الاب هاني شلالا م.ل
1* ينبوع النشاط الإرسالي : محبّة الله الازلية لشعبه :
” إِهتفي أيتها السماوات وابتهجي ايتها الارض واندفعي بالهتاف ايتها الجبال، فإن الربّ قد عزّى شعبه ورَحِمَ بائسيه0 قالت صِهيون :”تركني الربُّ ونسيني سيدي”0 أَتنسى المرأةُ رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى ولو نسيتِ النساءُ، فأنا لن أنساكِ0 هاءنذا على كفَّيَّ نقشتُكِ، وأسوارُكِ أمام عينيَّ في كلّ حين”(أش49/13-16)0
إنّ الكون المُفتدى بأسرِهِ يُرنّمُ للربّ : السماوات تتهلّل والارضُ تبتهج والجبال تقفز نحو السماء كأيدٍ مشدودة الى العُلى وكألسنةٍ صارخة بالحمد والتسبيح0 فالشعب المُحرَّر، وبعد عبوره في زمن التخلّي والنسيان وأتّون السبي والاذلال، يعود ليكتشف بأن محبة الله التي تفوق محبة الأم، ما زالت تغمرُه، وبأن الله ما زال رحيمًا مُتذكّرًا وعوده بالعناية بشعبه وبتأمين الحماية له0 فالله لا ينسى شعبه حتى ولو نسيت الأمُّ رضيعَها، والأبُ ابنه، والحبيبُ حبيبته0 وهو قد نقش اسمَ شعبه على كفّه كعلامةٍ ثابتةٍ بأنه لن ينساه أبدًا، وبأن كلَّ ما يعملُهُ بيده هو من أجل حبيبه0 ولهذا السبب نرى بأن المسيح قد نقش اسم شعبه على كفّه بالمسامير لتبقى آثار الجراحات علامة حبّ أبدي، وليبقى هو ساهرًا من على صليبه على أسوار مدينته ليحميها من الاشرار والمُعتدين0 فقصّة الله مع شعبه هي قصّة حبٍّ أبدي، مُتجدّد وأمين0
ففي التكوين أشرك اللهُ الانسان في ذاته فخلقه على صورته، فكانت أوّلُ رسالة حب0 وبعد خطيئة آدم وحوّاء، أظهر اللهُ رحمته فوعدهما بالمخلّص الذي يسحق رأس الحية، ويُعيد إليهما كرامتهما وحريتهما، فكانت ثاني رسالة حب0 وفي التجسّد أعلن الله عن ذاته التي هي حبٌّ لامتناهٍ بالمسيح، وتمّم هذا الاعلان بسر الفداء الذي هو عطاء حتى الفناء بالموت للحياة، فكانت ثالث رسالة حب0 وبعد العنصرة، وعد اللهُ البشرية بتحقيق حلمها الاثمن في اكتمال الاتحاد معه في الملكوت الجديد، فكانت رابع رسالة حب0 وفي تحقيق الرسائل الاربع النهائي، تكون مملكة الحب الالهي قد اكتملت0
فهذا يكشف لنا بوضوح ان الخليقة كلها هي موضوع حب الله، وفي طليعتها البشرية، وعلى رأس البشرية المرسلون المُختارون ليردّوا الشعوب والامم الى نور المسيح، ويُساهموا في تنفيذ تدبير الآب السماوي الذي لا يريد أن يَهلِكَ أحدٌ من أبنائه، بل أنْ يَخلُصَ الجميع، ويبلغوا ملء الاتحاد به في سرّ محبته السرمدية0
2* الآياتُ هي ختمُ صدق الرسالة :
لقد كشف الله عن حبّه للبشرية على مدى التاريخ من خلال تجلّيه وقيادته للآباء والانبياء قديمًا، ومن خلال اعتلانه ومرافقته للرسل والقديسين في العهد الجديد، مثبّتًا حقيقة أقوالهم بالآيات والعجائب0 وقد افتتح يسوع بشارته، بعد انتصاره على ابليس في البرية، بعبارة:”حان الوقت واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالانجيل” (مر1/15)، أي “حان الوقت وانقضى زمن ابليس، فتوبوا وآمنوا لتتحرّروا من سلطانه”0 وبهذه الكلمات رسم يسوع طريق الخلاص للناس لينضمّوا الى مملكة الله الجديدة0 وقد كانت اول علامةٍ لاقتراب ملكوت الله، المواجهة الحاسمة التي جرت بين يسوع وابليس في كفرناحوم0 فبعد أن علَّم يسوع في المجمع، صاح رجلٌ من بين الجمع يسكنه روحٌ نجسٌ قائلاً:”ما لنا ولك يا يسوع الناصري؟ أجئتَ لتٌهلكنا؟ أنا أعرفُ من أنت: أنتَ قدوس الله”0 فانتهره يسوع قائلاً:”إخرس واخرج منه!”، فخبطه الروحُ النجسُ، وصرخ صرخةً شديدة، وخرج منه”0 فدهش الحاضرون وأخذوا يتساءلون:”ما هذا؟ إنه لتعليمٌ جديد يُلقى بسلطان: حتى الارواح النجسة يأمرها فتُطيعه”(مر1/21-28)0 إنّ هذا المشهد يُبيّن لنا كيف ان ابليس لم يستطع ان يُراوغ او يُساوم او يُخادع ليبقى حيث هو، لانه لا مكان له في ملكوت الله الجديد:”إخرسْ واخرجْ منه!”، قال له يسوع0 وكانت الآيات تُثبتُ حقيقة التعليم الجديد، فيسوع كان يُعلّم ويعمل بسلطان0 وقد كان لهذه الاعاجيب تأثيرها المباشر على الناس الذين أذاعوا الخبر في كل مكان من ناحية الجليل بأسرها0
ومن هذا المشهد نستنتج أن هدف الرسالة هو :أولاً كشف حقيقة ابليس المُخادع وقتّال الناس، وثانيًا إظهار قدرة الله على سحقه، وثالثًا تحرير الناس وإعادتهم بحريتهم الى بيت الآب للمشاركة بمجده وسعادته0 ولهذا السبب، “أولى يسوعُ تلاميذه الاثني عشر، عندما أرسلهم وهو بعدُ معهم، قدرةً وسلطانًا على جميع الشياطين، وعلى الامراض لشفاء الناس منها، ثمّ أرسلهم ليُعلنوا ملكوت الله ويُبرئوا المرضى” (راجع لو9/1-2)0 وكذلك فعل عندما أرسل الاثنين والسبعين وأوصاهم:”وأيةُ مدينةٍ دخلتم وقبلوكم000اشفوا المرضى فيها، وقولوا للناس: قد اقترب منكم ملكوت الله”( لو10/8-9)0 وعندما عاد الاثنان والسبعون فرحين، قالوا ليسوع:”يا ربّ، حتى الشياطين تخضع لنا باسمك”، فقال لهم:”كنتُ أرى الشيطان ساقطًا من السماء كالبرق، وها قد أوليتكم سلطانًا تدوسون به الحيّات والعقارب وكل قوّة العدو، ولن يُضرّكم شيء0 ولكن لا تفرحوا بانّ الارواح تخضع لكم، بل افرحوا بأن اسماءكم مكتوبةٌ في السماوات”(راجع لو10/17-20)0
وهذا ما يؤكّد مرّةً أُخرى بأن الآيات والعجائب هي علامات مهمّة على اقتراب ملكوت الله، وهي إثبات قاطع على صحّة الرسالة الانجيلية، ولكنها تبقى مجرّد وسيلة في خدمة الغاية الأهمّ التي هي الانتساب الى ملكوت الله0 فبعد انتصار المسيح على ابليس، لم يعُد الشيطان هو السيّد القوي المتسلّط الذي يُقيّد الانسان، بل أصبح الكائن المهزوم الضعيف0 فالمسيحُ أَولى الانسانَ المؤمنَ سلطانَهُ لينتصر هو أيضًا على ابليس ويطردَهُ خارجًا0 فكما سقط الشيطان من السماء الى الارض كالبرق، هكذا سيسقط من الارض الى الجحيم0 فالآيات والعجائب تُشكّل إذًا عنصرًا أساسيًا في إعلان الرسالة المسيحية لتحرير الناس من عبودية الشيطان، ولكنّها لن تنفع شيئًا إن لم تقُد الناس الى الارتداد والتوبة والايمان بالله0
وعندما تراءى يسوع للرسل بعد قيامته، وقبل صعوده الى السماء، قال لهم:” إنّي أُوليتُ كل سلطان في السماء والارض0 فاذهبوا وتلمذوا جميع الامم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا كلّ ما أوصيتكم به، وهاءنذا معكم طوال الايام الى نهاية العالم” (متى28/18-20) 0 وقبل أن يُرفع الى السماء، قال لهم أيضًا : “إذهبوا في العالم كلّه، وأعلنوا البشارة الى الخلق أجمعين0 فمن آمن واعتمد يخلص، ومن لم يؤمن يُدان0 والذين يؤمنون تصحبهم هذه الآيات: فباسمي يطردون الشياطين، ويتكلمون بلغات لا يعرفونها، ويُمسكون الحيّات بايديهم، وإن شربوا سُمًّا مميتًا فلا يؤذيهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيتعافون” (مر16/19-23)0 ويقول لوقا:”وكان الرسل يؤدّون الشهادة بقيامة الرب يسوع تصحبها قوّةٌ عظيمة، وعليهم جميعًا نعمةٌ وافرة”(أع4/33)0
هذه القوّة العظيمة التي كانت تصحبهم هي الآيات والعجائب، وهذه النعمة الوافرة التي حلّت عليهم هي الروح القدس0 فالسلطان الذي ناله يسوع سلّمه الى تلاميذه وكلِّ المؤمنين باسمه، والرسالة التي أُوكلت اليه أَوكلَها إليهم، والقدرة على اجتراح العجائب نقلها إليهم، وسلطان الحلّ والربط قد سلّمه لهم0 وهذا ما يؤكّد أن الآيات والعجائب هي عنصر جوهري في النشاط الإرسالي لنشر ملكوت الله وتحقيق الخلاص لجميع الشعوب والامم، وغيابها يدلّ على نقص في الايمان تجب معالجة أسبابه0
3* الكنيسة الرسولية و الرهبنات الإرسالية :
في الاجيال الاولى لنشأتها، كانت الكنيسة بمعظمها رسولية لأن ضعفاء النفوس كانوا يتخلّون عنها أمام التجارب والضيقات، فلا يبقى فيها إلا المسيحيون الحقيقيون المستعدّون للتضحية بكل شيء في سبيل ايمانهم0 وأما في الجيل الرابع، وبعد أن أصبحت المسيحية ديانة الامبراطورية الرومانية الرسمية، فقدت الكنيسة كثيرًا من زخمها الرسولي لتتفرّغ لترسيخ عقيدتها وتحديد هويتها الايمانية0 وقد اطمأنّت الى ما وصلت اليه من انتشار وحضور فاعل، ولكنها لم تنتبه الى أخطار الروح العالمية التي اجتاحتها، فأصبحت السلطة الزمنية، غالبًا ما تقود الروحية0 وهذا ما سبّب الخلافات والانقسامات والنزاعات على مدى ثلاثة قرون متتالية، مما سمح للاسلام بأن يفرض نفسه كمُنقذ للمظلومين ويُغطّي مساحات شاسعة من اماكن الانتشار المسيحي في الشرق، ويصل بعد فترة الى تهديد هذا الوجود حتى في الغرب0
