الخوري خليل شلفون
بعد مرور حوالي خمسين عامًا على القرار المجمعي في الكنائس الشرقيّة الذي أقرّه البابا بولس السادس[1]، ما هي التغيرات التي حصلت وما هي المسائل التي بقيت مطروحة إلى الآن ولم تجد حلاًّ لها ؟ هذا ما سوف نحاول تبيانه والإجابة عنه في هذه الدراسة، انطلاقًا من البعد التاريخي في مع ما سبق المجمع الفاتيكاني الثاني إقراره، ثم ننتقل إلى مجموعة قوانين الكنائس الشرقية وننتهي إلى فحص مفهوم المجمعية وتطبيقه الفعلي.
القسم الأول : حقوق البطاركة التاريخيّة
قراءة التاريخ مهمّة، فيها نستشفّ أنّ وجه البطريرك ليس شرفيًّا أو للطقوس وحسب، فهو الأب والرئيس لكنيسته المحليّة وهو الأوّل بين أساقفة كنيسته. وهو الذي يسهر على تنفيذ القوانين واحترام العادات المتّبعة والتقاليد الليتورجيّة والطقوس وإدارة كنيسته بشكل مستقلّ، مع الحفاظ على الشراكة مع سائر الكنائس، وهو الذي يدعو ويرأس المجامع المحلّية ويفصل في الخلافات بين الأساقفة ويمنع انتقال الأساقفة وحتى الكهنة والشمامسة من أبرشية إلى أخرى بدون أي سبب. والأسقف يصبح ملاصقًا بهويته لكنيسته التي هي واحدة مع سائر الكنائس وفي شركة مع سائر الأساقفة[2]. مورِسَت هذه التقاليد في الألفية الأولى حيث عاشت الكنائس الشرقيّة استقلاليّتها ومارست حقّها في إدارة شؤونها وانتخاب بطاركتها وأساقفتها دون أي تدخّل خارجي واعتبرت المؤسسة البطريركيّة أعلى سلطة في الكنيسة الشرقيّة. وعاشت الوحدة في الشراكة والتنوّع.
1. إميل عيد والوجه القانوني للبطريرك
جاءت دراسة (المطران) إميل عيد[3] إبّان افتتاح المجمع تؤكّد، قبل القرار في الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة، حقوق بطاركة الكنائس الشرقيّة في الألفيّة الأولى استنادًا إلى المجامع وقوانين يوستنيانوس. أظهر المطران عيد في دراسته التاريخيّة والقانونيّة كيفية نشوء البطريركيات وتطوّرها وحقوقها في الألفيّة الأولى، انطلاقًا من المجامع وقراراتها. فما هي حقوقها ؟ وما هي السلطات القانونيّة والسلطة الإداريّة والإيمانيّة ؟ ولمن هي الأولويّة في مهمات الكراسي البطريركيّة القديمة (روما، الإسكندرية وانطاكية) ؟ وما هي امتيازات الكنائس الكبرى ؟ فمنذ مجمع نيقية (325) وقانونه السادس، نشأت تراتبيّة بين الكنائس الأم وبناتها في الإيمان. أمّا الهدف فهو المحافظة على الشركة ووحدة الإيمان ضمن مقاطعات جغرافيّة محدّدة وضمن الكنائس المحلّية، من دون أن تكون هناك أي ازدواجيّة في السلطة لهذا أو ذاك من البطاركة[4].
شهد المجمع القسطنطيني الأوّل، المنعقد عام 380، ولادة النظام البطريركي. أدخل القانون الثاني القسطنطينيّة (العاصمة الجديدة للامبراطورية) في موقع بارز وأعطى القانون الثالث منه التقدّم الشرفي لأسقف القسطنطينيّة الذي يأتي، بحسب التراتبية، بعد أسقف الكرسي الروماني الذي بقي مصافه الأوّل قبل جميع البطاركة.
أطلق الأساقفة المئة والخمسون في مجمع خلقيدونية (عام 451)، الملتئمون بدعوة من الامبراطور تيودوسيوس الكبير، امبراطور القسطنطينيّة الذي نُسب إليه التأسيس الاندراوسيّ، بعد أن أعلن صدارة الأسقف الرومانيّ وأوّليّته، واعتبروا ان القسطنطينيّة هي روما الجديدة، نسبة إلى روما القديمة أو الأولى.
أضف إلى هاتين البطريركيتين، انطاكية والاسكندرية، اللتين هما من تأسيس رسوليّ وأورشليم من تأسيس سيّدي.
اعتبر المطران إميل عيد، كمعظم اللاهوتيين والقانونيين في الغرب، أن الأولويّة الرومانيّة هي “حق إلهي وإرادة سيدية”[5]؛ والمؤسّسة البطريركيّة أنّها وليدة تنظيم بشري كنسي. أمّا الكنائس الأرثوذكسيّة فهي لا توافق الكنيسة الرومانيّة ولا تجاريها في تعليمها بهذا الخصوص[6]. وهذا ما سوف نجده معدّلاً ومصحّحًا في المجمع الفاتيكاني الثاني.
ثبّت تشريع يوستنيانوس (527-565) النظام البطريركي الخماسي مع التراتبيّة من حيث الصدارة : القسطنطينيّة، الاسكندريّة، انطاكية، أورشليم. وأكّد في ما بعد مجمع القسطنطينية الرابع (867-872) في قانونيه السابع عشر والواحد والعشرين أولويّة روما كـ”بطريركيّة لاتينيّة” للغرب على البطريركيات الأربع الشرقيّة. أظهرت كل هذه القوانين وجه البطريرك كـ”أب” وكرئيس لكنيسته البطريركيّة التي اعتبرها ذات أساس كنسيّ وقانونيّ وتاريخيّ أكيد.
وبقيت المشكلة اللاهوتيّة بين النظرة الشرقيّة والغربيّة في تحديد ولاية الكرسي الروماني الشاملة أو السلطة الشاملة على كل الكنائس. فهل هي صدارة أوّل بين متساوين، أم صدارة شرفيّة مع بعض الامتيازات، أم ولاية وحقّ يمارس وفق الأصول القانونيّة؟[7] وهل من المعقول أن يعود الكرسي الروماني إلى الاعتراف بأنّه بطريرك الغرب اللاتيني ضمن الأولوية الشرقيّة التاريخيّة، بعيدًا من المركزيّة الرومانيّة والتدخل في شؤون الكنائس المحلّية ؟[8] وهذا ما يمهّد للوحدة بين الشرق والغرب.
2. النظام البطريركي في الألفية الثانية
حتى لو ضمن القرار المجمعيّ في الكنائس الشرقيّة في حاشيته[9] الألفية الثانية مع المجمع اللاتراني الرابع (قانون 5 و30) والمجمع الفلورنتيني في قراره في شأن اليونانيين. بعد الانشقاق الذي حدث بين الغرب والشرق عام 1054، كان هناك اختلاف بعض الشيء حول البطريركيات ومفهومها.
أعاد المجمع اللاتراني الرابع (1215) اعتبار البطريركيات الشرقيّة التي كان يترأسّها آنذاك، إبّان الحروب الصليبيّة، أساقفة لاتين وساهم في ازدواجية السلطة. فكانت الأولوية بحسب الامتيازات القديمة للكراسي البطريركيّة، للكرسي الروماني وبعدها للقسطنطينيّة والاسكندريّة وانطاكية وأورشليم.
فالحبر الروماني هو “أبو جميع المسيحيين ومعلّمهم وله الرعاية في الكنيسة الجامعة” وللبطاركة حقوقهم وامتيازاتهم التاريخية القديمة، بحسب المجامع المسكونيّة السابقة في الألفية الأولى، وتبقى الكنيسة الرومانيّة “الأم، والمعلّمة لجميع المؤمنين المسيحيين”[10].
أعاد مجمع ليون الثاني عام 1274 طرح المفهوم الغربي للصدارة الرومانيّة للسلطة البابويّة الشاملة، إذ اعتبر قداسة البابا “الأسقف العالمي”. وقد تمّت المواجهة بين الأرثوذكس الحاضرين والكاثوليك.
وبعد ذلك حدّد مجمع فلورنسا، في جلسته السادسة التي انعقدت في 6 تموز 1439، أولوية الحبر الروماني الذي هو خليفة بطرس، ونائب المسيح ورأس الكنيسة كلِّها وأبو المسيحيين بأجمعهم ومعلّمهم وله “سلطان الرعاية على الكنيسة الجامعة”[11].
ثم جدّد هذا المجمع النظام البطريركي الذي رسمته القوانين لبقية البطاركة ،بحيث أن الثاني بعد الحبر الروماني هو بطريرك القسطنطينية، والثالث بطريرك الاسكندرية والرابع بطريرك انطاكية والخامس بطريرك أورشليم، مع الحفاظ على جميع ما لهم من حقوق وامتيازات”[12]. تبقى الأولوية الشاملة لكرسي روما على الكنيسة الجامعة، وهذا غير مقبول من قبل الأرثوذكس.
