Almanara Magazine

العلمانية والايمان وحقوق الإنسان

وائل خير [1]

أخذ علماني فرنسي على مسيحي في حوار على الشاشة تاريخ المسيحية المشين وانتهى إلى إن ابرز سمات حضارتنا،حقوق الإنسان، هي من نتاج الفكر العلماني الذي حاربته الكنيسة طوال تاريخها.

بسط العلماني ببلاغة ان حقوق الإنسان هي من نتاج الفكر العلماني في فترة عصر الأنوار . من استنبط هذه الحقوق  وطوّرها ووضعها موضع التطبيق هم ملحدون كديديرو وهولباخ أو معادين للاكليروس كفولتير، ومن لم تنضوي من الفلاسفة والمفكرين في هاتين المدرستين كان من الامبيريست كلوك وهوبس وبنجامين فرانكلين وبعض قيادات الثورة الفرنسية الذين اقروا وجود خالق لكن رفضوا الكتب المقدسة ورعاية الخالق لخلقه بل رأور الله بمثابة صانع ساعة، يخلق قطعها، يجمعها، يشحنها ويتركها تعمل بالاستقلال عن أي شكل من أشكال التدخل من قبله.

انتقل المفكر البليغ بعدها إلى تاريخ حقوق الإنسان. الإعلان الأول كان في فرنسا في مطلع الثورة الفرنسية وفي خضّم معاداة الكنيسة والنظام القديم. حتى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 فقد قام بنقاشه وصياغته ممثلو دول ضمتهم لجنة لم يكن احد من أعضائها رجل دين آو حتى خرّيج معهد لاهوت بل كان جلهم علمانيين وقدر غير بسير من الملحدين.

وكما هي العادة، أسهب العلماني في بسط تنكّب الكنيسة في تاريخها الطويل للحريات الدينية واضطهاد العلماء واستغلال الفلاحين واستعادها الدائم لنصرة الأنظمة القمعية.

هو عرض سليم حسن السند ويورد بينّات لا يمكن ضحضها. ومع ذلك يبقى خاطئا ليس بسبب ما ذكر بل لما اخفى.

أصاب المدافع عن العلمانية في كل ما نسبه إلى الكنيسة. لكنه أخطا في الإيحاء بان العلمانية هي الحل. ان اخطاء الكنيسة وتجاوزاتها التي بلغت حدود ارتكاب مجازر جماعية ليست محل إنكار. غير أن انظمه الحكم العلماني، بدورها، لم تكن أحسن حالا. لا بل العكس. ما من إبادات جماعية ومجازر مخيفة في التاريخ تقارن بالمجازر الاربعة الكبرى في القرن العشرين: الشيوعية تحت لينين وستالين في الاتحاد السفباتي، الصين، كمبوشيا (كمبوديا) والرايخ الثالث.  هؤلاء الطغاة دون استثناء، كانوا من العلمانيين الذين اسرفوا في القتل وتركوا وراءهم ما يزيد على 150 مليون ضحية في عدادها ثلث سكان كمبوديا الذين ابيدوا في 3 سنوات حكم فيها بل بوت.

للأنظمة العلمانية، من عدّجنا ومن اسقطنا، باع طويل في قمع حريات التفكير والاعتقاد ومعظمها اسرف في الفساد. أي فضل يبقى لسجل الانظمة العلمانية اذا قورنت بالدينية؟

غير ان الايديولوجيات العلمانية لا تفسير لها لفشل انظمتها بينما يعطي اللاهوت تفسيرا لقصور الكنيسة.  التفسير العلماني المتفائل الذي يؤمن بان البشرية تترقى وان كل الرزايا هي من خارج الانسان، يسقطها نظام اجتماعي-اقتصادي –للماركسيين- على الانسان، ومن اختلاط الاعراق – في الفكر النازي- تحوّل الاصل الخّير للانسان الى نقيضه، يفشل في تفسير كيف ان وصول العلمانيين الى السلطة واستئثارهم بالحكم لم تقضيا على الشر والفساد والضغينة والخيانة والتآمر. في المقابل ثمة تفسير لاهوتي لقصور الكنيسة.  الكنيسة جزء من بينة الانسان ولايمكن لها، وهي في عالم الخطيئة، الا ان تخطىء وان تاثم. مدينة الله، للمسيحي، هي ما يصبو اليها ويسعى جاهدا على تحقيقها لكنها لن تتحقق الا في نهاية الازمنة.