ولكن في وسط كل هذه العواصف، كانت الحياة الرهبانية المُكرّسة بالنذور التي ترتكز على الحياة التأملية والنسكية، وتقوم على الصمت والصلاة والابتعاد عن العالم في سبيل خدمة الله والامتلاء من أنواره، تنتشر وتزدهر0 وقد كانت هذه الحياة المُكرّسة، ولم تَزَلْ، ينبوع نعم وبركاتٍ للكنيسة في شتى مجالات رسالتها0 ومع بداية القرن الثالث عشر، وبسبب حاجات الكنيسة الطارئة، تأسّست الحياة الرهبانية الرسولية مع القديسَين فرنسيس الاسيزي ودومينيك0 وارتكزت روحانية هذه الحياة على الاقتداء بيسوع الفقير في كل شيء، واتباع الطريق التي سلكها بين الناس، متمّمًا مشيئة الآب حتى العطاء الكامل، وخادمًا الناس حتى بذلِ نفسِه عنهم من اجل خلاصهم، وهو القائل :”إن ابن الانسان لم يأتِ ليُخدم، بل ليَخدم ويفديَ بنفسه جماعة الناس”(متى20/28)0
وقد ارتكزت هذه الحياة الرهبانية الرسولية على صلاة يسوع الى الآب السماوي:”وكما أرسلتني الى العالم، أنا ايضًا الى العالم أرسلتهم”(يو17/18)0 واستقت ديناميتها من جوهر الثالوث الاقدس الذي هو شركة حب؛ ومن فيض هذا الحب انبعثت هذه الحياة الرسولية في وسط العالم لرسم طريق العودة الى الله وتحقيق المصالحة بحسب قول الرسول بولس:”فإذا كان أحدٌ في المسيح، فإنّه خلقٌ جديد0 قد زالت الاشياء القديمة وها قد جاءت اشياء جديدة0 وهذا كله من الله الذي صالحنا بالمسيح واعطانا خدمة المصالحة، ذلك بان الله كان في المسيح مُصالحًا للعالم وغير مُحاسبٍ لهم على زلاّتهم، ومُستودعًا إيانا كلمة المصالحة0 فنحن سفراء المسيح، وكأنّ الله يعظُ بألسنتنا0 فنسألكم باسم المسيح ان تدعوا الله يُصالحكم”(2قو5/17-21)0 فالله الذي صالحنا بالمسيح، دعا المُرسلين المُكرّسين حديثًا على خُطى فرنسيس ودومينيك، على مثال بولس الرسول، الى أن يُتابعوا مُهمّة المصالحة بين الله والامم0 فالمصالحة تقود الى الايمان، والايمان الى الشهادة، والشهادة الى الرسالة0 فالشركة المُستعادة مع الله، تقود حتميًا الى عيش الايمان وحمل الرسالة الانجيلية الى البشرية التائهة والتائقة لتعود الى حضن الآب السماوي0
فإذا كان اللهُ هو من صالحنا بالمسيح، فعلى المُرسلين أن يُتابعوا مسيرة المصالحة بين الله والناس لكي يُساهموا بإعادة القطيع بأكمله الى حظيرة الخراف “ليكون هناك رعيّةٌ واحدة وراعٍ واحد”(يو10/16)0 وقد حملت الرهبنتان الفرنسيسكانية والدومينيكانية، في بداية الجيل الثالث عشر، كلمة الله الى وسط العالم بعيش جذرية الانجيل، ونجحتا بإعادة المسيحيين الى المحبة، والكنيسة الى الانجيل، وغير المؤمنين الى الايمان0 وعلى خُطاهما سارت جمعية الآباء اليسوعيين في الجيل السادس عشر لتُدافع عن العقيدة وتحمي الكنيسة وتنشر الايمان بين الامم0 وقد ساهمت هذه الرهبنات الثلاثة، منذ نشأتها حتى الآن، مع غيرها من الرهبنات والمؤسسات والمنظمات الرسولية بانتشار الايمان حتى أقاصي الارض0
4* مُقوّماتُ الرسالة وأهدافُها قبل المجمع الفاتيكاني الثاني:
قبل المجمع الفاتيكاني الثاني، كان هدف النشاط الارسالي هو العمل على خلاص النفوس بالتبشير في الاماكن الامميّة البعيدة، وإنشاء جماعات كنسية جديدة، وتوسيع دائرة الايمان بالمسيح وانجيله0 ولم يكن العمل الإرسالي يتعلّق بكل الكنيسة كشعبٍ لله، بل كان محصورًا بأفرادٍ وجماعات رسولية مميّزة0 وكان على المرسلين أن يتركوا أرضهم ليذهبوا الى أرض وثنية، ويُعلنوا الانجيل للذين لم يسمعوا به بعد، ويدعوا الوثنيين الى التوبة والايمان بيسوع، ويُنشِئوا كنائس جديدة، ويعملوا على تطويرها الى أن تُصبح مُستقلّة0 فالانتماء الى الكنيسة الكاثوليكية كان ضروريًا للخلاص لأنه “خارج الكنيسة، لا خلاص”0
فبحسب المجمع الفاتيكاني الاول، كانت الكنيسة هرمية، أي جماعة من أشخاص متفاوتين، أعطى اللهُ لبعضهم سلطان التقديس والتعليم والتدبير، وهذا السلطان لم يُعطَ للجميع0 وكان المجمع يعتبر الديانات الاخرى مزيجًا من عبادة الاصنام والشعوذات والاعمال الشيطانية0 وكان يُعبَّرُ عن هذا الاعتقاد حتى في الصلوات الليتورجية0 وكانت نظرة المجمع الى البروتستانت سلبية، إذ كان يعتبرهم بِدعًا ضالة وأعداءً لكنيسة المسيح الحقيقية0 وكان يعتبر مُرسليهم زارعي الفوضى والضلال في العالم الذي كان يُعتَبر ساحةً لابليس0 فكنيسة المسيح، بحسب المجمع، هي الكنيسة الكاثوليكية وحدها، وبالتالي فانتشارها يعني بسط ملكوت الله على الارض0 وخارجًا عنها لا خلاص لأحد0
ولكنّ بعض المُرسلين استشفوا خطر هذه النظرة السلبية الى الواقع، فأعطوا بعض الافكار والتوصيات الهامة التي اعتُبِرَتْ بذورًا لما سيُقرّه المجمع الفاتيكاني الثاني فيما بعد، منها: إن المُرسلين هم خَدَمةُ الانجيل، لا أسياده؛ وبالتالي عليهم أن يحملوا المسيح الى الناس تاركين لهم حرية تحديد جوابهم الخاص على دعوة الرب لهم0 وعليهم أيضًا أن يقتربوا من الناس باحترام وتفهّم وصبر، حريصين على عدم تعنيف تقاليد الناس وثقافاتهم، فالانجيل يدعو الشعوب للتغيير من دون قهر او تحقير0 وعليهم كذلك ان يكونوا كلاً للكل واضعين أنفسهم على قدم المساواة مع من يخدمونهم0 وعليهم أخيرًا ان يُحافظوا على هويتهم، لا أن يتماهوا مع الناس المُرسلين اليهم، لانّه يكفي أن يُحبوا الناس ويتعرّفوا الى لغتهم وثقافتهم ليقودوهم الى الايمان0 ويُركّز هؤلاء المرسلون على الحاجة الى اختصاصيين في مجال الفلسفة واللاهوت وعلم الاديان، وعلى ضرورة استخدام كل وسائل الاعلام المُتاحة0
ومما لا شك فيه هو أن دور الاستعمار كان مهمًا جدًا في توسيع دائرة الإرساليات ونشر الايمان المسيحي في اميركا وافريقيا وآسيا واوستراليا0 ولكن مع انتهاء الاستعمار، لم تتعثّر الكنائس المحلية المستحدثة، بل استطاعت أن تتخلّى تدريجيًا عن المرسلين وتُحقق اكتفاءها الذاتي ونموها الايماني والرسولي0 وقد عبّر أحد الهنود عن مشاعره، بعدما اكتشف حقيقة الايمان المسيحي وغناه، قائلاً: “أَعتقدُ بأنّه على الله أن يتوبَ، لأنّه أرسل إلينا الانجيل مُتأخّرًا”0 ولكن من الواضح أن من عليه أن يتوب فعليًا، هي الكنيسة، لأنها لم تجهد كفايةً في سبيل نشر الانجيل0
5* المجمع الفاتيكاني الثاني : قرار مجمعي في نشاط الكنيسة الارسالي
“فإذا بشَّرتُ، فليس في ذلك مفخرةٌ، لأنها فريضةٌ لا بُدَّ لي منها، والويلُ لي إن لم أُبشِّر!”(1قو9/16)
إنّ الانجاز الأهمّ الذي حقّقه المجمع الفاتيكاني الثاني على صعيد النشاط الارسالي هو أنّه أعاد الرسالة الى جوهر الكنيسة، بعد ان كانت قد أصبحت على هامش عملها0 فالرسالة لم تعُدْ نشاطًا محصورًا بفئةٍ صغيرة من المرسلين، بل تحوّلت الى نشاطٍ يطال المسيحيين في كل زمان ومكان0 ففي قانون الايمان نُعلن إيماننا بكنيسةٍ واحدة، جامعة، مقدّسة ورسولية0 فإذا كانت الكنيسة التي نؤمن بها وننتمي إليها رسولية، فهي في جوهرها وبكليتها رسولية0 وواجب الرسالة يطال جميع المسيحيين من دون استثناء، كلّ بحسب واقعه وموقعه0 والبشارة لم تعُد خيارًا، بل فريضةً، بحسب الرسول بولس، والويلُ لنا نحن المسيحيين، إن لم نُبشِّرْ0
لم يولد القرار المجمعي المتعلّق بنشاط الكنيسة الارسالي إلا بعد مخاضٍ صعبً وعسير دام حوالي الست سنوات والنصف (ايار1959- كانون الاول1965)، تخلّلتها تجاذباتٌ ومباحثات ومُقترحات كثيرة ومتنوّعة0 وقد رُفض هذا المرسوم بصيغته الاولى في تشرين الثاني 1963، أي بعد حوالي الثلاث سنوات والنصف من العمل المُضني0 ولكن بعد إرسال آباء المجمع مقترحاتهم الى اللجنة، رافضين أن يتحوّل القرار الى مجرّد تمنّيات، اقترح رئيس اللجنة المختصّة على الآباء تعديل المرسوم وتوسيعه وصياغته من جديد، فوافق آباء المجمع على طلبه0 وقد ركّزت اللجنة في صياغة النص الجديد على الاسس اللاهوتية التي كان المجمع قد أقرّها في دستور الكنيسة العقائدي0 وبعد إدخال بعض التعديلات على النص الجديد بناء على مقترحات الآباء الجديدة، تمّ الاقتراع النهائي عليه في 7 كانون الاول 1965 ونال موافقة 2394 من الآباء مقابل معارضة 5 آباء فقط، أي بنسبة 99،8% 0 وقد اعتُبر هذا القرار من أهمّ الوثائق التي أنجزها المجمع الفاتيكاني الثاني0
إنّ محور هذا القرار هو ان الكنيسة، جسد المسيح السرّي،مدعوّةٌ بجميع أعضائها لتكون ملح الارض ونور العالم، فتعمل على تجديد البشرية والخليقة كلها بنور المسيح لتصل بها الى ملء كمالها وسعادتها في الله،” ليصير الله كلَّ شيء في كلِّ شيء”(1قو 15/28)0
