Almanara Magazine

“دستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة” في السَّنة الـ50 قراءةٌ متجدِّدة

الخوري دانيال زغيب

مقدَّمة

   “تغيَّر القُدَّاس”. هذا هو الانطباع الأوَّليّ الَّذي نستنتجه عندما نسأل المؤمنين عن اللِّيتورجيَّا، وبالأخصّ عن القُدَّاس، بعد مرور 50 سنة على انعقاد المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني. والانطباع الثَّاني الَّذي نخرج به، أيضًا، هو الآتي: “صرنا نفهم ما نصلِّي، ونشارك في الصَّلاة”. لقد أحدث المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني تغييرًا جذريًّا في فهم اللِّيتورجيَّا وعيشها، عند اللاتين وعندنا نحن الشَّرقيِّين.

   وتبقى “مشاركة المؤمنين”([1]) هي الكلمة-المفتاح في “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة” ؛ “هذه المشاركة التَّامَّة والواعية والفعَّالة في الاحتفالات الطَّقسيَّة (…) هي، بقوَّة العماد، حقٌّ للشَّعب المسيحيّ وواجب عليه” (“الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، 14). ويهدف “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة” إلى تشجيع المؤمنين على هذه المشاركة الكاملة والأساسيَّة “الَّتي تتطلَّبها طبيعة اللِّيتورجيَّا بالذَّات” (“الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، 14). كما يسعى “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة” إلى إعادة الاعتبار لليتورجيَّا بكونها “القمَّة الَّتي يصبو إليها عمل الكنيسة وفي الوقت عينه الينبوع الَّذي منه تتفجَّر كلُّ قوَّتها” (“الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، 10). فلم تَعُدِ اللِّيتورجيَّا مجموعةً من الرُّوبريكات والأعمال الخارجيَّة، ولكنَّها أصبحَتْ أسمى عملٍ لاهوتيّ، إذ هي “ممارسة لمهمَّة المسيح الكهنوتيَّة، ممارسة تعني -بعلاماتٍ حسيَّة- تقديس الإنسان وتُـحقِّقه بطريقةٍ خاصَّة في كلٍّ منها (…)” (“الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، 7). وبالتَّالي، لم يَعُدِ الاحتفال الطَّقسيّ عمل الإنسان الفرد فحسب، بل هو “عمل المسيح الكاهن وجسده الَّذي هو الكنيسة، هو عملٌ مقدَّسٌ للغاية لا يمكن لأيِّ عملٍ آخر في الكنيسة أنْ يبلغ فاعليَّته بالمقام ذاتِهِ والدَّرجة ذاتها” (“الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة، 7).

   لنتمكَّن مِنْ فَهْمِ هذه النَّظرة الكنسيَّة الجديدة فيما يتعلَّق بماهيَّة اللِّيتورجيَّا ودورها، ومِنْ فَهْمِ الإصلاح اللِّيتورجيَّ الهامّ الَّذي بعثَه المجمع، “لمناسبة السَّنة الـ50” على اختتام جلساته (1965-2015)، سنعمد، أوَّلًا، إلى توضيح الإطار التَّاريخيّ القريب والبعيد، لأنَّ المجمع يطوِّر الإصلاحات الَّتي بدأها كلٌّ من بيوس العاشر وبيوس الثَّاني عشر ويكملها. ونتناول، ثانيًا، مضمونالدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، وما قدَّمه من جديدٍ في حياة الكنيسة وليتورجيَّتها. ونتوقَّف، ثالثًا، عند بعض محاور هذا الدُّستور اللِّيتورجيّ، أي عند الالتزام العماديّ، والاحتفال بيوم الأحد، والعودة إلى الاحتفال بالفرْض الإلهيّ. ونستعرض، رابعًا وأخيرًا، حال اللِّيتورجيَّا بعد المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني: طريقة الاحتفال بها، وتعليم البابَوات بشأنها، والرَّسائل الصَّادرة احتفاءً بذكرى إقرار “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا”، ونصّ اللِّيتورجيَّا في المجمع البطريركيّ المارونيّ.

   تألَّفت لجنة صياغة الوثيقة المتعلِّقة باللِّيتورجيَّا، برئاسة الكردينال شيكونياني وشغل منصب أمين السِّرِّ فيها الأب بونيني، اللِّيتورجيّ الكبير، وكانت تضمّ أشخاصًا من ذوي الخبرة في العلوم اللِّيتورجيَّة. ثمَّ تسلَّمَتْ النَّصَّ الـمُعدَّ لجنةٌ مجمعيَّةٌ برئاسة الكردينال larraona، وشغل منصب أمين السِّرّ الأب أنطونيلِّي الفرنسيسكانيّ الَّذي كان قد ساهم في تجديد فرْض أسبوع الآلام والسَّهرة الفصحيَّة. وافق على نصّ المسوَّدة 2158 أسقفًا من أصل 2178، وعارضه 19 ووجِدَتْ ورقةٌ بيضاء. وفي 4 كانون الأوَّل 1963، نال “الدُّستور” 2147 صوتًا وعاكسه 4 أصواتٍ فقط([2]). فكان ل أوَّل نصٍّ مجمعيٍّ أقرَّهُ الآباء وأصدره البابا بولس السَّادس.

  1. الإطار التَّاريخيّ

          الحركة اللِّيتورجيَّة (Le mouvement liturgique)([3])

   أصبحت الكنيسة، من بعد المجمع التريدنتينيّ، ذات طابعٍ إكليروسيٍّ مُهَيمنٍ على غالبيَّة النَّشاطات فيها، ولم يَعُدْ للمؤمنين من دورٍ سوى الحضور، في الاحتفالات اللِّيتورجيَّة، حضور المتفرِّجين لا المشاركين، إذ اعتُبِرَتْ اللِّيتورجيَّا من مهام الكهنة فقط، ولا يحقّ للمؤمنين أنْ يشاركوا فيها. ولا تقتصر هاتان النَّظرة والممارسة على الكنيسة اللاتينيَّة، بل تأثَّرَتْ الكنائس الشَّرقيَّة بهما. إذ اقتَصَرَتْ مشاركة المؤمنين، عندنا، على “سماع” القدَّاس الَّذي يحتفل به الكاهن ويعاونه فيه الشَّمَّاس. لذا، كان هناك كتابٌ للكاهن وكتاب للشَّمَّاس. وما ساهم في عدم مشاركة الشَّعب، أكثر فأكثر، في اللِّيتورجيَّا هو اللَّغة الطَّقسيَّة، اللاتينيَّة في الغرب ولغاتنا المتنوِّعة في الشَّرق (السُّريانيَّة واليونانيَّة والقبطيَّة)، الَّتي أصبحت غير مفهومة من الشَّعب كلِّه. ممَّا حدا ببعض اللاهوتيِّين والكهنة إلى تأسيس الحركة اللِّيتورجيَّة، في الغرب، بهدف إصلاح اللِّيتورجيَّا والعودة بها إلى أصولها ونقاوتها خاليةً من أيِّ دخيل، وبهدف دفْع الشَّعب إلى أنْ يشارِكَ مشاركةً واعيةً وفعَّالةً في الاحتفال اللِّيتورجيّ. وحذا الكهنة الشَّرقيُّون حذوَ الغربيِّين فأسَّسوا الرَّابطة الكهنوتيَّة([4])، في لبنان. فكان من أبرز أهدافها تثقيفُ الكهنة تثقيفًا ليتورجيًّا عميقًا ليفقهوا أهمِّيَّة الأسرار الَّتي يحتفلون فيها، وتمكينُ الشَّعب من المشاركة في الاحتفال ليجني الثِّمار المرجوَّة منه.

   كان لأديار سولِام (فرنسا) ومارِدْسو ومون-سيزار (بلجيكا) وماريَّا لاخْ (ألمانيا)، الدَّورُ الأساسيّ في تأسيس الحركة اللِّيتورجيَّة. فقد عمل المؤسِّسون على جبهاتٍ مختلفة: أنجزوا دراساتٍ تاريخيَّةً طاولَتِ اللِّيتورجيَّات القديمة؛ وسَعوا إلى توعية المؤمنين على خطورة التَّقوى الفردانيَّة الَّتي كانت انتشَرَت فيما بينهم، منذ القرن السَّادس عشر، على حساب العمل الجماعيّ الكنسيّ؛ كما أفرغوا جهدًا كبيرًا لإيلاء الرَّاعويَّة اللِّيتورجيَّة مكانةً مميَّزةً في العمل الرَّاعويّ العامّ، وذلك بهدف تمكين المؤمنين من المشاركة في اللِّيتورجيَّا. وما لا يعرفه العامَّة، وحتَّى بعض الكهنة المثقَّفين، هو أنَّ أعمال هذه الحركة ودراساتها كانت هي الأساس الَّذي بنى عليه كلٌّ من البابَوَين بيوس العاشر وبيوس الثَّاني عشر ليُنجزا الإصلاحات الَّتي شرعا في تنفيذها، والَّتي سعى المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني إلى استكمال إنجازها ودفعها إلى الأمام.

   حقَّقَ بيوس العاشر (بابا بين العامَين 1903 و1914) إنجازًا ليتورجيًّا هامًّا جدًّا، إذ كان من أوائل الَّذين شجَّعوا المؤمنين على “المشاركة الفعَّالة” في اللِّيتورجيَّا، ومِنْ أوائل الَّذين شجَّعوهم على المناولة المتواترة في القُدَّاس، وشجَّعوا الكهنة، أيضًا، على مناولة الأطفال بدءًا من سنّ التَّمييز. قبْل إصلاحه هذا، كانت أعداد الَّذين يتناولون القربان، يوم الأحد، ضئيلةً جدًّا([5])؛ وكانت مناولة الأولاد الاحتفاليَّة (أو القربانة الأُولى) تتمَّ بين سنّ 10 و12 سنة، إذ لم يَـجِد المجمع التريدنتينيّ أنَّ مناولة الأطفال ضروريَّة. كما أعاد بيوس العاشر للَّحن الغريغوريوسيّ الأصيل مكانته في الطَّقس اللاتينيّ، مُستندًا في ذلك إلى الدِّراسات الَّتي أنجزها الرُّهبان البنديكتيُّون. والجدير ذكره أنَّنا نجد التَّعبير الآتي: “المشاركة الفعَّالة”، لأوَّل مرَّة في الإرادة الرَّسوليَّة (motu proprio) الَّتي أصدرها البابا بيوس العاشر، بعنوان: «Tra le sollecitudini» (تاريخ 22 تشرين الثَّاني 1903)، بشأن الموسيقى المقدَّسة.