على اهمية هذه الحجة، ليست هي بالاقوى. ثمة حجج اعمق تظهر ضحالة الفكر العلماني ان قوبل بالفكر اللاهوتي.

ينهض الفكر العلماني على بنية فلسفية تنادي بان المادة هي اساس الوجود وان العالم وجد بالصدفة وان الكون بدأ بالانفجار الكبير  وان الحياة كانت بفضل تخُثر في التراب تحت حرارةمناسبة كانت مصدر الحياة التي نمت وارتقت عبر بلايين السنين.

لو صحّت هذه المقولة لقضت على كل ميزة للانسان اذ لا يكون الانسان الا جزءا ضئيلا جدا من هذه” الصدفة الكونية” لا يميزه شيء عن اي من مكّوناتها ما عدا العقل. هنا يتدخل العلماني ليقول: :”الا يكفي العقل؟ حسبي العقل ينزل الانسان منزلة تفوق سائر الموجودات.”

ذاك هو موقف الفلاسفة الماديون – الانسانيون الذين يقولون ان تفوّق الانسان على سائرالموجودات يعود الى ملكته العقلية منه وصفه بالهومو سابين (الانسان العاقل) وهي صفة استبدلها كارل ماركس بالهومو فابر، (الانسان العامل) لان الانسان يحقق ذاته بالعمل، يبدّل الطبيعة بتحوبله لها الى الافضل والعمل،بدوره، يحوّل الانسان نحو الافضل. لكن القول باختصاص الانسان  بالملكة العقلية دون سائر الموجودات ربما حلّ مسألة تفوّق الانسان لكنه يوّلد مشكلة مساواة البشر.

لايمكن لحقوق الانسان ان تؤسس لا على الامتياز العقلي للانسان ولا على اختصاص العمل الواعي به ذلك اننا في كلتا الحالتين لابد وان نواجه تفاوتا في الحقوق. فان كان سبب الامتياز الانساني العقلي، فلا بد، ان اعملنا المنطق، ان ننتهي الى تفاوت بين الناس في الحقوق بسبب تفاوتهم في الملكات العقلية. كذلك في نظرية العمل والانتاج كاساس لتفوّق الانسان، فيحتم منطقيا تفاوت الحقوق بتفاوت مستوى الانتاج واهميته.

هذا المازق في الفكر العلماني لا يقوم في نظرةالدين للوجود وللانسان. الوجود كان من تصميم خالق واعي يعود تنظيم الكون الدقيق من اكبر مجرّاته، الى اصغر خلاياه وجزئياته، الى خالق منظم زلا يمكن ان يكون بالصدفة. ثم ان هذا الخالق، في الفكر الديني، توّج خليقته بخلق الانسان على صورته. الصورة الالهية هي ختم الله في كل انسان على اختلاف اللون والعرق والجنس والمنزلة الفكرية والاعاقة. ثم ان احترام كل انسان وصيانة كرامته لا يمكن ان تؤسسس منطقيا الا على اساس صورة الله الثابتة في كل منا.

لنتناول ببعض التفصيل اساس الانتروبولوجيا الديني.

حقوق الانسان  في الاديان

لم يأت الاعلان دون مقدمات ذلك انه ثمرة تطورات طويلة  على المستوى الديني والصعيد العلماني. كما ان ظروفا طارئة واستثنائية وشديدة الخصوصية أدّت الى صياغة هذا الإعلان وإقراره في قصر شايو في باريس في 10 كانون الاول ( ديسمبر) 1948.

