الخوري خليل شلفون
يظن البعض أن فكرة الحياة ما بعد الموت هي متأصّلة في الكتاب المقدس وفي بدء الوحي الإلهي. ويذهب البعض الآخر، كالفيلسوف الملحد فويرباخ Feuerbach عام 1841، إلى أن رغبة الأبديّة هي التي دفعت الشعب العبري، كما المسيحيّة في ما بعد ، إلى إبداع فكرة وجود الله والأبديّة. فوجود الله – الأبديّ والسرمديّ – هو التعبير الأفضل عن هذه الرغبة الكامنة داخل كل إنسان، والتي عبّرت عنها الأديان غير التوحيديّة بأشكال أسطوريّة مختلفة. ويذهب فويرباخ إلى أبعد من ذلك، إذ يقول بأن قيامة المسيح هي أيضًا أفضل تعبير عن رغبة التلاميذ في نشر الرسالة بعد موت المعلّم والمؤسّس[1]. فهل هذا النقد حقيقي ؟ وما هي مقاربة العهد القديم للحياة ما بعد الموت ؟ وما هذا التأكيد الجديد للرجاء في العهد الجديد على ضوء قيامة يسوع ؟ وهل “مبدأ الرجاء” الذي عبّر عنه إرنست بلوخ Ernst Bloch [2]، عندما قال بأن جوهر الله هو “المستقبل” أو “الرجاء” ؟ وأن مبدأ الرجاء كامن في كل إنسان. هذا ما دفع الدين اليهوديّ إلى الإيمان بفكرة الخلود والقيامة ؟ هذا ما سنحاول معالجته في بحثنا هذا، انطلاقًا من معنى الموت والاعتقاد في ما بعد بالقيامة، والذي قاد المسيحيين في العهد الجديد إلى الإيمان بقيامة السيد المسيح ورجاء لقيامة الموتى وما هو وقع هذا الإيمان المسيحيّ على الحياة اليوميّة وعلى التاريخ ؟
الحياة بعد الموت أو القيامة في العهد القديم
بعكس ما ظنّ فويرباخ، إن فكرة الخلود والقيامة هي فكرة حديثة في الدين اليهودي. ولا نجد لها أي أثر مهمّ في العهد القديم حتى القرن الثاني قبل الميلاد. كما أن هناك بعض اليهود، كالصدّوقيّين[3] الذين لم يؤمنوا بقيامة الأموات ولا بالحياة الأبديّة في زمن يسوع بعكس الفرّيسيّين، بل آمنوا بكتب الشريعة الخمسة أو التوراة والتي لم تكن تحتوي بعد على “رجاء القيامة”. فجدالهم مع يسوع هو أكبر دليل على ذلك، عندما طرحوا أمامه فكرة القيامة لكي ينتقدوها، انطلاقًا من حالة المرأة التي تزوّجت سبعة إخوة، الواحد تلو الآخر بعد موتهم أجمعين، “ففي القيامة لمن تكون”[4] ؟ من هنا أرادوا أن يبرهنوا عبثيّة هذا الرجاء، وأن يؤكّدوا أنه لا قيامة للموتى، ولا وجود للملائكة ولا الأرواح ولا لأي شيء آخر بعد الموت إلا الله. أمّا بولس الرسول فهو يستنتج أن القورنثيين لا يستطيعون أن يؤمنوا بقيامة المسيح إذا لم يؤمنوا بقيامة الموتى أو بالحياة ما بعد الموت أوّلاً.
فالكرازة بإنجيل القيامة لا جدوى لها : “كيف يقول بعضكم أن لا قيامة للأموات ؟ … فتبشيرنا باطل إن صحّ أنّ الأموات لا يقومون” (قورنتس 15، 12-34). ما هو إذًا مفهوم “السعادة” في العهد القديم ؟ وهل الرجاء اقتصر على الحياة ما بعد الموت أم على تحقيق جميع وعود الله في هذه الدنيا ؟ وفي هذا التاريخ ؟
1. أهمّية التاريخ
آمن اليهود خلال قرون عدّة بوحدانيّة الله، وبمكافأة منه خلال هذه الحياة، وذلك بحسب الأعمال. فالإيمان بالله يعطي السعادة ويحقّق العدالة ويدعو المؤمن إلى الالتزام بالشريعة وبالتاريخ. وكل ما هو عكس ذلك يقود الشعب المختار إلى الكآبة وإلى فقدان أرضه وهيكله وإلى العذاب والسبي… أمّا الرجاء الذي يهيمن على المسببين، فيقتصر على العودة إلى أرض الآباء والأجداد والعيش مجدّدًا بسعادة مع الأقارب والآباء… والموت بجانبهم على أرض الميعاد.
سعادة المؤمن اليهودي تكمن أوّلاً في الحياة الطويلة. وهو يحلم أن يصبح شيخًا جليلاً يشبع من الحياة[5]. فطول العمر هو علامة مميّزة للبركة الإلهيّة. داود الملك مات وشبع الأيّام والغنى والمجد (1 أخبار 29، 28). ولا تكتمل السعادة الحقيقية إلا بالنسل. فالخصوبة هي رمز آخر للبركة في حين أن العقم، رغم طول الأيّام، هو لعنة. فإذا مات الإنسان المؤمن بدون وريث له، انقطعت عائلته عن عالم الأحياء وعن السعادة الحقيقيّة. والوريث يخلّد الإسم من جيل إلى جيل (2 صموئيل 14، 7). وإلا انقطعت عائلته عن عالم الأحياء وعن استمرارية العسادة. لكن ليس عند الربّ من أمر مستحيل (تك 18، 14). فهو قادر أن يعطي النسل إلى خليله ابراهيم برغم كل شيء، هو الذي ترك كل شيء في سبيله. سعادة المؤمن اليهودي هي في أن يعيش أطول مدة من حياته وأن تكون له الشهرة وان ينعم بالصيت الحسن خلال هذه الحياة.
ركّز العهد القديم على خيرات هذه الدنيا التي تشكّل جزءًا من سعادة الإنسان، إذ رأى فيها بركة الله : كالصحّة والتملّك والثروة. فموت أيّوب، بعدما حلّ به ما حلّ من عذابات، وبعد عمر مديد جعله يشبع من أيّامه وبنعم حلّت بركة الله عليه وعلى عائلته وممتلكاته، رغم كلّ ما عاناه من آلام وأمراض في حياته وتجربته.
أمّا الإنسان الذي يرفض أن يطيع وصايا الله فيحلّ عليه غضب الله وتحلّ عليه لعناته، ويفقد السعادة. فعلى الإنسان أن يختار الشريعة وسماع كلمة الله التي تقود إلى السعادة، أو إذا رفض ذلك فهناك يكون البكاء والعذاب : “انظروا. ها أنا اليوم جعلت بين أيديكم الحياة والخير، والموت والشر. فإذا سمعتم كلام الربّ… فأنتم تحيون وتكثرون وتنالون بركة الرب إليكم في الأرض التي أنتم داخلون إليها لتملكوها. وإن لم تسمعوا[6]. إنكم تبيدون ولا تطول أيّاكم في الأرض التي أنتم تعبرون الأردن لتدخلوا وتمتلكوها … جعلت بين أيديكم الحياة والموت والبركة واللعنة، فاختاروا الحياة لتحيوا أنتم وذرّيتكم” (تث 30، 15-19).
إذًا على الإنسان المؤمن أن يختار الشريعة كما اختاره الله، وأن يلتزم بعمل الخير في التاريخ البشريّ كما التزم الله بوعوده، وأن يبتعد عن عبادة الأوثان لكي تحلّ عليه البركة. من الممكن أن نجد هنا بعض التقارب مع الفلسفة الأبيقوريّة والتي تؤمن بالحياة بعد الموت، وتركّز على هذه الحياة وملذّاتها. لكنها فلسفة ماديّة وملحدة لا تؤمن بوجود الله والالتزام بالشريعة لكي ينال الإنسان هذه السعادة. فالعنصر المشترك بينهما هو الاهتمام بأمور هذه الدنيا.
إضافة إلى العمر الطويل والنسل، فالعطية الكبرى في العهد القديم والأهم هي الأرض التي تدرّ لبنًا وحليبًا وعسلاً : “إسمعوا واحرصوا أن تعملوا بهذه الوصايا لتلقوا خيرًا ولتكثروا جدًّا في أرض تدرّ لبنًا وعسلاً (تث 6، 3)، والتي وعد بها والتي وهبها الله لابراهيم ونسلة إلى الأبد (تك 13، 15). فهي حياة الشعب على غرار حياة الإنسان (تث 4، 38). وكل مخالفة أو تمرّد على الشريعة يجلب للشعب غضب الله، والهلاك والسبي ودمار الهيكل. ودينونة الله تظهر على هذه الأرض. والتاريخ هو تجلّي العدالة الإلهيّة. وتقتصر السعادة على الحصول على خيرات هذه الدنيا ولا ترجوها في حياة ثانية بعد الموت. فالمؤمن مدعو إلى المشاركة الحياتيّة الدائمة مع الله في هذه الدنيا، والالتزام بعمل الخير، وفقًا لأحكام الشريعة. هكذا تتحقّق العدالة الإلهيّة على هذه الأرض وفي هذه الحياة. فلا جدوى من انتظار حياة بعد الموت لتحقيقها، لأن لا وجود لها.
2. السعادة هي العودة من السبي
كان الكلام على القيامة عند اليهود رمزيّ وتشبيهيّ، عندما اعتبر الأنبياء أنّ عودة الشعب من السبي هي “قيامة من الأموات”. فاستعملت في بادئ الأمر فكرة “القيامة من بين الأموات” كصورة تشبيهيّة واستعاريّة، للتعبير عن قيامة الشعب وعودته إلى أرض الآباء والأجداد. هكذا تكلّم النبي هوشع : “أنّه يميتنا من جديد بعد يومين، وفي اليوم الثالث يقيمنا لنحيا بحضوره” (هوشع 6، 2).
ويصف حزقيال النبي الشعب المسبي بالعظام اليابسة. كما يشبّه العودة إلى أرض فلسطين، بخلق جديد، إذ يعيد الرب “البشرة” لهذه العظام وينفخ فيهم نسمة الحياة مجدّدًا، ليقوموا شعبًا عظيمًا ويعودوا إلى أرضهم. “أيّتها العظام اليابسة، هأنذا أدخل فيك روحًا فتحيين. أجعل عليك عصبًا وأنشء عليك لحمًا وأبسط عليك جلدًا وأجعل فيك روحًا… تنبأت على هؤلاء المقتولين… فعاشوا وقاموا على أرجلهم… هذه العظام هي بيت إسرائيل… هأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم منها وآتي لكم إلى أرض إسرائيل…” (حزقيال 37، 14).
فالخروج من القبر ليس هو إلا “صورة”، يُراد بها العودة إلى أرض إسرائيل، إذ إن السبي هو شبيه بالموت، وأرض المنفى هي شبيهة بالقبر. أمّا اليأس فهو شبيه بالموت. فالله الذي هو غير خاضع لقوى الموت يستطيع أن يحرّر شعبه من جديد وأن يعيده إلى أرضه وان ينفخ فيه الحياة مجدّدًا لكي يستنير هذا الشعب ويعبده ويمجّده في أرضه وفي هيكله.