3. المجمع الفاتيكاني الأوّل (1870)
لم يذكر المجمع الفاتيكاني الأوّل عام 1870 النظام البطريركي وحقوق البطاركة الشرقيين، بل أعاد إلى الأذهان أن الخلافة البطرسية هي من تأسيس إلهي، وخليفة بطرس “يحيا ويرأس ويمارس سلطة الحكم في شخص خلفائه أحبار كرسي روما”[13]. فمن يخلف بطرس له الأولويّة على الكنيسة جمعاء. ويعود مجمع فلورنسا الذي ذكرناه سابقًا لكي يؤكّد أن الحبر الروماني له الأولوية “على المسكونة كلّها” وله “السلطان الكامل لرعاية وإدارة وسياسة الكنيسة جمعاء”[14]، وذلك استنادًا أيضًا إلى كل المجامع المذكورة. فالكنيسة الرومانية لها إذًا أولوية السلطان العادي، وان سلطان الحبر الروماني، الذي هو أسقفي ومباشر، وعلى جميع الرعاة، من الطقوس والمراتب في العالم أجمع[15]. بحيث تكون الكنيسة وهي تحافظ على وحدة الشركة وإعلان الإيمان مع الحبر الروماني، رعية واحدة لراعٍ واحد. كما أعلن أيضًا هذا المجمع العصمة البابوية، أي عندما يتكلّم الحبر الروماني رسميًّا (من على المنبر) Ex Cathedra، بسلطانه الرسولي الأسمى كراعٍ ومعلّم لجميع المؤمنين، أنه من واجب الكنيسة جمعاء التمسك بعقيدة في موضوع الإيمان والأخلاق، فهو يمتّع بتلك العصمة التي أرادها الفادي الإلهي، وتاليًا تكون تحديداته هذه غير قابلة للإصلاح بذاتها ولا بفعل موافقة الكنيسة[16].
خلق هذا الإعلان نوعًا من الإرباك تجاه الإخوة المسيحيين. اعتبر بعض البطاركة الشرقيين أن المجمع الفاتيكاني الأوّل لا يحترم التوازن الوارد في مجمع فلورنسا الذي اعترف بأوّلية الحبر الروماني مع الحفاظ على المؤسّسة البطريركيّة[17]. وقد عبّر عن ذلك بعضهم بانسحابهم من الجلسة لدى التصويت على هذا الاقتراح (البطريرك يوسف للروم الكاثوليك وبطريرك الكلدان وبطريرك السريان الكاثوليك)[18]. وكان هناك اقتراح من قبل البطريرك يوسف للروم الكاثوليك الملكيين بالرجوع إلى “البنتارخية”، أي البطريركيات الخمس التي يقبلها الارثوذكس من دون اعتراض[19].
عبّر البابا لاون الثالث عشر في رسالته Gratulations Praeclara عن نيّته الحفاظ على حقوق البطاركة الشرقيين وامتيازاتهم، بحسب ما ورد في التقليد الشرقي من ناحية وما أسفر عنه مجمع فلورنسا من ناحية أخرى[20]. ثم أصدر البراءة الرسولية في كرامة الشرقيين Orientalium Dignitas عام 1894، والتي كانت بمثابة نقطة انطلاق جديدة في العلاقات بين الكري الرسولي وبطاركة الشرق الكاثوليك. كما كانت لها انعكاسات إيجابية على الشرقيين بشكل عام[21].
اكتملت هذه الإيجابيات في احترام التاريخ وتقدير التقاليد العريقة وممارسات نظام الشرق في الإرادة الرسولية لبنديكتوس الخامس عشر في الشرق الكاثوليكي عام 1917، وفي الرسالة العامة لبيوس الحادي عشر في الشؤون الشرقية عام 1928… إلى المجمع الفاتيكاني الثاني.
4. قداسة الإكليروس (1958) Cleri Sanctiati
نشر الكرسي الرسولي عام 1958 إرادة رسولية في “قداسة الإكليروس” تتناول الكنائس الشرقية الكاثوليكية. أقرّت هذه الإرادة الرسوليّة بسلطة البطريرك التشريعيّة واعتبرت أنّه يمارس حقّه داخل السينودس، أي مع الجمعية الأكبر والأهم للأساقفة في الكنيسة البطريركية الشرقية الكاثوليكية الواحدة. فالبطريرك هو من يدعو إلى انعقاد هذا السينودس. وكل الأساقفة الذين لديهم مسكن في النطاق البطريركي يتمتّعون بحق التصويت، أما الاستشاريون فهم الرؤساء العامون للرهبانيات. وتصبح هذه القرارات ملزمة بعد أن يوافق عليها الحبر الروماني، كما يجب ألا تتعارض مع مقررات الكرسي الرسولي الروماني. ويتمتّع البطريرك بالسلطة القضائية بواسطة المحاكم البطريركية المختلفة. أما السينودس الدائم فهو من تقليد الكنيسة القسطنطينية التي تدعوه انديموسا (endimousssa)[22] ويعتبر كجهاز إداري. كما يتمتّع بالسلطة القضائية في بعض الحالات، وبفصل النزاعات في إطار البطريركية وفي شؤونها الداخلية. وهو مؤلّف من أربعة أعضاء : أسقفين بحكم الأقدمية في الرسالة الأسقفية، وأسقف يختاره البطريرك وأسقف ينتخبه سينودس الأساقفة. كما للبطريرك صلاحيات إدارية مختلفة وليتورجية.
ونذكر من واجبات البطريرك الطاعة للحبر الروماني وزيارة الأعتاب الرسولية مرّة كل خمس سنوات، مع تقديم التقرير عن حالة البطريركية. كما يجب عند انتخاب السينودس له أن يعلن الشركة مع الحبر الروماني، وله الحق بسيامة الأساقفة والدعوة إلى انتخابهم بعد الحصول على الموافقة من الكرسي الرسولي، فهو رئيس الكنيسة البطريركية ورئيس السينودس. أما إنشاء الأبرشيات فهو في حاجة إلى موافقة السينودس[23]. من هنا التكامل والتعاضد في ممارسة السلطة بين البطريرك والأساقفة داخل العمل المجمعي الواحد أو السينودس، بخاصّة في ما يختص بالسلطة التشريعيّة، وللبطريرك صلاحية إدارية واسعة، إذ يبقى المرجع الأعلى والأخير.
لا يمكننا أن نقول بأن “قداسة الإكليروس” هي وثيقة شرفية تعيد كافة الحقوق التاريخية للبطاركة الشرقيين. فهي مقتبسة عن القوانين اللاتينية الصادرة عام 1917 وهي لم تُبعد هاجس الليتنة عن الشرق وراح البعض يعتبر هذا القرار الروماني خطأً فادحًا، إذ يعزز المركزية الإدارية الرومانية[24] في ممارسة السلطة الكنسية. فالحبر الروماني له الحق المباشر بالإشراف على كل الكنائس الشرقية الكاثوليكية. إضافة إلى أن السلطة البطريركية تتوقف عند حدود رقعته البطريركية. أما خارج هذه البقعة، فسلطته هي ليتورجية وشخصية وغير مكانية. فالمؤمنون الشرقيون خارج الرقعة البطريركية هم خاضعون لسلطة الكنيسة المحلية. والحقوق هي شخصية ضمن الطقوس أو الكنائس ذات الطابع الخاص. والمصاف البطريركي يأتي بعد الكرادلة والكوريا الرومانية. ولا يستطيع البطريرك كأب ورئيس لكنيسته أن يمارس سلطته خارج الحبر الروماني الذي يعطيه شرعية وجوده والذي يمكن أن يتدخّل في عدم استطاعة السينودس انتخاب بطريرك جديد على سبيل المثال. كما يستطيع الكرسي الرسولي رفض الأسماء المنتخبة من قبل السينودس لكرسي أسقفي شاغر في كنيسة بطريركية ما. ويبقى الحكم النهائي للكرسي الرسولي، وهذا ما يُحجِّم دور البطريرك والسينودس، وهذا ما دفع المطران بطرس مدوّر إلى القول “إن الكرسي الرسولي يتعامل مع البطاركة الشرقيين كتعامله مع الأساقفة والكرادلة في الكنيسة اللاتينية”[25].
فللكرسي الرسولي حق التدخّل في شؤون الكنائس الشرقيّة، وهذا ما ينزع هنا صفة الاستقلالية، كما هي الحال في الكنائس الشرقية غير المتّحدة بالكرسي الرسولي. لذا كان الأمر الكبير لدى جميع الشرقيين أن يُحدث المجمع الفاتيكاني الثاني تغييرًا جذريًّا لهذه العلاقات وإعادة الحقوق والامتيازات التاريخيّة للبطاركة والمجامع المحلية الشرقيّة.