يُركّز القرار في الفصل الاول، على المبادئ العقائدية، فينطلق من الآب الذي هو مبدأُ كلّ شيء وغايته ، والذي بمحبته اراد أن يُشرك البشرية بحياته ومجده، لا كأفراد وجماعات مُشتّتة، بل كشعب واحد موحّدٍ بالايمان والحب0 وبعد أن أرسل الانبياء والمرسلين، ولم يهتدِ الناس بكرازتهم الى الايمان القويم، أرسل في ملء الزمن، ابنه الوحيد، ليُنير عقول البشر بالحقيقة، ويُضيء قلوبهم بالحب، ويفتح عيونهم على مجد الآب الساطع على وجه الابن الوحيد0 ولكنّ الناس بغالبيتهم، لم يستطيعوا أن يؤمنوا لقساوة قلوبهم، فاضطرّ يسوع الى كشف النقاب عن الحقيقة التي بشَّر بها، حقيقة محبّة الله للانسان، بظهوره للرسل والتلاميذ بعد قيامته، وبإرسال الروح القدس ليُتمّم عمله الخلاصي بتذكيرهم وتعليمهم وقيادتهم الى الحقّ كلّه0 وقد انطلق الرسل بناء على وصية الرب:”إذهبوا في الارض كلّها، وأعلنوا البشارة الى الخلق أجمعين”(مر16/15)، يُبشّرون بانجيل الخلاص لبناء مملكة الحب على الارض كما هي في السماء0 وقد التزمت الكنيسة بهذا النشاط الارسالي بشخص نائب المسيح على الارض وخليفة بطرس، بابا روما، بمعاونة كل الجسم الكنسي، حتى أقاصي الارض وحتى منتهى الدهور0
وفي هذا السياق، أصبح النشاط الارسالي ضرورة حيوية تجدُ مُرتكزها ومُبرّرها في إرادة الآب الذي يُريد بلوغ جميع البشر الى الخلاص0 وقد ظهر هذا النشاط الارسالي عبر التاريخ بأنه نبع حياة ومصدر تجدّد للعالم لأن أساسه هو يسوع، المبدأ والمحور والمثال الحي لبشريّة مُتجدّدة، مُستنيرة ومتصالحة مع الله ومع ذاتها0 وقد تسامى هذا النشاط على كل أنواع العنصريّة والانعزالية والقومية والعرقية لأن هدفه ليس التوسّع ولا الاستثمار ولا الاستغلال، بل بناء عالم جديد مُرتكز على الحب والعدالة والاخوّة يبلغ ملأه في آخر الازمنة عند مجيء المسيح الثاني بالمجد0
ويتكلّم القرار في الفصل الثاني عن العمل الارسالي بحدّ ذاته إنطلاقًا من وجود حوالي مليارين من البشر لم يسمعوا بعد، أو كادوا يسمعون، ببشارة الانجيل وهم ينقسمون الى ثلاث فئات: أوّلاً الذين يتبعون إحدى الديانات الكبرى، ثانيًا الذين ما زالوا غرباء عن الله، ثالثًا الذين يُنكرون وجود الله نكرانًا صريحًا ويُحاربونه بشكل علني0 ولكن إذا ما نظرنا اليوم الى الواقع الحالي ، وبعد حوالي خمسين سنة على المجمع، نجد بان هذا العدد قد إزداد بشكل كبير، وأصبح حوالي خمسة مليارات من البشر ينتظرون من ينقل اليهم بُشرى الخلاص0
وهذا العمل الارسالي يتطلّب من المسيحيين بدايةً أن يعيشوا انجيلهم باظهار الانسان الجديد فيهم:”ليُضئ نوركم للناس، ليروا أعمالكم الصالحة، فيُمجدوا أباكم الذي في السماوات”(متى5/16)، فيُجسدوا المحبة الشاملة والمجانية، على مثال محبة الله، بمحاربة كل أنواع الظلم الاقتصادي والتربوي والاجتماعي لتخفيف وطأة الجوع والجهل والمرض عن كاهل الفقراء والمتألمين0 ومن ثمّ أن يقودوا الناس الى نور الايمان من خلال الحوار الاخوي الصادق، على مثال المسيح0 ويتطلّب هذا العمل الارسالي أيضًا التبشير في المكان الذي يَفتحُ اللهُ فيه بابًا لاعلان الانجيل من دون تفضيلٍ بين الناس أو تمييز، ولكن مع التدقيق في أسباب الارتداد وتنقيتها، ومن دون أن يقتصر العمل على عرض العقائد المسيحية، بل بتخطيه الى التنشئة على الحياة المسيحية والتربية على كل متطلباته؛ بالاضافة الى تكوين جماعات مسيحية جديدة ذات إكتفاء ذاتي، من خلال تنشئة متكاملة روحيًا وعلميًا وانسانيًا واجتماعيًا للكهنة والشمامسة وأساتذة التعليم المسيحي، ومن خلال تعزيز الحياة الرهبانية الرسولية والتأملية، ولكن مع الانتباه الى عدم تكاثر الرهبنات ذات الهدف الواحد في المجال الواحد لئلا يُصبح التكامل في العمل مزاحمةً وتضاربًا0
ويتطرّق المجمع في الفصل الثالث الى واقع الكنائس الرسولية الحديثة النشأة، فيدعوها الى المحافظة على العلاقة الوثيقة بالكنيسة الجامعة، ويحضّها على تبشير أبناء قومها الذين لم تصلهم البشارة بعد، ويحثّها على تعزيز رسالة العلمانيين لكي يكونوا هم أيضًا رسل الانجيل، ويُشدّد أخيرًا على غنى كل تراث انساني، وعلى امكانية انسجامه مع مبادئ وقيم الحياة المسيحية0
ويُركّز في الفصل الرابع على الدعوة الرسولية العامة التي تتعمّق وتترسّخ من خلال الدعوة الخاصة، مؤكدًا بأنّ هناك أشخاصًا يدعوهم الرب بأسمائهم على مثال التلاميذ، لكي يُكرّسوا حياتهم كلّها لخدمة بشارة الانجيل وبناء الملكوت الجديد0 ويُشدّد على أن الروحانية الإرسالية تقوم على عيش حياة انجيلية مبنيّة على المحبة والرحمة والغفران والتجرّد والتواضع والطاعة وإخلاء الذات على مثال المسيح الذي “مع أنه في صورة الله، لم يعُدَّ مساواته لله غنيمة، بل تجرّد من ذاته مُتّخذًا صورة العبد وصار على مثال البشر وظهر في هيئة انسان، فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب”(فل2/6-7)0 وهذه الروحانية تفترض تنشئةً روحية وأخلاقية تمنح المُرسلين عقلاً واسعًا وقلبًا منفتحًا، وتُساعدهم على الثبات والمثابرة والصبر على التحديات والاعمال العقيمة، وتُسلّحهم بالصلاة والصوم والوداعة والقناعة والتضحية وعطاء الذات بالشهادة حتى الاستشهاد0 كما وتقتضي تنشئة عقائدية ورسولية، أي معرفة علمية واسعة وشاملة تقوم على دراسة تاريخ الكنيسة الارسالي والاطّلاع على وضع الارساليات الراهن، وعلى الوسائل التي استعملها المرسلون، ودراسة تاريخ الشعب المعني ونظامه الاخلاقي وعاداته وثقافته ولغته0 الى جانب التمرّس على حسن استعمال التقنيات الحديثة والإفادة من كل وسائل الاعلام0 ويختتم الآباء هذا الفصل بشكر كل الرهبنات والجمعيات الارسالية التي ضحّت بأغلى ما لديها في سبيل نشر انجيل الخلاص0
ويتطرّق المجمع في الفصل الخامس الى طريقة تنظيم النشاط الارسالي فيحصر صلاحية القرار بمجمع انتشار الايمان، مع الحفاظ على حق الكنائس الشرقية0 ويدعو الى التنسيق العام والاقليمي والمحلّي في هدف تنظيم نشاط المؤسسات الارسالية المتعدّدة0 ويحث المؤسسات العلمية (الجامعات والمعاهد) على التركيزعلى الحاجات الارسالية الاساسية من دراسة لتاريخ الديانات، ومن معرفةٍ لِأُصول الشعوب ولغاتها وعلومها وفنونها وثقافاتها0
ويُشدّد الآباء في الفصل السادس والاخير على واجب العمل الارسالي لشعب الله بأكمله، وذلك من خلال عيش الحياة المسيحية بكل أبعادها ومُتطلباتها0 ويؤكدون على واجب الجماعات المسيحية الارسالي، إذ إنهم جميعًا مسؤولون عن خلاص العالم0 الى جانب واجب الاساقفة الارسالي، إذ إنهم لم يتكرسوا لأبرشيّة واحدة، بل لخلاص العالم كلّه0 وهذا ما يوجب عليهم إرسال أفضل الكهنة لديهم الى العمل الارسالي لفترة زمنية مُحدّدة، وجمع المساعدات المادية لدعم الارساليات، لأن وصية يسوع بإعلان البشارة للعالم أجمع، تعنيهم أولاً ومباشرةً0 ويحثّ آباء المجمع كهنة الرعايا على الالتزام بالواجب الارسالي من خلال إشعال روح الغيرة الرسولية عند أبناء رعاياهم لتبشير العالم، ومن خلال العناية بالدعوات الارسالية، ومن خلال دعم العمل الارسالي الكنسي، إن بالصلاة أو بالمساعدات المادية والمعنوية0 ويتطرّق الآباء أيضًا الى واجب الرهبنات التأملية بتكثيف صلواتها على نية ارتداد البعيدين الى الايمان، وعلى نية أن يُرسِل الرب فعلةً لحصاده0 ويدعو الرهبنات الرسولية الى توظيف كل طاقاتها في خدمة الاهداف الارسالية للكنيسة0 ويتوجّه أخيرًا الى العلمانيين داعيًا إياهم الى المساهمة في العمل الارسالي، إن بالمشاركة المباشرة، أو بتنمية الثقافة الارسالية، أو بتشجيع الدعوات الارسالية في عيالهم، أو بتقديم المساعدات، أو بالتعليم المسيحي في المدارس، أو بالمساهمة بالانشطة الرعائية والابرشية0
وفي الختام، يُعبّر آباء المجمع بالاتحاد مع قداسة البابا، عن رغبتهم العميقة في نشر ملكوت الله في كل مكان؛ ويشكرون كل المرسلين، لاسيما أولئك الذين يحتملون آلام الاضطهاد من أجل اسم يسوع؛ ويُصلّون، مُتّحدين مع جميع المسيحيين، لكي يقود الرب، بشفاعة مريم، سلطانة الرسل، الاممَ والشعوب، بالروح القدس الى معرفة الحق المتلألئ على وجه يسوع المسيح، ضياء الآب السماوي0
6* التَغْييراتُ التي أدخلها المجمع الفاتيكاني الثاني على مفهوم نشاط الكنيسة الإرسالي :
لقد أحدث المجمع الفاتيكاني الثاني تغييرًا جذريًا في نظرة الكنيسة الى العالم:
1″0 لم يعُدْ الخلاص محصورًا بالكنيسة:” خارج الكنيسة، لا خلاص “، بل أصبح بامكان غير المسيحيين أن يخلُصوا، حتى ولو أنهم لم يسمعوا بالمسيح أو بالكنيسة0
2″0 لم يعُد البروتستانت أعداء كنيسة المسيح الحقيقية، بل أصبحوا الاخوةَ المنفصلين الذين يجمعهم بالكاثوليك الايمان الواحد بيسوع المسيح والميراث الواحد المشترك0