          الحاجة إلى ليتورجيَّا تُطاول حاجات الشَّعب

   برَزَتْ الحاجة إلى المشاركة الفعَّالة في العمل اللِّيتورجيّ، قبْل الحرب العالميَّة الثَّانية، في جماعاتٍ كاثوليكيَّةٍ ملتزمة. ثمَّ برزَتْ هذه الحاجة خلال الاحتفالات الطَّقسيَّة في المعسكرات وعلى الجبهات وخارج الكنائس، إذ كان على المشاركين فيها أنْ يُـجيبوا على الكاهن المحتَفِل بلغاتهم المحكيَّة، بينما كان هو يحتفل باللُّغة اللاتينيَّة؛ كما كانوا يتلون القراءات الكتابيَّة ويرتِّلون بلغات بلدانهم، وليس باللاتينيَّة. كذلك في الشَّرق، أدركتِ السُّلطة الكنسيَّة أنَّ الشَّعب المسيحيّ أصبح يجهل اللُّغات الطَّقسيَّة ولا يتقن سوى العربيَّة، فقام الإصلاح اللِّيتورجيّ، في بداياته، على تعريب النُّصوص الطَّقسيَّة ليتمكَّن الشَّعب من فهم نصوص الاحتفال والمشاركة فيه. لذا، نجد كتاب الرُّتَب المارونيّ بالسُّريانيَّة والعربيَّة، وكتاب القدَّاس باللُّغتَين أيضًا. كما صَدَرَتْ زيَّاحاتٌ وتساعيَّاتٌ وألحانٌ كثيرةٌ بالعربيَّة فقط. وعند انفتاح الكنيسة على ما يُسمَّى بـ”بلدان الرِّسالة”، تنبَّه الأحبار الأعظمون إلى ضرورة أنْ تتأقلم اللِّيتورجيَّا وحضارات الشُّعوب الَّتي تقبل البشارة المسيحيَّة، إذ ليس من المقبول أنْ تُفرَضَ عليها الممارسة اللاتينيَّة الغربيَّة.

          إصلاحات البابا بيوس الثَّاني عشر اللِّيتورجيَّة

    أصدرَ بيوس الثَّاني عشر الرِّسالة العامَّة المعنوَنَة: وسيطُ الله (Mediator Dei)، بتاريخ 20 تشرين الثَّاني 1947، وتناول فيها الشَّأنَ اللِّيتورجيّ، وضمَّنها مقترحات الحركة اللِّيتورجيَّة وأفكارها، وتطرَّق -بشكلٍ خاصّ- إلى المسائل المرتبطة بمشاركة المؤمنين في العمل الطَّقسيّ.

   كانت هذه الرِّسالة فاتحة خطواتٍ إصلاحيَّةٍ في المجال اللِّيتورجيّ، في الغرب المسيحيّ. فأُعيدَ إصلاح السَّهرة الفصحيَّة (في العام 1951)، ليتمكَّن الشَّعب من أنْ يشارك فيها، وصَدَرَ كتاب الرُّتَب الخاصّ بأسبوع الآلام (1955)؛ كما قصَّر البابا وقت الصَّوم الإلزاميّ الَّذي يسبق المشاركة في القدَّاس، ليستطيع المؤمنون أنْ يتقرَّبوا من المناولة([6]). كما سمح باستخدام لغة البلد أو اللُّغة المحكيَّة لِمَنْح الأسرار، ما عدا سرّ القربان. لم تكنْ هذه الإصلاحات كافية لتواكب حاجات المؤمنين المتزايدة؛ هذا ما عبَّرَتْ عنه التَّمنِّيات الَّتي رفعها أساقفة العالم إلى الهيئة الموكلة إعداد المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني.   

  • الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة

   نعرض، بشكلٍ سريع، تصميم “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، كالآتي:

توطئة (الأعداد 1-4)

الفصل الأوَّل: مبادئ عامَّة لتجديد اللِّيتورجيَّا وتقدُّمها (الأعداد 5-46)

الفصل الثَّاني: سرّ الإفخارستيّا (الأعداد 47-58)

الفصل الثَّالث: الأسرار الباقية وأشباه الأسرار (الأعداد 59-82)

الفصل الرَّابع: الفرْض الإلهيّ (الأعداد 83-101)

الفصل الخامس: السَّنة الطَّقسيَّة (الأعداد 102-111)

الفصل السَّادس: الموسيقى المقدَّسة (الأعداد 112-121)

الفصل السَّابع: الفنّ المقدَّس وأثاث الكنيسة (الأعداد 122-130)

          توطئة إلى المجمع

   بما أنَّ “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة” هو أوَّل وثيقةٍ أُقِرَّتْ في المجمع، وبما أنَّه نال إجماع الآباء المجمعيِّين بغالبيَّتهم السَّاحقة، يمكننا القول إنَّه يحتلّ مكانةً خاصَّةً وفريدةً بين الوثائق المجمعيَّة كلِّها. وهذا ما يؤهِّلالدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”أنْ يُعتَبَر مدخلًا أساسيًّا لفَهْم الوثيقة المجمعيَّة كلِّها، ومفتاحًا لتفسيرها وتأويلها. هذا بالإضافة إلى كون الوثيقة عن اللِّيتورجيَّا هي “دستور”، هذا ما يجعلها من بين الوثائق الأربع الأساسيَّة من وثائق المجمع. لذا، فإنَّ “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة” هو حقًّا “توطئة” إلى العمل المجمعيّ كلِّه، ليس بمعنى أنَّه يأتي “قَبْل”، بل بمعنى أنَّه مطلٌّ يمكِّننا من رؤية العمل المجمعيّ كلِّه واستشرافه وتيقُّن أبعاده([7]).

          تحديثٌ (Aggiornamento) ليتورجيٌّ وتجديدٌ كنسيّ    

    ليس “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة” نصًّا رعويًّا وعقائديًّا كباقي نصوص المجمع، ولكنَّه، بالإضافة إلى هاتين الميزتَين، نصٌّ-برنامجٌ يهدف إلى إصلاح مجمل المنظومة اللِّيتورجيَّة الكنسيَّة. إذ تَظهَر الإرادة الإصلاحيَّة والتجديديَّة في المقطع الاستهلاليّ منه، على الرُّغم من صياغته اللُّغويَّة الَّتي لا توحي بطابعٍ رسميٍّ ومنهجيٍّ واضح؛ وهذا هو النَّصّ:

   “لـمَّا كان المجمع المقدَّس يهدف إلى تقدُّم الحياة المسيحيَّة يومًا بعد يوم عند المؤمنين، وإلى مطابقة المؤسَّسات الخاضعة للتَّغيير مطابقةً أكثر ملاءمة مع حاجات العصر، وإلى تعزيز كلّ ما من شأنه أنْ يسهم في وحدة كلِّ الَّذين يؤمنون بالمسيح، وإلى تقوية كلّ ما يؤول إلى دعوة النَّاس إلى حضن الكنيسة، فإنَّه يعتبر أنْ له يعود بنوعٍ خاصٍّ أنْ يسهر أيضًا على تجديد اللِّيتورجيَّا وتقدُّمها” (“الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، 1).

   يتجلَّى، من خلال هذه الكلمات الَّتي قيلَت بخصوص اللِّيتورجيَّا، الهدفُ-البرنامج الَّذي يصبو المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني إلى تحقيقه، من خلال ركائز أربع، هي الآتية: تَقَدُّم الحياة المسيحيَّة، ومطابقة المؤسَّسات وظروف العصر الحالي، وتشجيع وحدة المؤمنين بالمسيح، وتعزيز رسالة الكنيسة الهادفة إلى جذْب النَّاس صوب المسيح.  

   وبالتَّالي، فإنَّ “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة” يتوافق والهدف الَّذي أراده يوحنّا الثَّالث والعشرون من انعقاد الفاتيكانيّ الثَّاني، ألا وهو التَّحديث. فيصبح هذا الأخير عمل “تجديدٍ في خطِّ التَّقليد”، هذا ما يتوافق والفكرة المجمعيَّة الَّتي يشرحها برنار سيسبويه بواسطة التَّعبير “يعني” (««c’est-à-dire)([8]). ويقول باتريك بْرِتو، ما يلي: “في اللِّيتورجيَّا، يتضمَّن التَّعبير “يعني” أنْ تستعيد [الكنيسة] إرثْ التَّقليد، بطريقةٍ مختلفة، لتجعله آنيًّا في ظروفٍ ثقافيَّةٍ جديدة. ويُنتِجُ الإصلاحُ، إذًا، انقطاعًا على مستوى الصِّيَغ اللِّيتورجيَّة، غير أنَّ التَّغيير يهدف إلى تحصين التَّواصل في التَّقليد. يُطاولُ التَّعبير “يعني”، في اللِّيتورجيَّا، (…)، البيانات والنُّصوص والرُّتَب، بشكلٍ لا ينفَصِم. ومن المحتمل ألَّا يكون هذا البُعد قد توضَّحَ، بشكلٍ كاف، وقد أدَّى هذا النَّقص إلى صراعاتٍ عديدة”([9]).

          نصٌّ بوجهَين

   لتلافي الوقوع في سوء تفسير “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، ينبغي التَّوقُّف عند فرادة هذا النَّصّ وبعض خصائصه. ويبقى”الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”من أهمّ الوثائق المجمعيَّة الرَّعويَّة والعقائديَّة، في آنٍ معًا. فالفصل الأوَّل (عنوانه: مبادئ عامَّة لتجديد اللِّيتورجيَّا وتقدُّمها) هو نصٌّ عقائديٌّ بامتياز، بينما الفصول الأخرى تتناول المفاعيل الرَّعويَّة للخيارات العقائديَّة الَّتي تبنَّاها الفصل الأوَّل. ويكفي أنْ نشير إلى العدد 47 (القدَّاس والسِّرِّ الفصحيّ)، والعدد 59 (طبيعة الأسرار)، والعددَين 83-84 (لاهوت الفرْض الإلهيّ)، وبخاصَّة إلى الأعداد 102-106 عن السَّنة الطَّقسيَّة ويوم الأحد، يوم الرَّبّ، ليتبيَّن لنا جليًّا أنَّ البُعد العقائديّ والبُعد الرَّعويّ مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، في”الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”. ومن هنا، يمكننا أنْ نفقه المفهوم الجديد الَّذي أرساه المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، فيما يتعلَّق باللِّيتورجيَّا: لم تَعُدِ اللِّيتورجيَّا أداةً أو وسيلةً لتطبيق المبادئ العقائديَّة الـمُصاغة مسبقًا، ولكنَّها لاهوتٌ بالفعل (théologie en acte)، لأنَّـها تُعلِنُ سرَّ المسيح وسرّ الكنيسة (راجع: “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، 2)([10]).