5. القرار المجمعي في “الكنائس الشرقية”
كان للمطران إدلبي[26] الدور البارز في صياغة هذا القرار المجمعي وفي تفسيره، وقد خصّص له دراسة عام 1970[27]. تظهر ذكريات المطران إدلبي في المجمع الفاتيكاني الثاني[28] الخلفيات الحياتيّة والمواقف اللاهوتيّة التي كانت وراء بعض النصوص المجمعيّة. والسؤال المهم الذي طرحه آنذاك مع البطاركة والأساقفة الشرقيين هو مكانة البطريركيّة ودورها في الكنيسة وكيفية التوافق مع أولوية الكرسي الروماني. فكان من المهم إقناع ألفين وخمسمئة أسقف من العالم أجمع بأهميّة المصاف البطريركيّة التي ليست ذخيرة من الماضي بل لها دورها الفعّال في الكنيسة. فكان لا بد من العودة إلى التاريخ وإلى الألفية الأولى من الكنيسة حيث اعتبرت الكنائس الشرقيّة أسقف روما وخليفة بطرس وبولس بطريرك الكنيسة الغربية وهو يؤلّف مع البطاركة جمعية بطريركيّة تترأس الكنيسة الواحدة الجامعة[29]. فاعتُبر أسقف روما بطريرك الغرب والأول في إيطاليا على غرار بطاركة الشرق بحسب مبدأ البنتاركيا (Pentarchie) وأولوية الكراسي البطريركية تصنّف بحسب المجمع الخلقيدوني. فله إذًا الأولوية على سائر البطاركة الشرقيين الذين يرأسون كنائسهم المختلفة بحسب تراتبية المجمع الخلقيدوني. ولكن لم يعد هنا القرار المجمعي إلى مبدأ البنتاركيا ولم يذكره بشكل واضح.
لم يربط هنا المطران إدلبي الحقوق التاريخيّة للبطاركة والتي هي من تأسيس رسولي كما فعل بالنسبة إلى كرسي بطرس في روما. وسلطة البطريرك لا تفوق سلطة الحبر الروماني الذي يبقى، بحسب العدد الثالث من هذا القرار، “الحَكَم الأعلى” على العلاقات بين الكنائس، لأنه “خليفة بطرس بإرادة إلهية”. وكل الكنائس الخاصة في الشرق كما في الغرب على السواء، والتي تختلف بعض الاختلاف من حيث الطقوس والليتورجيا والنظام الكنسي والتراث الروحي، فهي تنعم “بكرامة متساوية”، ولها “الحقوق عينها”، وعليها كل الواجبات “بإرشاد من الحبر الروماني”. فسلطة البطريرك ليست مطلقة ولا تفوق سلطة الحبر الروماني، وهذا هو أيضًا التراث التاريخي المشترك الذي تعترف به كل الكنائس الشرقية.
بفضل المطران إدلبي وفضل الشرقيين حصلت الكنائس الشرقيّة على ضمانة ثابتة من الكنيسة اللاتينيّة، رغم تفوّق عدد أبنائها المنتشرين في العالم، الضمانة الثابتة باحترام تقاليدها وتراثها البطريركي، وإعادة حقوق البطاركة وامتيازاتهم طبقًا للتقاليد القديمة في الكنيسة الجامعة وعملاً بمقررات مجامعها المسكونيّة.
ويعود الفضل أيضًا للمطران إدلبي في القرار التاسع في شؤون الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة بإضافة أن “البطاركة مع مجامعهم” يؤلّفون السلطة العليا الوحيدة أو الأعلى في الكنيسة البطريركيّة في جميع شؤون البطريركيّة ولهم الحقّ بإنشاء أبرشيّات جديدة وتعيين أساقفتهم في حدود أراضي البطريركيّة، بما في ذلك الانتخاب الحر للأساقفة والبطاركة. وكان همّ المطران إدلبي التذكير الدائم بأن المسيح، وحده، هو رأس الكنيسة، وليس من رأس آخر سواه. والبابا هو أسقف روما وبطريرك الغرب، يؤدّي مع أساقفة الدنيا كافّة دور بطرس مع الرسل الباقين على قدم المساواة[30].
اعترف الدستور العقائدي “في الكنيسة” (Lumen Gentium) في العدد 23 بالمكانة الخاصة للكنائس البطريركية “العريقة في القِدَم”، وهي تتمتع “بدون ما ضير لوحدة الكنيسة ولا لمنشإ الكنيسة الجامعة الإلهي الواحد” بنظامها الخاص وبعاداتها الليتورجيّة الخاصّة وتراثها اللاهوتي والروحي. وهذا التنوّع في الكنائس المحلّية لا يمنع التقاءها في الوحدة الكنسية، إذ إن الكنيسة الواحدة لا تتجزّأ. فهذا أكبر دليل عقائدي على مكانة الكنائس البطريركيّة الفريدة في هيكيلّة الكنيسة الجامعة، إذ إن مصدرها هو “العناية الإلهية”.
أكّد القرار المجمعي في الحركة المسكونية في عدده الرابع عشر “بالكنز” الثمين الذي تشكّله الكنائس الشرقية بشكل عام، وبأن كل الكنائس هي كنائس “شقيقات” أُنشئ البعض منها على أساس الرسل، كما لها كنز ثريّ في “الليتورجيا والتقليد الروحي والقانون والعقائد”. اعترف هذا القرار في العدد الخامس عشر بأسرار هذه الكنيسة والكهنوت والافخارستيا بفضل الخلافة الرسولية. والحوار المسكوني يبدأ مع الكنائس الشرقية باعتراف صريح من قبل الكنيسة اللاتينية بأنها “تملك السلطان بأن تحكم نفسها بحسب قوانينها الخاصة بها” وان كل “تراثها الروحي والليتورجي والمسلكي واللاهوتي في مختلف تقاليده، هو جزء لا يتجزأ من كاثوليكية الكنيسة ورسوليّتها” (العدد 17).
أما أمر إنشاء بطريركيات جديدة، التي طالب بها بعض الآباء الآتين من أوكرانيا أو من الهند أو من الحبشة، فذكّر العدد الحادي عشر من الكنائس الشرقية الكاثوليكية بأن النظام البطريركي هو نظام الحكم التقليدي في الكنائس الشرقية وهو يتمنى أن تنشأ، عند الضرورة، بطريركيات جديدة، على أن يُحفظ أمر إنشائها “للمجمع المسكوني أو للحبر الروماني”، مستندًا بذلك إلى مجمع قرطاجة (419 في القانونين 17 و75) وخلقيدونية (450 في القانون 12) والإرادة الرسولية لبيوس الثاني عشر (قداسة الإكليروس في القانون 129). وهذا ما كان اقترحه المطران إدلبي للّجنة التحضيرية وأضاف في شروحاتها أن يُفضَّل في الوقت الحالي عدم خلق هذه البطريركيّات، احترامًا لمسار الحوار المسكوني مع الأرثوذكس، كما اقترح أن “تُخلق هذه البطريركيات بعد أن تتم الوحدة بين الكنائس”[31].
ما هو مدى تأثير المجمع على القوانين الشرقية التي حددت دور البطريرك ؟ وما كانت أهمية “المجمعية”؟ بعد أن عالجنا تطوّر مفهوم “البطريركية”، سوف نتوقّف لقراءة القوانين الشرقية التي صدرت بعد المجمع، وفي ضوئه، في بادئ الأمر، ثم ننتقل إلى المجمعية في القسم الثالث من دراستنا هذه.
القسم الثاني : البطريرك في مجموعة قوانين الكنائس الشرقية[32]
كيف ترجمت مجموعة الكنائس الشرقية الحقوق التاريخية والامتيازات البطريركية ؟ وكيف حددت إشكالية صلاحية البطاركة خارج الرقعة التقليدية ؟ ما هو دور البطاركة في انتخاب الحبر الروماني ؟ هذا ما طرحه المجمع الفاتيكاني الثاني وحاول القانون ترجمته مع بعض الصعوبات التي ما تزال قائمة إلى الآن.
1. حقوق البطاركة وامتيازاتهم
1. 1. سلطة البطريرك
في التفكير الذي سبق المجمع الفاتيكاني الثاني، كانت سلطة البطريرك نابعة من الحبر الروماني. أمّا بعد المجمع فالبطريرك (القانون 63) فهو منتخب من قبل مجمع أساقفة كنيسته البطريركية. فالأب والرأس هو الأوّل بين أساقفة الكنيسة البطريركية وخادم الوحدة فيها. وهو يمارس صلاحياته شرعيًّا منذ تنصيبه، وهو مدعوّ لكي يمارس صلاحياته كاملة، قبل أن ينال الشركة الكنسية من الحبر الروماني، فيدعو السينودس إلى الانعقاد ويحقّ له أن يرسم أساقفة (قانون 77، 1 و2). وهذا توضيح للقرار 9 “في الكنائس الشرقية الكاثوليكية” الذي يحترم الاستقلالية الداخلية لكل كنيسة بطريركية، مع الحفاظ على الشركة الكاملة مع الحبر الروماني. وفي هذا القانون نجد تقاربًا كبيرًا مع الكنائس الشرقية الشقيقة. والذين يشاركون في انتخاب البطريرك هم كل أساقفة الكنيسة البطريكية ومن خارجها أيضًا، ولا يمكن قبول أي “أسقف غريب”. وهذا دليل آخر على استقلالية كل كنيسة بطريركية، إذ إن الكنائس البطريركية لها وحدها الحق بأن تدير شؤونها بحسب قوانينها الخاصة[33]، وكل تدخّل من الشعب أو من السلطة المدنيّة مرفوض. أمّا إذا لم يتمّ الانتخاب في خلال خمسة عشر يومًا من افتتاح سينودس أساقفة الكنيسة البطريركيّة فيُحال الأمر على الحبر الروماني (قانون 72، 2). هنا يعيد ما جاء في القاعدة المطابقة للقانون 232 من الإرادة الرسولية “قداسة الإكليروس”، إذ يؤكّد ان الحبر الروماني هو الضمانة لحسن سير الحياة المجمعية في الكنائس الشرقية الكاثوليكية. وهذا ما يدلّ على ان استقلالية الكنائس الكاثوليكية الشرقية ليست مطلقة كالكنائس الشرقية الأرثوذكسية. فهي استقلالية تتوافق وتقف عند حدود الشراكة مع السلطة العليا، ألا وهي سلطة الحبر الأعظم.