ما هو الأساس الديني للإعلان العالمي لحقوق الانسان؟

تهتم جميع الاديان بالانسان بحيث لا يوجد دين واحد لا يكترث بهذا الكائن الفريد.

الاديان هي مجموعة أجوبة مختلفة لتساؤلات الانسان المصيرية. من هو الله؟ ما هو الوجود؟ من هو الانسان؟ ما سبب وجوده؟ ما مصيره؟ من هو الآخر؟ لماذا يوجد شر في العالم؟ ما هو الموت؟ هل الموت نهاية الوجود؟ وغيرها من أسئلة نهائية لا تتقيد بزمان او مكان طرحها الانسان مذ كان وما زال يتطارحها.

لم يتطرق الاعلان العالمي لحقوق الانسان لهذه السلسلة من الاسئلة لكن اللجنة التي اعدّت مسودته لم يكن في وسعها التفلت كلية من بعض هذه الاسئلة النهائية . كل سرد لحقوق الانسان لا بد وأن ينطلق من مفهوم للإنسان بحيث يستحيل وضع الحقوق ما لم يكن في صلب منطلقها ان الانسان كائن ذات أهمية خاصة وفريدة يبنى عليها سلسلة من الحقوق والحريات تتماشى مع اهميته وفرادته. بعض اعضاء اللجنة انتموا الى مدارس  فلسفية ذات طروحات ترفع من شأن الانسان فيما  آخرون من اعضاء اللجنة وجدوا أجوبتهم في إطار مفاهيم دينية استمدوا منها حريات وحقوق تلتقي وتلك التي توصل اليها اترابهم عن طريق  البحث الفلسفي.

لم تكن جميع الاديان ممثلة في لجنة إعداد الإعلان. و حتى بين أعضاء اللجنة المؤمنين بدت غلبة واضحة للفكر المسيحي، خاصة البروتستانتي، و الفكر اليهودي بوجهه العلماني بشخص رينيه كاسان مندوب فرنسا.

ان الدور البارز الذي اسهم به الفكر المسيحي واليهودي وهامشية مشاركة سائر الاديان يمكن تفسيرها على ضوء  مركزية الحضارة الغربية  وترامي تأثيرها  وقت إعداد الإعلان . هذا الرجحان الطاغي للفكر والاديان الغربية لا يبرر البتة تنّكر سائر الاديان لمحتويات الإعلان ذلك ان القيم التي نادى بها الاعلان تتماشى مع تلك التي تقوم عليها سائر الاديان او يمكن لها ان تتبناها او ان تتكيّف معها

المفهوم اليهودي للإنسان

أدخلت اليهودية تحولا كبيرا في مفهوم الاديان للانسان.الإنسان في الاديان ما قبل اليهودية كان طفيليا على الوجود تتعامل معه الآلهة بكثير من الخفة والهزء وايضا تمعن في إضطهاده. يبرز لقاريء سفر التكوين إنسان آخر . الله، وإن كان وجوده منذ الازل ، فإنه يظهر لنا بصفة الخالق بحيث لا توجد كلمة واحدة في العهد القديم تتحدث عن الله قبل الخلق. ليس الله لنا هو اله العدم بل انه اله الخلق الذي خلق الكون على نحو تصاعدي  بلغ ذروته في اليوم السادس عندما خلق آدم.

يعبّر لفظ آدم على الانسان عامة (ايوب 1:14)،او عن الناس قاطبة (اشعيا12:6)،أو عن شخص ما (جامعة 12:6)و(زكريا  5:13)،أو عن “أحدهم”( 1 ملوك 46:8)، (مزمور 14:105) أو عن “الذات البشرية” (هوشع 4:11،مزمور 11:94) والمعنى الجماعي،اي الانسان, هو الغالب بشكل واضح.

