا وإن تبدّلت الأمور منذ بداية القرن العشرين، حيث نشأت الحركة المسكونيّة، أوّلاً في الوسط البرتستانتي في سنة 1910، ثمّ انتقلت بعد الحرب العالميّة الأولى إلى الوسط الكاثوليكي-الأنكليكاني حيث انعقدت محادثات استمرّت عشر سنوات في مالين بسويسرا بين ممثّلين عن الكنيستين الأنكليكانيّة والكاثوليكيّة بينهم الكاردينال مرسييه واللورد هاليفاكس، ثمّ تابع العمل من أجل وحدة المسيحيّين الأب كوتورييه في ليون، منفتحًا على المسيحيّين الأرثوذوكس. واستمرّت شُعلة المسكونيّة حاضرة بين الكنائس وفيها عبر مجموعات ملتزمة مثل مجموعة دير “دومب” بين الكاثوليك والبرتستانت، فيجري لأوّل مرّة، حوارٌ لاهوتيّ حول القضايا الأساسيّة التي تباعد ما بين الكنائس مثل موضوع دور بابا روما في رئاسة الكنيسة وموقع مريم العذراء في مسيرة الخلاص. ولقد حاولت هذه المجموعة التي لا تزال عاملة وناشطة حتّى اليوم الاتّفاق حول نصوص واحدة تعبّر عن إيمان المسيحيّين المنضوين إلى مجموعات مختلفة ومتباينة.

المجمع الفاتيكاني الثاني

لقد دعا قداسة البابا يوحنا الثالث والعشرون لانعقاد للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في السنة 1958 وهو كان أعلن المرّة الأولى عن دعوته لانعقاد المجمع في السنة 1959 في نهاية أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيّين ولهذا التاريخ رمزيّة كبيرة في ذهن قداسة البابا. ومن ثمّ، علّل قداسته تلك الدعوة في خطابه الشهير الذي أدلى به في منطلق المجمع سنة 1962، بأنّه حان الوقت لتجديد خطاب العقيدة الكاثوليكيّة وحان الوقت كذلك للعمل العميق لتوحيد صفوف المسيحيّين جميعًا والدخول في حوار مفيد لجمع ما تفرّق. وهكذا فإنّ السبب الثاني الرئيسي لانعقاد المجمع المسكوني الذي يجمع الأرض قاطبة هو تلك الرغبة المتنامية من قبل الكاثوليك ورؤسائهم في أن يروا المسيحيّين المنفصلين عن الكنيسة الأم يرجعون إلى حضنها الجامع. وهذا القلق حول انقسام المسيحيّين أفضى إلى صياغة نصّ أساسي هو القرار المجمعي في الحركة المسكونيّة، تحت مسمّى “استعادة الوحدة” وهو القرار الثاني عشر في سلسة القرارات التي أصدرها المجمع وأقرّها قداسة البابا بولس السادس لاحقًا في السنة 1964 وهو الذي جدّد قلقه على حالة الكنيسة المشتّتة  في خطابه الافتتاحي للجلسة الثانية للمجمع في السنة 1963. “إنّ أهداف المجمع، قال البابا، هي أنّ تفقه الكنيسة جوهرها، أن تتجدّد، وأن تُستعاد الوحدة بين جميع المسيحيّين وأن يقام الحوار بين الكنيسة وإنسان اليوم” (مقدّمة القرار، ص 762). والقرار ينقسم، بعد تمهيد للموضوع إلى ثلاثة أقسام : الفصل الأوّل، في المبادئ الكاثوليكيّة للحركة المسكونيّة، الفصل الثاني يعرض لقواعد وطرق ممارسة العمل المسكوني والفصل الثالث الذي يعود إلى الانقسامات التي حصلت في التاريخ شرقًا وغربًا، وإلى الاعتبارات الواجب الأخذ بها حيال الكنائس الشرقيّة. ولا شكّ أنّ الفصل الأوّل هو أساسي في مقاربة العمل المسكوني لأنّه يقدّم المبادئ الكاثوليكيّة لمفهوم الكنيسة من زاوية كاثوليكيّة ويحدّد نوعيّة العلاقة الواجب اعتمادها بين “الإخوة المنفصلين” والكنيسة الكاثوليكيّة وينهي بنظرة تفسيريّة لمفهوم الحركة المسكونيّة، مؤكّدًا أنّه ليس هناك سوى حركة مسكونيّة واحدة وهي السير نحو ملء المسيح بطرقٍ متعدّدة، إلاّ أنّ الهدف يبقى واحدًا.

وعندما يتكلّم هذا النصّ عن سرّ الكنيسة، فهو يعلم أنّ الاختلاف الأساسي بين المسيحيّين محوره الأساسي هو الكنيسة بالذات. فلذلك يوسّع القرار مفهوم الكنيسة ليشمل المفاهيم الأخرى التي تقرّ بها الكنائس المختلفة فيقول ويؤكّد إنّ الكنيسة هي شركة (2-4) وهي ذلك المركب الذي تربط أعضاءه رباطات روحيّة هي الإيمان والرجاء والمحبّة ورباطات منظورة كالمجاهرة بالإيمان والتقدّم من الأسرار وخدمة الرعيّة والقدّاس الإلهي الذي يُظهر أنّ الكنيسة هي واحدة ووحيدة.

فالنصّ الأساسي الذي يستلهم منه القرار “في استعادة الوحدة” هو الدستور العقائدي في الكنيسة “نور الأمم” في الفقرة الثامنة التي تؤكّد على أنّ ملء الكنيسة موجود في الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة إلاّ أنّ هذه الكنيسة بالذات تقرُّ بأنّ “عناصر عديدة من القداسة والحقّ توجد خارج هيكلها، إن هي إلاّ هبات خاصّة بكنيسة المسيح تدفع إلى الوحدة الجامعة. ولكن بما أنّ المسيح قد أتمّ الفداء بالفقر والاضطهاد، فالكنيسة هي مدعوّة أيضًا إلى أن تلج الطريق ذاتها كي توصل إلى العالم ثمار الخلاص”. الواقع أنّ هذه الفكرة الثابتة هي في شقّين : 1) الكنيسة لديها بوجه كامل وسائط الخلاص، و2) وذلك لا يمنع أنّ بعض عناصر الحقيقة والخلاص هي موجودة خارج حدود الكنيسة. هذه المعادلة يرفضها الأصوليّون الكاثوليك الذين لا يقرّون إلاّ بالشقّ الأوّل وكذلك، يرفض النسبيّون الشقّ الأوّل متمسّكين بالشقّ الثاني فقط، أي أنّ الأديان تساوي بعضها البعض ليس إلاّ، وكلّ دين فيه شيء من الحقيقة.

