Almanara Magazine

“مَن هو أهلٌ لأن يفتح الكتاب” (رؤ 2:5).

الأخت كليمنص حلو[1]

        رؤيا يوحنا آخر كتاب في العهد الجديد، بختصرّ الكتُب جميعها” أي العهدين القديم والجديد. هذه الكتُب هي سرّ تاريخ العالم، تاريخ الخلاص، وهي تفتحه على المستقبل منذ الآن برجاء لا يخيب.

كلمة رؤيا (apocalupsis ) تكشف الحجاب عن السرّ، عن الكتاب المحكم الإغلاق “بسبعة أختام”. إسمه “رؤيا يسوع المسيح” أي رؤية وجه الرب الموحى به والموحِي في آن. وهذه الرؤية تُدعى بحقٍ “كتاب الحمل”. فالحمل هو بطل الرؤيا “المذبوح” ثم “القائم” المنتصر منذ البداية. إنه يحارب الشرّ حتى الغلبة الأخيرة حيث يُصبح اسمه “كلمة الله” (13:19). و”هذا الإسم مكتوب لا يعرفه أحد سواه” (12:19).

هذه الكلمة هي سؤالنا في هذه السنة (2012) المخصّصة “للكتاب المقدّس”. هذا ما وجّهته إلينا الكنيسة الغربية والشرقية في سينودوس الأساقفة (2010) نظراً لحاجة المشرق المسيحي في هذه الأيام العصيبة أن يعود إلى ركائزه ونقاط قوّته بالقول والالتزام. لذا تطرح السؤال ذاته علينا.

 سننتقي خمس لوحات من الرؤيا، نتساءل : كيف يُفتح الكتاب؟ ومن يفتحه؟ ولماذا؟ مع أنها بأكملها الجواب، نفهمها ونتأمل فيها ونصلّيها.

اللوحة الأولى: شهادة يوحنا الرائي بكلمة الله (2:1-3).

        هذه المقدّمة تُبّين مسلسل الرؤيا. إنه رسالة حُبٍ يبعثها الله لعباده، بلسان يسوع المسيح، وبواسطة ملاكه، ليخبر بها يوحنا بالتجلّي. هذا هو إسم الرؤيا بالسريانية “جليونو”، الجليان. من هذا التجلّي تنبع “الشهادة بكلمة الله وشهادة يسوع المسيح في كل ما رآه” النبي الشاهد، يوحنا الرسول، كما تسمّيه الكنيسة. وتلي هذه الشهادة تطويبة أولى (3:1) من أصل سبع تطويبات (13:14؛ 15:16 ؛9:19 ؛6:20 ؛ 7:22 و14).هذه التطويبة يستحقها مَن يعرف أن “يفتح “كلمة الله ويعيش منها. وهي تتطلّب أربع مراحل: القراءة والسماع والعمل بها وتهيّب ساعة النعمة ( Kairos ) لأنها تمرّ بنا سريعاً “كالطير”، تقول الأمثال. لذلك ضرورة الاستعجال في تلبيتها.

  • القراءة تتطلّب تعمقاً وتفهماً ووقتاً تنصبّ فيها الحواس كلّها على اكتناه كلمة الله والتأمل فيها وصلاتها للدخول في سرّها. هذا ما أوصى به تيودوريتس أسقف قورش في كتابه “أصفياء الله” (444) الذي يختصر فيه الروحانية السريانية المارونية. ولا عجب، فإن ليتورجيتنا وطقوسنا منسوجة بالكتاب المقدّس.
  • السماع: هو إصغاء في القلب لكلمة الله. إن إلهنا إله يتكلّم، في الصمت يتكلّم، لا في الضوضاء والدوران حول ذاتنا. ونسمع كلمة الله في قراءات الليتورجيا والقراءات الروحية التي نألفها، ونُقبل عليها بشوق و”نحفظها” كالعذراء في قلبنا وليس فقط في خزاناتنا وجواريرنا. “طوبى للذين لهم أذنان” مفتوحتان في الداخل، لا في الخارج فقط “فليسمع ما يقوله الروح للكنائس” أي للجميع ولكل مؤمن. هذا التوق تمليه الرؤيا في ختام كل رسالة إلى الكنائس السبع. وهي الدعوة إلى ملء السماع (2-3).
  • الأقوال النبوية: هي التي يوحيها الرب إلى النبي. والرؤيا كلها كتاب نبوي، كتاب شهادة بما “يراه” النبي في أعماقه. قد كانت النبؤة قد انقرضت في العالم اليهودي منذ ثلاثماية سنة. يقول الرب في سفر العدد: “إسمعوا كلامي: لو كان فيكم نبيٌ لي أنا الرب، لظهرت له بالرؤيا وخاطبته في حلم” (عد 6:12). والروح القدس هو الذي “ينطق بالأنبياء”. فالنبي في “كنيسة البقية” (رؤ 17:12) هو “عينها” التي تهديها وتوجهّها و”تترجم” لها ما تسمعه من الله من الرسائل وتراه من الرموز.
  • اقتربت الساعة: ساعة النعمة التي ابتدأت مع قيامة المسيح حتى المنتهى مهما طال الانتظار. “فالديّان واقف على الباب” (يع 9:5) و”ألف سنة في عيني الرب كيوم أمس الغابر”.