وينطبق الامر عينه على عبارة”ابن آدم” التي لا تشير الى شخص فرد بل توازي لفظ “إنسان”(ايوب 6:25،مزمور 5:8) ولهذا الواقع التفسيري إنعكاس لاهوتي.  آدم الاول ليس فردا بل هو الانسان وهذا ما يستقى من الإنتقال من صيغة الفرد الى صيغة الجمع في كلام الله الخالق :”لنصنع الانسان على صورتنا كمثالنا…وليتسلطوا” (في الاصل العبراني.(

تستوقفنا ايضا عملية الخلق. فالله خلق جميع الكائنات بالقول باستثناء الانسان. “جبل الرب الاله آدم ترابا من الارض ونفخ في انفه نسمة حيوة.فصار آدم نفسا حية.(تك 7:2) وفي وصف في الاصحاح الاول يقول الكتاب”فخلق الله الانسان على صورته.على صورة الله خلقه.ذكرا وأنثى خلقهم.”(تك27:1)

كثيرة هي التفاسير لعبارة “صورة الله” “بت سالم” في العبرية و الImago Dei في اللاتينية.

يقول الراباي دانيال بوليش في تفسيرة “صورة الله” ان الراباي اكيبا إختصر التوراة بجملة واحدة:”أحبب  جارك كنفسك” لكن الراباي بن آزاي راى في “خلق الله الإنسان على صورته” أبلغ ايجاز للتوراة.

في الميكلتا، التفسير الرباني لسفر الخروج، نقرأ تنديدا بالقتل:”إن قتل أي انسان يسيء الى  صورة الله وينتقص الحقيقة الالهية.”

ذهب معظم المفسرين الى ان خلق الله الانسان على صورته تعني ان الخالق خصّ الانسان  بالخلود والقدرة العقلية والارادة الحرة.  لكن هذه الخصائص ،خاصة الارادة الحرة، لها ان تكون نقمة على الانسان وتضعه في منزلة دون منزلة جميع المخلوقات ان اساء استعمالها وبالتالي لا بد معها من طرح مسألة عدل الله. كيف يكون الله عادلا عندما يخلق في الانسان قدرة الخطأ والصواب ويحاسبه حسابا عسيرا على إمكانية الخطأ وهي من مفاعيل  الحرية التي نفخها الله في الانسان. ألا يكون  الله اكثر رأفة بالإنسان لو خلقه حشرة  لا تخطيء ولا تصيب ولا تكون عرضة للدينونة?

هو إحتجاج مقنع  لو لم  يضف الله  رحمته الالهية  الى الحرية الانسانية.  الرحمة الالهية والاستفقاد بدت فور عصيان  آدم وحواء  وصية الله. “فرأت المرأة ان الشجرة جيدة للاكل وأنها بهجة للعيون  وأن الشجرة شهية للنظر. فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها ايضا معها فأكل.فإنفتحت أعينهما وعلما انهما عريانان.فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر. وسمعا صوت الرب الاله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار.فإختبأ آدم وإمرأته من وجه الرب الاله في وسط شجر الجنة.فنادى الرب الاله آدم وقال له اين انت.”(تك3: 6/9(.

للعهد القديم ايضا دور في تطوير بعض المفاهيم التي باتت في صلب حقوق الانسان.

الى جانب مفهوم السلام الذي بز فيه العهد القديم جميع تراثات البشرية، هناك مؤسسة الانبياء التي نجد أثرا بارزا لها في الفكر الانساني  كما وجدت بعض مفاهيم النبوة طريقها الى الاعلان. يجب التمييز بين الانبياء والعرافّين في تراث  الشعوب القديمة  خاصة تراث الاغريق.ألعرّاف عند اليونان،واشهرهم عرّافة ابولون في دلفي التي أعطتها الآلهة ملكة التنبوء بالمستقبل. لكن  القدر عند اليونان،  الMoira      ،لا مردّ  لحكمه  بحيث  تتحول  محاولات الإنسان  التملص   من    قدره

تحقيقا لمصيره المرسوم . ابرز إظهارلعبث هروب الإنسان من مصيره نراها في مأساة سوفوكليس “أوديب الملك”.