3″0 لم تعُد الديانات الاخرى مزيجًا من عبادة الاصنام والشعوذات والاعمال الشيطانية، بل أصبحت ديانات تحتوي على أشعة إلهية من الحقيقة وعلى قيم سامية ومبادئ خيّرة، فبات لِزامًا على الكنيسة الاعتراف بها واحترامها0
4″0 لم تعُد الكنيسة سلطوية هرمية ، بل أصبحت جماعة شعب الله السالك على الارض في مسيرة توبة وحج نحو الديار السماوية، وأصبحت جسد المسيح السري المتّحد بالرأس الذي هو المسيح، وليس نائبه، أي البابا0
5″0 لم يعُد هدف الرسالة هو التوسّع والانتشار والسيطرة، بل ايصال فرح يسوع الى كل انسان لينال الخلاص0
6″ 0لم تعُد الكنيسة ملكوت الله على الارض، ولكنها بقيت العلامة الوحيدة والاداة المميزة لنشر هذا الملكوت على الارض0
7″0 لم يعُد العمل الارسالي مقتصرًا على التبشير والتعميد والتعليم وإنشاء الكنائس، بل تخطّاها الى الالتزام بالعدالة والحوار والاخوّة والسلام0 وأصبح هذا الالتزام جوهريًا وأصيلاً في رسالة الكنيسة، بعد أن كان ثانويًا0
8″0 لم يعُد النشاط الارسالي محصورًا في المرسلين، بل أصبح عملاً كنيسيًا شاملاً0 وبالتالي أصبح نشاطًا يتطلّب مساهمة كل الأفراد والمؤسسات الكنسية0 ولكن دور المرسلين بقي أساسيًا في هذا النشاط المشترك0
9″0 لم تعُد التنشئة الارسالية تقليدية، بل أصبحت تهدف الى تكوين رجال حوار، منفتحين على كل حضارة وثقافة، مستعدّين لاكتشاف بذور الحقيقة التي يُفيضها الروح القدس على كل انسان في كل زمان ومكان0
10″0 لم تعُد الخطيئة وحدها هي العدو الذي تجب محاربته، بل الجهل والاميّة والعمى والتعصّب والظلم وكل انواع الاستعباد والقهر0 وبالتالي أصبح هدف العمل الارسالي التطوير الكامل والشامل للانسان0
7* ورقة عمل الجمعية العمومية الثالثة عشرة الاعتيادية لسينودس الاساقفة:”التبشبر الجديد لنشر الايمان المسيحي”:
إن همَّ الرسالة يُرافق مسيرة الكنيسة على مدى الاجيال، لان وصية الرب قبل صعوده الى السماء كانت:”إذهبوا في العالم كلّه، وأعلنوا البشارة الى الخلق أجمعين”(مر16/15)0 فأمام تحديات الكفر والالحاد والضلال واللامبالاة الراهنة ، تجدُ الكنيسة نفسها مُلزمةً بالسعي الى ايجاد الوسائل الفاعلة لإعادة الناس الى الايمان القويم والطريق المستقيم0 ولذلك قرّر قداسة البابا بندكتس السادس عشر أن يكون موضوع مجمع الاساقفة العادي في الذكرى الخمسين لافتتاح أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني:”التبشير الجديد لنشر الايمان المسيحي”0
ولذلك تمحورت ورقةُ عمل الجمعية العموميّة التي انعقدت في روما بين السابع والثامن والعشرين من تشرين الأول 2012 ، حول موضوع الايمان، في افتتاح سنة الايمان، باعتبار ان الايمان القوي، ايمان الشهداء والقديسسن، وحده يمكنه ان يُغيّر وجه الكنيسة والعالم0 فالرسل لم يستطيعوا ان يطردوا الشياطين لقلة ايمانهم(متى17/20)0 وبطرس بدأ يغرق بعدما مشى على الماء لقلة ايمانه(متى14/28)0 والرسل أمام اعمال يسوع العظيمة اندهشوا وقالوا:”يا رب، زدنا ايمانًا”(لو17/5)0 فالايمان الذي جعل الكنيسة تنقل الجبال في الاجيال الاولى، وتنتصر على أعظم قوّة موجودة على وجه الارض، قد ضعُف وتضاءل لاسباب كثيرة ومتعدّدة عبر مسيرة التاريخ0 ولذلك وجدت الكنيسة نفسها اليوم أمام تساؤلات كبيرة حول مقدرتها على استعادة هذا الزخم الإرسالي الاول، وحول قدرتها على ضخّ الطاقة الايمانية المتجدّدة في الجماعات المسيحية، وحول امكانية خروجها كشعبٍ لله عبر صحراء التجارب والاضطهادات لتقود العالم الى أرض الميعاد الجديدة، أي ملكوت السماوات0
وقد حاولت الكنيسة أن تُجيب على هذه التساؤلات عبر ورقة عمل المجمع، فركّزت على أن قلب التبشير الجديد هو اللقاء بيسوع المسيح لانه هو وحده انجيل الله للانسان، أي أنه هو نبع الفرح والسلام لكل قلب مضطرب وقلق؛ وأنه على الكنيسة أن تبشّر نفسها لكي تتوب هي وتعود الى الله، قبل أن تُبشِّر الامم وتدعوهم الى الايمان؛ وأن التبشير هو واجبٌ لا خيار، لان الانجيل هو عطية الله لكل انسان؛ ولأنه بالتبشير تتجدّد الكنيسة وتسترجع جمالها الاول0
وبعد أن عرضت الورقة المتغيّرات في عالم اليوم، وخيار الانسان أن يعيش في صحراء روحية غاب عنها الله، لان الانسان أراد أن يحتلّ مكان الله في إدارة شؤون العالم؛ ركّزت الورقة على ضرورة مراجعة نوعية إيماننا، والعودة الى ينابيع هذا الايمان لإعادة تفعيل البُعد الروحي بالعمل على إعادة اكتشاف دور الله الفاعل في اشباع عطش الانسان للمُطلق وجوعه للحقيقة0 وهذا لا يتم الا من خلال تفعيل مهمّة التبشير على كل الاصعدة الثقافية والعلمية والانسانية والاقتصادية والسياسية، وعلى ثلاثة محاور: 1″0 تبشير الامم غير المسيحية؛ 2″0 إعادة تفعيل العمل الرعوي؛ 3″0 التبشير الجديد في العالم المسيحي القديم الذي ضلّ طريق الايمان0
ومن ثمّ تتحدث الورقة عن هدف التبشير الجديد الذي هو نقل الايمان الموجود في الكتاب المقدّس وفي التقليد الكنسي الى كل الذين يبحثون عن النور والحقيقة0 ولايمكن ان ننقل ما لا نؤمن به ونعيشه ونحتفل به ونصلّيه0 وهذه المهمّة لا يمكن أن تُحصر ببعض النُخبة، ولكنها تطال كل انسان قَبِلَ الايمانَ والعماد، وهو يعيش الاسرار بصدق وعمق0 وللعائلة دور محوري في التربية على هذا الايمان وفي إعلانه والشهادة له0 وكذلك الامر بالنسبة الى الرهبنات الإرسالية وأساتذة التعليم المسيحي والشمامسة0 فعلى الجميع “أن يكونوا مستعدّين لأن يردوا على من يَطلب منهم دليلَ ما هم عليه من الرجاء”(1بط 3/15)، وأن يُثمروا ثمار الاعمال الصالحة ، وأن يقودوا الناس الى الحقيقة، وأن يعملوا على تجسيد الوحدة في الكنيسة، وأن يسعوا الى تحقيق السلام في العالم0
وتُركّز الورقة أخيرًا على ضرورة إحياء العمل الرعوي بعيش الانجيل والاسرار، وعلى أهمية الزيارات البابوية لبلدان مختلفة من العالم، وعلى فاعلية اليوم العالمي للشبيبة، وعلى جاذبية القديسين والطوباويين الذين تُعلنهم الكنيسة كاعتراف بتضحياتهم الكبرى في سبيل الله والكنيسة0 وتُضيف بأن العالم هو بحاجة اليوم الى شهود أكثر منه الى معلّمين، وبأن هذا العالم الغارق في الحزن واليأس هو بحاجة الى الرجاء والحب والفرح، بحاجة الى يسوع0 وهذا هو هدف التبشير الجديد، أي قيادة الانسان في عالمنا الى اللقاء بيسوع المسيح، انجيل الفرح والرجاء0
8* كلمة قداسة البابا بندكتس السادس عشر في ختام سينودس الاساقفة حول موضوع ” التبشير الجديد لنشر الايمان المسيحي “:
في ختام هذا المجمع، تناول قداسة البابا نص انجيل القداس الختامي المتعلّق بأعمى أريحا (مر10/46-52) وفسّره وأوّنه بطريقة رائعة قائلاً: إن هذه الآية أتت قبل دخول يسوع الاخير الى اورشليم لكي يحتفل بفصحه مع تلاميذه0 وكان على يسوع، كي يبلغ اورشليم من وادي الاردن، أن يعبر في اريحا ويلتقي برطيما عند خروجه منها، وهو مُحاطٌ بتلاميذه وجمعٌ غفير0 وهذا الشفاء، بحسب مرقس الانجيلي، هو الاخير الذي أتمّه يسوع قبل آلامه0 وليست صدفةً أن تكون الآية الاخيرة شفاء أعمى، أي إعادة النور الى عينين فقدتا النور0 فهذه الآية تُصوّر الانسان المحتاج الى نور الله، نور الايمان، كي يتعرّف الى الحقيقة ويسير على درب الحياة0 إنه لمن الضروري أن نعترف باننا عميان وبحاجتنا الى النور، وإلا بقينا عميانًا الى الابد0 إن برطيما هو صورة لكل مؤمن فقد الايمان بعد حين؛ فهو لم يكن أعمى منذ مولده، ولكنه فقد البصر0 إنه يُمثّل الانسان الذي فقد النور، ولكنه لم يفقد الرجاء000 ويستشهد قداسة البابا بالملاحظة التي أوردها القديس أغوسطينوس وهي أن مرقس لم يورد اسم الاعمى فقط، بل اسم ابيه أيضًا، مُستنتجًا بأن “ابن طيما كان فيما مضى في بحبوحة كبرى، والبؤس الذي وقع فيه كان له تردّد كبير، ليس لانه أصبح أعمى فقط، بل لانه كان جالسًا يستعطي0 وهذا ما جعل مرقس يذكره باسمه دون سواه0 وكان صدى الاعجوبة التي أعادت البصر اليه عظيمًا لان مأساته كانت كبيرةً ومعروفة في كل مكان0
ويستخلص قداسته بأن برطيما يُمثّل كل الذين يعيشون في مناطق التبشير القديم، حيث نور الايمان ضعُف وخفّ، وحيث أنهم ابتعدوا عن الله معتبرين بانه لم يعُد مهمًا بالنسبة لهم0 هؤلاء الاشخاص فقدوا كنوزًا كبيرة وسقطوا من كرامة عالية، فقدوا الاتجاه الاكيد والثابت للحياة واصبحوا، غالبَا وبطريقة لاواعية، شحّاذين لمعنى الوجود0 هؤلاء هم الاشخاص الذين يحتاجون الى تبشير جديد، أي الى لقاء جديد مع يسوع الذي يمكنه وحده أن يفتح عيونهم مجدّدًا ويقودهم على الطريق0