1. 2. أولوية الكرسي الروماني
في رسالة البابا يوحنا بولس الثاني “ليكونوا واحدًا” (Ut Unum Sint) في 25 آذار 1995، أي بعد خمس سنوات من مجموعة القوانين الشرقية، طلب فيها الغفران كما سبق وفعل البابا بولس السادس، “عما هي الكنيسة الكاثوليكية مسؤولة عنه، فيما دمغت ذاكرة المسيحيين الآخرين وبعض الذكريات الأليمة”[34] محدّدًا أن رسالة أسقف روما تقوم على السهر، كخفير، بحيث يُسمع، بفضل الرعاة في جميع الكنائس الخاصّة، صوت المسيح الراعي الوحيد والحقيقي. هكذا تتحقّق في كل من الكنائس الخاصّة، الكنيسة الواحدة. كما على أسقف روما أن يؤمّن شركة الكنائس كلّها. فهو أوّل خدّام الوحدة، وقد ووُرثت الأولوية في الألف الأوّل من أجل الوحدة. ويدعو البابا في العددين 95 و 96 “جميع رعاة كنائسنا ولاهوتييها، لكي نبحث، بالتأكيد معًا، عن الأساليب التي يمكن أن تتحقّق فيها هذه الخدمة رسالة المحبة التي يعترف بها الطرفان. وهذه المهمة لا يمكننا رفضها. كما لا يسعني وحدي أن أصل بها إلى حُسن الختام”. انه دعا في قراريه إلى حوار أخوي دؤوب وإلى تجاوز كل الخلافات والنزاعات القديمة. وهذا أمر مهمّ للتقارب الأخوي نحو الوحدة.
فشركة الكنائس الخاصّة البطريركيّة مع كنيسة روما وشركة بطاركتها وأساقفتهم وعلى رأسهم أساقفتها مع أسقف روما، هي شرط أساسي للشركة الكاملة والمرئية. والرئاسة الحقيقية والأولوية الحقيقية هي رئاسة المحبة. هذه هي الأسس السليمة للبحث عن الوحدة المفقودة.
وفي مداخلة له في 29 أيلول 1998 أمام البطاركة الشرقيين الكاثوليك أعاد قداسة البابا يوحنا بولس الثاني طلب توضيح أولوية المحبة في خدمة وحدة الكنائس، بخاصّة ان معظم هذه الكنائس الشرقية تشارك اخوتها الكنائس الأرثوذكسية اللاهوت والليتورجيا والروحانية والقوانين عينها[35].
إضافة إلى أهمية هذه البطريركيات الكاثوليكية للتقارب مع الأرثوذكس، نتساءل عن حقوق البطاركة أيضًا وواجباتهم في هذه المجموعة التشريعية الجديدة ؟
1. 3. حقو ق البطاركة
سلطة البطاركة ليست مفوّضة إذًا من قبل الحبر الروماني. انها ذاتيّة، يمارسها البطريرك بذاته لأنّها متّصلة بكرسيّه البطريركي، وهي تمارس ضمن أراضي الكنيسة البطريركية. والكنيسة البطريركية هي ذات حقّ خاص، لذا يمثل البطريرك الكنيسة في جميع قضاياها القانونية لدى السلطات المدنية والكنسية. ويستطيع أن يصدر المراسيم العامة التنفيذية، ضمن نطاق صلاحيّاته، من دون أن ينسى أنّه الأوّل بين إخوة أساقفة متساوين معه، وعليهم أن يمارسوا سلطتهم أيضًا جماعيًّا مع سائر الأساقفة. وهو يحتاج إلى استشارة السينودس الدائم أو سينودس أساقفة الكنيسة البطريركية. وإن أنشأ اكسرخسيات عليه أن يُعلم الكرسي الرسولي، كما في زيارته خارج الأراضي البطريركية. كما يقع عليه تنصيب ورسامة الأساقفة الآخرين في كنيسته البطريركية، حتى الذين أقامهم الكرسي الرسولي خارج حدود الرقعة البطريركية (قانون 96، 2). ولا بدّ له من أن يكون بقرب كرسيه دائرة بطريركية مؤلّفة من أجهزة عدّة (قانون 87). وعليه مهمة حلّ النزاعات المحتملة بين الأساقفة. كما يجب ذكره بعد الحبر الروماني وقبل الأسقف المحلي بهدف إظهار الوحدة معه ووحدة الكنيسة البطريركيّة. وعليه السهر على استقامة إدارة جميع أملاك الكنيسة. ماذا عن انتخاب الأساقفة أو تعيينهم ؟
1. 4. انتخاب الاساقفة
بحسب القانون 181، ينتخب الأسقف سينودس الكنيسة البطريركية، وفقًا للمواصفات التي تضعها مجموعة القوانين (ق 180). أمّا الأساقفة الذين هم خارج رقعة الكنيسة البطريركية في بلاد الانتشار فيعود اختيارهم إلى الحبر الروماني (قانون 181، 2) بناءً على اقتراح يقدّمه سينودس الأساقفة بثلاثة أسماء (قانون 149). هكذا تساهم الكنائس المحلية بانتقاء أساقفتها، كما يؤدي الحبر الروماني دوره ايضًا. إن إمكان التدخّل للحبر الروماني قبل الموافقة موجودة في اختيار الأساقفة، وهذا ما يحصّن بعض الكنائس ويحميها من التداخلات السياسية الممكنة في انتخابات الأساقفة. كما ان للكنيسة المحلية حقّ المشاركة في ترشيح الأسماء وانتخابها وهذا ما يعزز استقلاليّتها واحترام خصوصيّتها. إنّها خطوة مهمّة نحو الوحدة مع الكنائس الشرقية الأرثوذكسية.
2. هوية الكنائس الشرقية ذات الحق الخاص (Sui Juris)
ما هو الجديد في مجموعة قوانين الكنائس الشرقية ؟ إن تسمية الكنائس الشرقية الكاثوليكيّة الجديدة بكنائس “ذات حق خاص” (Sui Juris) (القانون 27)، إذ اعتبرها المجمع الفاتيكاني الثاني كنائس خاصّة أو طقوس خاصّة وهو أمر جديد[36]. ويضيف القانون (27) بان الاعتراف “باستقلالها” نابع من “السلطة الكنسية العليا”. وقد حدّدتها مجموع القوانين “بجماعة المؤمنين الذين تجمعهم رئاسة كنسية على قاعدة الشرع”. وفي القانون 57 الذي يحدّد في بنده الأوّل شرعية إقامة كنائس بطريركية أو إعادتها أو تغييرها أو إلغائها، فهي محفوظة للسلطة الكنسية العليا. وهي وحدها تستطيع أن تغير الألقاب الممنوحة لكل كنيسة بطريركية (بند 2) كما تطلب أن يكون للكنيسة البطريركية كرسي ثابت لإقامة البطريرك في المدينة التي يتّخذ منها البطريرك لقبه “إذا أمكن ذلك” (بند 3). ويحدّد القانون 155 في بنده الثاني أنه “يعود أيضًا للسلطة الكنسية العليا وحدها حقّ إنشاء الكنائس المتروبوليتية ذات الحق الخاص (Sui Juris) وتغييرها وإلغائها ورسم تخوم محدّدة لرقعتها”. هذا ما يتوافق مع العدد 9 من “الكنائس الشرقية”. كما أكّد ذلك (Pastores Gregis) في عدده 61 في “حقّ إنشاء كنائس بطريركيّة جديدة إذا دعت الحاجة. وأضاف إلى السلطة العليا، وحتى سلطة المجمع المسكوني أيضًا”[37].
ان إعادة بعض الاستقلالية الداخلية للكنائس الكاثوليكية الشرقية لا تضعف الكنيسة الكاثوليكيّة بل تزوّدها أيضًا بغنى الشرق القديم الذي مارسته الكنيسة جمعاء في الألف الأوّل. كما أن وجودها يلقى دورًا فاعلاً في التقارب مع الكنائس الشقيقة غير المتّحدة بروما. هذا ما فعلته منذ البدء. وهكذا أصبحت الكنيسة اللاتينية الرومانية أكثر “كاثوليكية” في انفتاحها على الآخرين وانثقافها الحضاري واللغوي والليتورجي وحتى الإداري. تبقى عالقة مسألة امتداد سلطة البطريرك خارج الإطار الجغرافي المعترف به مع الحفاظ على الغنى الطقسي لكل كنيسة ذات حقّ خاص، أي غنى التراث الليتورجي واللاهوتي والروحي والتنظيمي المختلف، المتأتي من تراثات متعددة : الاسكندرية والانطاكية والأرمنية والكلدانية والقسطنطينية (قانون 38، 1 و2).