من هم الانبياء في العهد القديم؟

ان الذي يحرك الانبياء هو روح الله ذاته فإنهم من الله يستمدون الكلمة. والموهبة الروحية بالنبوة هي موهبة وحي (عاموس 7:3)،”إن السيد الرب لا يصنع أمرا إلا وهو يعلن سرّه لعبيده الأنبياء.”إرميا   (33 :19) “ثم صارت كلمة الرب الى إرميا قائلة.” و2( ملوك 6 : 12) “...لكن اليشع النبي في إسرائيل يخبر ملك إسرائيل بالامور التي تتكلم بها في مخدع مضجعك.” ما هذه  الاستشهادات إلا نماذج  تسفر عن احدى سمات النبوة التوراتية وهي إن  القوى الذاتية للإنسان ،بالاستقلال عن الإختيار الالهي ، لا تؤدي الى الكشف النبوي.

وطوال حقبة طويلة من الزمن مثل النبي والكاهن والملك الاقطاب الثلاثة لبني إسرائيل. بالرغم من ذلك فإن العمل النبوي  لم يكن نظاما مؤسسيّا على غرار الملكية والكهنوت. “يستطيع بنو إسرائيل ان يقيموا لهم ملكا”(تثنية 17: 14-15)و لكن “لا يستطيعون ان يقيموا نبيا، لأن النبي محض عطية من الله وموضع وعد(تثنية 18: 14-19)، ولا يمنح إلا منحا حرا، ويتضح ذلك جيدا في الفترة التي تنقطع فيها التعاليم النبوية (1 مكابيين 9: 27).

يخاطب النبي العالم سواء أسمع أم لم يسمع (حزقيال2: 5) ““وهم إن سمعوا أو إمتنعوا”.  و7 “وتتكلم معهم بكلامي إن سمعوا أو إمتنعوا لانهم متمردون. ” و3: 11 “وإمض إذهب الى المسبّين الى بني شعبك وكلمهم وقل لهم قال السيد الرب إن سمعوا وإن إمتنعوا.”و (3 : 27)” “…فتقول لهم هكذا قال السيد الرب. من يسمع فليسمع ومن يمتنع فليمتنع.”. والنبي يؤنّب دون سلطة يستمدها من المجتمع، ولا الى علم يأخذه عن آخرين ، ولكن بمقتضى ما يوحيه الله اليه فيقول للخاطىء، كما قال ناثان لداود“انت هو الرجل“(2 صموئيل 21: 20) كما يعترضون بشدة على العادات الجارية التي تخالف الشريعة من عدم دفع الاجر (إرميا 22: 13)”ويل لمن يبني بيته بغير عدل وعلاليه بغير حق الذي يستخدم صاحبه مجانا ولا يعطيه أجرته.” و(ملاخي3 : 5)” وأقترب اليكم للحكم وأكون شاهدا سريعا على السحرة وعلى الفاسقين وعلى الحالفين زورا وعلى السالبين أجرة الاجير والارملة واليتيم ومن يصّد الغريب ولا يخشاني قال رب الجنود.” الى الغش (عاموس 8: 4)“إسمعوا هذا أيها الظامئون  الى دم المسكين وإفناء بائسي الارض. قائلين متى يمضي رأس الشهر فنبيع الميرة ، والسبت فنعرض البر مصغرين الإيفة ومكبرين المثقال ومستعملين موازين الغش.”و(هوشع 12: 8)””هو كنعان بيده ميزان الغش ويحب الظلم.” و( ميخا 6: 11)”أأكون زكيا وعندي ميزان النفاق وكيس معايير الغش.” ومادية القضاة (ميخا3: 11)“إنما رؤساؤها يحكمون بالرشوة وكهنتها يعلّمون بالاجرة وأنبياؤها يتخذون العرافة بالفضة ويعتمدون على الرب قائلين اليس الرب في وسطنا فلا يحل بنا شر.”و إشعيا 1: 23  “رؤساوك عصاة وشركاء للسراق.كل يحب الرشوة ويتتبع الاجور.لا ينصفون اليتيم ودعوى الارملة لا تبلغ اليهم.” و(5: 23)” (ويل) المزكين المنافق لأجل رشوة المحرفين على الصدّيق حقه.”فرفض تحرير العبيد في الوقتالمناسب “.إرميا 34: 8-22)، فقسوة المقرضين (عاموس 2: 8)”ويضّجعون على ثياب مرهونة بجانب كل مذبح.” والذين “يطحنون وجوه البائسين” (إشعيا3: 15(.