ويُضيف قداسته بان التبشير الجديد يتعلّق بكل حياة الكنيسة ويتمحور حول ثلاث خطوط راعوية انبثقت من المجمع: المحور الاول يرتكز على تفعيل الحياة الاسرارية الراعوية (أسرار التنشئة بالاضافة الى سر التوبة) في سبيل عيش القداسة، لان رواد التبشير الجديد هم القديسون الذين بمَثَل حياتهم واعمال المحبة، يتكلمون لغة يفهمها جميع الناس0 والمحور الثاني يرتكز على تبشير غير المسيحيين في البلدان الكثيرة التي تنتظر البشارة، وفي البلدان المسيحية القديمة حيث يوجد أعداد كبيرة من المهاجرين0 والمحور الثالث يتعلّق بالمعمدين الذين ابتعدوا عن الكنيسة والذين يعيشون في الامكنة الاكثر علمنة لكي يفتح المسيح عيونهم مُجدّدًا على الايمان0 ومثلما انضمّ برطيما الى الرسل، سينضمّ كثيرون من الذين سيختبرون الشفاء، الى المبشِّرين ليتابعوا السير على خُطى يسوع0
ويختتم قداستُه بأنه يُمكننا الاستنتاج مما يجري حولنا، بأن أزمة الايمان هي على صلة عميقة بكل الازمات الاخرى0 فالانسان الذي يرغب بان يكون السيد الوحيد لقراره ومصيره، يجد نفسه فجأة في صحراء روحية، محرومًا من كل ما يُكوِّن أساس رغباته الأعمق0 وبالتالي لا يمكن ان نتكلم عن التبشير الجديد من دون التركيز على الارتداد الحقيقي0 فالمصالحة مع الله والقريب هي الطريق الرئيسية للتبشير الجديد0
9* البابا فرنسيس وجديد الإرشاد الرسولي “فرح الانجيل”:
بعد أن اختتم سينودس الاساقفة أعماله في 28 تشرين الأول 2012، قدّم قداسة البابا بندكتس السادس عشر استقالته في 28 شباط 2013 ، أي بعد أربعة أشهر0 وانعقد على اثرها، مجمع الكرادلة وانتخب قداسة البابا فرنسيس خلفًا له في 13 آذار 2013 0 وبعد إعادة النظر في مُقررات مجمع الاساقفة وتوصياته، أعطى البابا فرنسيس أبعادًا عملية مهمّة جدًا للعمل الإرسالي في هذا الارشاد الذي صدر في ختام سنة الايمان، في 24 تشرين الثاني 2013، في عيد المسيح الملك0
لقد اخترق قداستُه الحواجز التاريخية التقليدية ليعود بالتبشير الى الجوهري، الى الإلهي، أي الى الانجيل كتجسيدٍ حي لمحبة الله، كبُشرى فرح ورجاء، كبُشرى خلاص إلهية بيسوع المسيح تتحقق في عمق التاريخ لتفتدي الكون والتاريخ والانسان0 وقد انطلق من فكرة أن اللقاء بيسوع هو نبعُ فرحٍ حقيقي للانسان، لان يسوع هو الكنز الذي يبحث عنه كلُّ بشر، عن وعيٍ أو عن عدم إدراك0 ومن التقى به لا يمكنه الا ان يُشارك به الآخَرين0 فالمسيحيون، كل المسيحيين، عليهم أن يكونوا مبشِّرين لانهم اختبروا هذا الحب، وأن يحملوا هذه البُشرى الى كل الذين لم يحظَوا بعد بفرصة اللقاء بيسوع، مسيحيين كانوا أم غيرَ مسيحيين0 فالمسيح هو البُشرى السارة الدائمة لانه هو هو بالامس واليوم والى الابد، وهو أول مبشِّر وأعظم مبشِّر في التاريخ0 إن غناهُ لايُستنفد، وجماله لا يتبدّل0 وهو يُحطّم دائمًا كل الأُطر والمبادئ التي يُحاول الانسان أن يحبسه فيها، لأن كل عمل تبشيري يجب أن ينبع منه ويصبّ فيه0 وبالتالي فإن كل عمل تبشيري حقيقي هو جديد يرتكز على الذاكرة التي تستحضر الماضي وعلى الروح القدس الذي يفتح آفاقًا جديدة0 وهذا العمل التبشيري لنقل الايمان المسيحي يتوزّع على ثلاثة محاور: الاول هو العمل الرعوي الاعتيادي الذي يطال الممارسين وغير الممارسين؛ والثاني يطال العلمانيين واللامبالين والملحدين في البلدان المسيحية ذات البشارة القديمة؛ والثالث يطال غير المسيحيين الذين لا يعرفون يسوع او الذين يرفضون التعرّف اليه، “لأنه يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارًا لا يحتاجون الى توبة”(لو15/7)0
وقد ركّز الارشاد في الفصل الاول على ضرورة تحوّل الكنيسة بكليتها الى كنيسة رسولية، بالخروج من الرفاهية والاكتفاء الذاتي الى الاطراف والضواحي التي تحتاج الى نور الانجيل، وبالتحرّر من المركزية الادارية والامتيازات البُنيوية لمشاركةٍ أكثر فاعلية وأوسع دينامية بين كلِّ مؤسسات الكنيسة، إنطلاقًا من قلب الانجيل الذي هو الايمان العامل بالمحبة والعدل والرحمة0 فعلى الكنيسة ان تبقى مفتوحة الابواب لتخرُجَ مثل الراعي في طلب الخروف الضال، ولتترقّب مثل الاب عودة ابنه الضال؛ عليها أن تكون مثل الامّ التي تنتظر عودة كل ابنائها الى أحضانها بشوق ولهفة0
ويتحدث الارشاد في الفصل الثاني عن أزمة الالتزام الجماعي وتحديات العالم المعاصر منوّهًا بالتقدّم العلمي الذي يخدم الانسان، خاصة في مجال الصحّة والتربية والتواصل الاجتماعي0 ويُحذِّر من التراجع الانساني حين ينطفئ فرح الحياة، فيزداد العنف وقلة الاحترام ويجتاح الخوفُ واليأس القلوب وتتّسع الهوّة بين مختلف الطبقات الاجتماعية0 ويُطلق قداستُه أربع شعارات رافضة: أوّلاً: لا لاقتصاد العزل والتهميش الذي يأكل فيه القويُّ الضعيفَ، ويصبح فيه الضعيف لا مجرّد مظلوم ومُستَغلّ وحسب، بل يتحوّل الى معزول ومُقصىً كالبقايا والنفايات0 ثانيًا: لا لأصنام المال الجديدة التي هي إحياءٌ لعبادة العجل الذهبي0 هذه العبادة لأصنام المال هي على أساس كل الفساد المستشري، وهي نتيجةٌ حتميّة لرفض أولوية الله والكائن البشري0 ثالثًا: لا للمال الذي يحكم بدل أن يَخدم0 فالخيرات هي للجميع، وعدم إشراك الفقراء بالخيرات يعني سرقة حقوقهم وبالتالي إنتزاع حياتهم0 رابعًا: لا للفروقات الاجتماعية التي تُولّد العنف، لأنه لا امكانية لاستئصال العنف إلا بإزالة الفروقات الاجتماعية0 ومن ثمَّ يتحدّث عن بعض التحديات الثقافية مثل اضطهاد المسيحيين وانتهاك الحرية الدينية، العنف وفرض القناعات بالقوة، الاعلام الهادف الى ضرب القيم والمبادئ التقليدية، البدع الدينية والحركات الاصولية والتيارات الالحادية، تفضيل العمل الاداري على العمل الرعوي، الاخطار التي تُهدّد الايمان والعائلة، الاتجار بالاشخاص والمخدرات واستغلال القاصرين في ضواحي البؤس حول المدن الكبرى0
وينتقل بعدها ليتحدث عن الاخطار الشخصية التي تهدّد الروحانية الإرسالية: الفردانية، أزمة الهوية، النقص في الحرارة، النسبية العقائدية والعملية، الرفاهية والامان المادي0 هذه الاخطار تقود الى الانكفاء عن البذل في سبيل الرسالة والتضحية في سبيل مجد الله وخير الآخرين0
ويعود قداسة البابا ليُطلق أربع شعارات أُخرى رافضة: أولاً: لا للكسل الاناني الذي يُحوِّل المسيحيين تدريجيًا الى مومياء متاحف0 ثانيًا: لا للتشاؤم العقيم بسبب الاضطهادات والانحرافات والصحاري الروحية، بل لايمان يجعلنا نرى الماء يتحوّل خمرًا، والجبال تنتقل وتسقط في البحر0 ثالثًا: لا للروح العالمية التي تجعل الظاهر يُشرق والباطن يفسد، المبادئ تُزهر والاعمال تُدفن0 علينا أن نُخرج الكنيسة من هذه الروحانية المُزيّفة0 رابعًا: لا للحرب الداخلية بيننا بسبب الحسد والغيرة والغضب والكبرياء والسلطة والنميمة والانتقام، بل لنُصلِّ من اجل الاشخاص الذين نختلف معهم لنعيش الحب ونُبشِّر بمثالنا0
وفي الختام يعرض لبعض التحديات الكنسية: الاقرار بدور المرأة المهمّ على مثال مريم، ولكن هذا لا يعني أن الكهنوت أصبح مُتاحًا أمامها0 الاقرار بتراجع الدعوات، ولكن هذا لا يعني التخلي عن النوعية في سبيل الكمية0 الاقرار بدور الشباب في العمل التبشيري حيث يتواجدون، وبدور الشيوخ في المحافظة على ذاكرة الكنيسة بالحكمة والفطنة0
وينتقل الارشاد في الفصل الثالث، الى التركيز على “إعلان الانجيل”، مؤكدًا بأن واجب التبشير يقع على عاتق كل شعب الله المتعدّد الثقافات والاعراق، في كل زمان ومكان0 ويُثني على التقوى الشعبية، ويُشير الى أهميّة الحج الى المزارات الدينية، ويُحذّر من الخوف والشك والخجل التي تُطفئ شعلة الايمان0 ومن ثمَّ يتحدّث عن أهميّة العظة التي يجب أن تنبع من أعماق القلب وتُعبّر عن جوهر الرسالة الانجيلية وتعكس انتظارات الناس وتُجيب على تساؤلاتهم0 فلذلك وجب ان تكون العظة ثمرة إصغاء مزدوج، لله وللناس؛ ووجب أن تحتوي على فكرة وصورة وإحساس، وأن تكون بسيطة، واضحة، مباشرة وواقعيّة0 ويتطرّق قداسة البابا بعدها الى أهميّة الارشاد الروحي لاستقبال كل الاشخاص المجروحين، التائهين، المُحبطين الذين يبحثون عن الله وعن رعاة يحمونهم من هجمات الذئاب0 ويَختتم قداستُه هذا الفصل بالتركيز على ضرورة التنشئة الدائمة على الاصغاء لكلمة الرب من خلال دراسة الكتاب المقدّس الذي هو النبع الفيّاض للتبشير بكلمة الله0