أما النبي إشعيا فتحدّث أيضًا عن جثث سوف تقوم من الموت ويعود حينئذٍ الشعب إلى أرضه : “تحيا موتاك وتقوم أشلاؤهم، فاستفيقوا ورنِّموا يا سكّان التُراب” (إشعيا 26، 19).
3. الحياة مع الله
إذا كانت السعادة هي الحياة السعيدة على هذه الأرض والتمتّع بخيراتها، فهي أيضًا الحياة مع الله بشكل دائم من خلال اختبار حضوره في الصلاة.
عبّرت بعض المزامير عن هذه الرغبة بالحياة الدائمة مع الله في الصلاة. ولكننا لا نستطيع أن نعتبرها بعدُ إيمانًا بالقيامة او بالحياة الأبديّة. لكن من خلال الصلاة يتمتّع المؤمن بحضور الله المبهج، برغم كل شيء. وهذه السعادة يشعر بها في الهيكل عند الابتهال والتجدّد.
هذا ما نجده معبّرًا عنه في المزمور 16. فالمؤمن يتجاسر ويقول، برغم عدم إيمانه بالحياة الأبديّة : “إن جسدي سيبقى في أمان، لأنّك لا تسلم نفسي إلى الجحيم (أو مثوى الأموات)، ولا تدع قدّوسك يرى فسادًا. أمام وجهك فرح تام، وعن يمينك نعيم على الدوام (16، 10-11). الله، الخالق ومصدر الحياة، هو أيضًا مصدر الفرح والنعيم والسعادة. رغبة المصلّي هي أن يبقى في الهيكل بالقرب من الله طوال حياته وحتى في مماته. فالربّ هو الكائن الوحيد القادر أن ينقذه من مصير الضلال في مثوى الأموات ومن النسيان في الهوّة. ويفاجئنا المزمور 73 أيضًا بهذه الرغبة القويّة التي يعبّر عنها المصلّي في الهيكل (المزمور 73، 17). فالربّ هو صخرة المؤمن واتّكاله عليه، وهو الملجأ والمخلّص. “ليس لي رغبة في الأرض. ليختنق جسمي. الله صخرة قلبي إلى الأبد” (المزمور 73، 29). فرغبة المصلّي هي أن يعيش حقيقة الشراكة مع الله في الصلاة[7]. وهذه الحقيقة هي أقوى من الموت إذ إنّها في حقيقة الوجود مع الله وليس في عالم الأحلام. وبقوّة هذه الشراكة في الصلاة يمكن المؤمن مجابهة الموت ومثوى الجحيم الذي يهدّد سعادته. فصلاته تدخله في حالة اتّصال دائم مع الله، إذ انه مع الله في هذه الحياة والله هو الحياة الدائمة.
فإذا كانت الصلاة تُدخلنا في شراكة الحضور الدائم مع الله، فهل من الممكن أن تكون أيضًا ركيزة الحياة الدائمة مع الله بعد الموت في مثوى الجحيم ؟ يجب أن ننتظر الجواب في سفر دانيال. ولكن للمؤمن حقّ في أن يعبّر عن رغبته الكامنة في عمق أعماقه. وهذه الرغبة نابعة من صلاته، وليست من أي تأثير خارجي، كالأساطير ومعتقدات أديان الشرق القديم أو الفلسفة الأفلاطونية. والمزمور 73 هو من أقوى النصوص التي تعبّر عن هذه السعادة الحقيقيّة، ألا وهي الحياة الدائمة مع الله وبالقرب منه.
قبل أن ننتقل إلى بدء تحقيق هذه الرغبة، يجب علينا أن نحدّد خوف الإنسان من الجحيم أو الشيول ومن هذا المكان الذي وصفه الدين اليهوديّ بعدم وجود الله فيه. فما هي صور مثوى الأموات في العهـد القديم ؟
4. الشيول أو مثوى الأموات
إن الاعتقاد الشائع في العهد القديم هو رغبة المؤمن في حياة دائمة مع الله، هو ان الحياة تنتهي مع الموت. فما هو مصير الإنسان بعد الموت ؟ وكيف رسم العهد القديم حالة الإنسان عند نزوله إلى الجحيم أو الشيول ؟ وما هي الصور المختلفة التي نجدها عن مثوى الأموات ؟ أمّا الإيمان بالقيامة في ما بعد فلن ينفي وجود هذا المكان الذي نزل إليه المسيح بعد مماته على الصليب وأنقذنا منه ؟
مملكة الجحيم أو الشيول هي مملكة الموت وهي مكان مظلم تحت الأرض يجب أن نميّزه عن جهنّم حيث “العذاب الأبدي”. الجحيم هو مكان خراب وخواء وموت دائم، لا رجوع منه (أيوب 14، 12). فيه ليل أسود. يرغب المؤمن أن يكون في أرض ميراثه انضمّ ذلك الجيل كلّه إلى آبائه (سفر القضاة 2، 10). هو مكان الضياع والفوضى والحياة الترابية، حيث يعيش فيه الأموات في نوم دائم. ولا أحد يستطيع أن يستيقظ من هذا الرقاد ولا أن يخرج من نومه (أيوب 14، 12) . والعبارتان المستعملتان في العهد الجديد للدلالة على القيامة هما نسبة إلى هذا المكان، فاليقظة تفترض الرقاد والنوم. و”القيامة” تفترض حال الامتداد في القبر. وقبل الدخول إلى الحياة الأبديّة، أو الحالة المتسامية “في السماء”. فاليقظة من الرقاد والموت، والقيامة من القبر أو من مثوى الأموات تقود الإنسان إلى الخروج والعودة إلى هذه الأرض والعيش مجدّدًا في أرض الميعاد حيث “الفردوس الأرضي”. فمن هنا أهمية الرقاد أو الدفن في ارض الآباء والأجداد.
وعندما تعود الروح إلى خالقها، يبقى الجسد جثة هامدة في وطن الظلّ والموت، حيث الفجر ليل أسود وحيث لا عودة منه. فالجسد يصبح مغموسًا في التراب. وجود الإنسان فيه لا قيمة له، لأنّه وجود شبيه بالعدم (مزمور 39، 14). وفي الشيول، الموتى لا يسبّحونك ولا يمجّدونك. والنازلون في القبور لا يثقون بأمانتك (إشعيا 18، 38). فهم رفات وظلال. أمّا رغبة الأموات فهي أن يرقدوا بالقرب من الآباء. وبرغم أن الموتى هم ظلال، فلا يجب أن تُحرق الأجساد، إذ إن الظلال تبقى مرتبطة بالقبور وبأرض الميعاد. أمّا التأكيد الذي يلخّص كل العهد القديم فهو ما عبّر عنه إشعيا : “الأموات لا يحيَون والأشباح لا يقومون فإنّك قد عاقبتهم ودمّرتهم وأبدت كلَّ ذكرٍ لهم (إشعيا 26، 14).
5. نزع صفة القداسة عن الموت
يبدو هنا التناقض واضحًا في تأكيد حضور إله الخير والعدل ورغبة الإنسان في حياة دائمة معه من جهة، والنفي التام لأي رجاء حياة ما بعد الموت من ناحية أخرى. أما السبب فيمكن في إفراغ الموت من كل صفة قدسيّة désacralisation أو أسطورية في إسرائيل، إذ رفضت الكتب المقدّسة في العهد القديم الإيمان بالحياة الأبديّة.
رفض العهد القديم وبصورة مطلقة أي نوع من إجلال الموتى أو الأجداد، كما كان مُمارسًا في الشرق القديم. هذا ما يفرضه الإيمان بالله بصورة مطلقة ووحدانيّة. ويتضمّن هذا الإيمان التوحيديّ الشراكة معه بصورة لا تقبل النقض. فالإيمان من شأنه، قبل كل شيء، رفض إجلال الموتى وكأنّهم كائنات إلهيّة “إيلوهيم” تقدّم لهم التقادم. هذه الممارسة تتنافى مع الإيمان الأحاديّ بالله (خروج 20، 3). شجب العهد القديم كل الاعتقادات أيضًا حول استحضار الموتى (لا 16، 31؛ 20، 6؛ تث 18، 11). واعتبر أنّ الجثث منجّسة (هوشع 9، 4؛ وتث 14، 26). وأنّها في عالم الانفصال واللعنة. وهي تنجّس المؤمن وتبعده عن الله الأوحد. فالحياة الحقيقيّة هي في عيش الشراكة مع الله الحيّ في الصلاة. والله الخالق الجبّار هو إله الأحياء وليس إله الأموات.
أفرغ العهد القديم الموتَ من كل صفة أسطوريّة démythisation، كما أبعد “الحياة بعد الموت” بشكل جذري[8]. وكان ذلك ضروريًّا لإبراز الفكرة الأحاديّة القائلة أن يهوه هو وحده حياة الموتى. أمّا الأهمّ فليس الاتّصال بالموتى، لا بل الطاعة الإيمانيّة وتنفيذ تعليم التوراة بصورة دقيقة. فالابتعاد عن يهوه كان سبب اللعنة. وإذا كان الموت ظاهرة طبيعيّة، فلا بدّ من أن الإنسان يتذكّر ذلك بصورة دائمة. فعلى المؤمن أن يعي أن له حياة واحدة محدودة، ليحقّق فيها حياته وإرادة الله. ولعنة الموت هي عدم الشراكة مع الله.
“أذكر خالقك في أيّام شبابك قبل أن يعود إلى التراب وإلى الأرض كما كان وقبل أن تعود الروح إلى الله الذي وهبها” (الجامعة 12، 1). غير ان الجديد هو في ما يورده كتاب التوراة حول هذه الميتة. ومع كونها تشكّل جزءًا من الحياة الطبيعيّة فهي نتيجة للخطيئة أيضًا. وعلى الرغم من أن الإنسان له طبيعة إنسانيّة مائتة، فإن الله صنعه كي لا يموت : “لا تأكل من هذه الثمرة كي لا تموت” (تكوين 3، 19). فالموت مخالفة لمشيئة الله وحياة الشراكة معه. وقد دخل إلى العالم بسبب الخطيئة والعصيان. “في اليوم الذي تأكل فيه من شجرة المعرفة يجب أن تموت”. وجوابًا عن المخالفة يؤكّد يهوه هذا المصير الرهيب : “أنت من التراب وإلى التراب تعود” (تكوين 19، 3). ولا يؤكّد كتاب الحكمة سوى ذلك (حكمة 13، 4).
لم يصنع الله الموت، ولا يمكن أن يتلذّذ بفقدان الذين هم أبناء الحياة. ذلك أنه خلق الإنسان كي لا يكون فاسدًا وصنعه على صورته بالذات. غير أنّ غيرة الشيطان أدخلت الموت إلى العالم (حكمة 2، 23-24).