3. سلطة البطريرك خارج رقعة الكنيسة البطريركية
يمارس البطريرك حقّه ضمن حدود الرقعة البطريركيّة المحدّدة وعلى أبناء كنيسته أينما وُجدوا فيها. وله الحقّ أن يقيم أبرشيّات أو إكسرخسيّات جديدة فيها (القانون 146). فكل بطريرك مع سينودس كنيسته يمارس سلطته على جميع المؤمنين المسيحيين التابعين له (قانون 147). فهذا يعني الاعتراف بالسلطة الشخصيّة أيضًا للبطريرك. مما يؤكّد أهمية المساواة بين كل الكنائس ذات الحقّ الخاص. أمّا خارج حدود الكنيسة البطريركيّة، فيجب اعتبار الرئيس الكنسي للمؤمنين المسيحيين الرئيس الكنسي لكنيسة أخرى ذات حقّ خاص أو من يعيّنه الكرسي الرسولي، أو البطريرك مع موافقة الكرسي الرسولي (قانون 916، بند 5). ويحقّ للبطريرك أن يقترح على الكرسي الرسولي إنشاء رعايا وأبرشيّات وإكسرخسيّات في عالم الانتشار، حيثما يوجد أبناء بطريركيّـته (قانون 148). وفي حال حصول ذلك ينتخب السينودس أقلّه مرشحين، ويرسل الأسماء إلى الحبر الروماني بهدف التعيين. أمّا قبل المجمع الفاتيكاني الثاني، فكان الكرسي الرسولي يعيّن الأساقفة بناءً على اقتراح من مجمع الكنائس الشرقيّة. ويبقى هذا الأخير ملتحقًا بالسلطة الكنسيّة في الكنيسة البطريركيّة ضمن طقسه، وفقًا لحدود القانون.
فالأساقفة الموجودون خارج رقعة الأراضي البطريركيّة، لهم حقّ وعليهم واجب الاشتراك في سينودسات كنيستهم وفي انتخاب البطريرك وأساقفة كنيستهم، كما للبطريرك صلاحيّة أن يرسم وأن يُنصِّب الأساقفة والمتروبوليتيين الموجودين خارج حدود رقعة أراضي الكنيسة البطريركيّة (قانون 86، البند 2) كما عليه السهر على جميع مؤمنيه في العالم (قانون 148، البند 1).
في نص الانتشار الماروني من المجمع البطريركي الماروني الصادر عام 2006، نجد ان الانتشار الماروني هو علامة من علامات الأزمنة (رقم 46) في الكنيسة المارونيّة[38]. نستطيع أن نطبق هذا القول على كل الكنائس الكاثوليكيّة الشرقيّة فنقول بان الانتشار المسيحي الشرقي يشكّل منطلقًا جديدًا لعيش وحدة الكنيسة ضمن التنوّع وتعددية اللغات والثقافات والتراثات والطقوس الليتورجيّة المختلفة. وهذا يتطلّب نقل التراث الشرقي وترجمته إلى جميع بلاد الانتشار. هكذا تبقى كل كنيسة بطريركيّة واحدة، وعلى رأسها بطريركها وراعيها الأوّل، ساهرة على كل الجماعات البعيدة في جو من العولمة الجديدة ومرتبطة روحيًّا وكيانيًّا بالكرسي البطريركي، كما ترتبط الكنيسة المحليّة بالانتشار الذي يقوّيها (عدد 32). هكذا تتغذّى الوحدة المنشودة. وتبقى جميع هذه الكنائس بطريركيّة ومجمعيّة قائمة بحدّ ذاتها وهي في شركة تامّة في ما بينها ومع الكرسي الرسولي الروماني.
والتعبير عن الوحدة يكون ضمن الليتورجا والصلاة وممارسة الأسرار والحياة المجمعيّة. مع الانتشار أصبحت الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة كلّها كنائس عالميّة الحضور، برغم أن تراثها يبقى شرقيًّا (عدد 40). هكذا نعيد فهم المبدإ الكنسي القديم الذي ظهر في القانون الثامن للمجمع المسكوني الأوّل في نيقية (325)، والذي يقضي بأن يكون للمدينة الواحدة أسقف واحد. ونقول بأن ظروف تطبيقه قد تغيّرت. وهكذا رأت الكنيسة الكاثوليكيّة ألاّ يكون في مدينة واحدة أكثر من أسقف واحد فقط، لا أسقفان، على أن يكون التعاون بينهم فاعلاً ومنظّمًا لخير الجميع[39]. هكذا تُعاش شموليّة وكاثوليكيّة الكنسية المحلّية.
كانت المجمعيّة طريقة لعيش هذه الشموليّة ضمن الكنائس المحلّية. فكيف حدّدتها مجموعة القوانين الشرقيّة ؟ وكيف حاولت الكنائس عيشها في ما بعد ؟
القسم الثالث : المجمعية في حياة الكنائس الشرقيّة وتشريعها
1. المجمعيّة بحسب قوانين الكنائس الشرقيّة
“البطاركة مع مجامعهم يؤلّفون المرجع الأعلى في جميع شؤون البطريركيّة”[40]. إذن المؤسّسة البطريركيّة مرتبطة بالمؤسّسة المجمعيّة بحيث ان مهمّة البطريرك تُفهم في السينودس ومعه[41]، ومهمّة السينودس مع البطريرك. والبطريرك هو أسقف الكرسي الأوّل في الكنيسة البطريركيّة. فهو العضو الأوّل في السينودس أو مجمع الكنيسة البطريركيّة. ويحدّد القانون 102 من مجموعة القوانين الشرقية أن اعضاء السينودس هم جميع الأساقفة الذين ينتمون إلى الكنيسة البطريركيّة (Sui Juris) ذات الحقّ الخاص، ضمن الرقعة البطريركيّة وخارجها. يصبح الأسقف عبر الرسامة راعيًا لكنيسة محلّية ويدخل في شركة مجمعيّة مع سائر الأساقفة.
فالمجمعيّة هي السبيل الذي سلكته الكنيسة منذ القدم، أي منذ مجمع أورشليم سنة 49 (أعمال الرسل 15 : 1-6)، لتصون الوحدة من الانحرافات التي قد تطرأ إلا في بعض الكنائس، أكان على صعيد الإيمان بالعقائد أم على صعيد المسلك والأخلاق. فكانت هناك مجامع إقليميّة للنظر في مختلف الأمور العقائديّة والإداريّة المشتركة بين الكنائس. وتبدأ الشركة بين الكنائس انطلاقًا من رسامة الأسقف التي تتم دومًا على يد ثلاثة أساقفة من كنائس مجاورة[42]. وكل أسقف مدعو لأن يحمل همّ جميع الكنائس، متّحدًا مع الآخرين في هيئة، وفي شركة مع الحبر الأعظم[43]. كما يدعو المجمع الفاتيكاني الثاني الأساقفة لأن يعوا رابط الاتّحاد الذي يقوم أبدًا في ما بينهم، وان يظهروا اهتمامًا بجميع الكنائس، وذلك بحكم التدبير الإلهي وواجب المسؤولية الرسولية[44].
تتحقّق المجمعيّة من خلال سينودس الكنيسة البطريركيّة وهي “تساهم، بوجوه متعدّدة ومثمرة، في أن يتحقّق الشعور الجماعي بصورة محسوسة”[45]. فالبطريرك هو الذي يدعو الأسقافة، كما انه هو الذي يترأس السينودس وهو الذي يضمن قانونيّة الحياة المجمعيّة في كنيسته[46]. يفرض القانون 105 من مجموعة القوانين الشرقية واجب الحضور الشخصي للأساقفة في السينودس.
يتمتّع مجمع أساقفة الكنيسة البطريركيّة بالسلطة التشريعيّة والقضائيّة وانتخاب البطريرك والأساقفة (قانون 110). بينما يتمتّع البطريرك بالسلطة الإداريّة وتُعتبر القوانين الصادرة عن السينودس في كل كنيسة بطريركيّة مصدرًا أساسيًّا للحقّ في الكنيسة البطريركيّة عينها.
يعتبر المجمع البطريركي المحكمة العليا داخل حدود رقعة الكنيسة البطريركيّة، كما يتوجّب عليها التوجّه إلى الحبر الروماني للموافقة، بحسب القانون 111. أمّا بعض الأعمال فيجب أن تبلّغ إلى سائر بطاركة الكنائس الشرقيّة.