          بين التريدنتينيّ والفاتيكاني الثَّاني

   يقدِّم الفاتيكانيّ الثَّاني عرضًا متكاملًا ومنهجيًّا عن اللِّيتورجيَّا، وهذا ما لم يفعله أيّ مجمعٍ آخر قبْله. قام المجمع التريدنتينيّ بوضْع التَّرتيبات الضَّروريَّة لمنْح الأسرار فيما يتعلَّق بالاحتفال بها وبتغيير بعض العادات والممارسات الَّتي كانت تسرَّبَتْ إلى الاحتفال. وكان الهدف من “إصلاحاته” نبذ الشَّواذات الَّتي دخلت إلى الاحتفالات الأسراريَّة وإصلاح التَّنظيم اللِّيتورجيّ؛ وباختصار، كان هدفُه إصلاحَ الاحتفال بالأسرار. ويمكننا القول، من وجهة النَّظر هذه، إنَّ الفاتيكانيّ الثَّاني يواصل عمل التريدنتينيّ وعمل البابوات بيوس العاشر وبيوس الثَّاني عشر ويوحنَّا الثَّالث والعشرين بهدف تفعيل إصلاح اللِّيتورجيّا وتقدُّمها. ومن هذا المنطلق، أنجزَ الفاتيكانيّ الثَّاني ما سعى التريدنتينيّ إلى إنجازه إنْ على مستوى الإصلاح اللِّيتورجيّ والممارسة اللِّيتورجيَّة في الكنيسة كلِّها، وإنْ على مستوى إصلاح الكُتُب الطَّقسيَّة وطباعتها مجدَّدًا، عقب انتهاء أعمال المجمع. وهنا بالذَّات يتوقَّف الشَّبَه بين المجمعَين، وهنا يبدأ تَـمَيُّز الفاتيكانيّ الثَّاني وفرادته.

   تتأتَّى فرادة التَّعليم، المتضمَّن في الفاتيكانيّ الثَّاني، من السِّياق التَّاريخيّ والكنسيّ الَّذي انعقد فيه كلا المجمعَين، ممَّا أثَّرَ على منهجيَّة العمل في اللِّقاءات المجمعيَّة. فقد سعى التريدنتينيّ إلى الإجابة على أسئلة الإصلاح البروتستانتيّ واعتراضاته، منطلقًا من لوائح المقترحات اللُّوثريَّة أو من لوائح التَّجاوزات الَّتي جمعَتْها السُّلطة الكنسيَّة، بدلًا من أنْ ينطلق التَّفكير، حول اللِّيتورجيَّا، من مقاربةٍ بيبليَّةٍ ولاهوتيَّةٍ وآبائيَّة. بينما ارتكز الفاتيكانيّ الثَّاني على حركتَين أساسيَّتَين: الأُولى، تَوَسُّعُ آفاق الكنيسة المركزيَّة مع بروز الكنائس الجديدة الفتيَّة ونشوئها، خلال القرن العشرين؛ والثَّانية، هي الحركة اللِّيتورجيَّة الَّتي  برزَتْ منذ القرن التَّاسع عشر، والَّتي تكلَّمنا عليها أعلاه.

   وهكذا، لم تقتصر منهجيَّة الفاتيكانيّ الثَّاني على دحض الأخطاء والتَّجاوزات، بل سَعَت إلى تقديم عرْضٍ إيجابيٍّ وبنَّاءٍ استنادًا إلى المداولات اللاهوتيَّة واللِّيتورجيَّة الَّتي جرَتْ في الجمعيَّات المجمعيَّة. فقد احتَفَظ تمييزُ الآباء المجمعيِّين -هذا التَّمييز المستند إلى قراءةٍ متجدِّدةٍ للتَّقليد الكنسيّ وإلى إصغاءٍ عميقٍ إلى النِّداءات الجديدة الصَّادرة عن الكنائس الفتيَّة-، بما هو الأفضل من أجل خدْمة الكنائس الغربيَّة الَّتي تواجه الحداثة، وخدْمة الكنائس الفتيَّة الَّتي تواجه تحدِّي التَّنوُّع الثَّقافيّ والحضاريّ. ويقول جيل روتيه (Gilles Routhier)، في هذا الموضوع بالذَّات، ما يلي: “مكانَ منهجيَّة الإجابة على الأخطاء والتَّجاوزات، الَّتي اعتمدَها التريدنتينيّ، تأتي منهجيَّةُ التَّمييز (أو الإفراز)، إذ إنَّ المجمع هو الوقت الأفضل والأمثل للتَّمييز الرُّوحيّ. وهكذا، تمكَّن الفاتيكانيّ الثَّاني مِنْ أنْ يُقدِّمَ عرْضًا متماسِكًا ومنظَّمًا تنظيمًا محكمًا عن اللِّيتورجيَّا، لم يكن من الممكن أنْ يبلغه المجمع التريدنتينيّ إذا أخذنا بعين الاعتبار المنهجيَّة الَّتي قد اعتمدَها”([11])

   ومن ناحيةٍ أخرى، لم يقدِّم المجمع التريدنتينيّ أيَّ قاعدةٍ أو مبدإٍ يمكِّنُ من توجيه الإصلاح اللِّيتورجيّ. بقيَ هذا الإصلاح موكلًا إلى سلطة البابا الحصريَّة، حتَّى أنَّ اللَّجنة الَّتي كلَّفها البابا بيوس الرَّابع بإنجاز إصلاح كتاب القدَّاس، ووسَّعها البابا بيوس الخامس، قد عمِلَت -على عكس الـكونْسِيلْيوم (Consilium) الَّذي ألَّفه لاحقًا البابا بولس السَّادس- من دون أنْ تستند إلى أيِّ توجيهٍ صادرٍ عن المجمع نفسه أو أنْ تعمل تحت غطائه. وهنا أيضًا، تبرز فرادة الفاتيكانيّ الثَّاني: إنَّ الإصلاح اللِّيتورجيّ الَّذي أُنْـجِز بعد المجمع نال أوسَعَ تغطيةٍ مجمعيَّة، وذلك استنادًا إلى المبادئ والقواعد الَّتي أرساها “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”؛ فقد طَلَب البابا من الـكونْسِيلْيوم ومِنَ لجان الكنائس المحلِّيَّة التَّقيُّد بها([12]).          

  • بعض محاور “دستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”([13])
  • الالتزام العماديّ

   “تتوقُ الكنيسةُ الأمّ توقًا شديدًا إلى أنْ يبلغ كلُّ المؤمنين هذه المشاركة التَّامَّة والواعية والفعَّالة في الاحتفالات الطَّقسيَّة الَّتي تتطلَّبها طبيعة الطَّقسيَّات بالذَّات، والَّتي هي، بقوَّة العماد، حقٌّ للشَّعب المسيحيّ وواجبٌ عليه، «جيلٌ مختارٌ، كهنوتٌ ملوكيّ، أمَّةٌ مقدَّسة، وشعبٌ مقتنى»” (“الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، 14). فمن الالتزام العماديّ تنبثق القدرة على “المشاركة الفعَّالة”. وما اللِّيتورجيَّا سوى الاحتفال بالعهد القائم بين الله والشَّعب. فمن بين جميع الأسماء الَّتي تُطلَق على الله العليِّ، السَّاكن في النُّور غير الموصوف والقريب من النَّاس وإله الرَّأفة والرَّحمة، نجد تعبيرًا مميَّزًا هو الآتي: “الله الأمين دائمًا على عهده”. وهو إله العهد الأبديّ. ألم يقُلِ الله لشعب إسرائيل: “أكون لكم إلهًا، وتكونون لي شعبًا”؟ فعلى الاحتفال اللِّيتورجيّ أنْ يُظهِرَ وجه الله الحقيقيّ، هذا الإله المتعالي، الَّذي لا إله غيره ولا إله مثله (راجع: إش 46: 9)، الَّذي أظهَرَهُ لنا المسيح، “صورة الله غير المنظور” (قول 1: 15)، والَّذي أبرم مع آبائنا عهدًا لا رجوع عنه، عهدًا جديدًا وأبديًّا بابنه الوحيد يسوع المسيح. فاللِّيتورجيَّا، ولا سيَّما اللِّيتورجيَّا الإلهيَّة الَّتي هي القمَّة، تحتفل بإله العهد هذا. والمسيحيّ مدعوٌّ إلى أنْ يعرف هذا الإله معرفةً عميقةً مبنيَّةً على محبَّته والاتِّحاد به. إذ إنَّ المسيحيّ لم يُـخلَق “على صورة الله ومثاله” فحسب، ولكنَّه نال حياةَ الله نفسها. وإذا كان الختانُ علامةَ العهد بين الله وإسرائيل، فبالعماد قد نال المسيحيُّ عطيَّةَ العهد المطلقة والسَّامية. فهل نحن مدركون أنَّ رسمَ إشارة الصَّليب على جباهنا، مثلًا، هو إعترافٌ بالله المثلَّث التَّقديس الَّذي “غَطَّسَنا”، في العماد، بموت يسوع وقيامته؟

     على اللِّيتورجيَّا، إذًا، أنْ تغذِّي الالتزام العماديّ، لأنَّ السُّلوك الشَّخصيّ الدِّينيّ والأدبيّ والاجتماعيّ للمسيحيّ، في عالم اليوم، يتأتَّى من حسٍّ عماديٍّ مُرهَفٍ وحَيّ. غير أنَّ الاحتفالات اللِّيتورجيَّة الَّتي تذكِّرنا، بشكلٍ حسيّ، بعمادنا نادرةٌ جدًّا. أنْ يكون لدينا حسٌّ عماديّ يعني أنْ نتماهى وشعب الله وتاريخه الَّذي يكشف لنا مشروع الخلاص الَّذي يُعدُّه الله للإنسان؛ ويعني أنْ نعي ذواتنا “أولاد الله” (يو 1: 12؛ 1 يو 3: 1-3)، و”مُنقادين لروح الله” (روم 8: 14)، وأنْ نكون في حال حوار مع الله في الصَّلاة، مُدركين أنَّ روحَ البنوَّة هو الَّذي يجعلنا “نَصرُخُ: «أبَّا»، أيُّها الآب” (روم 8: 15). عندها يدخل المعمَّد إلى حميميَّة الله ويشارك في حياته الثَّالوثيَّة، حتَّى أنَّه يدرك أنَّ لا شيء يفصله عن محبَّة المسيح: لا ضيق، ولا شِدَّة، ولا اضطهاد، ولا جوع (راجع: روم 8: 35-37)؛ وأنَّه “لواثِقٌ أنَّه لا موت ولا حياة، (…) ولا أيَّ خليقةٍ أخرى تقدر أنْ تفصلَنا عن محبَّة الله الَّتي في المسيح يسوع ربِّنا” (روم 8: 38، 39). وهنا يأتي دور الاحتفال اللِّيتورجيّ الَّذي يغذِّي ويُقوِّي ثقة المؤمن ويقينه بأنَّ العلاقة مع الله أبيه لا تنفصم عراها بسرعةٍ وتحت ضغط الصِّعاب والضِّيقات. وهذا يتحقَّقُ إذا كان الاحتفال اللِّيتورجيّ يوفِّر جوًّا من الصَّلاة والتَّسبيح، وإذا ما كانت كلمة الله الـمُعلَنة فيه تأخذ موقعها المحوريّ والأساسيّ.