2– اللوحة الثانية الأساسية: الكتاب والحمل (رؤيا 5).

        هذه الرؤيا يسبقها في الفصل الرابع رؤيا الإله الخالق في سفر تكوين جديد. وفي الفصل الخامس، يطلّ “الحمل الذبيح والقائم”. وهذا هو معنى الرؤيا كلّها مع ما تريد أن تقوله لنا في أوقات الضيق العصيبة. إنها تذكرّنا بموت المسيح وقيامته.

        حملٌ كُلي القدرة والمعرفة “أتى وأخذ الكتاب من يمين الجالس على العرش. فسجد له الجميع: “الأحياء الأربعة” الذين يمثلون أربعة أقطار المسكونة و”الشيوخ الأربعة والعشرون” أي أسباط إسرائيل والرسل. إنّهم يتقدّمون أمام الحمل، مرّنمين ومقدّمين عطور البخور في “أكواب من ذهب” وهذه العطور هي “صلوات القديسين”. (8:5). هذه العطور ليست “للذبيح” التي قدّمتها حاملات الطيب للمسيح في القبر فحسب بل “للقائم من الموت. و”صلوات القديسين” يحملها الملائكة، خدَمة عرش الواحد القدّوس (طو 15:12). وتعالى “ترنيمهم الجديد” الذي لم يكن أحد سمعه من قبل. وهم يقولون: “أنت أهلٌ لأن تأخذ الكتاب وتفضّ أختامه، لأنك ذُبحت وافتديت بدمِك أناساً من كل قبيلة ولسان وشعب وأمّة”. وهذا الفداء بالموت والقيامة لن ينتهي بل يتجدّد لأن التسبيح يكتمل: “وجعلتَ منهم ملكوتاً وكهنةً لإلهنا يملكون على الأرض”. فالمملكة هي ملكوت الله السائر معنا وفينا وفي الأمم بل في الكون كلّه: إنّ الخليقة تئن منتظرة الخلاص”. والكهنة هم مَن يُجدّدون الوعد والعهد مدى الحياة.

        ويقول الكاتب، يوحنا الرائي، و”رأيت” “حملاً كأنه مذبوح”. وهذا الانتقال من “السمع” في الكتاب المقدّس، إلى الرؤية، من ميّزات آخر الكتُب، بعد الترجمة السبعينية إلى اليونانية، حيث اكتمل الصوت بالصورة. وهذا التحوّل هو عمل الروح القدس الذي “اختطف (الرائي) في يوم الربّ، وسط الليتورجيا. (10:1) ثم عند “انفتاح الباب في السماء” (2:4) وأخيراً عند رؤية المرأة الزانية (3:17). فالرؤيا هي التي تكمّل كل الرؤى في الكتاب المقدّس فاتحةً بصيرتنا على الرجاء والمستقبل.

        هذا “الحمل” الذي يتردّد اسمه في الرؤيا 29 مرّة هو المحور. عليه دلّ يوحنا الشاهد تلميذَيه: “هوذا حمل الله”. “فسمع كلامه التلميذان وتبعا يسوع” (يو 37:1). وعنه تنبأ إشعيا مئات السنين قبل المسيح، مستبقاً وصفه. إنه عبد الله المتألّم الذي اكتملت صورته وتحققت في العهد الجديد (أش7:53) وهو أيضاً الحمل الفصحي الذي يهيء للافخارستيا. هذه الرؤية تتخطّى المظاهر إلى أبعد. لإنها سرّ كالأسرار “كُتبَت بروح الله الحيّ، لا في ألواح من حجر” (2كور 14:3-16).