على ان الانبياء منذ زمن عاموس يعّلمون ان الله لا يمكنه ان يعاقب فحسب. بل “يأتي الله ليقلع ويهدم، وليهلك وينقض، وليبني ويغرس“(إرميا1: 10). لقد نكث بنو إسرائيل العهد، إلا ان ذلك لا يعني ان كل شيء قد انتهى. إن الله بعد العقاب سينتصر ويمنح الصفح والغفران، ولكن دون إلتزام من جانبه (حزقيال 16: 61)، من اجل مجده فقط (إشعيا 48: 11). فالعهد لا يقوم له معنى إلا بالمحبة، ومع المحبة لا سبيل الى المحاسبة، بل تكون المغفرة متوقعة.

تكون النبوآت بعد تحقيقها علامات من أجل المستقبل البعيد-أو تلك النهاية في التاريخ- وهي الموضوع الجوهري الذي تقصده النبوة. غير ان الطريقة التي تتطلع بها مسبقا الى ذلك المستقبل البعيد تندمج دائما في تاريخ بني إسرائيل الجسدي، ولكنها تبرز مصيره النهائي والعالمي الشامل.

من هذا العرض العام للنبوة عند بني إسرائيل نستخلص السمات التالية :

1-يتكلم النبي باسم الله وليس باسمه الشخصي.

2-يستعمل الانبياء اسلوبا يتميز غالبا بالزجر والتنديد والوعيد.

3-يتنبؤون بأحداث في المستقبل وتتم تنبؤآتهم.

4-جميع الانبياء،دون استثناء، ذوي غيرة كبيرة في الدفاع عن الارامل والايتام والفقراء.

5- يتوجه جميع الانبياء في العهد القديم الى جميع أفراد الجنس البشري. هذا البعد الانساني الشامل يكاد يكون فريدا وينحصر في التراث العبري النبوي.

6-بالرغم من ان الله اعد خطة له, غير انه يبدو دائما على استعداد لتبديل خطته إن بدّل الانسان مسلكه.

سنرى كيف لعبت هذه السمات،خاصة الرابعة والخامسة والسادسة دورا في الاعلان العالمي لحقوق الانسان.

المفهوم المسيحي للانسان

لاتتردد  المسيحية  بقبول المفهوم العبراني للإنسان وبالتحديد الخلق ومركزية الانسان في الخليقة كما انها تشدد تشديدا كبيرا على تراث العهد القديم النبوي.

معجم التفسير المسيحي يوضح  “صورة الله” بإيجاز فيقول:”صورة الله عبارة تنسب بوجه خاص الى الاقنوم الثاني من الثالوث الاقدس (قول:1/15).”الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة.” وتنسب الى الانسان بصفته يعكس مجد الله، لأن عقله قادر على معرفة الله ومحبته )تكوين:1 /26-27)“فخلق الله الإنسان على صورته.على صورة الله خلقه.ذكرا وأنثى خلقهم.”

أما الافتقاد فيأخذ شكله الاكمل والنهائي بالتجسدّ. ما هو التجسد والى أي مدى يشدد على أهمية الانسان؟

الكثير مما تنادي به المسيحية يجد اصداء في الاديان الاخرى. غير ان على رأس ما تنفرد به المسيحية عن سائر الاديان هو ايمانها بأن الله اتخذ له صورة إنسان وتجسّد بها. تجسّد الله بالإنسان يقدسه مرة أخرى بعد تقديسه  اياه  بخلقه على صورته.