ويصلُ الارشاد في الفصل الرابع الى الخوض في البعد الاجتماعي للتبشير فيتحدّث عن الارتباط الجوهري بين اعلان الايمان والالتزام الاجتماعي، بين التبشير والترقية الانسانية، لان ملكوت الله هو حقيقة تتعلّق بكل انسان وبكل الانسان0 فالايمان الحقيقي يفترض رغبة عميقة بتغيير العالم0 فبالرغم من ان الدولة هي المسؤولة عن إرساء النظام العادل للمجتمع، فالكنيسة لا يُمكنها ان تبقى صامتة أمام المظالم الاجتماعية والانسانية0 وعلى كل مسيحي ان يكون صوت الله الصارخ لتحرير الفقراء وترقيتهم الانسانية والدفاع عن قضاياهم المحقّة والعادلة، لانّ للفقراء مكانًا مميّزُا في قلب الله0 ألم يصِر يسوعُ فقيرًا بين الفقراء؟ ألم يحمل البُشرى اليهم؟ ألم يُطوّبهم؟ ألم يتوحّد معهم:” كل ما فعلتموه لأحد اخوتي هؤلاء الصغار فلي فعلتموه”؟(متى25/40)0 إن موضوع الفقراء هو موضوع لاهوتي قبل ان يكون موضوعًا ثقافيًا، اجتماعيًا، سياسيًا أو فلسفيًا، ولذلك لا أحد يمكنه ان يستعفي من الالتزام بقضيتهم ومن الدفاع عن حقوقهم0 فالتفاوت الاجتماعي هو أساس الشرور في المجتمع0 فكم من المآسي؟ كم من المشرّدين؟ من اللاجئين؟ من المُدمنين؟ من المتروكين؟ من المتسوّلين؟ من المعنّفين؟ من المغتصَبين؟ كم من النساء والاولاد المُستخدمين في شبكات الدعارة؟
بعد عرض هذا الواقع الأليم، ينتقل قداسة البابا ليتكلّم عن الخير العام والسلام الاجتماعي فيضع اربعة مبادئ لبناء السلام بين البشر:أولاً: الوقت هو أسمى من المدى، بمعنى ان نعمل من دون ان ننتظر نتائج فورية على مثال الزارع0 ثانيًا: الوحدة تسمو على الصراع، بمعنى ان نجد الحل لكل صراع بتقبّل الاختلاف واستيعابه على مثال المسيح الذي وحّد كل شيء في ذاته0 ثالثًا: الواقع هو أهمّ من الفكرة، بمعنى ان لا نعيش في المبادئ والاحلام، بل ان نسعى الى تجسيد افكارنا على ارض الواقع0 رابعًا: الكل هو أسمى من الجزء، بمعنى أن الخير العام هو أهمّ من الخير الخاص، والانجيل هو بشرى للجميع، وليس لفئة معيّنة، لانه يحمل مبدأ الشمولية0 وفي القسم الاخير يتحدّث عن دور الحوار الاجتماعي في بناء السلام، فيقول بان التبشير يفترض الحوار مع الدول، مع المجتمعات، ومع غير المؤمنين0 ويتطرّق الى الحوار بين العقل والايمان اللذين يتكاملان لان منبعهما واحد هو الله0 ويخوض في الحوار المسكوني الذي يجب ان يقود الى الوحدة لان الانقسام هو مصدر شك وعثار0 وينتقل بعدها الى الحوار مع اليهود، مع المسلمين، ومع سائر الاديان، في اطار من الحرية الدينية0 هذا الحوار هو شرط أساسي لتحقيق السلام في العالم0
ويُضيء قداسته في الفصل الاخير من الارشاد على دور الروح القدس، المحرِّك السرّي لكل نشاط إرسالي،فيقول: إن الذين يستلهمون الروح، يستمدّون منه القوّة والحكمة لكي يشهدوا ويُبشِّروا0 فصلاة الاستغفار والتشفّع والتأمل بكلمة الله والسجود للقربان تبقى ضرورية في كل الظروف والاحوال، لأن اللقاء الشخصي بيسوع يبقى الاساس المتين لكل نشاط إرسالي0 فالذين يختبرون العيش مع يسوع يستطيعون وحدهم أن يقنعوا الناس بما سمعوا وعاينوا واختبروا0 ولا بدّ من الاقرار بأن الظروف التي نعيشها اليوم ليست بأصعب من تلك التي عاشها المسيحيون في الاجيال الاولى، وبالرغم من ذلك فقد شهدوا بايمان كبير وحبٍ عظيم0 وهم يدعوننا اليوم للسير على خطاهم بالامانة والتضحية في سبيل خلاص العالم0 فالرسالة هي قبل كل شيء شغفٌ بيسوع وشغفٌ بشعبه0 والشغف يحثنا على ألا نبقى بعيدين عن جراح الرب في أجساد أبنائه، بل أن نلمس هذه الجراح في أجساد المتألمين والبؤساء، ونبلسمها بزيت الرحمة والرأفة0 وعلينا التأكّد من ان الله يعمل في كل الظروف، حتى في وسط الفشل الظاهر0
وفي الختام، لا بدّ من أن نستشفع جميع القديسين، وفي طليعتهم العذراء مريم، أُمّ يسوع، أُمّ الكنيسة، وأمّنا0 إنها المُرسَلة الدائمة من ابنها إلينا كي تُعزينا وتُشجّعنا وتعضدنا في الاقات الصعبة0 إنها امرأةُ الايمان التي تركت نفسها تنقاد للروح القدس0 إنها المرأة التي تقود ثورة الحنان والتواضع في العالم0 إنها نجمة التبشير الجديد، أُمّ الانجيل الحي، يسوع المسيح0 فلنطلب شفاعتها لكي نُشعّ، على مثالها، بنور الايمان والشهادة والحب والخدمة، فتُصبح الكنيسة أمًأ لكل الشعوب وهيكلاً مقدّسًا للبشرية الجديدة0
10* النشاط الإرسالي في المشرِق على ضوء الآفاق الإرسالية الجديدة:
بعد هذه الجولة السريعة على التعاليم الكنسية المتعلّقة بالنشاط الإرسالي، لا بدَّ من استخلاص بعض الافكار المحورية التي تُساعد على إعادة النظر في نوعية الإلتزام الايماني والشهادة الحياتية المطلوبة من المسيحيين الشرقيين في وسط هذا المشرق الغارق في ظلمة الحرب والتدمير، في غياهب القهر والتعذيب، في مستنقعات الترهيب والتفجير، في هاوية التعصّب والتكفير0 فنحن اليوم بأمسّ الحاجة الى نور الانجيل ليُضيء طريق السالكين في وادي الجهل وظلال الموت، والى بُشرى الانجيل لتنفتح عيونُ الغارقين في ظلمة التعصّب والعنف، والى فرح الانجيل ليملأ قلوب الغارقين في مستنقع الشرّ والاثم0 فعلينا إذًا العودة الى الجذور الانجيلية والتقاليد الكنسية لنُعيد رسم الخارطة الإرسالية الانجيلية لانقاذ عالمنا من الحُرمان والطُغيان0 وهذه الخارطة الإرسالية تقوم على عشرة مُرتكزات :
1″0 “إن كان المسيح لم يَقُمْ، فتبشيرنا باطل وإيمانكم باطل”(1قو15/14)0
على ضوء ما يجري في بلدان الشرق الاوسط من اضطهاد للمسيحيين وتهجير لهم، إن في لبنان أو في الاراضي المقدّسة أو العراق أو سوريا أو مصر أوغيرها من البلدان، نُلاحظ انَّ الكثيرين قد دخلوا في دائرة الخوف على الوجود والقلق على المصير0 وهذا أمر مُبرّرٌ منطقيًا وبشريًا، ولكن هل يُسمح لنا نحن المسيحيين، أبناء القيامة، أن نخاف ونيأس ونهرب وننسحب ونذوب؟ بالطبع لا، لأن اسطورة طير الفينيق هي رمز لانبعاثنا الدائم0 فالاسطورة تقول بانّ طير الفينيق الذي كان يسكن الجنّة حيث لا موت، قرّر بعد ألف سنة، وهو يرزح تحت وطأة عمره الطويل، أن يموت0 فيمّم شطر أرضنا حتى وصل الى شواطئ فينيقيا فحطّ على شجرة عالية حيث بنى عشّه من الاعشاب العطِرة التي كان قد جمعها وحملها معه0 وبعد المغيب، راح ينتظر بزوغ الفجر الذي يؤذن بموته0 وحين أشرقت الشمس، أنشد أُغنيةً لإله الشمس الذي جاءه على عربته0 وعند نهاية الاغنية نهز إله الشمس أحصنته فانطلقت بالعربة، وفرّت من حوافر أحصنتها شرارةٌ أصابت عشّ الطائر، فاحترق العشّ والطائر، وانتهت بذلك حياته الألفية0 ولكن في اليوم الثالث، بزغ من رماد الطائر المحترق طائرُ فينيقٍ صغيرٌ نفّضَ جناحيه من الرماد وحمل عشّه وطار صوب الشرق، الى مدينة الشمس، بعلبك، ليضعه قربانًا في معبد الشمس، بانتظار أن يأتي زمن موته، فيحترق ليولد من رماده طائرُ فينيقٍ جديد الى حياة جديدة (راجع سعيد عقل، مجلة الرسالة، كانون الثاني 1955)0 إن هذا الطائر هو رمز للمسيح وللمسيحيين، رمز للبنان وللشرق0 فالقيامة هي مصيرنا الدائم، وليس للموت علينا من سلطان0
2″0 “إن لم يبنِ الربُّ البيتَ فباطلاً يتعب البنّاؤون0 إن لم يحرس الربُّ المدينة فباطلاً يسهر الحارسون”(مز127/1)0
إن عدد المسيحيين في الشرق يتناقص بشكل مُخيف بسبب الاضطرابات والاضطهادات في الآونة الاخيرة0 ولكن هل نسينا بأن الشرق قبل المسيح كان وثنيًا، وبعد المسيح أصبح مسيحيًا، واليوم أصبح إسلاميًا ؟ لماذا؟ وما هي الاسباب الفعلية التي أدّت الى هذه التغيّرات؟ إذا ما راجعنا التاريخ نستنتج بأن المسيحية انتشرت عندما كان الله هو من يقود المسيحيين الى البشارة والشهادة، وانكفأت عندما غاب الله عن افق ايمانها وحلّ مكانه الملوك والأباطرة0 فعندما يقود الربّ المسيرة تتوحّد كل الطاقات والقوى، فيزدهر الايمان، وعندما يقود الناس المسيرة تتكاثرالصراعات والانقسامات فتتحطم الوحدة ويتلاشى الايمان0 وهذه الحقيقة تدعونا اليوم الى التساؤل: هل نستمدُّ قوتنا من الله أم من الناس؟ وهل نهتمّ لنوعية الاشخاص أم لعددهم؟ إن الربَّ يُعطينا الجواب من خلال قصّة جدعون: “قال الربُّ لجدعون: انطلق بقوتك هذه وخلِّص إسرائيل من قبضة مِديَن0 فقال جدعون: بماذا أُخلّص إسرائيل؟ هذه عشيرتي أضعف عشيرة في منسّى، وأنا الأصغر في بيت أبي0 فقال له الربّ: أنا أكون معك000 فطلب جدعون علامةً، فأعطاه الربّ ثلاث علامات: النار التي أكلت اللحم والفطير، جزّة الصوف المبلّلة، وجزّة الصوف الجافة0 فجمع جدعون بعدها جيشًا من اثنين وثلاثين ألفًا، فطلب منه الرب إرجاع الخائفين، فأَرجع اثنين وعشرين ألفًا0 ثمّ طلب منه أن يُنزل العشرة آلاف الباقين الى النهر ليشربوا، ففعل0 فقال له الرب: من شرب الماء من فمه كالكلب احذفه، ومن ركع على ركبتيه أيضًا، وأبقي على من شرب الماء من كفّ اليد0 فأبقى على ثلاث مئة، وأعاد الباقين0 فانتصر بهذا العدد الضئيل على جيش من مئة وخمسة وثلاثين ألفًا، لئلا يفتخر شعبُ إسرائيل على الربّ (راجع قض 6-8)0