وهكذا فإنّ المبدأ اللاهوتي كما استنبطه الدستور العقائدي “نور الأمم” هو الذي سيصلح لاحقًا لتحديد العلاقة بين الكاثوليك وغير الكاثوليك من الأرثوذوكس والبرتستانت الذين يقرّون بأساسيّات الإيمان. يقول الدستور العقائدي في هذا الأمر في الفقرة 15 أنّ للكنيسة الكاثوليكيّة رباط خاصّ بالذين هم معمّدون حتّى وإن لم يكونوا أعضاء في جسدها. يقول النصّ :

“ولأسباب شتّى تعرف الكنيسة إنّها مرتبطة بالذين، وقد تعمّدوا، يتشرّفون بالاسم المسيحي دون أن يُقرّوا بالإيمان الكامل أو يحفظوا وحدة الشركة تحت خليفة بطرس. فإنّ العديدين منهم يجلّون الكتاب المقدّس قاعدةً للإيمان والحياة، ويظهرون غيرة دينيّة مخلصة، ويؤمنون من كلّ قلبهم باللـه الآب القدير وبالمسيح ابن اللـه المخلّص، ويتّسمون بالعماد الذي يربطهم بالمسيح، وفوق ذلك يقرّون بسائر الأسرار ويقبلونها في كنائسهم الخاصّة وفي جماعاتهم الكنسيّة. والكثيرون من بينهم ينعمون أيضًا بالأسقفيّة، ويحتفلون بالأفخارستيا المقدّسة، وأيضًا يعزّزون التقوى نحو العذراء أم اللـه. أضف إلى ذلك الشركة في الصلاة وفي أعمال الخير الأخرى الروحيّة، ورباطًا حقيقيًّا بالروح القدس الذي  بواسطة مواهبه ونعمه، يعمل فيهم عمله المقدّس ويقوّي البعض منهم حتّى سفك دمائهم. وهكذا يبعث الروح القدس في كلّ تلاميذ المسيح الشوق والعمل إلى أن يجتمع الكلّ بسلام، حسب الطريقة التي ارتآها المسيح، في قطيع واحد بقيادة الراعي الواحد. لهذه الغاية لا تفتر أمّنا الكنيسة تصلّي، وتترجّى وتعمل، حاثّة أبناءها على أن يتطهّروا ويتجدّدوا حتّى تلمع علامة المسيح بأكثر جلاء على وجه الكنيسة”.

ما تجدر الإشارة إليه أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة في ذلك المجمع المستنير أقرّت بأنّ غير الكاثوليك يستطيعون أن يعيشوا بفعل النعمة المقدِّسة، كما أنّ النصّ يشير بصورة غير مباشرة إلى الأرثوذكس الذين تشعر الكنيسة بأنّهم الأقرب إليها وإلى البرتستانت الذين أخذوا الكتاب المقدّس قاعدة للإيمان وللحياة في حين أنّ الأرثوذكس ما زالوا محافظين على الأسقفيّة وعلى وديعة الإيمان وعلى الأسرار المقدّسة.

وبمختصر القول وبالعودة إلى القرار المجمعي “في استعادة الوحدة” يبدو جليًّا أنّ المجمع أراد أن يستصدر بعض المبادئ الكاثوليكيّة حول العمل المسكوني نوجزها كالتالي :

– ما هو أساسي في قانون إيمان المسيحي هو الاعتراف بخليفة بطرس كمؤتمن على وديعة الإيمان الذي يستفيد منه الجميع والمصدر الأوّل لهذه الوديعة.

– لا بدّ من التفريق بين الذين كانوا سببًا للخلاف والانشقاق وبين ضحايا هذا الانشقاق.

– النعمة ليست ممنوعة عن الأخوة المعمّدين والمنقسمين. عند هؤلاء وسائل الخلاص إلاّ أنّها ليست كاملة، كما الأمر بالنسبة للكنيسة الكاثوليكيّة.

– إنّ هذا الملء، أو الكمال هو مرتبط بمبدأ الوحدة الموجود فقط في الكنيسةالكاثوليكيّة.

– منذ الآن، على الكنيسة وعلى كلّ كنيسة ضمن الحركة المسكونيّة أن تعتمد الكلام غير الظالم، وأن تسير في خطّ “الحوار” والصلاة المشتركة والحذر والفطنة والرجاء وفي إمكانيّة التوبة.

ما بعد صدور القرار

       لقد استقبل العالم الكاثوليكي وحتّى غير الكاثوليكي القرار بوجه إيجابي وتعجّل في تطبيقه لأنّه فتح الأبواب واسعة أمام اللقاء مع المسيحيّين غير الكاثوليك واكتشف الكاثوليك أنّهم قريبون جدًّا من المسيحيّين غير الكاثوليك فعمل المختلفون بالأمس لا بل الذين كانوا يحرّمون بعضهم بعضًا بقلب واحد في مجالات عديدة منها العقيدة اللاهوتيّة وتفسير الكتاب المقدّس ونشره سويّة مثل الترجمة المسكونيّة للكتاب المقدّس والليتورجيا والتعليم المسيحي والقضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكر الأخلاقي. فمن بعد صدور هذا القرار “في استعادة الوحدة”، تحوّلت الحركة المسكونيّة إلى واقع شعبي في مختلف الأحيان والبلدان، مع أنّ سرعة العمل في هذا المجال اختلفت بين منطقة وأخرى.