وتقيم التوراة، والكتابات المنحولة بخاصّة، علاقة بين الموت والخطيئة. ولم يفعل القديس بولس سوى تحصين هذا الرابط عندما قارن بين آدم والمسيح (رومة 5، 12). “فالموت ثمن الخطيئة”. هكذا أصبح الموت آخر أعداء الإنسان الواجب تحطيمه (1 قورنتس 15، 26). إن الموت عدو يجب التغلّب عليه، ولعنة نتيجة عصيان. وهو جرح عميق للشعب المؤمن. إنّه يدفع الإنسان باللعنة. ومن هنا كان الشكّ من جهة، والرجاء من جهة أخرى بمخلّص ينقذ من الموت ومن هذه اللعنة. وكانت آلام الشعب أمام الموت، كراحيل التي تبكي على بنيها وقد أبت أن تتعزى لأنّهم زالوا عن الوجود”. لم ينكر العهد الجديد هذه الرؤية للموت والشيول بل واجهها في موت يسوع على الصليب. ولكن، أمام إله الحياة، يجب على الموت ان يزول وحده. “الربّ يزيل الموت على الدوام ويمسح الدموع عن جميع الوجوه، ويرفع العار واللعنة عن شعبه على كل الأرض” (إشعيا 25، 8).
يشكّل الموت قوّة معادية للربّ يجب إزالتها. ويستطيع الربّ أن يبيد الموت إلى الأبد (إشعيا 8، 25). ويكرّر بولس كلام إشعيا ويطبّقه على المسيح، ابن الله، في قورنتس 15، 54. وحده الربّ يمسح الدموع عن جميع الوجوه. يوحنا أيضًا يعيد الكلام في سفر الرؤيا (رؤيا 7، 17 ؛ 21، 4). ويضيف هوشع النبي : “افتديتهم من يدِ مثوى الأموات وأفكّهم من الموت ؟ أين أوبئتك أيّها الموت وأين آفتك يا مثوى الأموات ؟ أمّا بولس فلن يتردد أن يهتف إلى أهل قورنتس”. أين نصرك يا موت ؟ و أين يا موت شوكتك ؟ (1 قو 15، 55). قرأ بولس الأنبياء في ضوء قيامة المسيح، فوجد أن المسيح انتصر عليه، وكل شيء تحوّل، بقوة الروح، إلى حياة أبديّة جديدة. سمات آلام جسد يسوع المصلوب والمائت تظهر أيضًا في جسد المجد للقائم من بين الأموات والعائد بالمجد. فالقيامة بحسب مار بولس، وانطلاقًا من هذا الانتظار في العهد القديم، هي تحوّل من حياة الشيول إلى حياة المجد مع الله في الملكوت، حينئذٍ تصبح أبديّة الله أبديّةَ المؤمن أيضًا. هكذا يتحوّل هذا الرجاء من قيامة من بين الأموات إلى قيامة وتحوّل الأموات مع يسوع القائم.
لكن يجب علينا قبل أن نحدّد انطلاقة فكرة القيامة أن نعود إلى الشكّ في سفر الجامعة، إذ إنّه ضروريّ قبل وثبة الإيمان في رجاء القيامة.
6. سفر الجامعة والتساؤل حول الثواب
في الزمن الذي كانت الهند تعيش تجربة العذاب وتتغلّب عليه بالكفر بالحياة، كان يعيش في الشرق القديم حكيم وواعظ يهودي اسمه قهلت Qohélet. كان ينكر الحكمة التقليديّة التي كانت تؤكّد علاقة حتميّة بين السبب والنتيجة. فالعمل الجيّد يُكافأ والعمل القبيح يُعاقب عليه هنا على هذه الأرض. هذا السيّد في الحكمة الذي عاش في السنوات 190 – 180 ق.م. أصبح شاكًّا في نظر العالم، حيث يجهل الإنسان مصيره وحيث تسيطر العدالة الغائبة، وحيث لا نظام أخلاقيًّا ولا مساواة. كلّ ما هو موجود هو باطل الأباطيل، وكلّ شيء باطل “باطل بنو آدم، وكلّ شيء عبثي”. فالإنسان هو الكائن المخلوق للموت : “كما يخرج من بطن أمّه عريانًا ليعود كما أتى” (الجامعة 5، 14).
“لنتمثّل رجلاً أنجب مئة ولد وعاش سنين عديدة. وفي السنوات العديدة التي عاشها لم يشبع من السعادة وليس له قبر. إنّي أرى المسخ أفضل منه. هذا أتى مع الريح ويذهب مع الظلمات. وفي الظلمات اسمه مدفون. فهو لم يرَ الشمس ولا يعرفها. فله إذن الراحة أكثر من الآخر، وهي أن الإنسان قد عاش ألفي سنة بدون أن يعرف السعادة. هل أنّه لا يذهب في الاتّجاه الذي يراه المسخ جيّدًا ؟ (الجامعة 6، 3-6).
سفر الجامعة هو كتاب يدعو إلى الريبة. كلّ شيء هو غامض. ولا سبيل إلى معرفة الله في العمق. ولا يمكن الدخول إلى حقيقة الواقع. قد يكون هناك معنى، لكنّه غير قابل لإدراك الإنسان، الذي يتحتّم عليه النظر إلى ما يدور حوله بدون أن يفهمه.
لا يمكن الإنسان أن يعيش أكثر من حياة واحدة ومن دون عودة. “وهو يجتهد في البحث ولكنّه لا يكتشف شيئًا” (الجامعة 8، 17). يضع سفر الجامعة موضع الشك في الثواب والمكافأة المعروفة في أيامه، والتي بموجبها تجري المحاسبة عن كل شيء في هذه الدنيا. وهو يدعو، إضافة إلى ذلك، للتمتّع بالحياة. فالذي وهبه الله للإنسان يجب أن يتمتّع به، ذلك أن بعد الموت لا شيء موجود وكلّ شيء ينتهي : “يعرف الأحياء أنّهم مائتون لكن الأموات لا يعرفون شيئًا. ليس لهم مكافأة لأن ذكراهم يلفّها النسيان. فما أحبّوه وما كرهوه وما أصابهم من غيرة قد مات معهم، ولن يشاركوا في ما يجري تحت الشمس. فكلّ ما تستطيع يدك فعله فافعله طالما لديك القوّة على فعله، لأن لا أثر ولا فكر ولا معرفة ولا حكمة في مملكة الأموات حيث تذهب” (الجامعة 9، 9-10).
كل هذا النقد يساهم في نزع حالة القدسيّة والاسطوريّة عن الموت وعن الأموات، ويدعو المؤمن إلى التمتّع في لحظة الحياة وعيش السعادة في هذه اللحظة. فالموت غير مخيف لأنّه لا شيء وكلّ شيء ذاهب إلى الزوال. أمّا الأهمّ فهو عيش مخافة الله في هذه اللحظة لأنّه في هذه اللحظة تظهر بركته (يشوع بن سيراخ 11، 22).
فعلى الإنسان أن يخلع عنه أيضًا خوف الموت المسيطر عليه وأن يتحرّر منه وأن يعيش بركة الرب في اللحظة التي يعطيه إيّاها، لأنّها بركة وهي تستطيع أن تصله بالله على الدوام. فيتخطّى عندئذٍ لعنة الموت والخطيئة، وحقيقة الموت، ويعيش بأمان هذه اللحظة في حضرة الله وحده، لأنّ كلّ شيء زائل ووحده الله باقٍ، وهو الحياة الحقيقيّة.
يستطيع الله أن يسترجع “الروح” التي وهبها الله للإنسان في كل لحظة وعند الممات. فهي التي تحيي الجسد المائت أو التراب. فبرغم الشك، يدفعنا هذا السفر إلى تخطّي كلّ أنواع الخوف من الموت ويدفعنا إلى العيش بثقة دائمة مع الله.
بعد أن عبّر المصلّي عن رغبته في حياة دائمة مع الله في العهد القديم وعن جميع تساؤلاته، هل من الممكن أن يستثني الربّ البعض من النزول إلى الشيول برفعهم إلى السماء، والبعض الآخر أن يعيدهم إلى الحياة بعد موتهم ؟ ألم نقل بأنّه قادر على كلّ شيء ؟ هناك في العهد القديم بعض الأمثلة التي رأى فيها كتّاب العهد الجديد استباقًا لما سيحدث مع المسيح.
7. رفع أخنوخ وإيليا
يقدّم لنا العهد القديم اختبارين عن صعود أو ارتفاع أخنوخ أوّلاً من دون المرور بالموت والنبي إيليّا عند انخطافه كما نجد أعجوبة إحياء صنعها إيليا.
7. أ. أخنوخ وإيليّا
في سفر التكوين عاش أخنوخ “خمسًا وستّين سنة وولد متوشالح. وسار أخنوخ مع الله وعاش أخنوخ بعد ذلك 300 سنة… وسار أخنوخ مع الله، ولم يكن بعد ذلك، لأنّ الله أخذه” (تكوين 5، 21-24). أمّا سفر يشوع بن سيراخ فيفسّر بدوره ما حدث لأخنوخ : “أرضى الربّ فنُقل إلى السماء وكان مثلاً يشجّع الأجيال المقبلة على التوبة” (ابن سيراخ 44، 16).
أمّا موسى وبعد أن عاش حياة كاملة، 365 سنة، أي بعد أن أكمل عدد أيّام السنة الشمسيّة، ما يرمز إلى زمن الكمال، لم يعرف مصير سائر البشر فإن الله أخذه (تث 34، 5-6) ولا أحد يعرف أين يوجد قبره. وجدير بالذكر ان الفعل المستعمل هنا هو الذي استعمل في رؤيا إيليّا وفي المزمورين 48 و73. “رفعه الله في المجد إلى مرتبة القديسين” (ابن سيراخ 45، 1).
حياة الإنسان مع الله عندما تكون كاملة مثل حياة أخنوخ، وعندما “يسير” الإنسان دائمًا مع الله مثل موسى، فالله قادر أن يجتذبه إليه لكي يعيش حياة دائمة. لا يقول نص العهد القديم أن خليله مات وقام، بل اختطفه الله لكي يعيش معه حياة دائمة. إذًا أخنوخ لم يمت.
أمّا كتاب الملوك الثاني فيروي لنا حادثة اختطاف إيليّا : “فخرج بنو الأنبياء الذين في بيت ايل إلى اليشاع. قالوا هل علمت ان الرب في هذا اليوم يأخذ سيّدك من فوق رأسك ؟” وفيما كان إيليّا وإليشاع سائرين، وهما يتحادثان، إذا مركبة نارية وخيل نارية قد فصلت بينهما. ورفعت إيليّا العاصفة نحو السماء” (2 ملوك 2، 1-14). فسّر ذلك ابن سيراخ قائلاً : “أصعدت إلى السماء في مركبة نارية وسط عاصفة من النار” (ابن سيراخ 48، 9). إنّنا نتحدّث هنا على “صعود إيليّا ورفعه إلى السماء، لا عن موته وقيامته.
هل موسى شبيه بأخنوخ وإيليّا، وهو الذي “سار دائمًا مع الله في حياته” وعرف الربّ وجهًا لوجه (تث 34، 10)، وقد أوحى الله إليه باسمه “أنا هو الذي هو” (خروج 3، 13) ؟ لا ندري، فالجواب غير واضح ! ولكنّنا نستطيع أن نضيف إلى أن هذه الانخطافات التي لا مثيل لها في العهد القديم : إن إيليّا استطاع بدعائه وصلاته وتضرّعه لربّ الحياة، أن يحيي ابن الأرملة (1 ملوك 17، 17-24). فأعاد إليه نسمة الحياة التي غادرته، وهي علامة الحياة (تكوين 2، 7)، وعادت نفسه إليه، وأصبح كائنًا حيًّا مجدّدًا.