3″0 “الويل لكم ايها الكتبة والفريسيون المُراؤون، فإنكم أشبهُ بالقبور المكلّسة، يبدو ظاهرها جميلاً، وأمّا داخلها فممتلئ من عظام الموتى وكل نجاسة0 وكذلك أنتم، تبدون في ظاهركم للناس أبرارًا، وأمّا باطنكم فممتلئ رياءً وإثمًا”(متى23/27-28)0
إن هذه التجربة، تجربة الرياء والخداع، تخترق كل المجتمعات والطبقات الدينية والمدنية وتُفسد الناس وتقودهم الى التخلّي عن أبسط مقوّمات الكرامة الانسانية0 ولذلك يقول قداسة البابا فرنسيس في إحدى عظاته:”إن هناك ثلاث فئات من المسيحيين: الخطأة، وكلّنا خطأة000 الفاسدون، وهم الذين تجذّروا في الخطيئة000 لقد كانوا خطأة مثلنا، ولكنّهم تقدّموا خطوة إضافية واختلقوا لهم إلهًا آخر، هو ذواتهم0 وهذا الخطر يُهدّدنا جميعًا0 لقد أصبحوا عُبّاد ذواتهم، وهم يصنعون شرًّا كبيرًا للكنيسة0 إنهم المسحاء الدجّالون، بحسب يوحنا، الذين هم بيننا، ولكنهم ليسوا منّا0 أما القديسون فهم يعبدون الله ويُطيعونه000 وهم، على عكس الفاسدين، يصنعون خيرًا كبيرًا للكنيسة0 لنطلب من الربّ نعمة اعتبارنا خطأة، نعمة ألاّ نصبح فاسدين، نعمة السير في طريق القداسة”0 إن هذه الكلمات المعبّرة عن واقع الكثيرين، تحثنا على العمل من أجل أن نكون لا فاترين، ولا مُرائين، ولا فاسدين، بل صادقين، متواضعين، أمينين”(عظة أُلقيت في 3 حزيران 2013)0 إنّ الربّ يدعونا من خلال قداسة البابا فرنسيس، الى رفض كلّ أنواع الخبث والرياء والفساد ومُحاباة الوجوه، ومحاربتها بكل الوسائل، والى سلوك طريق التوبة والتواضع والانسحاق أمامه، على مثال العشّار الخاطئ، لنصير أهلاً لحمل رسالته الى العالم بصدقٍ وأمانة، فيعود الروحُ القدس الى شعب الله ليحرّره ويُبرّره0
4″0 “أُعطيكم وصيّةً جديدة: أَحبّوا بعضكم بعضًا0 كما أنا أَحببتكم، أَحبّوا أنتم أيضًا بعضُكم بعضًا0 إذا أحبَّ بعضكم بعضًا عرف الناس جميعًا أنّكم تلاميذي”(يو13/34-35) 0
إنها الوصيّة الوحيدة التي اختصر فيها يسوع كل الوصايا، فأصبحت العلامة الفارقة التي يمتاز بها تلاميذ يسوع0 ولكن كيف يحاول المسيحيون أن يتهرّبوا من ثقل هذه الوصيّة؟ ومن هم المسيحيون الحقيقيون؟ إن بعض المسيحيين يُحاولون إفراغ الوصية من بُعدها العملي، فيكتفون بالكلام0 وقد استبق يسوع فحذّر هؤلاء قائلاً:” ليس من يقول لي “يا ربّ، يا ربّ” يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل بمشيئة أبي الذي في السماوات”(متى7/21)0 وهناك من يكتفون بالانتماء القانوني العقائدي اللاهوتي، ولا يقومون بأي جهد لتجسيد معارفهم، على مثال علماء الشريعة الذين حذّرهم يسوع قائلاً:”الويل لكم يا علماء الشريعة، قد استوليتم على مفتاح المعرفة، فلم تدخلوا أنتم، والذين أرادوا الدخول منعتموهم”(لو11/52)0 وهناك من لا يتعلّقون الا بالقشور مهملين الجوهر0 هؤلاء هم المتعصّبون المتحجّرون الجهّال الاصوليون الذين يُقاتلون من اجل مصالح أرضية، غير آبهين بتعاليم الانجيل الحقيقية0 إنهم لا يتوانون عن ان ينتهكوا أهمّ وصايا الله، ولكنهم يخافون من مخالفة أصغر وصايا الشريعة البشرية0 لهولاء يقول يسوع:”الويل لكم ايها الكتبة والفريسيون المراؤون، فإنكم تؤَدّون عُشر النعنع والشمّرة والكمّون، وتُهملون أهمّ ما في الشريعة: العدل والرحمة والامانة” (متى23/23)0 وهناك المراؤون الفاسدون الذين يدّعون الانتماء الى الكنيسة ويُفاخرون بذلك، ولكنهم ينتهكون كل المبادئ والقيم والوصايا0 وقد حذّرهم يسوع قائلاً:”الويل لكم ايها الكتبة والفريسيون المراؤون، فإنكم تُطهّرون ظاهر الكأس والصحن، وداخلهما ممتلئ من حصيلة النهب والطمع”(متى23/25) أمّا المسيحيون الحقيقيون فهم المنتمون كيانيًا وكليًا للربّ يسوع0 هم الابرار والقديسون الذين يهتفون مع بولس الرسول قائلين:”حياتي هي المسيح، والموت ربحٌ لي”(فل1/21)0 هم الذين يعيشون وصيّة المحبة، محبة الله ومحبة القريب، بصدق وإخلاص0 هم الذين بايمانهم وأمانتهم، يعكسون وجه المسيح0 هم الذين يلتزمون بكل تعاليم الانجيل من دون استثناء ولا تحريف0 هم المنائر الساطعة الذين يُشعّون باعمالهم الصالحة، فيُمجّد الناس الآب الذي في السماوات0 هؤلاء هم المؤمنون الذين يرتضيهم الربّ، والذين يُغنون الكنيسة بشهادتهم وقداسة حياتهم0
5″0 “إنّي أوليتُ كلّ سلطان في السماء والارض0 فاذهبوا وتلمذوا جميع الامم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم ان يحفظوا كل ما أوصيتكم به، وهاءنذا معكم طوال الايام الى نهاية العالم”(متى28/18-20)0
في البدايات، انتشرت المسيحية بشكل سريع جدًا، من مدينة الى أخرى، من منطقة الى أخرى، ومن بلد الى آخر0 لقد انتشر الايمان أولاً في المناطق الواقعة على خطوط التواصل، ولم تخترق الى المناطق الداخلية والبعيدة الا بعد حين0 وأول المناطق التي دخلها الايمان كانت البلدان المشرقية، وبلدان حوض البحر الابيض المتوسط0 ومع ارتداد قسطنطين الملك، انتشرت المسيحية في كل مدن الامبراطورية لتنتقل بعدها لتعمّ الأرياف0 ولكن مع هذه الارتدادات السريعة والكثيفة، لم تستطع الكنيسة أن تحقّق التحوّلات الروحية الايمانية الضرورية، فأدخل المرتدّون معهم مشاكلهم وصراعاتهم وانقساماتهم التي انعكست سلبًا على الكنيسة، فظهرت البِدع والهرطقات والانشقاقات0 وهذا ما فتح الباب بعد حين أمام الاسلام ليجتاح المناطق المسيحية تحت شعار التحرير من ظلم الامبراطورية الرومانية0 وما زالت المسيحية تنحسر في الشرق تحت وطأة الخوف والانعزال0 ولكن هل سنبقى خائفين ومتقوقعين، والربّ ينتظر منّا أن نستيقظ ونسترجع شجاعة الايمان للننطلق مُجدّدًا لايصال بُشرى الخلاص الى العالم الغارق في ظلمة الجهل والتعصّب والباطل؟ أليسَ هو من أنذرنا: “سيكون لكم في العالم ضيق، ولكن تقووا أنا غلبتُ العالم”؟(يو 16/33)0 إننا مدعوون لنُلقي عنّا كل خوف، ونستعيد الشركة الحقيقية مع الله بالايمان الحي، ونعيش شهادة المحبة والغفران أمام الناس، لنحمل لإخوتنا الذين أَوكلَ اللهٌ الينا مهمّةَ خلاصهم، نورَ الانجيل وفرحه0
6″0 “طوبى لكم، إذا شتموكم واضطهدوكم وافتروا عليكم كل كذبٍ من أجلي، افرحوا وابتهجوا: إن أجركم في السماوات عظيم، فهكذا اضطهدوا الانبياء من قبلكم”(متى5/11-12)0
إن العالم الغارق في ظلمة الشرّ والخطيئة لم يعرف النور الآتي اليه، ولم يستطع أن يقبله : “أتى الى بيته، فما قبله أهلُ بيته0 أما الذين قبلوه، وهم الذين يؤمنون باسمه، فقد مكّنهم أن يصيروا أبناء الله”(يو1/11-12)0 هؤلاء الذين التقوا بالنور وآمنوا به، صاروا أبناء الله، ولم يعُد بامكانهم أن يسكتوا بالرغم من التهديدات والاضطهادات0 فبطرس الذي شفى كسيحًا باسم يسوع، وُضع في السجن مع يوحنا، وأُحضرا في اليوم التالي أمام المجلس الذي سألهما:”بأي قوّة وبأي اسم فعلتما ذلك؟”، فأجاب بطرس:”000 اعلموا جميعًا وليعلم شعبُ اسرائيل كلّه أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه انتم فأقامه الله من بين الاموات، بهذا الاسم يقف أمامكم هذا الرجل معافىً0 هذا هو الحجر الذي رذلتموه أنتم البنّائين، فصار رأسَ الزاوية0 فلا خلاص بأحدٍ غيره، لانه ما من اسم آخر تحت السماء أُطلقَ على أحد الناس ننال به الخلاص”0 وبعدما رأوا جرأتهما، تشاوروا فيما بينهم، ومن ثمّ نَهَوهما نهيًا قاطعًا أن يذكرا اسم يسوع أو يُعلّما به0 فأجابهم بطرس ويوحنا:”أمِنَ البرّ عند الله أن نسمع لكم أم الأحرى بنا أن نسمع لله؟ احكموا انتم0 أما نحن فلا نستطيع السكوت عن ذكر ما رأينا وما سمعنا”0 فهدّدوهما ثانيةً ثمّ أطلقوا سراحهما (راجع أع 3-4)0
هذه هي قوّة الايمان التي نحتاجها اليوم لنُعيد نور المسيح وفرح الانجيل الى العالم0 إننا بحاجة أيضًا الى شجاعة بولس الرسول وجرأته هو الذي تحدى العالم كله واخترق ظلماته بنور الحقيقة الساطعة وبقوة الصليب المُحي معلنًا:”ولما كان اليهود يطلبون الآيات، واليونانيون يبحثون عن الحكمة، فإننا نُبشِّر بمسيح مصلوب، عثارٍ لليهود وحماقة للوثنيين، وأما للمدعوين، يهودَ كانوا أم يونانيين، فهو مسيحٌ، قدرة الله وحكمة الله، لأن الحماقة من الله أكثرُ حكمةً من الناس، والضعفُ من الله أوفر قوّةً من الناس” (1قو1/22-25)0
7″0 في عُرس قانا الجليل، نفدتِ الخمر،فقالت ليسوعَ أمُّه:”ليس عندهم خمر”0 فقال لها يسوع:”ما لي وما لكِ، ايتها المرأة؟ لم تأتِ ساعتي بعد”0 فقالت أمُّه للخدم:”مهما يأمركم به فافعلوه”(راجع يو2/1-12)0