بروز أهميّة الحوار

وما ميّز فترة ما بعد المجمع الفاتيكاني هو تلك الكميّة الكبيرة من اللقاءات التي أخذت تحصل بين ممثّلي الكنائس التاريخيّة والحديثة، حيث كانت الكلمة الأساس هي كلمة “حوار”. فالقرار حول الحركة المسكونيّة أخرج إلى العلن هذه الكلمة، كلمة “حوار”، وهو تعبير سوف يستخدم بصورة مضطردة حتّى التضخيم بين الكاثوليك والمسيحيّين بوجه عام وبين ممثّلي الأديان غير المسيحيّة. ولقد أخذ هذا الحوار أشكالاً مختلفة على الشكل التالي :

– عندما يستعلم الفرقاء بصورة متبادلة عن عقيدة الآخر من دون تشويهها أو رفضها.

– عندما يسعى البعض إلى نوع من التوافق بحيث يتمّ إهمال ما يفرِّق والاكتفاء بقبول ما يجمع.

– عندما يرى البعض الحوار كأنّه عمليّة جدليّة بالمعنى الفلسفي أيّ أنّه بحث مشترك عن الحقيقة بالتعالي عن تنوّع الأداء.

– عندما يقول البعض أنّ الحوار يقتضي أوّلاً بأن يقرّ الجميع أنّ الحقيقة هي أرفع من العقول وأنّ كلّ الأديان هي طرق مختلفة تقود نحو النبع الأوحد للحقيقة المتعالية.

       هذه الأشكال من الحوار بين المسيحيّين والكاثوليك وكذلك بين الكنيسة الكاثوليكيّة والأديان غير المسيحيّة لم تعتمدها الكنيسة الكاثوليكيّة بل هي فضّلت عليها نوعين آخرين من الحوار، أوّلهما الحوار بحسب قداسة البابا الراحل بولس السادس وثانيهما مفهوم برغماتي للحوار يقضي المحارورة من أجل التحضير لإعلان الإنجيل لأنّ في عمق هذا الحوار الديني أو ما بين ديني شيئًا من اللـه.

       يقول البابا بولس السادس في عظته الشهيرة التي أدلى بها في السادس من آب 1964 عند بداية الدورة النهائيّة للمجمع أنّه من الهام معرفة مصدر الحوار وأنّ هذا المصدر هو متعالٍ. الحوار يوجد في صميم اللـه. وإذا كان الدين بطبيعته علاقة بين اللـه والإنسان، فإن الصلاة تعبِّر عن هذه العلاقة بكلمة “حوار بين اللـه والإنسان”. فالوحي نفسه هو من ناحية علاقة ما فوق طبيعيّة اعتمدها اللـه مع البشريّة، حيث تجسُّدُ يسوع المسيح يبدو التعبير الأكمل لهذا الوحي الذي أتى كحوار بين اللـه والإنسان.

       وتاريخ الخلاص هو أيضًا في الواقع نوعٌ من الحوار، يعبِّر عن ذلك “الحوار” الذي أقامه الابن الكلمة مع الناس، طالبًا منهم أن يعبّروا عن مكنون أفكارهم وقلوبهم وكذلك أن يقولوا كلمتهم بقوّة وشجاعة. وبالمختصر قداسة البابا بولس السادس يشعر بأنّ “الحوار” هو الذي سيكون الأساس في العلاقات بين المسيحيّين على اختلاف مذاهبهم وكنائسهم وبين الأديان جميعًا، وبالتالي يقول البابا إنّ الحوار ينبغي الارتقاء إلى مرتبة عُليا سامية لأنّ من يحاور يشبه اللـه نفسه. فكما أنّ يسوع المسيح قدّم حياته من أجلنا ليعلمنا عن حقيقة اللـه المحبّ، كذلك علينا أن نعطي حياتنا من أجل إخوتنا للسير بهم نحو الحقيقة. والحوار ليس مجرّد شكليّات بل هو الطريق المشترك لخلاص العالم.

       لقد مرّ العمل المسكوني إثر المجمع الفاتيكاني الثاني بفترات ازدهار وكذلك بفترات انحسار وتردّد، وذلك يعود في غالب الأحيان إلى نظرة المسؤولين الكنسيّين إلى الحوار المسكوني وإعطائه الأولويّة في سلّم القضايا التي لا بدّ أن تهتم بـها الكنائس. وصحيح أيضًا أنّ “أسبوع الصلاة السنوي من أجل اتّحاد الكنائس” في شهر كانون الثاني / يناير من كلّ سنة، أصبح واقعًا مهمًّا تحتفل به الكنائس بصورة مستمرّة وفي إطار تنظيم مشترك لهذا الأسبوع وكذلك في إطار صلاة واحتفالات مشتركة لـها أهميّتها في الدلالة على وحدة الكنيسة، كأمر مرتجى.

       ومن المحطّات البارزة التي كانت منطلقًا صلبًا للعلاقات المتجدّدة بين الكنائس، تلك التي جمعت في أورشليم القدس قداسة البابا الراحل بولس السادس مع نيافة البطريرك المسكوني من اسطنبول أثيناغوراس في الخامس من شهر كانون الثاني 1964 وتبعه بعد ذلك بأشهر عديدة رفع الحُرم المتبادل بين كنيسة بيزنطيّة وكنيسة روما منذ السنة 1054 في 7 كانون الأوّل 1965. ولا بدّ هنا من العودة إلى النصّ المشترك الذي وُزِّع لمناسبة رفع الحُرم لإدراك أنّ الحوار المسكوني بين الكنائس، وذلك ما حدث بالنسبة إلى أثيناغوراس وبولس السادس، يقوم لا على مجرّد إلقاء كلمات شكليّة، بل إنّه يقتضي الدخول في عمليّة تطهير ذاتي للذاكرة ودعوة إلى الرجاء القوي وتوبة حقيقيّة.

       ولقد تبع هذا الحدث حوارات متعدّدة بين الكنائس وأفضت بعضها إلى بيانات مشتركة تعلن عن الاقتراب المتبادل، إلاّ أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة لم تقبل الدخول إلى حضن مجلس الكنائس العالمي، وذلك لسبب لاهوتي أساسي إذ تعتبر أن وحدة الكنيسة تتجسّد في الكنيسة الكاثوليكيّة وليس بمجلس فضفاض يقبل بعضويّة بعض الكنائس التي لم تعتمد من الأسرار سوى المعموديّة وهي شديدة البعد عن الكنيسة الأم. والواقع أنّ مجلس الكنائس العالمي يعتبر نفسه المرجع في كلّ الأمور المتخصّصة بحياة الكنائس.