        وينتهي هذا الفصل بترتيل الملائكة والأحياء والشيوخ الذين عددهم يفوق الآلاف المؤلّفة. إنهم يصرخون بأعلى صوتهم: “الحمل المذبوح يحق له أن ينال القدرة والغنى والحكمة والجبروت والإكرام، له المجد والحمد!” (9:5-12).

2– اللوحة الثالثة: الكتاب الصغير المفتوح (رؤيا 10).

        هذا “الكتاب الصغير المفتوح” هو العهد الجديد بعد أن “تم” سرّ الله” (7:10). ” وحنى يسوع رأسه وأسلم الروح” للرسل والأنبياء (يو 30:19). “الكتاب المفتوح” فضّه الله الخالق “لابس السحابة” (1:10-4) في تجلّيه ليوحنا موحياً له: “خذ الكتاب المفتوح” … خذه وابتلعه فتجده مرّا في جوفك وحلواً كالعسل في فمك”. “فأخذت الكتاب الصغير المفتوح وابتلعته” (9-10).

        العهد الجديد لا يمكن أن نفهمه إلاّ بالابتلاع” والتأمل والهذيذ الروحي المستطيل، بالرغم من صعوبته ومتطلّباته الفعّالة القاسية. إنه في الوقت ذاته كلامٌ جذاب، صوت الله في أعماقنا، مذاقه عذب، يغذّي كالخبز اليومي ويقوّي ويتطلّب منّا الكثير.

وما هي الغاية من هذا التذوّق “للمنّ الخفي”… الذي لا يعرفه إلاّ الآخذ” (17:2). إنه الشرط الأساسي لإمكانية التكلّم عن الله واكتناه عذوبته، وبالتالي التنبوء عنه: “فقيل لي: يجب أن تتنبأ ثانية على كثير من الشعوب والأمم والألسنة والملوك” (11:10).

        هذه النبؤة هي جوهر الشهادة كما قال المسيح للتلاميذ بعد القيامة: “وأنتم شهود على ذلك”  (لو 48:24). و”أنا معكم (عمانوئيل) طوال الأيام، إلى انقضاء الدهر” (متى 20:28).

        هكذا دعا الله حزقيال ليكون نبياً: “افتح فَمَك وكُل ما أُعطيك”… “جميع الكلام الذي أكلّمك به احفظه في قلبك واسمعه بأذنيك. واذهب إلى المسبيّين وقل لهم كلام السيّد الرب” ) حز 8:2 ؛ 3:3-11).

ونحن نأكلُ الكتاب لكي يتحوّل فينا إلى رؤيا. والمسيح هو “الألف والياء” والروح المُحيي، يكتُبُ فينا ومعنا “تاريخاً مُستقيماً” على خطوطنا الملتوية.

4– اللوحة الرابعة: السماء المفتوحة على كلمة الله (11:19-21).

        “انفتحت السماء” كما “انفتح هيكل الله” (19:11). وتجلّى المسيح بشكل فارس “يدعى الأمين العادل والصادق” ويحارب بالعدل. إنه يركب “فرساً بيضاء” رمزاً للغلبة بالمجد والقيامة. “عيناه كلهيب نار” كالعليقة المشتعلة “وعلى رأسه تيجان كثيرة” لأنه “ملك الملوك وربّ الأرباب” (16:19) واسمه سرّ الأسرار “لا يعرفه أحدٌ سواه”. لأنّه خاض تجربة الصليب بفائق حبّه: إنّه “يلبس قميصاً مغموساً بالدم”. و”حبّه حتى الغاية” يتجاهله الكثيرون ويعرضون عنه.

        هذا الفارس المنتصر يُدعى “كلمة الله”. إنه تجسيد للكلمة “إن كلمة الله كلمة حيّة فاعلة، وهي أمضى من كل سيف له حدّان، تنفذ في الأعماق إلى ما بين النفس والروح والمفاصل ومِخاخ العظام… فما من خليقة تخفى على الله بل كل شيء عارٍ مكشوف لعينيه وله نؤدّي الحساب” (12:4-13). هذا الحساب هو الدينونة العادلة التي يقوم بها “الراكب على الفرس الأبيض” وبالتالي الحرب على الأشرار. في هذه الحرب “كانت تتبعه على خيلٍ بيض جنود السماء لابسين كتاناً أبيض نقياً” هؤلاء الجنود يشاركون ببياضهم أي بقيامتهم الملك القائد.