أمّا أعجوبة أليشاع في 2 ملوك 4، 31-37، فهي على غرار إحياء ابن الأرملة، إعادة إلى الحياة أو إحياء، أو قيامة. لكن هناك موت ثان ونهائي بعد ذلك وليس انخطاف. وكما يقول كتاب الملوك “بان عظام أليشاع” في قبره أعادت إلى الحياة مائتًا آخر : “وكان هناك أناس يقبرون رجلاً، فأبصروا الفراش، فألقوا الرجل الميت في قبر أليشاع وانصرفوا. فلمّا مسّ الرجل عظام أليشاع، عاش وقام على قدميه” ( 1 مل 13، 21).
ومن الصعب تحديد زمن كتابة هذه الآية في إشعيا 26، 19 وهل تنطبق على الشعب وعودة (او قيامة) إلى أرض المياعد أو أنّ لها بعد آخر يجعلنا نضعها في القرن الثاني قبل الميلاد ؟ لكن مردود هذه الآية هو قيامي. “إن أمواتك يقومون ! استيقظوا أيّها النائمون في التراب…”.
رغبة المؤمن أوالمصلّي تكمن في حياة دائمة مع الله. نجدها تتحقّق خلال تاريخ الشعب اليهودي مع أخنوخ أوّلاً ثمّ مع إيليّا، كما في أعجوبة إحياء ابن الأرملة. ونستطيع أن ندرك أن قدرة الله تستطيع أن تعيد الروح إلى جسد صبي في الثامنة عشرة من عمره بتدخّل من النبي إيليّا وجعل منه واحدًا من أهم الأنبياء بعد موسى وسيط الشريعة.
أمّا في القرن الثاني قبل الميلاد فنجد جوابًا قياميًّا لهذه التساؤلات المطروحة في بعض الأسفار، والتي كتبت في لغة غير العبريّة. ولذلك لم يعتبرها البعض كتبًا قانونية. نذكر منها أسفار دانيال والمكابيين وأسفار الحكمة. كما نجد هذه الأفكار في أسفار منحولة أيضًا وغير قانونية كان لها الأثر الكبير في إقامة أدب رؤيويّ نهيويّ استمدّ منه.
8. الحياة ما بعد الموت في أسفار دانيال والمكابيين والحكمة
8. أ. ما هو مصير الشهداء ؟
يجب انتظار القرن الثاني (ق.م.) في زمن دانيال والمكابيين لكي نشهد ظهور فكرة الحياة الأخرى قرب الله بعد الموت. عندما تسلّم انطيوخوس إبيفانيوس، حوالي السنة 175 ق.م. السلطة. حاول أن يخلق لنفسه مملكة متّحدة تذوب فيها الخصائص الثقافيّة والدينيّة التي يمكن أن تولّد بذور مقاومة. ومنع ممارسة الشعائر الدينيّة والثقافيّة اليهوديّة. إضافة إلى ذلك بنى عام 164 ق.م. مذبحًا للإله زوس على أنقاض مذبح النكبات (2 مكابيين 12، 43-45؛ دانيال 12، 1-3).
قاوم الأتقياء من اليهوديّة تدنيس الهيكل وأسّسوا حركة مقاومة عسكرية فاستطاع يهوذا المكابي وإخوته أن يستعيدوا الاستقلال الوطني وحرية العبادة في الهيكل ضدّ انطيوخس إبيفانيوس. ورؤية سفر دانيال تواكب تاريخ الشرق الأوسط حتى السنة 167 ق.م. لقي الشبان الذين قضوا في عهد الاضطهاد هذا ميتة ليست في أوانها او زمانها. وفي هذا الوضع اللامعقول ولدت فكرة “انّ الله خصّ الإنسان الذي مات قبل أوانه بحياة أخرى أبديّة، يمكنه فيها أن يعيش على سنن الله ويحظى بالحياة الأبديّة.
8. ب. القيامة في دانيال
دوّن سفر دانيال حوالي سنة 176 ق.م. في وقت الضيق، بعد أن أعيدت شعائر العبادة إلى الهيكل المطهّر، فاهتمّ أوّلاً بالحفاظ على الإيمان، وأشعل جذور الرجاء عند الذين قلقوا أو ضعف إيمانهم بسبب الاضطهاد. ويعطي النص النهائي إلى الله : “رأيت في رؤى الليل فإذا بمثل ابن البشر آتيًا على سحاب الماء، فقدم إلى القديم الأيّام، وقرب إلى أمامه. فأُعطي له سلطان ومجد وملك لتتعبّد له جميع الشعوب والأمم والألسنة فيدوم سلطانه إلى الأبد، ولا يكون له انقضاء، ومملكته لا تدمّر” (دانيال 7، 13-14). من هو ابن الإنسان هذا ؟ هو شخص رمزيّ، رأى فيه التقليد اليهوديّ المسيح الداودي المنتظر. وهذا ما عبّر عنه يسوع في مجيء المسيح المنتظر (مر 13؛ متى 24، 30-31؛ لوقا 21، 27).
وهكذا رأت الجماعة المسيحية الأولى وجه يسوع الديّان العادل الذي أتى لكي يدشّن العهد المسيحاني (متى 8، 12). ويؤكّد سفر دانيال في الفصل 12 أن قدرة الله ستنتصر على الموت وسيؤمّن الله لمختاريه حياة أبديّة. “وفي ذلك الزمان يقوم ميكائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك ويكون وقت ضيق لم يكن منذ كانت أمّة إلى ذلك الزمان. وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، بعضهم للحياة الأبديّة وبعضهم للعار والذلّ الأبديّ” (دانيال 12، 1-4).
فقوّة الله قادرة أن تنتصر على قوّة الموت في الذين كانوا ضحايا الموت والاضطهاد والأهم مع سفر دانيال هو انّنا نبتعد عن استعمال كلمة “القيامة” بصورة رمزيّة. فالله الكلّي القدرة، العادل، يمكنه أن يخلّص الشهداء من الشيول لكي يعطيهم وجودًا أبديًّا، ومكافأة لا نهاية لها. هكذا تبلورت فكرة القيامة الفرديّة بصورة واضحة للمرّة الأولى. فرغبة المؤمن في حياة دائمة مع الله استُجيبت. وكشف الله، بعد ألفي سنة من الاختبار الروحيّ، أنّ الإنسان الذي خلقه من التراب والذي يعود إلى التراب، هو وحده قادر أن يقيمه من التراب وأن يوقظه من رقاد الموت في نهاية التاريخ، وأن يعطيه السعادة الأبديّة، في حياة هانئة بقربه وفي “الجنّة” أو “الفردوس” الذي وضعه فيه عندما خلقه. وتصبح هنا جهنّم موضع غياب الله، ومكان الذلّ والعار الأبديّ.
وفي حوالي السنة 100 ق.م. نقل لنا مؤلّف مجهول كيف أن يقين القيامة هذا قاد بعض المؤمنين والمشاركين إلى المقاومة والاستشهاد. والكتاب الثاني من المكابيين أو “شهداء إسرائيل” يدلّنا على أنّ الله يحيي الذين ماتوا في سبيل إيمانهم : “لكن ملك العالمين إذا متنا في سبيل شريعته فسيقيمنا لحياة أبديّة” (2 مك 7، 9). هل أن مبدع العالم الذي خلق الإنسان منذ ولادته هو سبب كل شيء يمكنه بعنايته أن يعيد إليه الروح بسبب ما يبذله حاليًّا محبّةً بشريعته؟ هذا هو مصير الشهداء : أن تكون لهم قيامة للحياة (2 مك 7، 14). فالله خالق الحياة وهو أصل كل شيء سيعيد إليكم برحمته الروح والحياة (2 مك 7، 23). هناك فكرة أخرى نجدها في كتاب المكابيين الثاني وهي تشفّع الأحياء من أجل الموتى. فحين جاء يهوذا ورجاله ليدفنوا جثث القتلى وجدوا أنّهم يحملون في ثيابهم نمائم ترتبط بالآلهة الوثنيّة، احتفظ بها هؤلاء الشهداء المقاتلون، فأخطأوا إلى الله لأنّهم فعلوا ما تحرّمه الشريعة. “فأخذوا يصلّون يبتهلون أن تُمحى تلك الخطيئة المرتكبة محوًا تامًّا”. أمّا يهوذا فجمع تقدمة وأرسلها إلى أورشليم لتقدّم بها ذبيحة عن الخطيئة : “وكان عمله من أحسن الصنيع وأسماه، فدلّ على أنّه يؤمن بقيامة الموتى (2 مك 12، 38-45). ورأى في حلمه أن إرميا نبي الله يصلّي له في السماء. وهذا دليل آخر يربط شفاعة الموتى القدّيسين بالأحياء ويجعلنا ندخل في شراكة القدّيسين وشفاعتهم. كلّ هذه الأفكار سوف ترى رواجًا كبيرًا في المسيحيّة وبخاصّة في ضوء قيامة المسيح وحضوره الدائم في الافخارستيّا والأسرار.
وحوالي السنة 50 ق.م. عالج حكيم، كان يسكن الاسكندريّة، مسألة الصالحين انطلاقًا من معطيات الفلسفة اليونانيّة. وأكّد، للمرّة الأولى، أنّ أرواح الصالحين تبقى بعد الموت، لأنّها خالدة. وهكذا دخل اعتقاد خلود النفس وعدم فساد الأرواح إلى الفكر الديني اليهودي.
يرغب الله في سفر الحكمة في أن يشاركه الإنسان حياة الألوهيّة والأبديّة. إنّها مغامرة جديدة خلال وجود الإنسان تختلف عن مجرّد الخضوع للشريعة. فهناك إذًا فرق بين الخلود (الذي هو استمرار بعد الموت) وبين الأبديّة (هبة جديدة سوف يشارك الإنسان في حياته الإلهيّة الذين خلقهم وأحبّهم وخلّصهم). وما يتمنّاه سفر الحكمة بصورة أكيدة، هو أن تُرسَم للحياة الأبديّة ملامح ومحتوى يمكن أن يشارك بها الإنسان في حياة الله الحميمة. يدخلنا سفر الحكمة في المرحلة الجديدة من مراحل تأليهنا، الذي ليس امتدادًا للحياة الأرضيّة. فالله الخالق المخلّص سوف يخلقنا من جديد. إنّها تجربة جديدة تقدّم لنا وتقضي بمشاركة الله في حياته.
ليس هناك أشياء وأملاك في الحياة الأبدية، بل حضور مع الله يشارك فيه الإنسان في حياته. ويمكن القول إن الأبديّة ليست سوى الله. لسنا إذًا في ترتيب عددي، بل في علاقة شخصيّة. ولأنّ الله أبدي فإنّنا نتحدّث عن أبديّة. إن كلمة الله تعطي للأبديّة معناها. ليست هذه الأبديّة فكرة زمن أو مكانًا موضوع مناقشة، بل جوهر الله وشراكتنا في هذا الجوهر تُستخلص من فعل مجاني كامل وهبة معروضين على الإنسان منذ بدء الخليقة. هذا ما توصّل إليه العهد القديم وهذا ما سوف يتّضح كلّيًّا مع يسوع في العهد الجديد. فطوبى لأنقياء القلوب لأنّهم سيعاينون الله، وطوبى للمضطهدين فإن لهم ملكوت الله” (متى 5، 8-10). ولكن قبل أن ننتقل إلى العهد الجديد يجدر بنا أن نذكر أيضًا بعض الأسفار اليهوديّة المنحولة النهيوية والرؤيويّة التي صوّرت بإسهاب القيامة والحياة ما بعد الموت، والتي من الممكن أن يكون كتَّاب العهد الجديد قد لجأوا إليها ليعبّروا عن إيمانهم بقيامة الأجساد وبالدينونة العامّة.