   شدَّد “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة” على أهمِّيَّة البيبليا في اللِّيتورجيَّا، إذ أورد الآتي: “يجب، في الاحتفالات المقدَّسة، إدخال قراءاتٍ من الكتاب المقدَّس أكثر غزارةً وأشدَّ تنوُّعًا وأحسن مطابقة” (“الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، 35، 1). ولم يحصر “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة” هذه القراءات في القدَّاس فحسب؛ إذ نجد فيه ما يلي: “ولتَنشَط الاحتفالاتُ المقدَّسة بكلام الله عشيَّة الأعياد الاحتفاليَّة، وفي بعض أيّام زمن المجيء والصَّوم الأربعينيّ وأيضًا في الآحاد والأعياد” (“الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، 35، 4). فلإعلان كلمة الله، إبَّان الاحتفال اللِّيتورجيّ، مفعولٌ أسراريّ([14])؛ فهي تَدخُل قلبَ الإنسان وتُـحوِّله. ويختبر المؤمن أنَّ الله هو الفاعل في حياته، مجَّانًا، وأنَّه ليس هو الحيّ بل الله هو الحيّ فيه (راجع: غل 2: 20)، وأنَّ “محبَّة الله قد أُفيضَتْ في قلوبنا بالرُّوح القدس الَّذي وُهِبَ لنا” (روم 5: 5). عندها، يدخل المؤمن في سرّ الخلاص، بكلِّ كيانه. إنَّ الاحتفال اللِّيتورجيّ الَّذي يوفِّر جوًّا من الصَّلاة والتَّسبيح والمشاركة الصَّحيحة للمؤمنين، والَّذي يرتكز على كلمة الله الـمُعلَنَة والـمُؤَوَّلة في حياة المؤمنين، يدفع إلى الالتزام بمفاعيل العماد وإلى تقوية الحسّ العماديّ، ويعطي المؤمن الدَّالَّة بأنَّه محبوبٌ من الله ويدفعه إلى أنْ يحيا حياةً ملؤها السَّعادة والفرح مهما كانت الصِّعاب، لأنَّه موقِنٌ أنَّ الله معه في عهدٍ أبديٍّ خلاصيّ.

  • الاحتفال بيوم الأحد

   أعاد المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني سرَّ موت المسيح وقيامته إلى قلب الحياة المسيحيَّة، وهذا ما برز في الإصلاح اللِّيتورجيّ فيما يخصّ الاحتفال بيوم الأحد. يتناول”الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة” يوم الأحد، مرَّاتٍ عديدة؛ فيقول مثلًا: “على المؤمنين أنْ يجتمعوا في ذلك اليوم [يوم الرَّبّ أو اليوم السيِّديّ] ليسمعوا كلمة الله ويشتركوا في الإفخارستيَّا، متذكِّرين كلام الرَّبّ يسوع وقيامته ومجده وشاكرين الله الَّذي “ولَدَهم ثانيةً لرجاءٍ حيٍّ بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات” (1 بط 1: 3). لهذا فإنَّ اليوم السيِّديّ هو العيد الأصليّ الَّذي يجب أنْ يُعرَض على تقوى المؤمنين ويُرسَّخُ فيهم، فيصبح يوم فرحٍ وعطلةٍ عن العمل (…)، لأنَّه أساس السَّنة الطَّقسيَّة ونواتها” (“الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، 106). ويتوسَّع البابا يوحنَّا-بولس الثَّاني، في رسالته الرَّسوليَّة المعنوَنَة: يوم الرَّبّ، في الإشادة بأهمِّيَّة هذا اليوم اللِّيتورجيّ، فيقول الآتي: ” (…) نهار الأحد، في الدَّورة الأُسبوعيَّة، يذكِّرُ بيوم قيامة المسيح. إنَّه فصح الأسبوع، أي اليوم الَّذي نحتفل فيه بانتصار المسيح على الخطيئة والموت، وباكتمال الخليقة الأُولى في شخصه، وبدء الخليقة الجديدة” (2 قور 5: 17). هو اليوم الَّذي نستذكر فيه أوَّل أيَّام العالم، في العبادة والشُّكر وهو أيضًا، في الرَّجاء المفعِّل، رسم «اليوم الأخير»، حيث يأتي المسيح في مجده، (أع 21: 11؛ 1 تس 4: 13-17)، وفيه يتحقَّق العالم «الجديد»”([15]). وفي الرِّسالة الرَّسوليَّة الَّتي أصدَرَها يوحنَّا-بولس الثَّاني، في الذِّكرى الأربعين على إقرار “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، بعنوان الرُّوح والعروس (Spiritus et sponsa)، يذكِّر البابا بأهمِّيَة يوم الأحد وبارتباطه بحدث موت المسيح وقيامته، فيقول: “إنَّ يوم الأحد، يوم الرَّبَّ، الَّذي نُقيم فيه، بشكلٍ خاصّ، تذكار قيامة المسيح، هو محور الحياة اللِّيتورجيَّة لأنَّه «أساس السَّنة الطَّقسيَّة ونواتها». لا شكَّ من أنَّ جهودًا كثيرةً قد أنجزَها العمل الرَّعويّ لكي يُعاد اكتشاف قيمة الأحد. ولكن يجب التَّشديد على هذه النُّقطة، لأنَّ «الأحد يحمل ثروةً روحيَّةً ورعائيَّةً عظيمةً جدًّا، على حدِّ ما ورثناه من التَّقليد. فإذا فهمنا الأحد بكلِّ معانيه ومضامينه فهو، بطريقةٍ ما، خلاصة الحياة المسيحيَّة وشرطٌ لحسن ممارستها»”([16]).

   بيد أنَّ يوم الأحد، في مجتمعنا، اليوم، أصبح يومًا من أيَّام نهاية الأسبوع (weekend)، في حين أنَّه أوَّل أيَّام الأسبوع (أحد). يبدأ الأسبوع، إذًا، بيوم عطلةٍ وفرح، وليس بيوم عملٍ وتعب. هذا يعني، أوَّلًا، أنْ قبْل الإنتاج والعمل، نحن نعيش؛ وثانيًا، أنَّ ما هو مهمٌّ في الحياة لا يمكننا أنْ نصنَعَه نحن أو أنْ نربَـحَه. فما هو مهمٌّ في الحياة، يُعطى لنا … فالأحد يأتي في البدء، في “الأوَّل”، قبْلَ الأيَّام الأُخرى. فهو، إذًا، علامةٌ تُشير إلى اتِّـجاه الحياة: وفي القيامة الَّتي هي علامةٌ أساسيَّة، تقود الطَّريقُ من الموت إلى الحياة. من هنا، يجب إيلاء ليتورجيَّا الأحد قيمتها الأساسيَّة والأوَّليَّة، لأنَّ “هدف اللِّيتورجيَّا الأساسيّ هو أنْ تقودنا، بلا كلل، إلى الطَّريق الفصحيَّة الَّتي افتَتَحَها المسيح، حيث نَقبَل أنْ نموت لكي ندخل الحياة”([17]). أمَّا بنديكتُس السَّادس عشر فيقول: “الأحد هو، إذن، اليوم حيث يجد المسيحيّ الشَّكلَ الإفخارستيّ في حياته ويشعر أنَّه مدعوٌّ لهذه الحياة باستمرار. «العيش بحسب يوم الأحد» يعني الحياة مع وعي التحرير الَّذي حمله المسيح وإكمال الحياة كتقدمة الذَّات لله لكي يُظهِرَ انتصارَه بكماله لكلّ إنسان من خلال سلوكٍ متجرِّدٍ في العمق”([18]).

  • العودة إلى الاحتفال بالفرْض الإلهيّ

   خصَّص “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة” الفصل الرَّابع (الأعداد 83-101) للفرْض الإلهيّ، متطرِّقًا إلى ضرورة إصلاحه وتجديده. ويضع هذا “الدُّستورُ” الفرْضَ الإلهيّ بارتباطٍ واللِّيتورجيَّا السَّماويَّة، معتبرًا إيَّاه “صوت العروس ذاتها يحدِّث العريس؛ أو بالأفضل هي صلاة المسيح مع جسده بالذَّات يقدِّمها للآب” (“الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، 84). ومن أهمّ أهداف التَّجديد هو أنْ “يؤدِّي الكهنة وسائر أعضاء الكنيسة الفرْضَ الإلهيّ بطريقةٍ أفضل وأتقن في الظُّروف الرَّاهنة” (“الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، 87). إذ ليس الفرْض الإلهيّ حقيقةً جامدة، بل هو مدعوٌّ إلى أنْ يتجدَّد ويتأقلم وواقع الكنيسة في كلّ عصرٍ وزمن. ومن الملاحظ أنَّ الفرْض الَّذي يُـحتَفَل به، في حَدِّه الأدنى، في الجماعات الرُّهبانيَّة وجمعيَّات الحياة المكرَّسة، غائب تمامًا عن حياة الرَّعيَّة، إذ لا يحتفل به كهنة الرَّعايا بحضور أبناء الرَّعيَّة ومشاركتهم.