       ويمكن القول إنّ الحوارات اللاهوتيّة التي حصلت وتحصل خصوصًا بين الكنيسة الكاثوليكيّة وغيرها من الكنائس تهدف إلى المعرفة المتبادلة أكثر موضوعيّة وإلى فحص ضمير عبر سعي مشترك للوصول إلى الحقيقة المشتركة وكذلك إلى تبادل للخيرات الروحيّة التي تتمتّع بـها كلّ كنيسة وكلّ تقليد إيماني. وهذا المفهوم للحوار اللاهوتي يستند إلى وثيقة أساسيّة وقّعها الكاثوليك ومجلس الكنائس العالمي حول طبيعة وأهداف الحوار ومهمّة الوثيقة هي تعزيز الحوار وإسناده إلى بعض النقاط الأساسيّة المشتركة كضرورة الوصول إلى وحدة المسيحيّين عبر التعارف والإقرار بوجود الآخر وعدم إلغائه. ولا شك أنّ سؤالاً يُطرح في موضوع نتيجة الحوارات : أليست الاختلافات العقائديّة مجرّد تباين على مستوى التعبير وهو أمر مشروع ضمن التنوّع الكنسي والثقافي الذي أصبح هو الآخر مقبولاً به كقاعدة لاتّحاد الكنائس ؟

       إمّا الحوارات اللاهوتيّة التي أفضت إلى بيانات مشتركة، فأهمّها :

– الاتّفاقات حول طبيعة السيّد المسيح بين الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة (المنفصلة منذ القرن الخامس ميلادي) : كمثل الاتّفاق المشترك الموقّع في السنة 1973 مع الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة.

– الاتّفاق حول الضيافة الأفخارستيّة المتبادلة في السنة 2001 بين الكنيسة الكاثوليكيّة والكنيسة الكلدانيّة حول النافور أدّاي وماري.

– البيان المشترك حول التبرير بالمسيح في السنة 1999 مع الاتّحاد اللوثري العالمي وقد تبعه بيان أكثر شموليّة حول العلاقة بين الكاثوليك والبرتستانت.

– الحوار المستمرّ بين الكنيسة الكاثوليكيّة والكنيسة الأنكليكانيّة عبر اللجنة الانكليكانيّة-الفاتيكانيّة-الرومانيّة (ARCIC) التي أُنشئت في السنة 1967 وقد صدر عنها بيانات عديدة حول مواضيع إيمانيّة أساسيّة.

– الحوار المستمرّ بين الكنيسة الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة منذ السنة 1960.

ومجمل القول إنّ الكنيسة هي منخرطة اليوم في أكثر من عشرة حوارات على مستوى مجلس الكنائس العالمي وفي عشرين عمليّة حواريّة بينها وبين كنائس أخرى لـها وزنها وأهميّتها على المستوى العالمي. ولا شكّ أنّ المجلس الحبري لتعزيز الوحدة بين المسيحيّين، تحت ولاية الكاردينال والتر كاسبر، قام بعمل هام بتوسيع قاعدة الحوار كمًّا ونوعًا، بهدف إبقاء شعلة المجمع الفاتيكاني الثاني متّقدة لأنّ الشهادة في أنّ يسوع المسيح هو الربّ والحياة والطريق ستبقى غير مقنعة إن لم يلتفّ المسيحيّون حول بعضهم البعض خصوصًا في ظروف قاسية يعيشها أولئك في أكثر من بلد، يُضيَّق عليهم وينالون نصيبهم من الاضطهادات والتهميش.

       إلاّ أنّ هذا العمل الحواري الواسع بين الكنائس، وخصوصًا بين الكنيسة الكاثوليكيّة والكنائس الأخرى لا يزال يصطدم بعقبات أساسيّة وصعوبات لا تجد حلاًّ. فالحوار مع الأخوة الأرثوذكس ما يزال يصطدم بأكثر من عقبة، مثل إدخال كلمة “مع الابن” (Filioque) في قانون الإيمان الغربي، حيث إنّ الروح القدس لا ينبثق فقط من الآب (بحسب الأرثوذكس) بل من الأبن أيضًا (في نظر الكاثوليك). ويصطدم أيضًا هذا الحوار بموضوع الكنائس الشرقيّة المتّحدة بروما (والتي كانت في المجموعة الأرثوذكسيّة فاعتبرت نفسها هي الأساس والأرثوذكس هم المنفصلون عنها)، بحيث انتهت مفاوضات البلمند في السنة 1993 على خلاف بين الجهتين ولم تتقدّم من بعدها المفاوضات، ولولا “تقليد حوار المحبّة” لكانت الجهتان عادتا إلى نوع من القطيعة. ومن المواضيع التي ما زالت تقضّ مضاجع المتحاورين، قضيّة رئاسة البابا للكنيسة وكذلك عصمته، ممَّا يجمّد الحوار عند بداياته. إلا أنّ لقاء البابا يوحنّا بولس الثاني والبطريرك المسكوني برتلماوس الأوّل في السنة 2004 حرّكا عمل الشركة بين الكنيستين من دون أن يتبع ذلك الجديد في المفاوضات. وتجدر الإشارة إلى أنّ صدور البيان البابوي لقداسة البابا يوحنّا بولس الثاني “سيّدنا يسوع المسيح” Domine Jesus) وحديثه عن وحدة الكنيسة في الكنيسة الكاثوليكيّة وعن كونيّتها (universalitas) بحيث تشمل كل المسيحيّين الذين يعترفون بيسوع المسيح ربًّا وإلهًا، وعن الخلاص بيسوع المسيح عبر كنيسة جامعة، ترك الصدى السيّء في الأوساط المسكونيّة، خصوصًا وأنّه تحدّث عن البرتستانت كأنّهم مجموعة لا ترتقي إلى مرتبة الكنيسة ولا تصلح أن تسمّى بهذا المسمّى. وبالرغم من أن البابا يوحنّا بولس الثاني جدّد ثقته بالحركة المسكونيّة وبأنّ الكنيسة همّها الأوّل هو الوحدة وذلك في رسالة “ليكونوا واحدًا” في السنة 1995 فإنّه من الواضح أنّ العمل المسكوني يمرّ بمرحلة تعب وانحسار. يبقى أنّ المؤمنين بالمسيح لا يكترثون كثيرًا بهذه الحالة بل إنّهم يسبقون كنائسهم في العمل معًا وبالعيش في اتّحاد الشركة.