        وأداة الحرب هي “سيفٌ مسنون يخرج من فمه ليضرب به الأمم”. “فيرعاهم بعصاً من حديد” أي كلمة الحق والعدل. “هذا السيف المسنون الحدّين”، الطالع من فم “ما يشبه ابن الإنسان” رأيناه في تجلّي المسيح، في بداية الرؤيا (16:1), وهو أشبه “بالمنجل المسنون” بيد “مثل ابن إنسان” في يوم الحصاد والقطاف أي الدينونة (14:14). هذه الدينونة عدلٌ لا اقتصاص لأن “العصا من حديد” هي أيضاً رعاية أبوّة ورحمة. إنه عصاً مقرونة بالمحبة والحنان على ما يقول الرب: “أنا أوبّخ وأؤدّب مَن أُحب” (19:3).

        في هذه الحرب والصراع الدائر في الرؤيا، بين “التنين العظيم” و”المرأة” المتوجعّة، الهاربة إلى البرية، ينتصر “الذين غلبوا (التنين) بدم الحمل وبشهادتهم له، وما أحبّوا حياتهم حتى في وجه الموت” (11:12). منتصر واحد في الرؤيا يتبعه الشهداء والشهود والمؤمنون بكلمته، “الذين عندهم شهادة يسوع”. والشهادة تقتضي “السجود لله. لأن شهادة يسوع هي روح النبؤة” (10:19).

        وسيفنا نحن هو “ترس إيماننا”، الذي “به تقدرون”، يقول بولس الرسول، أن تطفئوا جميع سهام الشرير المشتعلة. فالبسوا خوذة الخلاص وتقلدوا سيف الروح الذي هو كلام الله”. (أف 16:6-17).

        ومع “الجمهور الكبير”، نقول (أربع مرّات): “هللّويا”، لأنّ أحكام إلهنا حقٌ وعدلٌ”. “هذه هي أقوال الله الصادقة” (1:19-2 و9).

5– اللوحة الخامسة: “الروح والعروس يقولان تعال!” (رؤيا 17:22).

        نهاية الرؤيا بدء العهد الثالث بعد قيامة المسيح. إنه “قولٌ” سُلّم إلى الروح بالمشاركة مع الخطيبة والعروس- الكنيسة، وإلى كل مؤمن ونبي وشاهد. الرؤيا إيمان ورجاء بمستقبل واعد بالرغم من المضايقات والاضطهاد. فالقول الذي سلّم للعالم لن ينتهي بل “من بداية إلى بداية ينمو إلى منتهى البدايات كلّها”. إن القديس غريغوريوس الكبير أكّد في القرن السادس، “أن كلمة الله تكبر وتتكاثر مع الذي يقرأها ويفعّلها”.

        أبعد من الكتاب والكتابة، وأوامر الروح المتكرّرة ليوحنا: “إكتب ما تراه في كتاب” (9:1) وإلى الكنائس السبع (2-3)، يسلّم “القول” الشفهي والسرّي إلى الروح القدس والخطيبة العروس.

هذه الرؤيا الأخيرة تختصر بصورة الروح كل صور الله والمسيح، الخادم – الحمل والراعي وابن الإنسان. وكذلك الكنيسة العروس والحبيبة والمرأة، والمدينة والهيكل والشعب، بشخص العروس. إنها مدينة السلام أورشليم السماوية “النازلة من السماء”، “مسكن الله والناس: يسكن معهم (عمانوئيل)”. وهي أورشليم الجيديدة “العروس امرأة الحمل” “والحمل هو مصباحها”، “فتمشي الأمم في نورها”. فيها “عرش الله والحمل، فيسجد له عباده ويشاهدون وجهه، ويكون اسمه على جباههم”. إنها في الوقت ذاته إمرأة ومدينة ووطن.