   يشدِّد “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة” على أنَّ الفرْض مرتبطٌ بخدمة الإكليروس، فيقول: “ليَسهرِ الرُّعاة على أنْ يُـحتفَل جماعيًّا في الكنيسة بالصَّلوات الرَّئيسيَّة ولا سيَّما صلاة سِتَّار الآحاد وأيَّام الأعياد الاحتفاليَّة. ويُطلَب إلى العلمانيِّين أنفسهم، أنْ يتلوا الفرْض الإلهيّ، إمَّا مع الكهنة وإمَّا عندما يجتمعون مع بعضهم البعض وحتَّى إفراديًّا” (“الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، 100). وفي القرار المجمعيّ في حياة الكهنة وخدمتهم الرَّاعويَّة، نجد الآتي: “فالمديح والشُّكر اللَّذان يرفعهما الكهنة في الاحتفال بالذَّبيحة، يمدِّدانهما في ساعات النَّهار المختلفة في أداء الفرْض الإلهيّ، الَّذي به يبتهلون إلى الله باسم الكنيسة من أجل الشَّعب الَّذي أُوكِلَ إليهم، أو قُلْ من أجل العالم” (العدد 5). ثمَّ يُعدِّد هذا القرار المجمعيّ “الوسائل” الَّتي تغذِّي حياة الكهنة الرُّوحيَّة، ولكنَّه لا يذكر الفرْض الإلهيّ من بينها، وهذا ما يدعو إلى الاستغراب. ونجد، في القرار المجمعيّ في التَّنشئة الكهنوتيَّة، ما يلي: “وليَتَعلَّموا أنْ يطلبوا المسيح في المثابرة على التَّأمُّل بكلام الله وفي الشَّركة الفعَّالة في أسرار الكنيسة، وبادئ ذي بدء في الإفخارستيَّا والفرْض الإلهيّ” (العدد 8). أمَّا المرسوم في الكنائس الشَّرقيَّة الكاثوليكيَّة فيشجِّع المؤمنين على الاشتراك بالفرْض الإلهيّ مع الكهنة؛ إذ يقول: “وعلى الكهنة والرُّهبان الشَّرقيِّين أنْ يحتفلوا وفقًا لأحكام وتقاليد نظامهم الخاصّ بالفرْض الإلهي الَّذي كان دومًا ومنذ الأزمنة القديمة موضع إكرام عند كلّ الكنائس الشَّرقيَّة. وليَشترِكِ المؤمنون هم أيضًا، على مثال أجدادهم، بالفرْض الإلهيّ بورَعٍ وحسب قدرتهم” (العدد 22). ويشدِّد التَّوجيه (Instruction) اللِّيتورجيّ الصَّادر عن مجمع الكنائس الشَّرقيَّة، على أهمِّيَّة الصَّلاة الخورسيَّة في حياة المؤمنين، فيقول الآتي: “إنَّ الصَّلوات الطَّقسيَّة تُنعش على الدَّوام روحَ اليقظة مع الرَّغبة في عودة الرَّبّ، وتُقدِّس اليوم؛ وهي بتذكيرها الفكر بحضور الرَّبّ، تُفيضُ نعمتَها بإشباعها الوجود كلَّه ضامَّةً إيَّاه إلى الحياة الثَّالوثيَّة. إنَّـها تُقدِّس المؤمن ضمن حدود الزَّمن الَّذي يعيش فيه، على مدى السَّاعات والأيَّام والأسابيع والأشهر والسِّنين، وكأنَّـها صلاةٌ لا تنقطع على ما أوصى به الرَّسول (…). الصَّلوات الطَّقسيَّة هي مدرسة الصَّلاة الَّتي تخصُّ كلَّ كنيسة، فيها تُعَلِّم الطَّريقةَ القديمة لتمجيد الله في المسيح، في جسدٍ واحدٍ متَّحِدٍ ومُتَمَثِّلٍ برأسه”([19]).  

   وفي رسالته الرُّوح والعروس، يضع يوحنَّا-بولس الثَّاني الصَّلاةَ الخورسيَّة في أُفقٍ واسعٍ هو الصَّلاة والتَّسبيح، عندما يقول: “على الرَّاعويَّة اللِّيتورجيَّة أنْ تُعطي، شيئًا فشيئًا، [حِسَّ] الاستمتاع بالصَّلاة (…). وعلى التَّربية، في الكنيسة، أنْ تعرف كيف تكون “جريئة”. من المهمّ أنْ نُدخِل المؤمنين إلى الاحتفال بـليتورجيَّا السَّاعات الَّتي، «كصلاة الكنيسة الجمهوريَّة، هي ينبوع التَّقوى وغذاء الصَّلاة الشَّخصيَّة». إذ ليست عملًا فرديًّا أو خاصًّا، ولكنَّها تنتمي إلى جسدِ الكنيسة كلِّه”([20]). ويُشدِّد البابا، في رسالته عينها، على أنَّ اجتماع المؤمنين لتلاوة “ليتورجيَّا السَّاعات”، هو عملٌ كنسيٌّ يرتبط بجسد الكنيسة كلِّها ويُبرِزُ هذه الأخيرة وهي تحتفل بسرِّ الابن الوحيد مخلِّصها وفاديها([21]).

   أمَّا ما يبرز، اليوم، في حياتنا الكنسيَّة اللِّيتورجيَّة، هو اقتصار هذه الأخيرة على الاحتفال بالقُدَّاس لا غير. ففي “رسالةٍ راعويَّةٍ” وجَّهها الأساقفة الألمان إلى مؤمنيهم، يدعو الأساقفةُ المؤمنين إلى إعادة التَّفكير بأهمِّيَّة الصَّلاة الخورسيَّة وبضرورة العودة إلى الاحتفال بها؛ فيقولون الآتي: “يجب ألَّا يقود التَّقدير الفائق الوصف للإفخارستيَّا، في الكنيسة الكاثوليكيَّة، إلى أنْ يصبح القُدَّاس الصِّيغةَ الجماعيَّة الوحيدة للخدْمة الإلهيَّة. (…) وتنتج خسارةٌ إذا اقتصَرَتِ الحياة اللِّيتورجيَّة على الاحتفال الإفخارستيّ (…). فكلُّ قمَّةٍ بحاجةٍ إلى تهيئة، وكلّ محيطٍ (milieu) بحاجةٍ إلى بيئةٍ (environnement). (…) ولم يتحقَّق بَعدُ تمنِّي الفاتيكاني الثَّاني في أنْ تستعيد ليتورجيَّا السَّاعات مكانتها الفريدة في جماعاتنا. (…) إنَّ تلاوة المزامير هي، لأشخاصٍ عديدين، -وأكثر ممَّا نعتقد- دعمٌ حقيقيٌّ لحياتهم الرَّوحيَّة”([22]).

   لذا، على الكنيسة أنْ تُـمَكِّن الشَّعب المسيحيّ من أنْ يعودَ ويتذوَّقَ البُعدَ المجَّانيّ والتَّسبيحيّ والتَّمجيديّ المتضمَّن في الصَّلاة الخورسيَّة الطَّقسيَّة، من خلال الاحتفال بهذه الأخيرة في الرَّعايا والجماعات الرَّعويَّة. فالفكرة المسيطرة على “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، وعلى وثائق مجمعيَّةٍ عديدة، هي “المشاركة الواعية والفعَّالة والتَّامَّة” لجميع المؤمنين في الاحتفالات الطَّقسيَّة. وهذا الحقّ الَّذي يتمتَّع به المؤمنون، أي بأنْ يشاركوا في اللِّيتورجيَّا، وهذا الواجب المفروض عليهم، بحكم عمادهم وكهنوتهم الملوكيّ والنَّبويّ([23]) (“الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، 14)، يمكنهم أنْ يمارسوه، بملئِهِ، في تلاوة الفرْض الإلهيّ، ممجِّدين الله ومعلنين إيمانهم الصَّادق به. هذا ما يؤكِّده الدُّستور العقائديّ في الكنيسة (نور الأُمم)، عندما يورد ما يلي: “ولـمَّا كان لِـجَمْع المؤمنين مسحةٌ من القدُّوس (راجع: 1 يو 2: 20، 27)، فإنَّـهم لا يستطيعون أنْ يضلُّوا في الإيمان. وإنَّـهم يُعبِّرون عن هذه الميزة الخاصَّة الَّتي يملكون بواسطة الذَّوق الفائق الطَّبيعة لإيمان الشَّعب بكلِّيَّته (…)” (العدد 12). إنَّ المشاركة الواعيَّة والفعَّالة في الفرْض الإلهيّ هي شرطٌ أساسيٌّ يكشف مدى حرارة المؤمن وعمقه لدى مشاركته في الإفخارستيَّا. فلا يمكن لخدْمة الكلمة في القُدَّاس، مهما كانت مُتقنة وغنيَّة، أنْ تُقدِّم كلمة الله بملئها، فتصبح الإفخارستيَّا “محور حياة الجماعة المسيحيَّة وقمَّتها”؛ بينما يمكن الفرْض الإلهيّ الَّذي يرتكز على الكتاب المقدَّس، في صلواته النَّثريَّة وألحانه وقراءاته المتنوِّعة، أنْ يفتح كنوز البيبليا للمُصَلِّين. وليست الأسرار الإلهيَّة الَّتي تحتفل بها جماعةُ المؤمنين، احتفالات منعزلةً وعلى حدة، ولكنَّها مدعوَّةً إلى أنْ تكون مغروسةً في إطارٍ ليتورجيٍّ يُعِدُّ للاحتفال بها ويُـمدِّدُ فعاليَّتها ونعمتها. والفرْض الإلهيّ اليوميّ مهيَّأٌ لأنْ يُظهِرَ، في الحياة اليوميَّة وعلى مدى الأسبوع، النِّعمةَ الإلهيَّةَ المتأتِّية من سرِّ موت المسيح وقيامته الَّذي احتفلَتْ به الجماعة في الإفخارستيَّا، يوم الأحد. لذا، فالقدَّاس اليوميّ يفترض الاحتفال بالفرْض اليوميّ.   

  • اللِّيتورجيَّا بعد المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني
  • في ممارسة الكنيسة

   أخذتِ الكنيسة اللاتينيَّة الرُّوح المجمعيَّة اللِّيتورجيّة الجديدة على محمل الجدّ وبدأت ورشة الإصلاح. أُقِرَّ استعمال اللُّغة المحكيَّة في اللِّيتورجيَّا. ثمَّ صَدَرَت مجموعة الصَّلوات القربانيَّة (رقم 2، 3، و4)، إذ لم يكن هناك سوى صلاةٍ واحدة، هي القانون الرُّومانيّ. بعدها طُبِعَ كتاب القراءات الجديد (الَّذي وَزَّع القراءات على دورةٍ من 3 سنوات). من ثمَّ أُصلِح الكَلِندار الرُّومانيّ، إذ أعاد ليوم الأحد وللدَّورة الفصحيَّة مكانتهما. كما صدر كتاب القُدَّاس الرُّومانيّ، وأقرَّه البابا بولس السَّادس. بعدها، صدرَت رُتبة عماد البالغين؛ وقد تضمَّن العماد مسيرةً تنشئويَّةً مسيحيَّةً تبلِّغ طالبَه إلى الاحتفال بالسِّرّ.