الحوار مع باقي الديانات

من حوار الكنيسة الكاثوليكيّة وعلاقتها مع الكنائس المسيحيّة الأخرى، ننتقل إلى علاقة أساسيّة أخرى أسّس لـها المجمع الفاتيكاني الثاني هي العلاقة مع باقي الديانات غير المسيحيّة وأهمّها اليهوديّة وقد خصّص لها المجمع مكانة متميّزة والإسلام والهندوسيّة والبوذيّة والخ….

إنّ المجمع الفانيكاني الثاني في سياق بادرة موقف واضح للكنيسة الكاثوليكيّة حيال علاقة الكنيسة بالأديان الأخرى غير المسيحيّة كرّس نصّين أساسيّين للحديث عن الموضوع : الأوّل ضمن الدستور العقائدي “نور الأمم” (الرقم 16) “والتصريح حول علاقة الكنيسة مع الديانات غير المسيحيّة” وهو النصّ الذي أثار ويثير موجة مستمرّة، منذ صدور التصريح، من التعليقات التي بأكثريّتها إيجابيّة ومتفهّمة وبعضها الآخر القليل متحفّظة ومشكّكة بأن يكون لهذا البيان فاعليّة.

نصّ “نور الأمم”

هو جزء لا يتجزّأ من الدستور العقائدي في الكنيسة وبالتالي فإنّ مبدأ العلاقة وشرطها مع الديانات غير المسيحيّة مصدره هو في هذه الوثيقة، وما يأتي أو ما أتى ذكره في باقي النصوص هو نتيجة لهذا الموقف المبدئي الذي ينبغي التعرّف إليه وإدراك معانيه، حيث الفقرة 16 أتت على الوجه التالي :

“أمّا الذين لم يقبلوا الإنجيل بعد، فإنّهم متّجهون نحو شعب اللـه بطرق شتّى. بادئ ذي بدء ذلك الشعب الذي اقتبل العهد والمواعيد، ومنه خرج المسيح بحسب الجسد (راجع روم 9/4-5)؛ شعب محبوب من حيث الاختيار، من أجل الآباء، لأنّ مواهب اللـه ودعوته هي بلا ندامة (راجع روم 11/28-29). ولكن تصميم الخلاص إنّما يشمل الذين يعترفون بالخالق، ومن بينهم أوّلا المسلمون الذين يقرّون أنّ لهم إيمان ابراهيم، ويعبدون معنا الإله الواحد الرحيم، الذي سيدين البشر في اليوم الأخير. وحتّى الذين يفتّشون بعد وتحت الأشكال وفي الصور عن إله يجهلونه، ليس اللـه ببعيد عنهم، لأنّه هو الذي يمنح الجميع حياةً ونفسًا وكلّ شيء (راجع أعمال 17/25-28)، ولأنّه كمخلّص يريد أن يقود كلّ الناس إلى الخلاص (راجع 1 تيمو 2/4). وأيضًا أولئك الذين، دون خطأ منهم، يجهلون إنجيل المسيح وكنيسته، إنّما يفتّشون عن اللـه بنيّة صادقة، ويجتهدون في أن يكملوا بأعمالهم إرادته، التي تعرف لديهم، من خلال أوامر ضميرهم، هم أيضًا يبلغون إلى الخلاص الأبدي. ولا تمنع العناية الإلهيّة المعونات الضروريّة للخلاص، عن الذين بدون ذنب منهم، لم يتوصّلوا بعد إلى معرفة اللـه الصريحة، ويعملون على أن يسيروا سيرة مستقيمة بمساعدة النعمة الإلهيّة. وكلّ ما يمكن أن يوجد عندهم من خير وحقّ، إنّما تعتبره الكنيسة استعدادًا إنجيليًّا، وعطيّة من ذلك الذي ينير كل إنسان، لكي تكون له الحياة في النهاية. ولكن غالبًا ما خدع إبليس البشر فضلّوا في تفكيرهم، واستبدلوا حقيقة اللـه بالباطل، وعبدوا المخلوق دون الخالق (راجع روم 1/21 و25). أو أنّهم عاشوا وماتوا بدون إله في هذا العالم، فعرّضوا ذواتهم إلى أقصى حدود اليأس. لهذا تضع الكنيسة كلّ اهتمامها في تشجيع الرسالات، لمجد اللـه وخلاص النفوس، متذكّرة وصيّة المخلّص : “اكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها” (مرقس 16/16)”.

قارئ هذه الأسطر الهامّة التي وضعها آباء المجمع، يجدر به التوقّف عند التالي :

أوّلاً : إنّ هنالك موقف مسبق إيجابي من قبل المجمع بحيث يقرُّ لأتباع الديانات غير المسيحيّة بأنّهم “متّجهون نحو شعب اللـه” أي نحو الكنيسة، انطلاقًا من ذلك الشعب الذي اقتبل المواعيد أيّ الشعب اليهودي وهو شعب محبوب من حيث الاختيار، وفي هذا القول المخصّص للشعب اليهودي وجهة نظر إيجابيّة إذ يعترف المجمع بخاصيّة الشعب اليهودي بالنسبة إلى الكنيسة.

ثانيًا : يقول المجمع أنّ تصميم الخلاص، وهذا ما كان بدأ به النصّ، يشمل أيضًا المسلمين الذين هم يعترفون بالخالق ومن بينهم المسلمين وغيرهم الذين يبحثون عن اللـه في صُور وأشكال متعدّدة، هم جميعًا، ومن خلال أوامر ضميرهم تساعدهم العناية الإلهيّة ويسعون إلى سيرة مستقيمة، يستعدّون “استعدادًا إنجيليًّا للحصول على عطية الخلاص، بالرغم من أنّ إبليس يوسوس للناس ليحيدوا أحيانًا عن الطريق القويم.