ثم إن التجسد كان في رحم امرأة فقيرة أطاعت الله دون تردد “انا أمة الرب فليكن لي كما قلت.” (لوقا 1: 37 ). كما كرّم التجسد  الفقراء والمشردين والغرباء ذلك إن الوضع اتى مريم في مغارة بعدما لم تجد مأوى لها في أرض غريبة.”فولدت إبنها البكر وقمطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل.” (لوقا : 2. 7)

تجد المسيحية نفسها  في صلب التراث البيبلي في عنايتها بالفقراء والجياع والعراة والمساكين. هئولاء هم صورة الله.من شاهدهم فقد شاهد الله ومن مدّ لهم يد المساعدة ساعده الله فوضعه على يمينه يوم الحساب من أمسك عن مساعتهم انزله الله على يساره.

في الوعظ على الجبل (متى :5)  دعوة الى البر والرفق بالآخر وتعزية للمضطهدين.”طوبى للمساكين بالروح.لأن لهم ملكوت السموات.طوبى للحزانى.لأنهم يتعزون. طوبى للودعاء.لأنهم يرثون الارض. طوبى للجياع والعطاش الى البر.لأنهم يشبعون.طوبى للرحماء لأنهم يرحمون.طوبى لأنقياء القلب.لأنهم يعاينون الله. طوبى لصانعي السلام.لأنهم ابناء الله يدعون. طوبى للمطرودين من اجل البر.لأن لهم ملكوت السموات. طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين…(متى1: 1-11)

وشارك في فرح التجسد الانسانية جمعاء بمجوس من المشرق سارعوا الىأرض الميعاد ليجسدوا  للمولود حاملين معهم هدايا ترمز الى صفاته الثلاث: الملك والكهنوت والفداء.”…إذا مجوس من المشرق قد جاؤا الى اورشليم قائلين اين المولود ملك اليهود فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا نسجد له.” (متى:2 :1).

 وبعد ان لعن الله الارض بسبب عصيان آدم –ملعونة الارض بسببك(تك17:3) نجد الطبيعة تتحضر لمصالحة الله معها بالتجسد. “..وإذ النجم الذي رأوا في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي.”(متى: 2 .9).

سير آباء الكنيسة ثبت لمحبة لا حدود لها للضعفاء والمساكين والارامل والمظلومين. ما كان بعضهم ليتردد في مواجهة الحكام الجائرين دفاعا عن المظلومين. و فيما البعض وفّقوا الى ردع  الحكام وحملهم على العودة عن غيّهم، كان مصير الكثير من هئولاء الآباء الموت عقابا لهم على جرأتهم. نخص بالذكرإحتجاج القديس امبروسيوس على الامبراطور ثيودوسيوس الكبير الذي قمع ثورة تسالونيكيا وقتل بكثير من الوحشية سبعة آلاف من سكانها.ارسل له امبروسيوس رسالة جريئة انّبه فيها على وحشيته مشترطا عليه التوبة وإلا حجبت عنه الاسرار. وخضع الامبراطور للتوبة العلنية في عيد ميلاد سنة 390.وقف القديس يوحنا الذهبي الفم رئيس اساقفة القسكنطينية(347-407) موقفا مؤنبا   للامبراطورة اودوكسيا غير ان الامبراطورة البيزنطية عبّات جميع المعارضين ليوحنا ونفته الى البحر الاسود حيث مات اثناء سفره الى المنفى. لقي توماس  بيكيت، رئيس اساقفة كنتربري (1118-1170) مصيرا مماثلا ليوحنا بسبب دفاعه عن حقوق الكنيسة في وجه الملك هنري الثاني إذ إئتمر عليه بعض النبلاء وقتلوه في الكاتدرائية.و فيليب متروبوليت موسكو(1507-1569) خنق في سجنه لمعارضته وحشية  ايفان الرهيب ورفضه منح الذبيحة الالهية للقيصر بسبب مجازره.” على من يتقدم لتناول جسد المسيح ان يكون مستحقا له” قال الاسقف الشجاع للقيصر في وجهه.