   أمَّا في عالمنا الشَّرقيّ فقد تأخَّرَتْ نتائجُ العمل الإصلاحيّ الرَّسميّ، عن البروز. أُنشئَ، في العام 1969، معهد اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القدس-الكَسْليك. فعَمِلَ على إصدار كُتُب الفرْض المارونيّ وكُتُب المتعيِّدات وبعض الرُّتَب الطَّقسيَّة، باللُّغة العربيَّة أي باللُّغة المحكيَّة كما أوصى الفاتيكانيّ الثَّاني، بدءًا من العام 1976. وكان الباعث الحقيقيّ للنَّهضة اللِّيتورجيَّة في الكنيسة المارونيَّة. كما تشكَّلَت اللَّجنة البطريركيَّة المارونيَّة للشُّؤون الطَّقسيَّة. فأصدَرَت كتاب القدَّاس الـمُصلَح والـمُجدَّد في العامَين 1992 و2005. وأرفَقَتْه بـكتاب القراءات، في العام 2005 أيضًا. كما أصدَرَت كتاب الجنَّازات وكتاب سيامة الكاهن وكتاب سيامة الأسقف باللُّغة العربيَّة أيضًا. وتوَّجَت عملها بإصدار رُتَب الأسرار السَّبعة، في طبعةٍ جديدةٍ مُصلَحَة، بدءًا من العام 2003 وحتَّى العام 2011. كما سعَتْ كنيسة الرُّوم الملكيِّين الكاثوليك إلى مواكبة الإصلاح المجمعيّ، فأصدَرتْ كُتُب الفرْض البيزنطيّ في طبعةٍ مصلَحَةٍ وبإخراجٍ متقنٍ، في أجزاء عديدة، بدءًا من العام 1998. ثمّ طبعَتْ كتاب اللِّيتُرجيَّات الإلهيَّة طبعةً مُصلَحَةً ونهائيَّةً في العام 2006.

  • رسالة يوحنَّا-بولس الثَّاني الرَّسوليَّة، “السَّنة الـ25”

   لقد أَورَدَ البابا يوحنَّا-بولس الثَّاني، في الرِّسالة الرَّسوليَّة الَّتي كتبها لِمُناسبة “السَّنة الـ25” على”الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، عن أهمّيَّة الإصلاح اللِّيتورجيّ المجمعيّ، ما يلي: “يجب أنْ نشكرَ اللهَ على مرور روحِهِ في كنيستِه، هذا الرُّوح الَّذي هو التَّجديد اللِّيتورجيّ؛ وعلى مائدة كلمة الله الَّتي أصبَحَتْ، من الآن فصاعدًا، مفتوحةً، بشكلٍ واسع، أمام الجميع؛ وعلى الجهدِ الكبيرِ المبذول، في العالم كلِّه، من أجل تزويد الشَّعب المسيحيّ بترجمات الكتاب المقدَّس وكُتُب القدَّاس والكُتُب الطَّقسيَّة الأُخرى؛ وعلى مشاركة المؤمنين المتنامية في الإفخارستيّا والأسرار الأخرى، عبر الصَّلوات والألحان، وحركات الجسد والصَّمت؛ وعلى الخِدَم الَّتي يؤدِّيها العلمانيُّون، وعلى المسؤوليَّات الَّتي تَوَلَّوها بقوَّة الكهنوت العامّ وقد أُقيموا فيه بالعماد والتَّثبيت؛ وعلى الحيويَّة الَّتي تُشِعُّ مِنْ جماعاتٍ مسيحيَّةٍ عديدة، هذه الحيويَّة الـمُستقاة مِنَ معين اللِّيتورجيَّا”([24]).

   ثمَّ يعرض البابا، في رسالته نفسها، بعض “التَّوجيهات من أجل مستقبل اللِّيتورجيَّا، بهدف أنْ يتمَّ فهْمُ الإصلاح اللِّيتورجيّ وتطبيقه، بشكلٍ أفضل”. ويتوقَّف عند النِّقاط الآتية:

  • التَّنشئة البيبليَّة واللِّيتورجيَّة: لقد جاء في “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، ما يلي: “ولكن لا رجاء من بلوغ هذه النتيجة [المشاركة التَّامَّة والفعَّالة لكلّ الشَّعب] إذا لم يتشرَّب الرُّعاة ذاتهم أوَّلًا، حتَّى الارتواء، من روح اللِّيتورجيَّا وقوَّتها، وإنْ لم يصيروا جديرين ليُعلِّموها” (“الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، 14). ويقول البابا بأنَّ هذه المهمَّة هي طويلة الأمد، تبدأ بالإكليريكيَّات ودُور التَّنشئة الرُّهبانيَّة، وتتواصل طوال الحياة الكهنوتيَّة. كما أنَّ هذه التَّنشئة ضروريَّةٌ للعلمانيِّين ليفقهوا أهمِّيَّة العمل الطَّقسيّ ومعناه ورموزه، فيشتركوا فيه “مشاركةً واعيةً وتامَّة وفعَّالة”.
  • التَّأقلُم والحضارات المحلِّيَّة: يشيرُ يوحنَّا-بولس الثَّاني إلى ما أُنْـجِزَ على مستوى اعتماد اللُّغة المحكيَّة والمناطقيَّة؛ ثمَّ أُتبِعَ هذا الإنجاز بتأقلُم الرُّتَب والحاجات الجديدة. ولكنَّ “الجهد الَّذي يجب استكماله يبقى كبيرًا، من أجل تأصيل اللِّيتورجيَّا في مختلف الثَّقافات، عبر انتقاء التَّعابير الثَّقافيَّة الَّتي تتوافق وأبعاد الرُّوح اللِّيتورجيَّة الحقيقيَّة والأصيلة، مع احترام وحدة الطَّقس الرُّومانيّ الأساسيَّة، الـمُعَبَّر عنها في الكتب الطقسيَّة”([25]).
  • التَّنَـبُّه إلى المُشكِلات الحديثة: يقول قداسته، في هذا الشَّأن، ما يلي: “استجدَّتْ، منذ 25 سنة، مشكلاتٍ جديدةً أو أنَّـها اتَّـخَذَتْ منحًى جديدًا، على سبيل المثال: إمكانيَّة أنْ يُـمارس الشَّمَّاسيَّةَ رجالٌ متزوِّجون، والمهام الَّتي أُنِيطَتْ بالعلمانيِّين، رجالًا ونساء، في الاحتفالات، والاحتفالات اللِّيتورجيَّة الخاصَّة بالأولاد والشَّبيبة والمعوَّقين، وطرائق تأليف النُّصوص اللِّيتورجيَّة المناسبة لبلدٍ ما”([26]).
  • اللِّيتورجيَّا والتَّقوى الشَّعبيَّة: يختم قداسته توجيهاته هذه، بالتَّطرُّق إلى موضوع التَّقوى الشَّعبية، قائلًا: “أخيرًا، من أجل المحافظة على الإصلاح وتأمين تطوُّر اللِّيتورجيَّا، يجب أنْ نأخُذَ بعين الاعتبار، موضوعَ التَّقوى الشَّعبيَّة المسيحيَّة وعلاقتها بالحياة اللِّيتورجيَّة (…). يجب على راعويَّةٍ ليتورجيَّةٍ أصيلةٍ أنْ تُتقِنَ الاستنادَ إلى غنى التَّقوى الشَّعبيَّة وأنْ تنقِّيَهُ وتوجِّهَهُ نحو اللِّيتورجيَّا الَّتي هي قربان الشُّعوب”([27]).
  • رسالة يوحنَّا-بولس الثَّاني الرَّسوليَّة، “الرُّوح والعروس” (Spiritus et sponsa, 2003)

أصدر البابا رسالته هذه لمناسبة “السَّنة الـ40” على صدور”الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”. وقد ألقى فيها نظرةً إلى ما أُنْـجِزَ من إصلاح خلال السَّنوات الأربعين المنصرمة، معتبرًا أنَّ “الآباء المجمعيِّين قد وَضعوا اللِّيتورجيَّا في أفق تاريخ الخلاص، حيث الغاية هي فداء الإنسانيَّة وتمجيد الله بشكلٍ تامّ”([28]). ويُشدِّد البابا على أنْ لا فَصْل البتَّة بين اللِّيتورجيَّا والحياة اليوميَّة، لا بل على العكس فإنَّ “اللِّيتورجيَّا تفترض، من جهةٍ أولى، إعلان الإنجيل، وتتطلَّبُ الشَّهادةَ المسيحيَّة في قلب التَّاريخ، من جهةٍ ثانية”([29]). ثمَّ يستعرض ما تحقَّق في مجال طباعة الكُتُب الطَّقسيَّة، والأمانة التَّامَّة للبيبليا ولتقليد الكنيسة، والتَّنشئة اللِّيتورجيَّة للخدَّام المكرَّسين وجميع المؤمنين، والاغتناء من كلمة الله المعروضة، بشكلٍ واسع، في كتُب القراءات، إلخ. ويفتح، في القسم الأخير من الرِّسالة، آفاقًا جديدةً لاستكمال العمل التَّجديديّ والإصلاحيّ: إعادة اكتشاف قيمة الصَّمت المحيي في اللِّيتورجيَّا، والعمل على راعويَّةٍ ليتورجيَّةٍ تساعد المؤمنين على تذوُّق الصَّلاة، وبخاصَّة حثّ المؤمنين على الاحتفال بليتورجيَّا السَّاعات، والتَّشديد على دور الرُّعاة في العمل اللِّيتورجيّ.

  • مجموعة قوانين الكنائس الشَّرقيَّة    

   أصدَرَ يوحنَّا-بولس الثَّاني، في العام 1990، مجموعةَ قوانين الكنائس الشَّرقيَّة الَّتي تضمَّنَتْ شرائع ليتورجيَّةً عديدةً وإرشاداتٍ عامَّةً تستحقّ أنْ نتوقَّف عندها لِما لها من أهمِّيَّة في حياة الكنائس الكاثوليكيَّة الشَّرقيَّة. ولتبيان هذه الشَّرائع والنُّظُم اللِّيتورجيَّة، أصدَرَ مجمع الكنائس الشَّرقيَّة توجيهًا ليتورجيًّا إلى هذه الكنائس لكي تَضَعَ المبادئ اللِّيتورجيَّة الواردة في مجموعة القوانين موضع التَّنفيذ. ويدعو هذا التَّوجيه إلى القيام بالإصلاح والتَّجديد اللِّيتورجيّ استنادًا إلى مقاييس عديدة، نتوقَّف عند اثنَين منها، هما الآتيان:

  1. الأمانة الكاملة للتَّقاليد اللِّيتورجيَّة الخاصَّة، إذ نجد النَّصّ الآتي: “أوَّلُ ما يتوجَّب لكلِّ تَـجَدُّدٍ ليتورجيٍّ شرقيّ، كما حصل ذلك أيضًا للإصلاح اللِّيتورجيّ في الغرب، يكمنُ في إعادة اكتشاف الأمانة الكاملة للتَّقاليد اللِّيتورجيَّة الخاصَّة، فيُنتَفَعُ من ثرائِها ويُلغَى ما أمكَنَه تشويه أصالتها”([30]).
  2. التَّوافق والتَّعبير الرَّمزيّ والأسلوب الخاصّ باللِّيتورجيَّا المحلِّيَّة؛ ونجد الآتي: “عند تبديل ممارسةٍ ليتورجيَّةٍ قديمة، يجب التَّساؤل هل العنصر المنوي إقحامه يتناسق ومعنى الإطار الموضوع فيه. (…) يجب أنْ نتساءَلَ أيضًا هل التَّجديد هذا يتوافق والتعبيرَ الرَّمزيّ والصُّورَ والأسلوبَ الخاصَّ بليتورجيَّا تلك الكنيسة”([31]).  
  • تعليم البابَوَين يوحنَّا-بولس الثَّاني وبنديكتُس السَّادس عشر

نعالج هذا التَّعليم آخذين أربع رسائل أصدرها كلٌّ من يوحنَّا-بولس الثَّاني وبنديكتُس السَّادس عشر.