في الاوقات الصعبة والظروف العسيرة نحاول أن نجد الحلول بانفسنا، لاننا نعتقد بأننا بالغون وراشدون، ولسنا بحاجة الى مساعدة أو شفاعة أحد0 ولكن نكتشف غالبًا بأننا عاجزون ومُحبَطون، ضعفاء ومخدوعون، عُميان ومُضلَّلون0 و ما حدث في قانا هو درسٌ لنا لكي نتواضع وننحني أمام عظمة الله، وقدرة العذراء مريم والقديسين على الشفاعة أمامه0 فالله لا يرفض طلبًا للقديسين، ولا لأي إنسان بارٍّ مؤمنٍ باسمه، وهذا ما قاله لنا الرب يسوع بوضوح :”إذا سألتموني شيئًا باسمي، فإنّي أعمله” (يو14/14)، وقال أيضًا :”كلُّ شيء تطلبونه بالصلاة، آمنوا بأنكم قد نلتموه، يكُنْ لكم” (مر11/24)0 وما يؤكّد ذلك هو أنه استجاب طلب مريم بالرغم من أن ساعته لم تأتِ بعد0 وهو ما زال يستجيب كل طلبات أبراره وقديسيه0 فكم من العجائب تحصل يوميًا بشفاعة القديسين؟ كم من العجائب أجرى الله بشفاعة مار شربل، ولم يزَلْ؟ وإذا ما عُدنا الى العهد القديم، نرى بأن ابراهيم وقف أمام الله مستشفّعًا بسادوم وعامورة قائلاً للربّ :”أحقًا تُهلك البار مع الشرير؟ لعلّه يوجد خمسون بارًا في المدينة000خمسة وأربعون000أربعون000ثلاثون000عشرون000عشرة0 فقال له الربّ :”لا أُهلك المدينة من أجل الخمسين000ولا حتى من أجل العشرة”(راجع تك18/16-33)0 فالله مستعدٌّ أن يصنع العجائب، ولكنه بحاجة الى ايمان الناس واستعدادهم للتوبة والرجوع عن شرورهم0 فعلينا أن نقتنع بأننا بقوتنا وحكمتنا مغلوبون، وبأننا بدون الايمان والتوبة هالكون، وبأن الله هو من أعطانا القديسين شفعاء لنا، وبأنّ يسوع وحده هو من ينتصر لنا، وهو من يحوِّل ماءنا الى خمر، وخمرنا الى دمّ، ودمنا الى كيان روحي خالد للحياة الابدية0
8″0 “إن كان لكم من الايمان قدر حبّة خردل لقُلتُم لهذا الجبل: انتقل من هنا الى هناك، فينتقل، ولم يُعجزكم شيء”، “فكلّ شيء تطلبونه وأنتم تُصلّون بايمان تنالونه”(متى17/20؛ 21/22)0
نحن نؤمن بأن الله هو إله المستحيل، لأنه لا شيء يُعجزه فهو على كل شيء قدير0 وقد أعلن يسوع هذه الحقيقة وأثبتها بآياته وأعاجيبه، وقد منح هذا السلطان عينه للمؤمنين باسمه، ليتابعوا تتميم عمله الخلاصي، قائلاً :”مَن آمن بي، يعمل هو أيضًا الاعمال التي أنا أعملها، بل أعظم منها يعمل” (يو14/12)0 ونحن نؤمن أيضًا بأن الله يُريد خلاص جميع أبنائه من خلال الايمان بابنه يسوع الذي هو الباب الوحيد الى السماء لانه لا خلاص إلا به، هو القائل :”الحقّ الحقّ أقول لكم: أنا باب الخراف000 فمن دخل مني يخلص، يدخل ويخرج ويجد مرعىً”(يو10/8-9)0 ونحن نؤمن بأن الوقت آتٍ، وقد أتى الآن، حيث يُظهر الله مجده أمام أبنائه بآيات عظيمة وأعمال باهرة يُعيد من خلالها بهاء الايمان الى الشرق والعالم بعد هذا الزمن الطويل الى الضياع والضلال0 إن الايمان هو القوّة الوحيدة القادرة على قلب كل المُعادلات وتغيير كلّ الوقائع، لانه بالايمان وحده يُمكن نقلُ جبال العمى والجهل والكذب والرياء والخداع والضلال المحيطة بنا، ورميها في البحر الى الابد0
9″0 “أنا نور العالم، من يتبعني لا يمشي في الظلام، بل يكون له نور الحياة”(يو8/12)0
إن إعلان الرب يسوع هذا يُفهمنا بأنّه هو مصدر كل الانوار، ومن يسير على هديه لا يعثر ولا يضلّ0 ويُضيف قائلاً :”أنا الطريق والحقّ والحياة0 لا يمضي أحدٌ الى الآب الا بي0 فلو كنتم تعرفوني لعرفتم أبي أيضًا0 ومنذ الآن تعرفونه وقد رأيتموه”(يو14/6-7)0 إن هذه الكلمات تُدخلنا الى عمق السرّ الالهي0 فالمسيح بكيانه هو النور الذي يُضيء لنا أسرار الوجود والكون، وبحياته هو المثال والطريق الذي يقود الى السماء، وبتعاليمه هو الحقيقة التي يتوق اليها كل ذهن وعقل، وهو الحياة لأنه هو مصدر الوجود وغايته، البداية والنهاية، الألف والياء، وهو جسر العبور الوحيد الى الآب، وهو صورة الآب الحقيقية التي اعتُلنت للناس في ملء الزمن0 ولابد لنا هنا أن نتساءل : بأيّ نور نستضيء، وعلى أيّ طريق نسير، وبأية حقيقة نؤمن، وعن أية حياة نبحث، في هذه المرحلة الحاسمة من التاريخ؟ هل نستنير بالايمان أم بالعقل؟ هل نسير على طريق الله أم على طريق العالم؟ هل نعتنق حقيقة يسوع أم حقيقة المُضلِّل؟ هل نبحث عن الحياة الخالدة أم الفانية؟ هل ننقاد لإلهامات الروح أم لرغبات الجسد؟ يقول البابا بندكتس السادس عشر للشبيبة في لقائه معهم في باريس في 12/9/2008 : أُعطيكم كنزين: الأول هو الروح القدس الذي وعد به يسوع تلاميذه قبل صعوده الى السماء قائلاً :”إن الروح القدس ينزل عليكم فتنالون قوّةً وتكونون لي شهودًا في أورشليم وكل اليهودية والسامرة، حتى أقاصي الارض”(أع1/8)0 فلا تخافوا أيها الشبّان، ولتَكُنْ لكم شجاعة عيش الانجيل وجُرأة التبشير به0 والكنز الثاني هو الصليب الذي هو صخرةُ ايماننا :”إن لغةَ الصليب حماقةٌ عند الذين في سبيل الهلاك، وأما عند الذين في سبيل الخلاص، أي عندنا، فهي قدرةُ الله”(1قو1/18)، والصليب هو أيضًا فخرُنا :”أما أنا فمعاذ الله أن أفتخر إلا بصليب ربّنا يسوع المسيح، وفيه أصبح العالم مصلوبًا عندي، وأصبحتُ أنا مصلوبًا عند العالم”(غلا6/14)0 فالصليب هو التعبير الأوحد والأثمن عن كل آمال البشر وانتظاراتهم0 فلا تخافوا الاضطهاد فهو طريق التحرير والتبرير”0
10″0 “قال يسوع للسامرية :”صدّقيني أيتها المرأة، تأتي ساعةٌ000 – وقد حضرت الآن – فيها العباد الصادقون يعبدون الآب بالروح والحق، فمثل أولئك العباد يُريد الآب0 إن الله روح، فعلى العِباد أن يعبدوه بالروح والحق”(يو4/21،23-24)0
إنطلاقًا من هذا النص، وجّه آباء السينودس العادي الثالث عشر، في ختام مجمعهم، في 28 تشرين الثاني 2012، رسالةً الى شعب الله جاء فيها :”ليس من انسان لا يجد نفسه، مثل السامرية، في لحظة من حياته قرب البئر والجرّة فارغة في يده، مع الأمل أن يملأها ويملأ معها رغبة قلبه الأعمق0 فالآبار كثيرة اليوم، ولذا علينا حسن التمييز لئلا نملأ جرارنا من الماء الملوّث0 فعلى المسيحيين أن يجلسوا مثل يسوع على حافة البئر قرب الناس ليقودوهم الى يسوع لأنه الوحيد القادر أن يُعطي الماء الحي الحقيقي والابدي0 وعلى مثال السامرية التي تابت وأصبحت مُرسَلةً ومُبشِّرة وقادت أبناء شعبها الى يسوع فأتوا واختبروا وآمنوا بأنه مُخلّص العالم، على المسيحيين أن يقودوا أبناء عالمنا الى يسوع كي يلتقوا به ويكتشفوا فيه ينبوع الماء الحي”0 إن الربّ ينتظرنا، مثلما انتظر السامرية، على بئر احتياجاتنا اليومية، لكي يكشف لنا مُجدّدًا عن حقيقة محبته وعنايته بنا، بالرغم من تغافلنا عنه0 فلنصغِ الى همساته ولنستسلم لعمل روحه ولنسترجع زخم الايمان به، فننطلق على طريق البشارة والشهادة لمجد الله الأعظم وخلاص العالم0
الكلمة الأخيرة :
إن عالمنا اليوم هو بأمسّ الحاجة الى نور المسيح وفرح بُشراه0 وقد بدأتْ تظهرُ في الافق ملامح فجر جديد من الارتدادات المُعلنة والمكتومة الى الإيمان لأن قلب الانسان لا يُشبعه إلا خبزُ الحياة، كلمةُ الله، يسوع المسيح0 وهذا يفرض علينا نحن المسيحيين، وعي عِظم مسؤوليتنا في عيش الانجيل وتجسيد المحبة، لنكون جديرين بإعلان بُشرى الخلاص للناس التائهين في صحاري الالحاد والكفر والضلال، يلتمسون الماء ولا يجدونه0 وهذه المسؤولية تُحتّم علينا الانقياد للروح القدس، والالتزام بعيش المحبة والوصايا، والعودة الى ممارسة الصوم والصلاة، والخروج من الاكتفاء الذاتي، واستعادة روح التجرّد والتواضع، وتفعيل الايمان والرجاء، والتحلّي بالجرأة والشجاعة لإعلان الانجيل، والانخراط في الحرب الروحية الايمانية، والدفاع عن حقوق الفقراء والمظلومين، والتخلّي عن الآبار المُشقّقة بالعودة الى ينبوع الماء الحي، والاستنارة بالقيامة لإعلان فرح الانجيل للعالم أجمع0 وهذا يتطلّبُ منّا أن نصلي مع كل المؤمنين المنتشرين في العالم، مردّدين :”أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الارض”(متى6/9-10)، و”أن نصرخ مع الروح والكنيسة :”تعال، أيها الربّ يسوع” (رؤ22/ 20،17)، لأنَّ تَبَنّي هذه الصلاة وهذه الصرخة، هو هدف كلّ نشاط إرسالي نقوم به، أي مجيء ملكوت الله الذي سيتحقّق في الزمن المُحدّد، بحسب الصوت الذي سمعه يوحنا آتيًا من العرش في رؤياه:”هوذا مسكن الله مع الناس، فسيسكن معهم وهم سيكونون شعوبه وهو سيكون “الله معهم”0 وسيمسحُ كلَّ دمعةٍ من عيونهم0 وللموت لن يبقى وجودٌ بعد الآن، ولا للحزن ولا للصراخ ولا للألم لن يبقى وجودٌ بعد الآن، لأن العالم القديم قد زال0 وقال الجالس على العرش : “هاءنذا أجعل كل شيء جديدًا” (رؤ21/3-5)0