9. الحياة الأبدية في الأسفار المنحولة
9. أ. اخنوخ
إن الإيمان بالحياة مع الله في هذه الحياة، قاد الصدّيقين والأبرار في الشعب اليهوديّ إلى أن يكتشفوا، في القرن الثاني قبل الميلاد، أن هذه الرغبة يمكن أن تتخطّى الموت، وأن تكون نواة حياة دائمة مع الله.
انطلاقًا من هذا الاعتقاد نشأ أدب نهيويّ رؤيويّ “منحول” لم تحتفظ به الأسفار القانونيّة اليهوديّة. هذا الأدب كثير الخيال، إذ إنّه يسهب في التصوّرات والخيالات للحياة ما بعد الموت. ويصف الدينونة العامّة ومصير الأبرار والصدّيقين من جهة، والخطأة من جهة أخرى. نجد آثار هذا الأدب في العهد الجديد، في خطاب يسوع عن الدينونة (متى 25، 31-46).
سفر أخنوخ الحبشي هو من أهمّ الكتب التي تنتمي إلى هذا الأدب الرؤيوي النهوي المنحول. كُتِب قبل سفر دانيال، أي قبل 164 ق.م. نجد في الفصل الثاني والعشرين من هذا الكتاب وصفًا دقيقًا للأماكن المختلفة التي يذهب إليها الأموات الراقدون. فهناك هاوية من النار وجهنم مكان عذاب الهالكين و”جنّة النعيم” التي وُضعت على الأرض في بدء الكون. ففي مثل لعازر والغني (لوقا 16، 19-31) نجد هذه التخيّلات حول الهوّة الفاصلة بين أحضان ابراهيم للعازر الفقير من جهة، وجهنم أو مكان العذاب واللهيب للغني من جهة أخرى. وهذا العذاب هو أبدي بحسب متى (25، 46)، كما أن الحياة مع الله هي حياة أبديّة للأبرار.
كما أن رؤية النبي إرميا في المكابيين (2 مك 11، 15-16) هي دليل آخر على وجود هذا “المكان”، حيث يجتمع الأبرار والأنبياء ويمجّدون الله فيه.
أمّا إشعيا فصوّر لنا هذا الفردوس الأرضيّ حيث تعيش الكائنات كلّها في تناغم دائم. ولا يكون هناك موت أبدًا في هذه الأرض والسموات الجديدة (إشعيا 65، 17-25) ويزيل الربّ الموت على الدوام (إشعيا 25، 8)؛ أمّا الأشرار فلهم النار الأبديّة التي لا تطفأ (إشعيا 66، 24).
9. ب. الدينونة في المثل الثاني بحسب أخنوخ
إنّ المثل الثاني من كتاب الأمثال لأخنوخ يمتدّ من الفصل 45 وحتى الفصل 56، يقع بين مثلين يتحدّثان عن أسفار أخنوخ الرؤيويّة وهو تنبّؤ حول الزمن الآتي، يعلمنا عمّا سيتمّ في أثناء مسيرة البلوغ نحو السماوات الجديدة والأرض الجديدة[9]. وفي هذا المثل، سوف نتلمّس فرادة العمل الأخنوخيّ من خلال سلسلة من اللوحات تصوّر أحداثًا ترتبط بالدينونة العظمى، حيث يبرز الوجه الرئيسيّ فيها، وهو صورة سماويّة سامية عيّنها الله، الديّان الإسكاتولوجي والمنتقم للأبرار والمختارين، يسمّيه النصّ تسميات مختلفة : “المختار الوحيد”، “البار الوحيد”، “ابن الإنسان”، “المسيح الواحد لله”[10]. هذه الصورة للديّان تشدّد على الموضوع الأساسيّ في هذا المثل الثاني، وهو إعلان الدينونة وتحديد مصير كلّ من الأبرار والأشرار، حيث يبرز أيضًا دور خاصّ بالملائكة.
9. ج. صورة ابن الإنسان الجالس على عرش القضاء
في إطار المثل الثاني لأخنوخ، تتجلّى بوضوح صورة ابن الإنسان الديّان الذي يجلس على عرش القضاء. فالصفة الأساسيّة التي تميّزه هي “المختار” الجالس على عرش المجد، الذي يقيم وسط كلّ النفوس (أخ 45، 3-4) والذي سيدين مجموعتين كبريين من الخطأة، هم “الملوك والعظماء” الذي اضطهدوا الأبرار[11]، أمامه ينحني ويسجد كلّ سكّان اليابسة (48، 5)، فنراه منذ بداية المثل مع “رأس الأيّام” أو “قديم الأيّام” الذي يصوّره سفر دانيال (دا 7، 9)[12].
يطلق أخنوخ عليه اسم “ابن الإنسان”، وما دفعه إلى ذلك هو أنّ له وجه ذو شكل بشريّ تفيض النعمة منه مثل أحد الملائكة القدّيسين (46، 1-2). وابن الإنسان هذا قريب من الله، مقامه أسمى من كلّ الملائكة والأبرار والقدّيسين والمختارين، يستمدّ كلّ قوّته منه؛ هو بارّ، والله اختاره لكيشف كلّ كنز الأسرار (46، 3). ومن هنا فإنّ لابن الإنسان هذا سلطة على الملوك والمقتدرين والأقوياء، هو يحكم عليهم لأنّهم لم يعترفوا بملك الله ولم يعظّموا اسمه (46، 5).
قبل الدينونة الأخيرة، حين ترتفع صلاة الأبرار أمام ربّ الأرواح، وتفتح أمامه كتب الأحياء التي دُوّنت فيها أعمالهم[13]، سيُدعى ابن الإنسان وسيُنادى باسمه أمام رأس الأيّام (48، 2)، وسيكشف نفسه لبعض البشر، للمختارين والقدّيسين[14]، لأنّه الأزليّ الذي أعلن اسمه قبل أن تُخلَق الشمس والعلامات وقبل أن تُصنع كواكب السماء (48، 3) ليكون مثل عبد إشعيا عصًا للأبرار ومتّكأ لهم، ونورًا للأمم ورجاءً للمتألّمين (48، 4).
إليه يُسلَّم ملوك الأرض والمقتدرون أسياد اليابسة (48، 8) ليحكم عليهم بحكمته، حكمة الله التي بها يدرك كلّ أسراره. ومن هنا فإنّ مجده أزليّ، وقدرته إلى أبد الدهور، وفيه يقيم روح الحكمة وروح التعليم، روح العلم وروح القدرة، وروح الراقدين في البرّ[15]، فهو يدين الخفايا ولا يقول أحد أمامه باطلاً لأنّ سلاحه هو معرفة آتية من عند الله (49، 1-4).
إنّ سلطانه ليس على البشر وحدهم، إنّما على الحجر أيضًا (52، 4-9)، وعلى الملائكة، إذ إنّ ربّ الأرواح سيسند إلى المختار دينونة عزازيل وكلّ فرقته وجوقته أي الملائكة الساقطين (55، 4) وكلّ الملوك المقتدرين سكّان اليابسة الذين فضّلوا اتّباع سبيل الشرّ، فانضمّوا إلى جوقة عزازيل، بخاصّةٍ أنّ ربّ الأرواح عيل صبره منهم بعد أن أعطاهم فرصةً للتوبة لم يستغلّوها.
9. د. صورة الأبرار والأشرار في يوم الدينونة ومصيرهم
المثل الثاني من كتاب الأمثال يُظهر جليًّا نتائج الدينونة ومصير كلّ من الأبرار والأشرار، الذين سيتحدّد مكان كلّ منهم ومصيره.
في هذا المثل، إنّ الخطأة هم الذين أنكروا اسم ربّ الأرواح (45، 1) أي الذين تخلّوا عن الله فسلكوا طريق الشرّ، ونتيجة لذلك فإنّهم سيُحفظون ليوم التعب والضيق. إنّ مساكنهم لا عدد لها، وعندما يجلس المختار على عرش المجد ليتميّز أعمالهم، ستتجمّد نفوسهم فيها (45، 3). أمّا الأبرار فهم المختارون الذين سيقيمون في حضرة الله، لأنّهم لجأوا إلى اسم الله القدّوس وما أنكروه (45، 4-5).
لن يطأ الخطأة وفعلة الإثم السماء، إنّما سيزالون عن وجه الأرض (45، 6)، كما أنّ ابن الإنسان سيقيم الملوك والمقتدرين عن مضجعهم، إذ سيطردهم عن عروشهم ومن مملكتهم لأنّهم لم يعظّموه ولم يمجدّوه ولم يقرّوا من أين جاء ملكهم (46، 5)، وسينزع الأقوياء عن مقاعدهم فيحطّم وجههم، ويملأهم خزيًا، فتكون الظلمة مسكنهم، والدود مضجعهم، ولا أمل لهم بقيام، لأنّهم لم يعظّموا اسم ربّ الأرواح (46، 6). فهم استحقّوا ذلك لأنّهم أنكروا اسم ربّ الأرواح (46، 8) واضطهدوا جماعاته، والمؤمنين به. فكلّ أعمالهم تدلّ على العنف، بخاصّةٍ أنّهم صدّقوا أنّ قوّتهم تكمن في ما يملكون فآمنوا بآلهة صنعتها أيديهم. في المقابل، يقوم دور الأبرار والقدّيسين على الصلاة والتشفّع، إذ يرفعون المجد والمديح والبركة لاسم ربّ الأرواح من أجل الأبرار الذين سُفك دمهم ولكي يحكم لهم بالعدل (47، 1-3). ويشدّد أخنوخ على أنّه في يوم الدينونة سيحلّ الضيق والوجع بملوك الأرض وأسيادها، وعبثًا سيخلّصون أنفسهم (48، 8). سيسلّمون إلى أيدي المختار وكالعشب في النار سيُحرقون وكالرصاص في النار سيُبتلعون ولن يبقى لهم أيّ أثر (49، 9)، سيعمّ الهدوء في الأرض يوم عذابهم، ويسقطون أمام الأبرار ولن تمدّ إليهم أيّة يدٍ لأنّهم أنكروا ربّ الأرواح ومسيحه (48، 10)، على عكس الأبرار الذين سيقيم عليهم نور الأيّام. فالخطاة سيُحفظ لهم يوم العذاب (50، 1-2)، ولكن قبل ذلك سيُدعون إلى التوبة والارتداد فيُحفظون من العذابات الأبديّة برحمة الله المجّانيّة[16]، وإلاّ فإنّ الكافر سيبيده الله لأنّه رفض التوبة.