        ولقاء الروح والعروس عرسٌ أبدي، وعرسٌ يحوُل الماء خمراً” كما في عرس قانا الجليل بين يسوع ومريم. إنه تكرارٌ للقاء الله مع البشر كحقيقة اكتملت، ولكنّها لم تكتمل بعد. فالروح والعروس لا يفتآن يقولان: “تعالَ!”، في صرخة توق ورجاء، انتظاراً “للآتي”. ومن صلاتهما التشفّعية تولد الكلمة والخليقة الجديدة. وهذه الكلمة الخالقة والخلاّقة هي سفر تكوين لا ينتهي، على الرجاء، كذكلك الذي تكلّم عنه بولس (رو 23:11 و 26). وهذا الخلق مرتبط “بالسماع”، بالاستيعاب “والحفظ في القلب” والكرازة والترنيم في الليتورجيا عامة وفي القدّاس، على الأخصّ حيث نشارك خبز الكلمة وخبز جسد المسيح. وهذا الخلق مرتبطٌ أيضاً بالعطش، عطش المسيح على الصليب، وعطش “الآتي” والمرتقب قدومه: “مَن كان عطشانَ فليأتِ”. وهو مرتبط بالإرادة والاختيار: “مَن شاء فليأخذ ماء الحياة مجّاناً”. هذا الماء الحيّ أعطاه الرب للسامرية (يو 10:4 و14) وهو “يفيض أنهاراً في صدر مَن آمن” (يو 38:7). وهذا العطاء ممّن هو “الألف والياء، البداية والنهاية” هو عطاء من “ينبوع ماء الحياة مجّاناً” (رؤ 6:21).

والمجانية هي صفة الله. مجاناً يفيض نعمه على الجياع والعطاش إلى البرّ”(مت 6:5) وعلى “الذي يأخذ مجاناً يعطي مجاناً”(مت 8:10).     فالمجانية عدوى. يفتخر بولس بأنه “بشّر بالإنجيل مجّاناً”. (2كور 7:1). وكلّ العطايا التي يغدقها الرب على أورشليم السماوية – الكنيسة هي “مجانية”: تجديدها، نزولها من السماء، إرث الغالب فيها وبنوّته للآب (6:21-7)، مكافآت الربّ للتوّاقين، وللكنيسة المعذّبة، والمسيحيين المضطهدين فيها. “فإنه بذلك يضع إكليلاً على عطاياه”: (أغوسطينوس). لأنّ العذابات والصلبان التي يتقبلّها المؤمن هي نعمة من الله. ناهيك عمّا غمر بها “المدينة المقدّسة” من مواهب بصور متعددة (رؤ 21). هذه النعم هي أشبه بنهر “الحياة” المحيي والمخصب”. على هذا العطاء الإلهي، يجاوب أهل “الأرض” بخياراتهم وثباتهم وغلبتهم. وعلى الأخصّ بصراخهم دون هوادة “تعال!”. هذه هي كلمتهم المستدامة. تنساب كالسلسال. إنها كلمة النعمة.

        إن قول الروح والعروس ليس كلمة متحف في كتاب مغلَق، مع أن الرؤيا حصّنت نواته الأساسية” من زيادة حرف” و”حذف حرف” (18:22) لكنّ الشهادة والنبؤة والقراءة المصلّية تخرق الحواجز. هذه “الأقوال النبوية” في رؤيا يوحنا، كتاب الكتب، بالرغم من تحديدها بأطُر، تتحوّل إلى حوار لا ينقطع بين شهادة “الاتي” والذي يدعوه للمجيء. فيجيب على نداء الإلحاح حتى الإحراج “تعال!” قائلاً: “نعم، ها أنا آتٍ سريعاً!”. ويلهف نحوه كل مشاركٍ – فاعل: “آمين. تعال أيّها الرب يسوع” (مارانا تا). هذه الكلمة الآرامية هي بدون ترجمة في الديداكه (بدء القرن الثاني) وفي رسالة بولس (1كور 26:11). إنها تشهد لرجائنا الكبير في الكنيسة الأولى وفي ليتورجيتنا الارامية – السريانية التي اخترقت الأجيال: “مارانا تا: يا ربّنا تعال” (1كور 22:16) وأصبحت بالتالي من الكتاب المقدّس. (رؤ 20:22-21).

        وتنتهي رؤيا الانتظار والاستعجال والتّشفع بين الدعاء: “تعال!” وجواب الرحمة والحياة “نعم”. هذا الاستعجال في بداية الرؤيا(1:1) وصولاً إلى نهايتها (20:22) يمرّ في كل الكتاب، إنتظاراً لحدث وشيك ومداهِم أكان أزمة أو فرجاً. فهو لا يقاس بزمن. إنه مجيء الرب أو احتجابه عن المجيء.