المجمعيّة تقيم توازنًا سليمًا يعيد إلى الشركة الكنسيّة في الكنائس البطريركيّة لحمتها وتعاضدها. وهو يقتضي، إضافة إلى القوانين الصادرة عن الشرع الكنسي، التعاون والحوار ضمن الكنيسة البطريركية الواحدة ومع كل الكنائس البطريركيّة الكاثوليكيّة في لبنان (مجلس البطاركة والأساقفة وفي الشرق مجلس بطاركة الشرق)، ومع الكرسي الرسولي (في المجامع الكاثوليكيّة بشكل عام وفي المجامع الخاصّة بلبنان وبالشرق عمومًا). كما هو ضمانة أكيدة للحوار المسكوني في إطار مجلس كنائس الشرق الأوسط وفي لقاء البطاركة الشرقيين.
2. البطريركية والمجمعيّة في الإرشاد الرسولي
أنشأ البابا بولس السادس في أعقاب المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، بمرسوم خاص صدر في 15 أيلول 1965 مطلعه “العناية الرسوليّة : “مجلس دائم خاص، مؤلّف من أساقفة، غايته تمكين الشعب المسيحي من متابعة الاستفادة من الخيور الغزيرة التي أغدقها عليه، إبّان انعقاد المجمع المسكوني، الاتّحاد الحيّ الذي قام بين البابا والأساقفة”. هدفه التعاون بين الكرسي الرسولي وأساقفة العالم أجمع وإسداء مشورة في المسائل التي من أجلها يكون قد دعي المجمع. فهناك جمعيّتان : جمعيّة عامّة تعالج قضايا الكنيسة الجامعة، وجمعيّة خاصّة تعالج قضايا كنيسة محلّية أو منطقة أو مناطق عدّة أو قارة. وأراد قداسة البابا يوحنا بولس الثاني أن يلتئم مجمع راعويّ خاص بلبنان تطرح فيه الكنائس الكاثوليكيّة في لبنان أسئلة على ذاتها، تساندها الكنيسة الجمعاء لكي تتجدّد روحيًّا وتشهد للإنجيل بصدقٍ وانسجام ولأجل بناء مجتمع جديد.
يحدّد الإرشاد الرسولي “رجاء جديد للبنان”، الذي أصدره قداسة البابا يوحنا بولس الثاني عام 1997 بعد جمعية سينودس الأساقفة الخاصة (1995) بلبنان أن الكنائس البطريركية[47] هي للكنيسة الجامعة ولكنيسة لبنان “ثروة لا تنكر”، وذلك بفضل التقاليد العريقة المميزة منذ مجامع الكنيسة الأولى وعلى مدى الألف الأوّل من تاريخ المسيحيّة[48]. ويستند هذا الرأي إلى المجمع الفاتيكاني الثاني في دستوره العقائدي، “نور الأمم”، الفقرة الثالثة والعشرون[49] والقرار في الكنائس الشرقية الكاثوليكيّة، الفقرة السابعة[50].
ويضيف الإرشاد الرسولي أن الكنائس الأرثوذكسيّة تشارك في معظمها في هذه التقاليد العريقة. فالشرق يحتوي كنائس خاصة أو محلية عدّة وكنائس بطريركيّة يفخر بعضها بأن الرسل أنفسهم قد انشأوها، وهي تملك كنزًا ثريًّا اتسمت به كنيسة الغرب بالكثير من العناصر في الليتورجيا والتقليد الروحي والقانوني. ويناشد المجمع الفاتيكاني الثاني في قراره المجمعي في الحركة المسكونية Unitates Redintegratio [51]. تراعي الكنيسة الكاثوليكية هذه الحالة الخاصّة التي كانت عليها كنائس الشرق في مولدها وترعرعها[52] وطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بينها وبين الكرسي الروماني قبل الانشقاق[53] أي في الألفية الأولى.
هذا الزمن، “زمن النعمة” عاشته جميع هذه البطريركيات من خلال سينودس الاساقفة الخاص بلبنان بفضل ما قام به من مشاركة فعّالة مع مندوبين من الكنائس الشرقيّة الأرثوذكسيّة في لبنان. فكان هناك الموفدون من قبل بطريركيّتي انطاكية للروم الأرثوذكس والسريان الأرثوذكس، ومن كاثوليكوسيّة كليلية الأرمنيّة، ومن كنيسة المشرق الأشوريّة. أسهم الموفدون في مداخلاتهم في الجلسات العامّة وحلقات الحوار، كما في اللقاءات الودّية، في نشر جوٍّ من الأخوّة والاعتراف المتبادل والحوار الحقيقي البنّاء. وقد اتّسمت هذه اللقاءات بتبديد الكثير من سوء التفاهم حول معظم الخلافات التقليديّة التي نشأت في القرن الخامس. فيدعو الارشاد الرسولي إلى “الحفاظ في شراكة الأبحاث والمحبة على العلاقات الأخويّة” التي يجب أن توجد بين الكنائس المحلّية كما توجد بين شقيقات[54].
هكذا تستطيع كل هذه الكنائس البطريركيّة الشرقيّة، التي حوّلها الدستور اللبناني إلى طوائف معترف بها سياسيًّا وقانونيًّا في الأحوال الشخصيّة، أن تتخطى الطائفية وعقلية الانكفاء وتنتقل من “الروح الطائفيّة إلى روح الكنيسة الأصيلة”[55]. هكذا يعاش المزيد من الشراكة في مختلف الكنائس المحلية.
انطلاقًا من كل هذه المبادئ التي تتجلّى فيها روح الشراكة الحقيقيّة، يذكّر الإرشاد الرسولي بألاّ ننسى أن نعبرّ عن الشراكة مع الكنيسة الكاثوليكية الجامعة. وهذه العلاقات بين الكنائس البطريركيّة “الشقيقة”، ذات الحق الخاص (Sui Juris) والكرسي الروماني نظمتها مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة كما سبق أن ذكرنا.
3. المجمع البطريركي الماروني (2003-2006)
دعا بطريرك الموارنة، مار نصرالله بطرس صفير، بعد صدور الإرشاد الرسولي “رجاء جديد للبنان” إلى عقد مجمع بطريركي استشاري ماروني [56]. فكانت الدورة المجمعيّة الأوّل في حزيران 2003 في دار سيدة الجبل – فتقا – لبنان. وشارك الموارنة والرؤساء العامون والرئيسات العامّات وعدد من المندوبين من الاكليروس والعلمانيين عن الأبرشيات والجامعات والاكليركيات إلى جانب الخبراء واضعي النصوص ومندوب عن الكنائس الشقيقة والطوائف الإسلامية ناهز الثلاثمئة مشتركًا.
وفي 5 أيلول 2005، وكل ذلك وفقًا للقانون 143 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة.، عقدت الدورة الثالثة التي وافق فيها الموارنة على النصوص والاقتراحات والمقررات لإعطائها الطابع الكنسي الرسمي. واختتمت أعمال المجمع في قداس في 13 حزيران 2006. ويلحظ القانون 141 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة أنّه يجب دعوة المجمع البطريركي مرّة كل خمس سنوات.
أمّا الروح المجمعيّة التي عاشها هذا المجمع البطريركي فهي ظاهرة في القانون 123 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، إذ يؤكّد “أنّ كل مؤمن مسيحي له الحقّ بأن يطرح مسائل لمعالجتها في المجمع البطريركي”. كما من حقّ جميع أعضاء المجمع أن “يطّلعوا في الوقت المناسب على الموضوعات التي ستناقش”، بعد أن يحدّد البطريرك أو سينودس أساقفة البطريركيّة البرنامج النهائي للموضوعات الواجب طرحها.
انها المرة الأولى، بعد المجمع الماروني اللبناني (1736) في عهد البطريرك يوسف ضرغام، التي تجتمع فيها العائلة المارونية في لبنان وبلاد الشرق والانتشار العالمي. فكل المشاركين حملوا في قلوبهم وأفكارهم “تراثًا جميلاً وآمالاً كبيرة”[57].
تباحث الحاضرون في شؤونهم، مستشرفين المستقبل بثقة ورجاء. بهذه الروح المجمعية والتوافقيّة وعلى همّة الجميع نستطيع أن نجدّد الكنيسة المارونية لتكون خميرة مصالحة وسلام وداعية حوار ومحبة وتقويم متجدّد للتقاليد، ومع العودة إلى الينابيع والتاريخ، لتأوينها في سبيل التزام حوار مسكوني ناشط. فحدّدت لكل الموضوعات ثلاثة محاور : الأوّل يردّ إلى الماضي، والثاني يحلّل الواقع الراهن، والثالث يستشرف المستقبل ويقدّم الاقتراحات مع آلية عمل.
وليس من الغريب “أن يشارك العلمانيون، فهذا دليل على مفهوم كنسي شرقي عريق وسليم وصحيح”[58].
4. مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك
غداة المجمع الفاتيكاني الثاني، أُنشِئ مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان. فهذه البنية الجديدة، التي هي ثمرة المجمع الفاتيكاني الثاني أيضًا، لم تحلّ محلّ مجامع الأساقفة في مختلف الكنائس البطريركيّة. فكل بطريركيّة احتفظت بسلطتها الخاصة في ما يتعلّق بحياتها وتنظيمها الداخلي، بعد أن اعترف المجمع الفاتيكاني الثاني بحقوق البطاركة التاريخيّة. لكن كانت هناك رغبة عبّر عنها المجمع الفاتيكاني الثاني في دستوره العقائدي “نور الأمم”[59]، كما في مهمة الأساقفة الرعوية[60].