في يوم الدينونة، كلّ الأموات سيقومون ليؤدّوا الحساب، وفي ذلك اليوم لن يخلص الإنسان بفضّة ولا بذهب (52، 7). الأرض ستبتهج بالأبرار، أمّا الخطأة وفعلة الإثم فمهما عوّضوا عمّا اقترفت أيديهم، فإنّ هداياهم لن تنفع وسيهلكون إلى الأبد (53، 1-3)، وملوك الأرض والمقتدرون هم أوّل الخطأة الذين يستحقّون أقسى العقوبات والعذابات الأبديّة[17]، لذا فهم سيلقون في هوّة عميقة تتأجّج فيها النيران حيث أُعدّت أدوات التعذيب وقيود الحديد من أجلهم. وسيخضعون لعقاب ربّ الأرواح، وسيدركون مدى العنف الذي مارسوه على الأرض، والذي كان سببًا في هلاكهم (54، 7-9).
9. هـ. سفر عزرا
وفي سفر عزرا الرابع المنحول، الذي كُتب حوالي السنة المئة قبل المسيح، نجد أيضًا أثرًا لهذا الأدب الرؤيويّ النهيويّ، الذي يصف لنا الغرف المختلفة التي يسكنها الأموات : فالأبرار والشهداء يسكنون مساكن النور، مجتمعين حول ينابيع مياه منعشة كما في سفر أخنوخ. ومكافأتهم بدأت بعد الدينونة. أمّا الأشرار فيذهبون إلى العذاب في نار جهنّم الأبديّة مكان الهلاك. الصدّيقون هم في الأحضان الابراهيميّة (لوقا 1، 16-31)، والفردوس (اليوم تكون معي في الفردوس، لوقا 23، 43) كما في صورة انتظار الأنفس تحت عرش الله (رؤيا 9، 6).
إذًا كلّ هذا الأدب يقود إلى يوم الدينونة، حيث الربّ يكافئ الأبرار ويجازي الأشرار. وقبل الدينونة تكون قيامة الأجساد. فكل روح تعود فتتجدّد بالجسد الذي أُعطي لها، وتوقظ الجسد لكي يقوم أمام الله الديّان العادل. فالأخيار يدخلون الفردوس حيث يعيشون السعادة الأبديّة التي هيّأها لهم الله منذ إنشاء العالم. وما الأحضان الابراهيمية إلاّ تعبير آخر لهذا المكان. أمّا الأشرار فمصيرهم جهنّم أو مكان العذاب الأبديّ المختلف تمامًا عن الجحيم، حيث لا تطفأ فيه النار. كان لكلّ هذا الأدب الأثر الكبير في تعاليم المسيح في العهد الجديد والجماعات المسيحيّة الأولى.
القيامة في العهد الجديد
سر قيامة الموتى هو في جوهر المسيحيّة. كيف تستطيع الحياة أن تتغلّب على الموت ؟ ما هو مصير الإنسان بعد الموت ؟ كل هذه التساؤلات التي طُرحت على عتبة العهد الجديد في الكتب المنحولة أو في بعض الأدب الرؤيويّ النهيويّ، تجد جوابًا لها كاملاً في العهد الجديد. فرجاء قيامة الموتى أصبح في صلب الإيمان المسيحيّ وهو خاتمة هذا الإيمان. هكذا يستطيع الإنسان أن يعاين الله، مصدر كل حياة. وأصبحت قيامة يسوع من بين الأموات ركيزة هذا الإيمان المسيحيّ وباكورة قيامة الأموات التي تحقّق عدالة الله الذي أعلن عنها السيّد المسيح، وهيّأ لها. هذا ما صرّح به بولس الرسول حين قال : “إنّما أُحاكم اليوم عندكم لأنّي أرجو قيامة الأموات” (أعمال الرسل 24، 21). وما حدث ليسوع سوف يحدث لنا أجمعين، وهو أن ندخل في حميميّة الله وأن نعيش فرح لقائه وحبّه لنا بشراكة حبّ دائمة. القيامة والحياة ما بعد الموت ليست عودة إلى هذه الحياة كما تخيّلها بعض اليهود الفرّيسيين في زمن يسوع، بل يقظة إلى الحب اللامتناهي وإلى الحياة (Zoé) التي هي أقوى من هشاشة ترابيّة جسدنا المائت (bios)، والتي هي فينا، لأنّها عطاء مجّانيّ من واهب ومصدر كل حياة وكل محبّة.
من هذا المنطلق سوف نبحث عن تعليم يسوع حول القيامة[18]، وعن معنى انحداره إلى مثوى الأموات وعن جديد قيامة الموتى في العهد الجديد في ضوء قيامة يسوع، حيث لا عودة إلى الحياة كما في لعازر وابنة يائيرس وفتى نائين.
1. ما هو تعليم يسوع حول القيامة ؟
كما رأينا سابقًا أمام سؤال خبيث حول تصوّر “قيامة الموتى” كالرجوع إلى الحياة السابقة، بحسب اعتقاد بعض اليهود، عاد يسوع إلى سفر الخروج الذي يأخذ به الصدّوقيّون (كتب لنا موسى)، وحمّل هذا النص معنىً جديدًا وكاملا. ففي سفر الخروج (3، 6) حيث كلّم الله موسى في العلّيقة التي تتوقّد بالنار وهي لا تحترق، هناك كان الوحي، إذ عرّف الله عن ذاته بأنّه “إله الآباء، إله ابراهيم واسحق ويعقوب”، استنتج يسوع أنّه أيضًا إله الأحياء وليس إله أموات. إذًا “إنّهم جميعهم يحيون” (لوقا 19، 38). وأضاف يسوع برهانًا آخر : “هؤلاء الذين هم أهل للحياة الأبدية بين الأبرار والصدّيقين وللقيامة من بين الأموات، فهم لا يتزاوجون، إنّهم أبناء الله، ومثل الملائكة لا يموتون، فهم أبناء القيامة” (لوقا 19، 35-36). والذي ينكرون ذلك، لا يعرفون “قدرة الله” (متى 22، 29) الذي يوقظ الأبرار، الذين لا يزوجون ولا يتزوجون، بل يكونون كالملائكة في السماء، أي أرواحًا سماويّة.
نحن هنا أمام وحي جديد : لسنا أمام عودة النفس إلى الجسد، ولا أمام رجوع إلى حياة أرضيّة سابقة، بل أمام شرح جديد لحالة قياميّة ملائكيّة متسامية لا شبيه لها سابقًا. ومستقبل الإنسان ليس الشيول، بل أن يكون الإنسان شبيه الملائكة، إذ يجعل نفسه من أبناء القيامة ومن بين أبناء يتجاوزون حالة سكان الأرض، ويدخلون في حالة سماوية.
2. انحدر المسيح إلى الجحيم
نجد هذه العبارة في قانون الرسل[19]. أما قانون إيمان نيقية القسطنطينية، فهو يكتفي بالاعتراف بأن يسوع “تألّم ودفن وقام”[20]. وهو يعود بذلك إلى مار بولس حيث يقول إنّ “يسوع نزل إلى أسفل الأرض” (أف 4، 9). وقانون إيمان الرسل يعترف في مادة واحدة بأن الذي انحدر إلى الجحيم هو الذي قام من بين الأموات. وهو الذي يخوّلنا الاعتراف أيضًا بقيامة الموتى وبالحياة الأبديّة. فيسوع، بحسب الرسالة إلى العبرانيين، قبل القيامة أقام في مقرّ الأموات (عب 13، 2) كسائر البشر، وانضمّ إلى كل الأموات في مقرّهم، أي في الشيول أو في الجحيم أو تحت الأرض (في 2، 10)، أو في أهوال الموت (أع 2، 24). ولديه مفاتيح الموت ومثوى الأموات (رؤ 1، 18). لكنّه انحدر مخلّصًا، معلنًا البشرى الخلاصيّة للموتى المحتجزين فيه. هكذا فالذين يسمعون هذه البشرى الخلاصية يحيون : “تأتي ساعة فيها يسمع الأموات صوت ابن الله والذين يسمعون يحيون” (يوحنا 5، 25).
أما تعليم الكنيسة فإنّه يميّز في مجامعه بين “الجحيم” و”جهنّم”. فالمسيح لم ينحدر إلى الجحيم لإنقاذ الهالكين، بحسب مجمع رومة الذي انعقد سنة 745[21] ولا للقضاء على جهنم الهلاك[22] والعذاب الأبدي، بل لإعتاق الأبرار فقط الذين سبقوا مجيئه بحسب مجمع طليطلة الرابع، سنة 633[23].
بشّر يسوع الأموات في الشيول بالإنجيل (1 بطرس 4، 6). فامتدّ العمل الخلاصيّ إلى جميع البشر في كلّ مكان وكلّ زمان، “لأنّ جميع الذين خَلُصوا جُعلوا مشتركين في الفداء”[24]. والانحدار إلى الجحيم هو ملء إتمام بشرى الخلاص الإنجيليّة. إنّه مرحلة رسالة يسوع المسيحانيّة الأخيرة.
أباد يسوع بالموت من كان له سلطان على الموت “أي إبليس” وأعتق بحسب العبرانيين “أولئك الذين كانوا، الحياة كلّها، خاضعين للعبودية خوفًا من الموت” (عب 2، 14-15). والمسيح الذي قام من بين الأموات “أصبح لديه مفاتيح الموت والجحيم” (رؤ 1، 18). استطاع المسيح أن يحرّر جميع الأبرار. لذلك تجثو لاسم يسوع “كل ركبة ممّا في السموات وعلى الأرض وتحت الأرض” (في 2، 10). ففي انحداره إلى الجحيم أصبح المسيح سيد الأحياء والأموات. فانحدار يسوع إلى الجحيم، تمّ بشكل تامّ انضمام يسوع إلى الجنس البشري. وهو تأكيد آخر بأن المسيح مات حقًّا لأنّه إنسان حقّ، وانّه بموته تغلّب على الموت وفتح أبواب السماء للأبرار الذين سبقوا مجيئه.
ويذهب اللاهوتي الألماني الشهير بلتزار[25] إلى القول على غرار لاهوتي مصلح آخر، في تأمّله في سر الصليب، وهو مولتمان[26]، إلى أبعد من التعليم المسيحي التقليدي، إذ يقول بأن يسوع اختبر “جهنم” أيضًا. أي اختبر عزلة الصليب في “الترك” الأبوي له إذ أسلمه للصلب والموت ولعزلة الجحيم. وهو أسلم ذاته كلّيًّا إلى هذه العزلة، وإلى سكوت الله في مثوى الجحيم. وهكذا تضامن كلّيًّا مع كلّ إنسان في حالة الخطيئة، إذ أصبح خطيئة لكي يخلّصنا من الخطيئة. ومن هنا مدلول القيامة في انتصاره النهائي على عزلة الجحيم، وعلى بعد الإنسان من الله (في الخطيئة) وعلى الموت. هكذا أصبح المسيح في طاعته وتسليمه الكلّي لمشيئة ابيه وبقوّة الروح القدس، حياة الأموات أجمعين.