        وهو في آخر آيةٍ في الرؤيا فيض نعمة “فلتكن نعمة الرب يسوع معكم أجمعين” وهي ابتهالٌ ختامي كما في الرسائل الرسولية. إنها تختصر الجوهر في الكتاب، وكأن غايته الأهم اكتشاف فحوى كلمة الله والدخول في سرّها ومضغها حتى تصبح لحماً ودماً “وقولاً” في الخفاء وفي العلن يعبر بالقارىء والمصلّي إلى عهد ثالث من الكتاب المقدّس، فيه يَكتب “أعمال رسل” جديدة مع الدعاء “بنعمة الرب يسوع الموعودة معنا أجمعين”. في رؤيا يوحنا نحن دائماً على “عتبة” الكتاب المقدّس لا ننتهي من قراءته وفهمه وحفظه واستساغته في نقاطٍ أربع اختصرها شارل مالك: “قِف، إصغِ، واحفظ، واشهد”. إن كلمة الله هي قدرة حياة وقوة رجاء. تفتح آذان التلاميذ لكي “يفهموا الكتُب المقدّسة” (لو 45:24).

والرؤيا لا تفتأ أن تذكّر بمحورية الكتاب وفتحه وأهلية مَن يفتحه. “أكتب” أي اترك “أثاراً” لمن بعدك لمتابعة القراءة والفهم والحياة. فالكلمة تتوالى من الكتاب المغلق ثم المفتوح إلى “الإنجيل الأبدي” (6:14) والكلمة المتجسّد المائت والقائم “واسمه كلمة الله”. يُذكر الكتاب المقدّس أربع مرات في آخر الرؤى (18:22-19) وتُختصر مواعيده للذي “يحفظ” هذا الكتاب بأن يكون له “نصيبٌ من شجرة الحياة ومن المدينة المقدّسة”.

هذا النصيب يرافق “حوار الروح والعروس”. إنه حوار عرسي معه تنمو الكلمة وتزداد عمقاً وتجانساً مع لغة العصر، وبالتالي تألقاً وأبداعاً. هذه الأقوال تصبح نبوية بقدر ما تؤوّلها وتشخصنُها وتروحنها خبرة الأفراد والجماعة، فالمهم هو المثابرة على “فتح الكتاب” بنعمة “الحمل الذبيح والقائم” والثبات في التأمّل فيه، والدخول في سرّه. تجاه المآسي، وحده “صبر القديسين” (12:14) هو تحقيق الرجاء  “بزرع” كلمة الله في القلوب “والإيمان بيسوع”. فالمستقبل يبتدىء منذ الآن بالرغمِ من كل الخطايا والمظالم. “تعالَ أيّها الربّ يسوع”.

                                                                        في 17 أيار 2012    

BIBLIOGRAPHIE

ACFEB. 1988. Apocalypse et théologie de l’Espérance. LD 95. Cerf.

Balthasar, H.U.von. 2000. L’Apocalypse. Le Pain de la Parole. Ed. du Serviteur.

Comblin, J. 1965. Le Christ dans l’Apocalypse. Tournai.

Delebecque, Edouard. 1992. L’Apocalypse de Jean. Mame.

Hélou, Clémence. 1997. Apocalypse de Jésus-Christ. Paris : Cariscript.

Lambrecht, J. 1980. L’Apocalypse johannique et L’Apocalyptique dans le Nouveau Testament (Betl, LIII). Gembloux-Leuven.

Mollat, Donatien. 1982. Une lecture pour aujourd’hui, L’Apocalypse. Coll. Lire la Bible. Cerf.

Prigent, Pierre. 1971. La liturgie dans l’Apocalypse. dans Cahiers Evangile, 11. Cerf.

Prigent, Pierre. 1981. L’Apocalypse de saint Jean. Delachaux & Niestlé.

Vanni, Ugo. 1998. Linguaggio, “Simboli et esperienza mistica nel libro dell Apocallisse”. dans Gregorianum. Roma. 7/9.


[1] الأخت كليمنص حلو، راهبة أنطونية، حائزة على دكتورا بالفلسفة وأخرى بتاريخ الأديان- ؤالإناسة الفلسفية (أنتروبولوجيا) من السوربون وهذه الأخيرة مقرونة بدكتورا بالعلم اللاهوتي من المعهد الكاثوليكي العالي في باريس.

أستاذة في جامعتي الكسليك والأنطونية.

شاركت في ندوات وألقت محاضرات في عدة مواضيع.

لها مؤلفات ومنها: بالفرنسية “الرمز واللغة في صراع النور والظلمة”، قدّم له الفيلسوف بول ريكور، و”رؤيا يسوع المسيح” ليوحنا، بين السيف والكلمة، قدّم له الفيلسوف ستانسلاس بروتون. ولقد صدر لها حديثاً:”ذكرى ووعد” باللغتين الفرنسية والعربية مترجماً إلى الإنكليزية.

Scroll to Top