ثالثًا : بالمجمل لا يتحدّث الجميع عن “ديانات” بل إنّه يهتم بالشعب وبالأشخاص والأفراد أكثر من أنّه يهتم بالجماعات، وذلك إرادة منه أن يعلن أنّ الكرازة بالمسيح تتوجّه إلى أشخاص وأفراد وأنّ الخلاص هو فردي قبل أن يكون جماعيًّا. وإذا تنبّهنا للنصّ بما فيه الكفاية، لا يقرُّ المجمع بما يعتنقه أولئك الأفراد، بل إنّه يشير إلى ما هي اقتناعاتهم وأشكال عباداتهم.

نصّ “في يومنا الحاضر”…

من الفقرة 16 في “نور الأمم” ونصوص أخرى في المجمع أكثرها فرعيّة لا مجال لذكرها في هذا العرض وهي بالمجمل تكرار لمبادئ “نور الأمم”، ينبغي الانتقال إلى النصّ الأساسي الثاني “في زمننا الحاضر” (Nostra etate) لعرض أفكاره الرئيسة وما يريد أن يبلّغه للكنيسة جمعاء وكذلك للإرشادات التي ودَّ إرسالها إلى الديانات غير المسيحيّة. يقول التصريح في مرحلة أولى محدّدًا واقع الديانات غير المسيحيّة على الوجه التالي :

“منذ القدم حتّى يومنا، يوجد لدى مختلف الشعوب إدراك ما لتلك القوّة الخفيّة الساهرة على مجرى الأمور وحوادث الحياة الإنسانيّة، وبعض الأحيان توجد معرفة للألوهيّة السامية وحتّى للآب. هذا الإدراك وهذه المعرفة ينفحان حياتهم بشعور ديني حميم. أمّا الديانات المرتبطة بتقدّم الثقافة، فإنّها تحاول أن تجيب على الأسئلة ذاتها بتعابير محكّمة وبلغة أكثر تشذيبًا. وهكذا يتقصّى الناس من الهندوسيّة السرَّ الإلهي ويعبّرون عنه بخصب الأساطير الذي لا ينضب، وبالجهود الفلسفيّة الثاقبة، وينشدون التحرّر من ضيقات وضعنا، بواسطة أشكال الحياة الزهديّة أو بالتأمّل العميق أو باللجوء إلى اللـه بحبّ وثقة. وفي البوذيّة على مختلف أنواعها هناك اعتراف بنقص جذري لهذا العالم المتقلّب ؛ وتلقّن وسيلة لا يستطيع الناس بواسطتها، بنفس تقيّة مستسلمة، أن يحصلوا إمّا على حالة التحرّر الكامل وإمّا أن يبلغوا الاستشراق السامي بجهودهم الذاتية أو يعضدهم عون من علُ. وعلى هذا المنوال تجتهد أيضًا سائر الديانات الموجودة في العالم كلّه في أن تجيب بطرق متنوّعة على قلق قلوب البشر، بعرضها السبل أي التعليم وقواعد الحياة والطقوس المقدّسة”.

ينطلق النصّ من معطى ذي طابع أنتروبولوجي عندما يتحدّث عن “تلك القوّة الخفيّة الساهرة على مجرى الأمور”، وكذلك توجد معرفة للألوهيّة السامية وحتّى للآب “وذلك عند مختلف الشعوب”. هذا الإدراك العام وغير الجيّد اتّبعه النصّ بتحديد أربع فئات من الديانات هي تلك المرتبطة بالتطوّر الثقافي والهندوسيّة والبوذيّة وديانات أخرى تحاول أن تجيب على “قلق قلوب البشر”. هذا التحديد يوسّع أفق الكنيسة حيال مفهوم الحقيقة، فمن ناحية هناك حقيقة ما في هذه الأديان والنص لا يقول لنا ما هو مغلوط في هذه الديانات إلاّ أنّ هذه الحقيقة لا تستقيم إن بقيت مرتبطة بذاتها وتعدُّ نفسها كاملة. فلذلك يرى المجمع أنّ هذه الديانات كلّها هي في صيرورة للاكتمال في يسوع المسيح وفي الخلاص الشمولي الذي يقدّمه لجميع الناس. وهذا ما شدّد عليه المقطع اللاحق من التصريح في العلاقات مع الأديان غير المسيحيّة :

“فالكنيسة الكاثوليكيّة لا ترذل شيئًا مـمّا هو حقّ ومقدّس في هذه الديانات. بل تنظر بعين الاحترام والصراحة إلى تلك الطرق، طرق المسلك والحياة، وإلى تلك القواعد والتعاليم التي غالبًا ما تحمل شعاعًا من تلك الحقيقة التي تنير كلّ الناس، بالرغم من أنّها تختلف في كثير من النقاط عن تلك التي تتمسّك بـها هي نفسها وتعرضها. ولذا فهي تبشّر وعليها أن تبشّر بالمسيح دون انقطاع، إذ إنّه هو “الطريق والحقّ والحياة” (يوحنّا 14/6) فيه يجد الناس كمال الحياة الدينيّة وبه صالح اللـه كلّ شيء. فهي تحثّ أبناءها على أن يعرفوا ويصونوا ويعزّزوا تلك الخيور الروحيّة والأدبيّة، وتلك القِيَم الاجتماعيّة والثقافيّة الموجودة لدى الديانات الأخرى، وذلك بالحوار والتعاون مع اتباع هذه الديانات بفطنة ومحبّة وبشهادتهم للإيمان وللحياة المسيحيّة”.

وهكذا فإنّ الكنيسة بمجمعها الفاتيكاني الثاني استطاعت التحرُّر من نقيضين : أوّلاً، إنّ لا خلاص من دون الكنيسة بمعنى أنّ كلّ الديانات الأخرى هي مُدانة وغير صحيحة وثانيًا، إنّ كلّ دين فيه شيء من الصحّة وهو تعبير ثقافي كامل عن علاقته بالألوهة. المجمع يقول إنّ الأديان فيها شيء من الحقيقة إلاّ أنّها في صيرورة صوب المسيح وسرّ الخلاص وذلك ما يجعل المجمع يتحرّر من مبدأ النسبيّة الذي يقول بأنّ الأديان تتساوى في عقيدتها ولا بدّ من القبول بـها كأنّها حالة ثابتة غير متبدّلة وليست في صيرورة نحو حالة جديدة. وإلى رفض النسبيّة، وبما أنّ الأديان هي في حالة انتظار، فإنّ على الكنيسة واجبًا أساسيًّا في دعوتها ألا وهو إعلان البشرى بيسوع المسيح، محبّة اللـه للجميع وعلى الجميع. هذه النظرة المجمعيّة لا بدّ إنّها متأثّرة بعض التأثّر بفكر تيّار دوشاردان اليسوعيّ الذي كان يقول بأنّ الكون والحياة والوجود كلّه سائر شيئًا فشيئًا للاتّحاد بيسوع المسيح.