3. قيامة لعازر وقيامة الموتى
كيف نستطيع أن نفهم قيامة لعازر، وهل هي نموذج لقيامة الموتى بشكل عام، تحدّث عنها الرجاء بالقيامة ؟ فقانون الإيمان يصل إلى قمّته في إعلان قيامة الموتى (أو الجسد) في نهاية الأزمنة وفي الحياة الأبدية. فالمسيح سوف يقيم الصدّيقين من بعد موتهم في اليوم الآخر (يو 6، 39-40). والروح الذي أقام يسوع من بين الأموات يحيي أجسادكم المائتة، بروحه الساكن فيكم (رؤ 8، 11). فالمسيح، الذي أقام لعازر بعد ثلاثة أيام، يذكّرنا بأعاجيب النبي إيليّا في العهد القديم وما جواب مرتا “أعلم أنّه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير” (يو 11، 3) إلا تأكيد منها بإيمانها بالقيامة العامّة وبالدينونة العامّة في النهاية. إنّه يذكّرنا بإيمان الفرّيسيين معاصري يسوع بالقيامة العامّة. فهؤلاء كانوا يرجون الحياة ما بعد الموت على غرار شهداء المكابيّين والذين اعترفوا وسط مضايقهم : “إن ملك العالم سيقيمنا لحياة أبدية” (2 مك 7، 9). يتمنّى الإنسان أن يموت بأيدي الناس، وهو يرجو من الله أن يقيمه” (2 مك 7، 14). فقيامة لعازر هي دليل على قدرة يسوع الكلّية وقدرته العجائبيّة. أما لعازر الذي أحياه يسوع فسوف يموت في ما بعد وينتظر القيامة العامّة حيث لا موت بعد ذلك. وهذه الآية على غرار إحياء إبنة يائيروس وفتى نائين، هي إظهار لقدرة يسوع. أما الجديد في قيامة لعازر فهو ربط هذه الأعجوبة بشخص يسوع، إذ صرّح : “أنا القيامة والحياة. من آمن بي، وإن مات فسيحيا. وكل من يحيا ويؤمن بي لن يموت للأبد” (يوحنا 11، 25). هكذا ربط يسوع الإيمان بالقيامة بشخصه. أعطى في لحظة الاعتراف والكرازة رجاء القيامة. وهذا ما لا نجده في إحياء الصبية ابنة الاثنتي عشرة سنة في مرقس (5، 41-42)، وفي إحياء ابن ارملة نائين (لوقا 7، 14-15). هذه علامات ودلائل على أن يسوع هو نبيّ عظيم على غرار إيليّا، وأعظم منه. وهي إشارة تنبئ بما سيحدث في قيامة يسوع، فهي عربون واستباق لها، برغم انها ستكون من نوع آخر كلّيًا. كما أن قيامة يسوع هي استباق لقيامة المؤمنين أيضًا. تحدّث يسوع أيضًا عن آيات أخرى كآية يونان النبي (متى 12، 39)، وآية الهيكل، إذ أشار بذلك وأنبأ عن قيامته في اليوم الثالث بعد موته. هذا يدلّ على أنّ هناك علامة فارقة بين الإيمان اليهودي بالقيامة، والذي تخيّله البعض منهم كإعادة إلى هذه الحياة، في نهاية العالم، وإيمان المسيحيّين بالقيامة في ضوء حدث موت يسوع وقيامته من بين الأموات، حيث لا موت بعد ذلك.
إذًا، فما هو هذا الفارق الأساسي بين الاعتقاد بقيامة الموتى في الدين اليهودي وفي الدين المسيحي أو حتى في الديانة الإسلاميّة ؟؟؟ أشار المجمع الفاتيكاني الثاني ببيانه “في علاقات الكنيسة بالديانات غير المسيحية Nostra aetate”، الصادر في 28 تشرين الأول عام 1965، عن احترام وتقدير صادق لكل الأديان وطرقها في العمل والحياة[27]. كما عبّر عن أن المسلمين ينتظرون أيضًا يوم الدين الذي يجازي الله فيه جميع الناس بعدما يبعثون أحياء[28]. أمّا بالنسبة إلى الدين اليهودي، فالكنيسة تذكّر مرّة أخرى بأن “اليهود يترقّبون اليوم الذي لا يعرفه إلا الله وحده، والذي يجمع الشعوب كلّها على الابتهال إلى الله في صوت واحد، وعلى خدمته تحت النير الواحد”[29].
نستطيع أن نقول هنا بأن الإيمان بيوم الدين وبالقيامة العامّة هو إيمان توحيدي مشترك. فما هو جديد المسيحية بالنسبة إلى هذا الاعتقاد ؟؟ وماذا عنت الكنيسة بـ”قيامة الأجساد” أو بقيامة الموتى ؟ ولماذا حدث الاصطدام بين الجماعات المسيحية الأولى وسائر المؤمنين اليهود (أعمال 17، 32) ؟ فالعودة إلى الحياة السابقة كان مقبولاً لدى بعض الأديان الشرقية القديمة، وحياة النفس وخلودها، واستمرار حياة الشخص بعد الموت بأشكال روحيّة أيضًا… فما هو جديد المسيحية، الذي رفضته الأديان الشرقيّة والفلسفة اليونانيّة والديانة اليهوديّة ؟ وهي هذه الخصوصيّة التي لا نجدها إلا في المسيحيّة ؟
4. مات يسوع وقام من أجل تحقيق عدالة الله
إن انتظار قيامة الموتى، كما عبّر عنه سفر دانيال “كثيرون من الراقدين في تراب (في آخر الأيام) يستيقظون بعضهم للحياة الأبديّة وبعضهم للعار والذعر الأبدي” (دانيال 12، 2)، أكّده يسوع في حديثه عن الدينونة العظمى (متى 25، 46)، ويوحنا : “تأتي ساعة فيها يسمع صوته (ابن الإنسان) جميع الذين في القبور فيخرجون منها، أمّا الذين عملوا الصالحات، فيقومون إلى الحياة، وأمّا الذين عملوا السيّئات، فيقومون للقضاء” (يو 5، 29). إذًا يوم الدينونة هو يوم العدالة الإلهيّة، ويوم انتصارها على الشر وحتى على الموت. وهكذا نقرأ مثل الغني ولعازر المسكين. فإن كانت الحياة غير عادلة فالعدالة الحقيقيّة هي بعد الموت. فالغني نال خيراته في حياته ولعازر البلايا. أمّا في الدينونة فلعازر هو في الأحضان الابراهيميّة والغني يقاسي العذاب في مثوى الأموات (لوقا 16، 19-30). وهذا الرجاء بتحقيق العدالة الإلهيّة في الدينونة مختلف نوعًا ما عن السعادة. فهو رجاء في العدالة الإلهيّة لأجل الله، وبسبب، وبفضل عدالته. وهذه العدالة يبحث عنها الأبرياء المعذّبون، والشهداء، وكل مهمّشي هذا العالم. فمن يحقّق لهم العدالة ؟ أليس الله وحـده قادر على ذلك ؟ فهو وحده الإله العادل. والدليل على ذلك هو صليب المسيح. فالقائم من بين الأموات هو البريء، والشهيد، والقديس المصلوب، والمعذّب والمتألّم، وهو الذي انحدر إلى الجحيم والذي أسلم ذاته طوعًا وطاعةً لأبيه. أمّا قيامته فهي أكبر برهان لعدالة الله الحقيقيّة، ولمحبة مصلوبي هذا العالم ومظلوميه ومعذّبيه، الذين تضامن معهم يسوع على الصليب. والصليب هو استباق للدينونة العظمى ولنهاية العالم والقيامة في الحياة الجديدة والخلق الجديد والعدالة الإلهيّة الجديدة، عدالة المحبة التي تغفر، وتسامح وتصالح : “يا أبتِ اغفر لهم لأنّهم لا يعلمون ما يفعلون” (لوقا 23، 34). هكذا نفهم موت يسوع على الصليب وجديد قيامته التي تحقّق عدالة المحبّة التي تغفر وتمحو الخطايا والذنوب وتعلي شأن البريء والشهيد والمعذّب.
إذًا المسيحيّة ليست تهرّبًا من مهمّات هذا العالم ومن الالتزام بالتاريخ، كما أنّها لا تقتصر على الخلاص الفرديّ لنفس الإنسان. بل إنّها البحث عن العدالة كما علّمنا السيّد في موته على الصليب. ورجاء القيامة هو الذي يدفعنا إلى الالتزام من أجل الحقيقة والحقّ والمحبّة انطلاقًا من انتصار المسيح على الموت. فالإيمان المسيحيّ يُعنى بالحياة. هدفه حياة البشر، إذ يرى فيها عطية مجّانية من الله الذي هو الحياة. إنّه يقبل الحياة يرغم كلّ شيء ويرغم الألم والعذابات. تبقى الحياة عطيّة من الله يجدر بكلّ إنسان أن يعيشها وأن يعطيها معناها يرغم كل الصعوبات. والحياة هي أرقى من الحياة البيولوجيّة (bios). وإن كان سموّ الحياة يتطلّب الألم، فالإيمان يتطلّب دائمًا تقبّل الألم والتضحية، ومع تقبّل الألم يدفعنا الإيمان إلى البحث عن الحقيقة والعدل بصفتهما الإطار العام للبحث عن معنى الحياة الحقيقيّة (Zoé). فلا خلاص إلا بالمرور بالصليب ولا قيامة من دون موت. الحياة الأبديّة هي الجواب عن معضلة وجود الإنسان وألمه، ووجود الشرّ وموت الإنسان في هذا العالم. وسرّا المعمودية ومغفرة الخطايا قادران أن يدخلانا في عيش موت المسيح وقيامته واستباق قيامة الموتى.
5. المعموديّة
يتساءل مار بولس، في رومة 6، 1-24، عن معنى حياتنا وقد متنا مع يسوع عن الخطيئة. فالمعموديّة هي التي تُدخلنا في الحالة القياميّة إذ تُدخلنا في موت المسيح وقيامته، وفي شراكة مصير معه، بما في ذلك مصير موته : “إنّما اعتمدنا في موته فدُفنَّا معه في موته بالمعموديّة لنحيا نحن أيضًا حياة جديدة”. فإذا اتّحدنا بالمسيح في المعموديّة، نتّحد به في موته وقيامته فإنّنا “سنكون على مثاله في القيامة” ونؤمن “بأنّنا سنحيا معه”. ويضيف مار بولس للمسيحيّين في رومة : “إعتبروا أنفسكم أحياء قاموا من بين الأموات” وأنّكم تحملون هبة الله التي هي “الحياة الأبديّة”. فنحن نشارك يسوع منذ الآن بموته وقيامته وبرجاء الحياة الأبديّة. والشراكة مع الله منذ لحظة المعمودية، ولو حتى بغير استحقاق من قبلنا، هي الدخول في حياة لا نهاية لها، ولا يعتريها الشرّ الهدّام والموت. هكذا تتخذ القيامة طابعًا رمزيًّا أسراريًّا، وتضمّنا إلى جسد يسوع القائم من الأموات. ونحن لسنا هنا أمام مجرّد أفكار عن القيامة، بل مرتبطون ارتباطًا وثيقًا بشخص المسيح الذي مات وقام. والارتباط بيسوع هو منذ الآن قيامة أيضًا : “من آمن بي، وإن مات فسيحيا” (يوحنا 6، 25). ولا تظهر القيامة بحدث رؤيوي بعيد، بل بحدث يتمّ هنا والآن.