إذا استعرضنا الكنائس المسيحية الرئيسية الثلاث( الكاثوليكية والارثوذكسية والبروتستانتية) نجد مساهمة بارزة جدا من البروتستانت  في صياغة الاعلان العالمي لحقوق الانسان. فالاعلان   يتوجه الى الفرد.(كل انسان. أي انسان.كل شخص.كل فرد .أحد. الخ.) ففي أساس الإصلاح البروتستاني تركيز على الفرد وعلى علاقته المباشرة  والحميمة مع الله بحيث لا يرون الخلاص منوطا بوجود جماعة  المؤمنين بل بات الخلاص عمل إرادي يتم مباشرة بين الفرد والله دون المرور بأي حلقة وسيطة. التركيز على الفرد في صياغةالإعلان هو،دون شك، من مساهمة البروتستانت الذين تمثلوا بكثافة  في لجنة الإعداد.

وكان للبروتستانت دور مباشر في دعم حقوق الانسان وحرياته بعد عقدين على إقرار الاعلان العالمي لحقوق الانسان.في مقررات مؤتمر شهير لمجلس الكنائس العالمي عقد في بلدة اوبسالا في السويد عام 1968  جاء ما يربط بين شرعية قوانين وقرارات السلطة وتماشيها مع الانسان بحيث إذا تناقضت القوانين مع حقوق الانسان فقدت شرعيتها وبات من واجب المسيحي رفضها. لا ينحصر هذا الالزام برفض القرارات المخالفة لكرامة الإنسان  بالبروتستانت بل يتعداه الى الارثوذكس ذلك ان مجلس الكنائس العالمي يضم جميع الكنائس الارثوذكسية ومعظم كنائس الاصلاح البروتستانتي من لوثرية وكلفينية وانكلكانية وغيرها.

لم تكن الكنيسة الكاثوليكية عظيمة الحماس للإعلان العالمي عام 1948. صحيح انها لم تعارضه غير انها ابدت بعض  تحفظ حول المادة 18 التي تنادي بحق الإنسان في تغيير دينه دون أي قيد. لكن المجمع الفاتيكاني الثاني أطلق روحا تجديدية في أرجاء الكنيسة الكاثوليكية ونقلها من موقع المتحفظ الى موقع جديد بزّت به سائر الكنائس والهيئات الدولية.

تقول رسالة البابا يوحنا الثالث والعشرين( سلام على الأرض)   Pacem In Terris  في إحدى مقاطعها:

“…على كل مجتمع إنساني إذا شاء ان يكون حسن الإدارة ومنتجا أن يجعل في اساسه هذا المبدأ: إن كل انسان هو شخص أي انه بطبيعته قد منح عقلا وإرادة حرة. وبفضل ذلك يترتب للإنسان حقوق وواجبات تنبثق بصورة عفوية عن طبيعته هذه. فعليه تكون هذه الحقوق شاملةUniversal) ) )وغير قابلة للإنتهاك ( (Inviolable) وثابتة في شخصه (Inalienable) .

و تقول الرسالة البابوية التي صدرت عام 1962 في مكان آخر: “أي حكومة   لا    تعترف   بحقوق الانسان أو تنتهكها تكون قد فشلت في إداء وظيفتها، لا بل أكثر من ذلك:إن قراراتها تكون مفتقدة السلطة القانونية.”

الخاتمة

من دون الايمان تفقد الحياة معناها ولا يكون الانسان الا “صدفة” في كون متجه الى الزوال والى العدم الذي منه نشأ. في هذه الحال كيف يمكن لنا الا  ان نستجيب لمقولة البير كامو” لم يبقى الا سؤال فلسفي واحد مجدي: الانتحار”


[1]  محاضر في القانون الدولي والديمقراطية وحقوق الإنسان في الجامعة الأميركية – بيروت.

مدير تنفيذي لمؤسسة حقوق الإنسان والحق الإنساني ( لبنان). 

Scroll to Top