وبعد هذه المقدّمة العامّة ذات الطابع اللاهوتي العام، ينتقل النصّ إلى عرض موقف الكنيسة من الإسلام، فيقدّم صفحة كاملة حول نظرة الكنيسة إلى المسلمين فيقول :

“فتنظر الكنيسة بعين الاعتبار أيضًا إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد الحيّ القيوم الرحيم الضابط الكلّ خالق السماء والأرضْ المكلّم البشر. ويجتهدون في أن يخضعوا بكليّتهم حتّى لأوامر اللـه الخفيّة، كما يخضع له إبراهيم الذي يُسند إليه بطيبة خاطر الإيمان الإسلامي. وإنّهم يجلّون يسوع كنبيّ وإن لم يعترفوا به كإله، ويكرّمون مريم أمّه العذراء كما إنّهم يدعونها أحيانًا بتقوى. علاوة على ذلك إنّهم ينتظرون يوم الدين عندما يثيب اللـه كلّ البشر القائمين من الموت ؛ ويعتبرون أيضًا الحياة الأخلاقيّة ويؤدّون العبادة للـه لا سيّما بالصلاة والزكاة والصوم.

وإذا كانت قد نشأت، على مرّ القرون، منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيّين والمسلمين، فالمجمع المقدّس يحضّ الجميع على أن يتناسوا الماضي وينصرفوا بإخلاص إلى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعزّزوا معًا العدالة الاجتماعيّة والخيور الأخلاقيّة والسلام والحريّة لفائدة جميع الناس”.

لقد أُشبِع هذا النصّ موقف الكنيسة الكاثوليكيّة من الدين الإسلامي درسًا، وهو الذي يفتح صفحة جديدة للعلاقات مع المسلمين. إنّه البطريرك مكسيموس الرابع للروم الكاثوليك الذي دعا إلى إدراج هذه الفقرة عن رؤية الكنيسة للإسلام، بحيث لا نسنطيع الحديث عن الدين اليهوديّ من دون مخاطبة المسلمين أيضًا. إنّه يوجز الخطوط الأساسيّة العقيديّة للإسلام، القريبة من المسيحيّة، ثمّ يدعو إلى نسيان الماضي، ثمّ إلى الحوار لما فيه ضرورة بداية التعاون المثمر بين المسيحيّين والمسلمين لخير البشريّة المشترك. الواقع أنّ الوصف بين المسيحيّة والإسلام يبقى خارجًا ويتناول بعض العبادات أو اليقينيّات المشتركة. إلاّ أنّه لا يقيم علاقة لاهوتيّة بنيويّة بين الاثنين، تحاشيًا للخلط وفتح مجال لربط الإيمان الإسلامي بالمسيحيّة حيث إنّه لم يجعل من الدين الإسلامي جزءًا لا يتجزّأ من الوحي المسيحي-اليهودي، وأبقاه بالتالي خارج حركة الخلاص كما تعرض لها المسيحيّة. ومن تصوّر العلاقة مع الإسلام، ينتقل النصّ إلى العلاقة مع اليهوديّة :

“إنّ هذا المجمع المقدّس، إذ يتقصّى سرّ الكنيسة يذكر الرباط الذي يربط روحيًّا شعب العهد الجديد بذريّة إبراهيم. وتقرّ كنيسة المسيح بأنّ بواكير إيمانها واختيارها توجد لدى الآباء ولدى موسى والأنبياء وفقًا لسرّ اللـه الخلاصي. وأنّها تعترف بأنّ كلّ المؤمنين بالمسيح، أبناء ابراهيم حسب الإيمان، لا يُستثنون من دعوة ذلك الشيخ، وأنّ خلاص الكنيسة رُمز عنه سريًّا ومسبقًا بخروج الشعب المختار من أرض العبوديّة”.

“وبما أن للمسيحيّين ولليهود تراثًا روحيًّا مشتركًا وساميًا، يريد هذا المجمع المقدّس أن يوصي بالمعرفة والاعتبار المتبادلين وأن يعزّزهما بين الاثنين؛ ويحصل ذلك خصوصًا بالدروس الكتابيّة واللاهوتيّة وبالحوار الأخوي”.

هذه الفقرات في الدين اليهودي تؤسّس أيضًا لصفحة جديدة مع اليهوديّة، حيث قرّر المجمع إزالة كلمة الشعب اليهودي، “قاتل ابن اللـه يسوع المسيح” من قاموس أدبيّات وليتورجيّات الكنيسة الكاثوليكيّة بالرغم من الإشارة إلى ذلك كمعطى تاريخي ليس إلاّ، مستخدمًا نص إنجيل يوحنّا (6،19). ومن شأن ترتيب العلاقات مع اليهوديّة، أن يشدّد النصّ وعلى العكس من ذلك، على الرابط الروحي الذي يشدّ شعب العهد الجديد ذريّة إبراهيم في الإيمان وبالتالي فإنّ الوحي المسيحي الكامل يقرّ بأن جزءًا منه يتدرّج في حيثيّات العهد القديم.

خلاصة

وبخلاصة القول إنّ الكثير من الاجتماعات والأحداث والمؤتمرات واللقاءات بهدف تعزيز العلاقات بين الأديان جميعًا نورد منها بعض النماذج :

– لقاءات مدينة أسيزي، حاضرة القدّيس فرنسيس التي جمعت مختلف المسؤولين الممثّلين للتيّارات الدينيّة وحتّى غير الدينيّة في 27 أكتوبر 1986 وفي 10 كانون الثاني 1993 و28 تشرين الأوّل 2011، وهي لقاءات تمّت في جوٍّ روحي عميق حيث تبادل المسؤولون الكلمات الداعية إلى أن تكون الأديان في أساس بناء العيش المشترك والمصالحة.