وطالب الإرشاد الرسولي “رجاء جديد للبنان” بإعادة تنظيم اللجان الأسقفية المشتركة النابعة من هذا المجلس لتصبح أكثر عملانية وتكون حقًّا في خدمة رسالة الكنيسة[61]. كما انه مدعو باستمرار إلى تنظيم أفضل للعمل في سبيل الخير المشترك لكل الكنائس البطريركيّة الشرقيّة.
وقد أنشأ البطاركة في الكنائس الشرقية مجلسًا آخر يُدعى مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك الذي ضمّ البطاركة الأربعة في مجلس البطاركة الكاثوليك في لبنان، وهم : البطريركي الماروني، والروم الكاثوليكي، والأرمن الكاثوليكي والسريان الكاثوليكي الموجودون في لبنان. انضمّ إليهم البطريرك الكلداني في العراق، والبطريرك القبطي الكاثوليكي في مصر، وبطريرك اللاتين في القدس.
ولهذا المجلس دور في التنسيق الإقليمي بين جميع بطاركة الشرق الكاثوليك، وهو شهادة أخرى عن روح الشراكة المُعاشة بين الكنائس البطريركيّة الشرقيّة في ما بينها أيضًا وعلى صعيد شراكتها مع الكنيسة الجامعة وفي حوارها مع الكنائس الشرقية الشقيقة في كافة البلدان الشرقية : لبنان، سوريا، العراق، مصر، الأردن وفلسطين.
5. مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك
نشأ هذا المجلس الذي يضمّ بطاركة الشرق الكاثوليك السبعة عام 1991. ونذكر هنا بطريركية الاسكندرية والكرازة المرقسية للأقباط الكاثوليك في مصر، وبطريرك انطاكية وسائر المشرق والاسكندرية وأورشليم للروم الملكيين الكاثوليك في لبنان، وبطريركية انطاكية وسائر المشرق للموارنة في لبنان ،وبطريركية انطاكية للسريان الكاثوليك في لبنان، وبطريركيّة بابل للكلدان في العراق، وبطريركية الأرمن الكاثوليك في لبنان، والبطريركية الأورشليميّة للاّتين في الأردن.
اهتم منذ نشأته بالقضايا التي تواجه الكنائس الكاثوليكيّة في الشرق الأوسط. وأصدر رسائل عدّة حتى الآن تهتم بشؤون المسيحيين عامّة وبحضورهم وشهادتهم. ومن أهداف هذا اللقاء تنمية العلاقات مع البطاركة الأرثوذكس رؤساء الكنائس الشقيقة ومتابعة التفكير الأخوي المشترك معهم[62].
6. الجمعيّة الخاصّة لسينودس الأساقفة من أجل الشرق الأوسط (من 11 إلى 24 تشرين الأوّل 2010)
بطلب وإلحاح من أساقفة العراق الكاثوليك وعلى خلفيّة الحرب الدائرة هناك، أراد قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر دعوة الكنيسة الكاثوليكيّة إلى جمعيّة خاصّة لسينودس الأساقفة من أجل الشرق الأوسط في تشرين الأول 2010.
حدّد قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر في الإرشاد الرسولي “الكنيسة في الشرق الأوسط”، الصادر بعد الجمعية الخاصّة عام 2014، دور البطاركة : “فَهُم العلامات المنظورة المرجعيّة وحرّاس الشركة اليقظون”، إنّهم “رجال الشركة وخدّام الوحدة الكنسيّة في ما بينهم وبين كل بطريرك والأساقفة، والكهنة والمكرّسين، والمؤمنين العلمانيين الخاضعين لسلطته” [63]. انهم منتخبون وعلى اتّحاد مع أسقف روما في “شركة كنسيّة. هذا ما يجعلهم علامة حسّية لجامعيّة الكنيسة ووحدتها”[64]. وضمن نطاق الأرض البطريركيّة هم علامة للشركة من أجل الشهادة. وطالب قداسة البابا “بتعزيز الوحدة والتضامن داخل مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك ومختلف السينودسات البطريركيّة”. هذا ما يدعم العمل الجماعي والتشاور الدائم حول المسائل ذات الأهمية الكبرى للكنيسة.
الأساقفة مع البطاركة هم العلامة المنظورة للوحدة الكنسيّة في التنوّع، كون الكنيسة جسدًا رأسه المسيح[65]، هكذا تتعزّز الشركة داخل الكنيسة المحلّية ومع الكنائس الشرقيّة كلّها. فالسينودس في روما كان أكبر دليل على عيش الوحدة داخل الكنيسة الكاثوليكية ضمن التنوّع الكبير للسياقات الجغرافيّة والدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة[66]. وفي هذه المناسبة جدّد البابا بنديكتوس السادس عشر إرادته في “أن نحفظ بدقّة وننمّي طقوس الكنائس الشرقية التي هي تراث كنيسة المسيح بأسرها، وحيث يتألّق فيها التقليد المتحدّر من الرسل عبر الإيمان، ويؤكّد بتنوّعه وحدة الإيمان الكاثوليكي الإلهيّة”[67].
وإذا كانت الوحدة هبة من الله تولد من الروح، فمن الواجب تنمية “المسكونية الروحيّة” بصبر دؤوب[68]. ويدعو بنديكتوس السادس عشر الجميع إلى توحيد المواقف من الشؤون الأخلاقيّة الكبرى[69] لما يشكّل مجلس كنائس الشرق الأوسط الموجودة في المنطقة مساحة مؤاتية للحوار في المحبة والاحترام المتبادل[70].
لا يمانع الإرشاد الرسولي في الاشتراك بالقدسيّات لأسرار التوبة والافخارستيا ومسحة المرضى في بعض الظروف الموآتية، بموجب قواعد محدّدة، وبعد موافقة السلطات الكنسيّة، وذلك وفقًا للقرار المجمعي في الكنائس الشرقيّة في العددين 26 و27 والقرار المجمعي في الحركة المسكونية عدد 15 ودليل لتطبيق مبادئ الحركة المسكونية وقواعدها في الأعداد 122 و128.
7. الحوار مع الأخوة الشرقيين
إن الاتّفاق الذي حصل في تشرين الأول عام 1996 حول الزيجات المختلطة مهمّ جدًّا، وهو دليل للتقارب والتعاون الرعوي الذي وقّعه البطاركة الكاثوليك في الشرق مع البطاركة الأرثوذكس، وهو الأوّل من نوعه يعبّر عن الكثير من التعاون والحوار المسكوني الراعوي.
كما شجّع قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر، في “الإرشاد الرسولي الكنيسة في الشرق الأوسط” في العدد 13، على تطبيق الاتفاقات الرعوية حيث توجد، على قدر المستطاع، بغية “تعزيز تدريجيّ لرعوية مسكونية مشتركة”. كما طالب بالتوافق على ترجمة مشتركة للصلاة الربّية “الأبانا” في اللغات المحلية. ويمكن التعاون على صعيد الأنشطة الخيرية وتقدير قيم الحياة البشرية المشتركة.
خلاصة
ماذا حصل منذ المجمع الفاتيكاني الثاني إلى الآن، في ما يخصّ مفهوم البطريركيّة والمجمعيّة، مرورًا بمجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة ؟ هذا ما حاولنا أن نوضحه في دراستنا هذه.
عبرت الكنائس الشرقيّة منذ ذلك الحين إلى الآن طريقًا شائكًا بين التمسّك بالتقاليد والمحافظة على الهويّة الشرقيّة، وهموم الوحدة والتقارب من الكنائس الشقيقة من جهة وانتمائها وإعلان الشركة مع الكرسي الرسولي من جهة ثانية، بين الانتماء إلى الشرق والشركة مع الكنيسة اللاتينيّة. تغيّرت الأولويات والتشريعات والممارسات وأصبحت الكنيسة الكاثوليكيّة اللاتينيّة أكثر كاثوليكيّة باعترافها بأهمية التنظيم البطريركي والمجمعي الشرقي القديم، كما أصبحت الكنائس الشرقيّة متأصّلة أكثر في جذورها التاريخيّة، انطلاقًا من انتشار أبنائها في جميع أنحاء العالم، على أثر الحروب الدامية التي عاشها الشرق منذ أكثر من ثلاثين سنة. ومن الممكن أن ترى في حضورها البطريركي والمجمعي دعوة إلى التقارب والحوار مع جميع الكنائس الشقيقة التي تشهد معًا للمسيح الحاضر والمنتصر على الموت.
[1] راجع القرار المجمعي في الكنائس الشرقية الذي نُشر في المجمع الفاتيكاني الثاني، ترجمة الأب حنا الفاخوري، في الطبعة الأولى عام 1992، منشورات المكتبة البولسية، جونيه.
[2] DUPREY P., La structure synodale de l’Église en théologie orientale, p. 140.