  1. رسالة يوحنَّا-بولس الثَّاني الرَّسوليَّة، يوم الرَّبّ (Dies Domini, 1998): يستفيض البابا في شرح كرامة يوم الأحد، في التَّقليد المسيحيّ، وفي ضرورة تقديسه. ويُفرد الفصلَ الثَّالث كلَّه المعنون: يوم الكنيسة. الاجتماع الإفخارستيّ هو قلب الأحد، للحديث عن ليتورجيَّا هذا اليوم؛ فيتطرَّق إلى موضوع “مائدة الكلمة” و”مائدة جسد المسيح”، ويشير إلى الوليمة الفصحيَّة واللِّقاء الأخويّ الَّذي يجب أنْ يعكسه الاحتفال اللِّيتورجيّ، ثمَّ يشير إلى “ضرورة الاشتراك بالحفل اللِّيتورجيّ” الَّذي يحمل “الطَّابع العيديّ الَّذي يليق بالنَّهار الَّذي نُقيم فيه ذكرى قيامة الرَّبّ” (العدد 50). وتشدِّد الرِّسالة هذه على أنْ “لا احتفال بدون اشتراكٍ فاعل”، إذ لا بدَّ من أنْ “نحثَ المؤمنين على الاندماج في مختلف أنماط المشاركة الَّتي تلهمها اللِّيتورجيَّا وتوصي بها” (العدد 51).
  2. رسالة يوحنَّا-بولس الثَّاني العامَّة، الإفخارستيَّا حياةُ الكنيسة (Ecclesia de Eucharistia, 2003): يتناول البابا في الفصل الخامس كرامة الاحتفال الإفخارستيّ، متطرِّقًا إلى النُّظُم اللِّيتورجيَّة الواجب المحافظة عليها لتألُّق الاحتفال: النَّحت والرَّسم والموسيقى والهندسة، وداعيًا إلى إعادة “اكتشاف الطَّاعة للنُّظُم اللِّيتورجيَّة، وإظهارها كشعاعٍ وشهادةٍ للكنيسة الواحدة والجامعة، الحاضرة في كلّ احتفالٍ إفخارستيّ”.
  3. 3.      الإرشاد الرَّسوليّ للبابا بنديكتُس السَّادس عشر، سرّ المحبَّة (Sacramentum caritatis, 2007): يُفرِدُ البابا القسمَ الثَّاني: الإفخارستيَّا سرٌّ، يجب أنْ نحتفِلَ به (الأعداد 34-69)، للتَّكَلُّم على أهمِّيَّة اللِّيتورجيَّا في السِّرِّ المسيحيّ، فيقول: “تأمَّل سينودس الأساقفة طويلًا بالعلاقة الجوهريَّة الَّتي تربط بين الإيمان الإفخارستيّ والاحتفال، مُظهِرًا بوضوحٍ الرَّابط بين شريعة الإيمان وشريعة الصَّلاة ومُبيِّنًا بوضوحٍ أولويَّة العمل اللِّيتورجيّ” (العدد 34). إذًا، للعمل اللِّيتورجيّ الأولويَّة على أيّ عملٍ آخر. ويتوسَّع في شرح مفاصل القدَّاس وأقسامها وحركاتها، فيتناول: فنّ الاحتفال، ودور الأسقف، واحترام الكُتُب الطقسيَّة وغنى العلامات، والتَّرنيم الطقسيّ، وهيكليّة الاحتفال، وليتورجيّا الكلمة، والعظة، والصلاة القربانيَّة، وحركة السَّلام، والاشتراك الفعليّ لمختلف الجماعات والفئات، ودور وسائل الاتِّصال، واللُّغة اللاتينيَّة، إلخ. ثمَّ يتطرَّق البابا إلى ما يُسمِّيه مشاركة متعمِّقة بالاحتفال، كالكرازة حول الأسرار، والسُّجود والتَّقوى تجاه القربان، وأشكال العبادة القربانيَّة، ومكان بيت القربان، إلخ. هو إرشادٌ رسوليٌّ ذو طابعٍ ليتورجيٍّ مميَّزٍ يضع تعليم الفاتيكانيّ الثَّاني موضع التَّنفيذ، ويشير إلى الخلل في التَّنفيذ ويقترح حلولًا وطريقةً للاحتفال.
  4. الإرشاد الرَّسوليّ للبابا بنديكتُس السَّادس عشر، كلمة الرَّبّ (Verbum Domini, 2010): يتناول البابا، في القسم الثَّاني المعَنوَن: الكلمة في الكنيسة، موضوع اللِّيتورجيَّا كمكانٍ مميَّزٍ لكلام الله (الأعداد 52-71)، فيبدأ بالقول: “علينا أنْ نولي اللِّيتورجيَّا المقدَّسة الاهتمام. إنَّـها حقًّا المكان المميَّز حيث يُكلِّمنا الله في حياتنا الحاضرة، وحيث يتكلَّم إلى شعبه الَّذي يسمع ويُـجيب” (العدد 52). ثمَّ يتطرَّق البابا إلى علاقة الكتاب المقدَّس والأسرار، وإلى كلمة الله والإفخارستيَّا، والكتاب المقدَّس وكتاب القراءات، وإعلان الكلمة وخدْمة القارئ، وإلى أهمِّيَّة العظة، وكلام الله وليتورجيَّا السَّاعات، وكلام الله وكتاب الرُّوبريكات، وإلى اقتراحات عمليَّة لتنشيط اللِّيتورجيَّا، إلخ. إرشادٌ رسوليٌّ آخر أصدَرَه البابا وتَوسَّعَ فيه بشرْح اللِّيتورجيَّا ومكانتها الفريدة في إعلان كلمة الله والاحتفال بها وتأوينها. وهذا كلُّه من ثمار الدُّستور في اللِّيتورجيَّا الصَّادر عن الفاتيكانيّ الثَّاني.    
  • دليل في التَّقوى الشَّعبيَّة واللِّيتورجيَّا (2001)

     من المحطَّات البارزة والهامَّة في الإصلاح اللِّيتورجيّ الكاثوليكيّ، صدور هذا الدَّليل الَّذي يهدف إلى “ضمان نمو اللِّيتورجيَّا وازدهارها” من دون إهمال “الصِّيَغ الأخرى لتقوى الشَّعب المسيحيّ، الَّتي تُسهم إسهامًا مُثمِرًا في اتِّحاد حياة المؤمنين بحياة المسيح”([32]). ويأتي هذه الدَّليل استجابةً لتوجيهات يوحنَّا-بولس الثَّاني في رسالته الرَّسوليَّة “السَّنة الـ25” الَّتي طلب فيها التَّنبُّه إلى العلاقة الوثيقة ما بين التَّقوى الشَّعبيَّة واللِّيتوجيَّا، وإلى المهمَّة الَّتي على الكنيسة إنجازها لاستكمال الإصلاح اللِّيتورجيّ الَّذي بدأ تحقيقه عقب إقرار”الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”. لذا، يعرض الدَّليلُ للعلاقة ما بين التَّقوى الشَّعبيَّة واللِّيتورجيَّا، ويُقدِّم إلى الأساقفة وسيلةً مساعِدَةً لهم ليتمكَّنوا من تشجيع الصَّلوات والممارسات التُّقويَّة الَّتي تتناغم والنُّظُم الكنسيَّة، ويقترح بعض المبادئ والتَّوجيهات التَّطبيقيَّة([33]).   

  • المجمع البطريركيّ المارونيّ (2003-2006)       

    إنُّه من أهمّ المجامع المارونيَّة، إذ تَـمَّت الدَّعوة إلى انعقاده من السُّلطة الكنسيَّة المحلِّيَّة، وأَعَدَّتْ مسوَّدات النُّصوص المجمعيَّة لجانٌ محلِّيَّة، وناقشَها آباءٌ وعلمانيُّون موارنة من جميع فئات الكنيسة. كما شارك فيه مراقبون من الكنائس الأخرى ومن الطَّوائف غير المسيحيَّة. إنَّه عملٌ كنسيٌّ بامتياز أفضى إلى إقرار 23 نصًّا مجمعيًّا، من بينها النَّصّ الثَّاني عشر: اللِّيتورجيَّا([34]). استفاض هذا النَّصّ في شرْح هويَّة اللِّيتورجيَّا المارونيَّة وطبيعتها وأسُسِها، وتطوُّرها عبر الحقبات التَّاريخيَّة. ثمَّ تطرَّق إلى أهـمِّـيَّة تجديد هذه اللِّيتورجيَّا، عارضًا المبادئ الَّتي يجب أنْ يتمّ التَّجديد على أساسِها. بعد ذلك، تناول ضرورة التَّنشئة اللِّيتورجيَّة: تنشئة الكهنة والرُّهبان والرَّاهبات والعلمانيِّين والخدَّام والمنشِّطين اللِّيتورجيِّين. من ثمَّ عَرَضَ لبعض القواعد العامَّة الَّتي تُسهِّل المشاركة في الرُّتَب الأسراريَّة، وأنهى توسُّعَه في التَّطرُّق إلى موضوعَي الفنّ الكنسي والأعياد. ونجد، في آخر النَّصّ، لوحًا يتضمَّن توصياتٍ ليتورجيَّةً وآليَّاتٍ للعمل.

   عملٌ جبَّارٌ أُنْـجِزَ في تاريخ اللِّيتورجيَّا المارونيَّة، لأنَّه أتى نتيجة الحركة الإصلاحيَّة اللِّيتورجيَّة الَّتي ازدَهَرَتْ في الكنيسة المارونيَّة في أعقاب الفاتيكانيّ الثَّاني؛ ولأنَّه أتى نتيجةَ حاجةٍ مُلِحَّةٍ تبيَّنها الآباء المجمعيُّون؛ ولأنَّه سعى إلى وضْع مقرَّراتٍ وتوصياتٍ تتلاءَم والتَّقليد اللِّيتورجيّ المارونيّ الخاصّ. وتبقى العبرة في تطبيق ما أورده هذا النَّصّ، وفي كيفيَّة تقبُّله.