– الحوارات بين البابا يوحنّا بولس الثاني مع الشبيبة في المغرب في آب 1986.

– زيارة يوحنّا بولس الثاني إلى الكنيس اليهودي في روما في 13 نيسان 1986 وهو تاريخ شَهد كلمة مؤثّرة للبابا كرّس فيها معطيات نصّ “في زمننا الحاضر” بشأن اليهود ويشدّد فيها على أنّ مستقبل العلاقات بين الكنيسة والجماعة اليهوديّة إنّما هي مؤسّسة على الحبّ المشترك “لأنّ الاثنين هما في شراكة واحدة من أجل خير البشريّة”.

– في السنة 2000، أصدر قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني رسالته الشهيرة في طلب الغفران من كلّ الديانات للإساءات التي ربّما صدرت عن الكنيسة بحقّها وكذلك طلب من المسيحيّين الكاثوليك أن يغفروا لإخوتهم في الديانات الأخرى.

ومن الوقائع التي تجدر الإشارة إليها بما يخصّ العلاقات الكاثوليكيّة-الإسلاميّة، الرسالة التي وجّهها في السنة 2006، 38 مسؤولاً ومفكّرًا مسلمًا إلى البابا بندكتس السادس عشر وقد أصبحوا بعد ذلك 138 مفكّرًا وباحثًا  ومسؤولاً، يعبّرون فيها عن امتعاضهم ممّا قاله قداسته في راتسبون بألمانيا في عنف الإسلام. وفي سنة 2008 دعا العاهل السعودي إلى اجتماع لقاء الأديان جميعًا الذي حدث في مدريد وخَلُصَ إلى بيان أعلن فيه الجميع عن إيمانهم بإله واحد وعن وحدة الجنس البشري وكذلك عن رفضهم للعنف وللحروب بين الحضارات حلاًّ لمشكلات العالم، وعن أنّ مسؤوليّة العالم هي مشتركة وعن أهميّة الأسرة مدخلاً إلى وحدة الناس وعن ضرورة نقل المعارف الصحيحة من جيل إلى جيل في مجال مسؤوليّات الأديان.

       خاتمة عامّة

       لا شكّ أنّ المجمع الفاتيكاني الثاني قدّم للكنيسة الكاثوليكيّة لا بل للأديان كلّها نظرة جديدة ومنهجًا في التعاطي مع الآخر وفي رسم العلاقات، نقل المجمع بموجبها من مرحلة كان فيها التقاتل والتحريم وحتّى التكفير المتبادل هو سيّد الموقف إلى مرحلة الحوار الذي فيه الغثُّ والثمين، إلاّ إنّه الطريق الأرحب لتأسيس ثقافة التخاطب وجهًا لوجه بصراحة وبساطة من دون عنف، وثقافة التخلّي عن الأفكار المغلوطة والمسبقة عن الآخر وبناء سلوكيّات حضاريّة وعمل مشترك في مختلف القضايا الإنسانيّة والاجتماعيّة والسعي إلى استخراج القِيَم المشتركة التي تجمع وتعطي الزخم القويّ للعمل المشترك. إلاّ أنّ هذا النهج الحواري المنفتح الذي يقضي بالتعرّف إلى هويّة الآخر وتبادل ما يغني هذا الآخر وهذه الأنا ليس مجرّد اجتماع أو حدث معيّن نكتفي به، بل علّمت الأيام أنّ ذلك النهج هو مسيرة صبورة طويلة، شاقّة أحيانًا وكذلك هي فَرِحة، مُبهجة ومعزّية أحيانًا أخرى. وهذه المسيرة تتخلّلها اليوم وبعد خمسين سنة من المجمع وما نتج عنه من فوائد جمّة، بعض الأسئلة وكذلك بعض المِحن الصعبة. ففي هذا الباب يبدو أن نهج الحوار وبناء العلاقات السلاميّة لم يبدِّد الشكوك المتبادلة بين الكنائس وكذلك مع الأديان غير المسيحيّة، إذ أنّ هناك الخوف من أن يكون الحوار مجالاً لاقتناص الآخرين واللعب على وتر التبشير والدعوة. وكذلك إنّ ما تشهده ساحة الأديان من تعدٍّ على الآخر المختلف، خصوصًا بين المسيحيّين والمسلمين والهندوسيّين. وتعاظم أمر الجهات والتيّارات السلفيّة الجهاديّة العنيفة واضطهاد بعض الجماعات المسيحيّة ليس إلاّ لأنّهم يدينون بدين مختلف، لا يساعد في وضع أساسات متينة بين الأديان. وفي باب الأسئلة وأمام مرور الحوار ما بين الكنائس وما بين الأديان في حالة جليد اليوم – ولا تباشير بأنّ الجليد سيذوب سريعًا -، يتساءل البعض حول متانة وصحّة النموذج الذي قدّمه المجمع الفاتيكاني الثاني : هل هذا النموذج سوف يبقى ويستمرّ فاعلاً ؟ أمّ أنّه حان الوقت لاستنباط تصوّر جديد يُخرج الحوار من حالة الجمود والجليد ؟ أليس وراء السؤال سؤالٌ آخر أكثر إحراجًا وهو التالي : هل إنّ التصوُّر الفاتيكاني الثاني (المحور الأساسي الصلب الذي يمثّل الحقيقة في الكنيسة الكاثوليكيّة وحوله تأتي اليقينيّات الدينيّة أكانت مسيحيّة أم غير مسيحيّة) يبقى مقبولاً في نظر اللاهوت العقائدي والفلسفة والأنتروبولوجيا وعلم الأديان، أم أنّ هناك نموذجًا آخر على الكنيسة المؤسّسة أن تعمل على إعادة صياغته ؟ وإذّاك كيف يتمّ تحاشي النسبيّة التي تساوي بين الجميع والتي يمكن أن تؤسّس لخلافات جديدة أقسى من الحالية ؟ هل إنّ العمل  لتصوُّر جديد للحوار يمكن أن يقدّم علاقات مثمرة متجدّدة بين الجميع ؟ هل إنّ طريق أسيزي، طريق الصلاة المشتركة وتبادل الروح توصلنا جميعًا إلى قلب اللـه ؟ إنّها أسئلة تُطرح أمام الخمسين سنة المقبلة.

Scroll to Top