فبالمعمودية نُعتق من الخطيئة ونولد ثانية ميلاد أبناء الله، ونصير أعضاء للمسيح، ونندمج في الكنيسة، ونصبح شركاء في رسالتها. ورمزيّة المعموديّة في التغطيس في المياه إلى “دفن الموعوظ” في موت المسيح وخروجه، بالقيامة معه، خليقته الجديدة (2 قورنتس 5، 15؛ غل 6، 15).
المعموديّة هي أجمل وأبهى عطية من عطايا الله. وثوب عدم الفساد وغسل الميلاد الثاني[30]. المعموديّة تضمّنا إلى جسد المسيح. “أوَلسنا، من ثمّ، أعضاء بعضنا لبعض” (اف 4، 25). ومن أجران المعموديّة يولد شعب الله الجديد الذي يتخطى كلَّ الحدود الطبيعيّة والبشريّة القائمة بين الأمم والثقافات والأعراق : “إنّا قبلنا المعمودية جميعًا في روح واحد لنكون جسدًا واحدًا” (1 قو 12، 13). وأخيرًا نقول مع القديس إيريناوس : إن المعموديّة هي “ختم الحياة الأبديّة”. فالذي يحفظ الختم سالمًا حتى النهاية، في وسعه أن يحيا “موسومًا بوسم الإيمان”، بانتظار رؤية الله الطوباويّة السعيدة وفي رجاء القيامة. بالمعموديّة يتّحد المؤمن بالمسيح، ويدخل إلى الحياة الأبديّة بانتظار اللقاء النهائي. والمعموديّة تحقّق عبور حدود الموت هنا والآن، وكلّ إنسان في المسيح هو في الحياة، وفي الحياة الأبديّة، وبصورة نهائيّة.
6. الافخارستيا
عندما انتقل المسيح من هذا العالم إلى أبيه في السماء، ترك لنا سر الافخارستيّا كعربون المجد لديه. فعندما نشترك في هذه الذبيحة المقدّسة ننتقل إلى الحياة الأبديّة، ويشوّقنا هو إلى الحياة الأبديّة، ويضمّنا منذ الآن وفي لحظات اتّحادنا به إلى السماء. هكذا تتحقّق كلمات يسوع : “من يأكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد… وتكون له الحياة الأبديّة وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (يوحنا 6، 51-54).
نجد في الافخارستيّا تفاعل عطية الربّ. فعندما تحتفل الكنيسة بالافخارستيا، يجعل ذكر موت الرب وقيامته، حدثًا حاضرًا بالحقيقة في آنيّة الكنيسة، وهكذا يتمّ عمل الفداء[31]. فالمسيح، في الافخارستيّا، يُظهر لنا حبًّا يصل إلى النهاية (يو 13، 1)، حبًّا لا يعرف مقدارًا. هكذا تؤمّن الافخارستيّا لإنسان اليوم المصالحة التي حصل عليها المسيح نهائيًّا لبشرية الأزمنة كلّها في حدث موته على الصليب. وفي الافخارستيّا تصبح ذبيحة الصليب حاضرة في الزمن، كما تجعل سر قيامته حاضرًا في الزمن لكون المسيح حيًّا وقائمًا من بين الأموات خبزًا حيًّا (يو 6، 51). هكذا يصبح اتّحادنا حميمًا بالمسيح من خلال المناولة. هكذا تصبح الإفخارستيّا “عربون المجد الآتي”. فالمؤمن يملك منذ الآن، على الأرض، الحياة الأبديّة ويحصل على ضمانة القيامة. هكذا نستوعب نوعًا ما سرّ القيامة. هنا نقول مع إغناطيوس الانطاكي إن الخبز الإفخارستيّ هو “دواء للخلود وترياق لعدم الموت”[32].
بالافخارستيّا نتّحد بالليتورجيا السماويّة، مشاركين جمهور القدّيسين والرسل والشهداء قائلين : “الخلاص يعطيه إلهنا الجالس على العرش والحمل” (رؤيا 7، 10). فالافخارستيّا هي “زاوية من السماء تطلّ على الأرض وشعاع من مجد أورشليم السماوية يخترق غيوم تاريخنا وينير سبيلنا”[33].
هكذا تولّد الافخارستيّا مبدأ رجاء حيّ يوميًّا ينشط فينا معنى مسؤوليّتنا تجاه أرضنا وتجاه التاريخ : كالعمل من أجل السلام، والتضامن، والعدالة… ففي مثل هذا العالم ينبثق مجدّدًا الرجاء المسيحيّ. “فغسل الأرجل” هو حدث مكمّل للافخارستيّا يدعونا فيه الربّ إلى خدمة البشريّة. هكذا نحن مدعوون لتحويل الحياة لكي تصبح، بطريقة ما، “إفخارستيّة” بالكلية. هكذا نستبق، نوعًا ما، السماء على الأرض.
وفي نهاية البحث يمكننا أن نقول اوّلاً إن العنصر الجديد الذي يفصل العهد القديم عن العهد الجديد هو الإيمان بالربّ القائم من الأموات، وبحضور حياته الدائم معنا. هذا ما يجعل الإيمان المسيحيّ يتخطّى الشريعة ويعيش من خلال الأسرار والحياة المسيحيّة الملتزمة “القيامة” في لحظات الحياة اليوميّة. فهو يتطلّب دائمًا، ويستوحي الروح القدس لكي يحوّل هذه الحياة العادية إلى حياة قداسة ومحبّة وعطاء، على غرار حياة المسيح الإفخارستيّة. وكل الصور المستعملة في العهد الجديد للتعبير عن القيامة لا تصف أمكنة معيّنة في السماء، بل انّها تعبّر عن أن المسيح هو النور الحقيقي، والحياة الحقيقيّة والطريق إلى السعادة. ليس الكتاب المقدّس لاهوتًا منهجيًّا يعرض الحياة بعد الموت بطريقة منهجية. هناك نصوص وخيالات حاولنا أن نجمعها وأن نضعها تحت مجهر تساؤلاتنا حول مفهوم هذه الحياة ما بعد الموت. فالعهد الجديد يقدّم لنا الحدث الإيماني الأهم والأعظم قيامة يسوع وقيامة الموتى وارتباطهما بالقائم والحاضر على الدوام وإمكان تحقيق عيشها ضمن الأسرار وبشكل خاصّ ضمن المعموديّة والافخارستيّا. ورجاء العهد الجديد هو “أن الأموات يحيون في المسيح”. هكذا تتحقّق عدالة الله، وهكذا نتغلّب على الموت والشرّ والألم في هذا العالم. وهكذا يصبح صليب المسيح جسر عبور إلى المجد الآتي والسعادة الحقيقيّة لكلّ البشريّة.
[1] راجع فويرباخ، في جوهر المسيحية.
Ludwig FEUERBACKH, L’essence du Christianisme, Paris, 1973, pp. 271-281.
[2] إرنست بلوخ، مبدأ الرجاء.
Ernst BLOCH, Das prinzip hoffnung, Frankfort, 1959, p. 1457 ; Le principe espérance, Paris, 1991.
[3] أعمال الرسل 23، 7-8. عندما حاورهم بولس حول هذا الموضوع. كان الصدوقيّون ينتمون في مجملهم إلى الطبقات الغنية وإلى الكتّاب والكهنة. وكانوا يعلّقون أهمية كبرى على الشريعة وحدها من دون غيرها. هذا ما أكّده أيضًا المؤرّخ اليهودي في القرن الأوّل فلافيوس جوزيف في كتاباته، منها: العادات اليهودية 16 -17 Antiquités juives، وحروب اليهود 162 – 166 Guerre des juifs؛ راجع كتاب سامي حلاق اليسوعي، مجتمع يسوع، تقاليده وعاداته، بيروت، دار المشرق، 1999، ص 72؛ J. Lemoine, Les sadducéens, Paris, Gabalda, 1976, p. 36.
[4] مرقس 12، 18-27؛ متى 22، 22-33؛ لوقا 20، 27-40.
[5] “وكان عمر إسحق مئة وثمانين سنة. وفاضت روح إسحق ومات وانضمّ إلى آبائه شيخًا شبع من الحياة” (تك 35، 28-29).
[6] هناك بعض التشابيه في مفلسفة ابيقور Épicure حوالي 210-341 قبل المسيح، ولدينا منه رسالة إلى مينسي Lettre à Ménécé حيث طرح أفكاره ضد خلود النفس عند أفلاطون. راجع الرسالة إلى مينيسي Garnier et Flamarion, Paris, 1965. أما تلميذه لوكريس Lucrèce فعاش حوالي 100 إلى 55 قبل المسيح وكان له الأثر في الفلسفة اليونانيّة الأبيقوريّة التي واجهها بولس في قورنتس : “فلنأكل ولنشرب فقد نموت غدًا” (1 قورنتس 15، 23).
[7] راجع الكاردينال جوزيف راتسينجر، البابا بنديكتوس السادس عشر، في كتابه الاسكاتولوجيا، الموت والحياة الأبدية، نقله إلى العربية من الألمانية المطران كيرلس سليم بسترس، المطبعة البولسية، 2011، ص 84.
[8] G. Von RAD, Théologie de l’Ancien Testament, I, Genève, Labor et Fides, 1967, pp. 241 et 271.
[9] A. CAQUOT, La Bible, écrits intertestamentaires, Paris, Bibliothèque la Pléiade, Paris, 1987, p. 497.
[10] راجع بولس الفغالي، أخنوخ سابع الآباء، ص 60-61.
[11] المرجع ذاته، ص 61.
[12] Le livre d’Henoch, p. 159.
[13] راجع بولس الفغالي، أخنوخ سابع الآباء، كتاب الأمثال، ص 77.
[14] المرجع ذاته، ص 78.
[15] إش، 11، 2.
[16] راجع بولس الفغالي، أخنوخ سابع الآباء، ص 81.
[17] المرجع ذاته، ص. 85.
[18] راجع أيضًا دراستنا حول معنى قيامة المسيح : خليل شلفون، “قيامة يسوع وقيامة المؤمنين، البعد الاسكاتولوجي لقيامة يسوع المسيح”، مار بولس رسول الأمم، منشورات جامعة الحكمة، بيروت، 2010، ص 413-432.
[19] دنستنغر، 30.
[20] دنتسنغر، 150.
[21] دنتسنغر، 587.
[22] بنديكتوس الثاني عشر، في كتابه Cum dudum ، سنة 1341، 18؛ د. 1011.
[23] دنتسنغر 485، استنادًا إلى متى 27، 52-53.
[24] التعليم المسحيي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 634.
[25] J. Moltmann, le Dieu crucifié (الإله المصلوب), Paris, Cerf, 1974.
[26] راجع بلتزار، انحدار يسوع إلى الجحيم.
Revue Communio , tome XXXVII, 2012, 1-2, pp. 82-83.
[27] المجمع الفاتيكاني الثاني، بيان في الديانات غير المسيحية، عدد 2.
[28] المرجع السابق، عدد 3،
[29] المرجع السابق، عدد 4.
[30] غريغوريوس النزينزي، خطاب، 40، 3-4.
[31] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 1085.
[32] الرسالة إلى الأفسسيين، 20.
[33] الطوباوي يوحنا بولس الثاني، الافخارستيا حياة الكنيسة، حاضرة الفاتيكان، 2003، ص 25.