[3] EID Émile, La figure juridique du Patriarche, éd. du Latran, Rome, 1962.
[4] في القرن التاسع عشر، أعطى البابا غريغوريوس السادس عشر، عام 1838، إنعامًا خاصًّا للبطريرك مكسيموس مظلوم باتّخاذ لقب بطريرك انطاكية والاسكندرية وأورشليم. وأصبح هذا القرار نافذًا مدنيًّا من السلطان العثماني آنذاك. راجع
Hajjar, Les chrétiens uniates du Proche-Orient, Paris, Seuil, 1962, pp. 266-267.
[5] المطران إميل عيد، المرجع السابق، ص 89، وص 91.
[6] الأب غبريال هاشم، النظام البطريركي والشركة الكنسية في انطاكية، مجلة المنارة، سنة 43، العددان 2-3، 2002، ص 270.
[7] هذه الأسئلة طرحها الأب غبريال هاشم في دراسته حول النظام البطريركي، المرجع السابق، ص 270.
[8] يحدّد المجمع القسطنطيني الرابع في جلسته العاشرة (28 شباط 870) “الكراسي البطريركيّة على الشكل التالي : أوّلاً بابا روما القديمة الجزيل القداسة، ثم بطريرك القسطنطينيّة، ثم بطاركة الاسكندريّة وانطاكية وأورشليم”. راجع الكنيسة في وثائقها، ترجمة المطران منصور والأب حنا الفاخوري، منشورات المكتبة البولسية، جونيه، 2001.
اعترف المجمع اللاتراني (عام 1215) بهذه الخماسية البطريركية (pentarchie). راجع الكنيسة في وثائقها، المرجع السابق، عدد 811.
[9] الكنائس الشرقية الكاثوليكية، المرجع السابق، عدد 7، الحاشية 8، ص 576.
[10] الكنيسة في وثائقها، المرجع السابق، عدد 81.
[11] المرجع السابق، عدد 1307.
[12] المرجع السابق، عدد 1308.
[13] المرجع السابق، عدد 3056.
[14] المرجع السابق، عدد 3059.
[15] المرجع السابق، عدد 3060.
[16] المرجع السابق، عدد 3074.
[17] Hajjar J., L’épiscopat catholique oriental et le premier concile de Vatican, d’après la correspondance diplomatique française, Paris, 1976, p. 427.
[18] Hajjar J., Les chrétiens uniates du Proche-Orient, op. cit., p. 308.
[19] Patelos C., Vatican I et les évêques uniates, Louvain, 1981, p. 480.
[20] Hajjar J., La France et le catholicisme oriental, op. cit., p. 46.
[21] Hajjar j., op. cit., pp. 55-58.
[22] HAJJAR J., Synode permanent et collégialité épiscopale, Rome, 1962, pp. 151-166.
[23] راجع (المطران) إيلي حداد، المجمعية الأسقفية في الكنائس الشرقية، جامعة القديس يوسف، 2003، ص 96-119.
[24] المرجع السابق، ص 114.
ZUZEK I., The Ancien Oriental Sources.
[25] المرجع السابق، ص 116.
MEDAWAR K., De la Sauvegarde des droits de l’Église orientale, pp. 231-241.
[26] Néophytos EDELBY et Ignace DICK, “Les Églises orientales catholiques, Décret Orientalium Ecclésiarum”, Paris, Unam Sanctam, Le Cerf, 1970.
[27] راجع دراسة الخوري خليل شلفون “المطران إدلبي والمجمع الفاتيكاني الثاني”، مجموع أبحاث ومقالات إلى المطران ناوفيطوس إدلبي (1920-1995)، إعداد الأبوين ناجي وبيير مصري، C.E.D.R.A.C.، جامعة القديس يوسف، بيروت، 2005، ص 195-202.
[28] Neophytos Edelby (1920-1995), Souvenirs du concile Vatican II, texte établi et traduction des notes de l’italien par Naji Edelby, éd. Centre grec-melkite catholique de recherche, Raboueh, 2003.
[29] إدلبي في تعليقه على القرار المجمعي في الكنائس الشرقية الكاثوليكية، المرجع السابق بالفرنسية، ص 73.
[30] ذكريات، ص 302.
[31] المطران إدلبي، المرجع السابق، ص 375.
[32] أصدر قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في 18 تشرين الأوّل 1990، مجموعة قوانين الكنائس الشرقية؛ راجع أيضًا مجموعة مؤلفين بالتنسيق مع الأب أنطوان راجحة، شروحات مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، منشورات المكتبة البولسية، جونيه، 2005.
[33] قرار في الكنائس الشرقية، عدد 5.
[34] البابا يوحنا بولس الثاني، ليكونوا واحدًا، (1995)، منشورات اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، جل الديب، 1995، العدد 88.
[35] L’Osservatore Romano, 30 septembre 1998.
[36] القرار 2 – 4 في الكنائس الشرقية. وأصبحت كلمة طقس مرادفة لكلمة كنيسة في بعض الأحيان.
[37] البطريركيّات الكاثوليكيّة الشرقيّة نذكرها حاليًّا بحسب الأولوية الشرقيّة :
أ. الاسكندرية للأقباط (15 آب 1824)، تمّت إعادة تكوينها في 26 تشرين الثاني 1895؛
ب. ثلاث بطريركيات في انطاكية، بطريركية انطاكية للسريان منذ 1783 وبطريركية الملكيين منذ 1724 وبطريركية انطاكية للموارنة منذ القرن الثامن أو اعتراف روما بها واشتراك البطريرك عميرة في المجمع اللاتراني عام 1215؛
ج. بطريركية بابل للكلدان (20 نيسان 1553)، بين هذه البطريركيّات الثلاث يتقدم من هو أقدم أوّلاً إلى الدرجة البطريركية؛
د. بطريركية كيليكيا للأرمن (26 تشرين الثاني 1742)؛
هـ. كما هناك بطريركية لاتينية أنشأها بيوس التاسع في 23 تموز 1847 (راجع أيضًا المطران إميل عيد، المرجع السابق، ص 191).
[38] المجمع البطريركي الماروني، ملف الانتشار الماروني، مطبعة الكريم، جونية، 2006.
[39] H. LEGRAND, “De l’exercise de la juridiction des patriarches”, in Réflexions synodales, Bkerké, 2008, pp. 99 à 136, publication de la 3e conference donnée le 23 avril 2004 à l’Université La Sagesse, Beyrouth.
[40] في الكنائس الشرقيّة، عدد 9.
[41] المطران كيرلس سليم بسترس، “الوحدة والمجمعيّة في الكنيسة”، المجلة الكهنوتيّة، 2/2001، ص 52-61.
[42] مجمع نيقية، ق 4.
[43] مهمة الأساقفة الراعوية في الكنيسة، عدد 3.
[44] قرار مجمعي في مهمة الأساقفة الراعوية في الكنيسة، عدد 6.
[45] في الكنيسة، عدد 23.
[46] مجموعة القوانين الشرقية، القانون 103.
[47] راجع رجاء جديد للبنان، إرشاد رسولي لقداسة البابا يوحنا بولس الثاني، ترجمة اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، جل الديب، لبنان، 1997.
[48] المرجع السابق، عدد 70، ص 111.
[49] المجمع الفاتيكاني الثاني، ص 63.
[50] المرجع السابق ، ص 576.
[51] المرجع السابق، في الحركة المسكونية، الفقرة 14، ص 560-561.
[52] المرجع السابق.
[53] المرجع السابق.
[54] يعود هنا الإرشاد الرسولي، في العدد 85، ص 139، إلى القرار المجمعي الفاتيكاني الثاني في الحركة المسكونية، عدد 14، وإلى الرسالة العامة لقداسة البابا يوحنا بولس الثاني، ليكونوا واحدًا (1995)، عدد 55.
[55] مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، الرسالة الرعوية الرابعة، “سر الكنيسة”، 1996، عدد 50.
[56] القانون 140 للكنائس الشرقيّة.
[57] مار نصرالله بطرس صفير، في المجمع الطبريركي الماروني، “رسالة الصوم الثامنة عشرة”، بكركي، 2003، ص 17.
[58] البطريرك الكاردينال صفير، المرجع السابق، ص. 24.
[59] نور الأمم، العددان 22-23.
[60] قرار في مهمة الأساقفة الرعوية، عدد 38.
[61] الإرشاد الرسولي، عدد 81، ص 135.
[62] مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، الرسالة الراعوية الخامسة، ليكونوا واحدًا، بكركي، 1999، عدد 75.
[63] البابا بنديكتوس السادس عشر، إرشاد رسولي “الكنيسة في الشرق الأوسط، شركة وشهادة”، منشورات اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، جل الديب، 2013، عدد 39.
[64] عدد 40.
[65] عدد 41.
[66] عدد 6.
[67] العدد 6 يستند هنا إلى المجمع الفاتيكاني الثاني والقرار في الكنائس الشرقية عدد (1)، وإلى مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ف 39، والإرشاد الرسولي، رجاء جديد للبنان في العدد 40.
[68] عدد 11.
[69] عدد 13.
[70] عدد 14.