خاتمة

   لا، لم “يتغيَّر القُدَّاس”، بعد المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني. ولكنَّه بقيَ هو هو، مكان تجلِّي الله وعمله في حياة الجماعة المسيحيَّة الملتئمة لتُصغي إلى كلامه وتحتفل بسرِّ خلاصها الَّذي حقَّقه الابن بموته وقيامته، بوساطة عمل الرُّوح وفعله. هكذا كان القُدَّاس وهكذا يبقى. أمَّا ما تغيَّرَ وتبدَّل فهي بعض الصِّيَغ والتَّعابير؛ وتبدَّلتِ اللُّغةُ أيضًا، من لغةٍ ميتةٍ وغير مفهومة من العوام، يُتقنها المحتفل فقط (ولم يعُدْ يتقنها اليوم، وللأسف!) إلى لغة النَّاس المحكيَّة الَّتي تسمح للمحتفلين باللِّيتورجيَّا والمشاركين فيها أنْ يفقهوا معنى القول المأثور: “شريعة الصَّلاة هي شريعة الإيمان”. فإنْ كانت الجماعة المصلِّية لا تفهم ما يُقال، وتردِّدُ غيبًا صيَغًا وتعابير ليتورجيَّةً عريقةً لا تفهمها، فكيف يمكن اللِّيتورجيَّا أنْ تكون “مدرسة صلاة” ومكانًا يخاطب فيه الرَّبُّ شعبَه ويسمع جوابَه واعترافه وتسبيحه؟

   اللِّيتورجيَّا هي عمل الله وعمل كنيسته، وهي عملٌ كنسيٌّ “لا شيء يفوقه في القيمة والأهمِّيَّة والفاعليَّة”، بحسب تعبير الفاتيكانيّ الثَّاني. هي عمل السَّماء وعمل الأرض معًا، عملٌ لتمجيد الله ولتقديس الإنسان، عملٌ يقود من يحتفل به إلى أنْ يطبع حياتَه اليوميَّة بسرِّ مخلِّصه، ويمنحه -“هنا والآن”- مفاعيل الخلاص الَّذي تحقَّق في الزَّمن التَّأسيسيّ،  عربونًا لحياةٍ أبديَّةٍ نعاين فيها اللهَ وجهًا لوجه، في ليتورجيَّا أبديَّة.

   أنْ تكون اللِّيتورجيَّا ما قلناه أعلاه، هذا من نتائج الدُّستور في اللِّيتورجيَّا، الصَّادر عن الفاتيكانيّ الثَّاني، وثماره. ويبقى هذا الدُّستور نقطة تحوُّلٍ أساسيَّةٍ في حياة اللِّيتورجيَّا المسيحيَّة ومقاربتها وفهمها والاحتفال بها. وفي دراسة اللِّيتورجيَّا والتَّفكُّر فيها، هناك دائمًا ما قبْلَ “الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة” وما بعد”الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”. إذ، لم تَعُد اللِّيتورجيَّا جسدًا جامدًا ثابتًا، بل أصبحت روحًا وحياةً تنفح كنيستَنا بروح الله وطاقاته التَّغييريَّة والتَّجديديَّة، مدَّة مسيرتها على هذه الأرض، لتتمكَّن الكنيسةُ من أنْ تعكس بهاءَ وجه يسوع، ربِّـها وإلهها ومخلِّصِها ومخلِّص العالم كلِّه، في عالم اليوم.            


[1]   يُقرأ المقال الشَّيِّق الآتي: Jean-Louis SOULETIE, «La participation active dans la liturgie, une intuition renouvelée», dans: Des théologiens lisent le concile Vatican II: Pour qui? Pour quoi?, Coll. «Théologicum», Bayard, Paris, 2012, p. 79-100.                    

[2]   راجع: المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثَّاني-الوثائق المجمعيَّة، نقلها إلى العربيَّة يوسف بشاره وعبده خليفه وفرنسيس البَيسَري، طبعةٌ ثانيةٌ منقَّحة، 1984، ص 192.

[3]   راجع: Jean-Marie VEZIN et Laurent VILLEMIN, Les sept défis de Vatican II, Desclée de Brouwer, Paris, 2012, p. 225-226.

[4]   أصدَرَتِ هذه الرَّابطة كتبًا ليتورجيَّةً عديدةً طاولَتْ المجال العلميّ البحثيّ والمجال الرَّعويّ. كما ما زالت تصدِرُ الرَّابطةُ المجلَّة الكهنوتيَّة، في ثلاثة أعدادٍ في السَّنة؛ ويتضمَّن كلُّ عددٍ منها مقالًا ليتورجيًّا أو أكثر.

[5]   كانت غالبيَّة المؤمنين الَّذين يشاركون في القُدَّاس، تكتفي بالمناولة مرَّتين في السَّنة فقط، في عيد ميلاد ربِّنا بالجسد (في 25 كانون الأوَّل) وفي عيد قيامته من بين الأموات، وذلك بحسب وصيَّة الكنيسة.

[6]   كانت الفريضة اللِّيتورجيَّة تلزم الَّذين يرغبون في أنْ يتقرَّبوا من مناولة القربان المقدَّس، يوم الأحد، أنْ يكونوا صائمين بدءًا من منتصف ليل الأحد، فلا يتناولوا مأكلًا أو مشربًا من بعد 12 ليلًا. وكلّ من “فَطَرَ” لا يمكنه أنْ يأخذ القربان. أبعَدَت، هذه الفريضة القاسية، مؤمنين كثيرين عن المناولة. أمَّا اليوم فيكفي أنْ يكون المؤمن صائمًا قبْل ساعةٍ واحدةٍ من وقت القدَّاس، ليتمكَّن من تناول القربان المقدَّس.

[7]   راجع: Patrick PRÉTOT, «La place de la Constitution sur la liturgie dans l’herméneutique de Vatican II», Recherches de Science Religieuse, Tome 101, 1 (Janvier-Mars 2013) 13-36 (ici, p. 20).                                                                                            

[8]   راجع: المرجع نفسه، ص 21.

[9]   المرجع نفسه.

[10]   راجع: Patrick PRÉTOT, «Relire Sacrosanctum Concilium cinquante ans après Vatican II», La Maison-Dieu, Tome 275, 3 (Septembre 2013) 103-134 (ici, p. 108).                                                                                                                                               

[11]   راجع:Gilles ROUTHIER, «Sacrosanctum Concilium: Sa singularité dans l’histoire du concile et son herméneutique actuelle», La Maison-Dieu, Tome 275, 3 (Septembre 2013) 75-102 (ici, p. 85).                                                                                                 

[12]   راجع: المرجع نفسه، ص 88.

[13]  إرتكزنا لكتابة هذا المقطع، على المرجع الآتي:Nicolas EGENDER, «L’enjeu de la liturgie: Quarantième anniversaire de la constitution sur la liturgie», Irénikon, Tome LXXVIII, 3 (2005) 343-371.                                                                                         

[14]  راجع: دانيال زغيب، “«الكلمة» في اللِّيتورجيَّا. أفكارٌ لاهوتيَّةٌ وروحيَّة”، المجلَّة اللِّيتورجيَّة 3، 12 (2011) 197-204.

[15]  يوحنَّا بولس الثَّاني، يوم الرَّبّ، رسالة رسوليَّة في تقديس يوم الأحد، منشورات اللَّجنة الأُسقفيَّة لوسائل الإعلام، جل الدِّيب-لبنان، 31 أيَّار 1998، العدد 1، ص 3.

[16]  Jean-Paul II, «Lettre apostolique Spiritus et sponsa: Le 40e anniversaire de la Constitution conciliaire sur la Liturgie», La documentation catholique, 86e année, No 2306, 2 (18 janvier 2004) 52-56 (ici, n. 9, p. 54) (=JP II, Sp sp).                                       

[17]  Jean-Paul II, «Lettre apostolique: 25e anniversaire de «Sacrosanctum Concilium» sur la sainte liturgie», La documentation catholique, 71e année, Tome LXXXVI, No 1985, (4 juin 1989) 518-524 (ici, n. 6, p. 519) [= JP II, 25 ans SC].                               

[18]  بنديكتُس السَّادس عشر، سرُّ المحبَّة، إرشاد رسوليّ في سرّ الإفخارستيَّا: نبع وذروة حياة الكنيسة ورسالتها، منشورات اللَّجنة الأُسقفيَّة لوسائل الإعلام، جل الدِّيب-لبنان، حاضرة الفاتيكان، 2007، العدد 72، ص 101.

[19]  مجمع الكنائس الشَّرقيَّة، توجيه (Instruction) لتطبيق المبادئ اللِّيتُرجيَّة الواردة في «مجموعة قوانين الكنائس الشَّرقيَّة»، منشورات اللَّجنة الأُسقفيَّة لوسائل الإعلام، جل الدِّيب-لبنان، 6 كانون الثَّاني 1996، العدد 96، ص 130-131.

[20]  JP II, Sp sp, n. 14, p. 55

[21]  المرجع نفسه.

[22]  Nicolas EGENDER, «L’enjeu de la liturgie: Quarantième anniversaire de la constitution sur la liturgie», Irénikon, Tome LXXVIII, 3 (2005) 365.                                                                                                                                                                         

[23]  راجع: Jean-Noël BEZANÇON, Vatican II, Dieu merci!, Bayard, Paris, 2012, p. 103-106.

[24]  JP II, 25 ans SC, no 12, p. 521.

[25]  Idem, no 16, p. 522.

[26]  Idem, no 17, p. 522.

[27]  Idem, no 18, p. 522.

[28]  JP II, Sp sp, no 2, p. 52.

[29]  Idem, no 3, p. 53.

[30]  مجمع الكنائس الشَّرقيَّة، توجيه (Instruction) لتطبيق المبادئ اللِّيتُرجيَّة الواردة في «مجموعة قوانين الكنائس الشَّرقيَّة»، العدد 18، ص 29.

[31]  المرجع نفسه، العدد 20، ص 31، 32.

[32]  Congrégation pour le Culte divin et la discipline des sacrements, Directoire sur la piété populaire et la liturgie. Principes et orientations, Pierre TÉQUI éditeur, 2002, no 1, p. 13.                                                                                                                          

[33]  راجع: المرجع نفسه، العدد 3، ص 15.

[34]  راجع: المجمع البطريركيّ المارونيّ (2003-2006). النُّصوص والتَّوصيات، بكركي، 2006، ص 409-453.

Scroll to Top