Almanara Magazine

كيف قرأ الموارنة الكتب المقدّسة

الأباتي الياس خليفة[1]

مقدّمة

          يولد الإيمان المسيحيّ في الإنسان من سماع كلمة الله المُعلنة في الجماعة المسيحيّة: “الإيمان هو من السماع، والسماع هو من التبشير بكلمة المسيح” (رو 10: 17). نستنتج من كلام القدّيس بولس هذا أنّ عمل الجماعة المسيحيّة الأوّل هو إعلان كلمة الله أي حدث يسوع المسيح الخلاصيّ الذي هو موضوع الإيمان المسيحيّ. هذا بالفعل ما حدث في الجماعة المسيحيّة الأولى التي تكوّنت في أورشليم حول الرسل يوم العنصرة عندما أعلن القدّيس بطرس حدث يسوع المسيح الخلاصيّ الذي حقّقه الله الآب في يسوع المسيح بقوّة الروح القدس (راجع أع 2: 22-36). ولمّا سمع المجتمعون إعلان القدّيس بطرس “نفذ هذا الكلام إلى قلوبهم. فقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نعمل أيّها الرجال الإخوة؟ فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كلّ واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس… فقبلوا كلامه واعتمدوا، وانضمّ في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس” (أع 2: 37-41).

          على مثال الكنيسة الأولى في أورشليم تتابع الكنيسة عبر الأجيال إعلان حدث يسوع المسيح الخلاصيّ من خلال شهادات الرسل عن هذا الحدث المدوّنة في الكتب المقدّسة لتبعث الإيمان في قلوب السامعين. لهذا نرى أنّ كلّ مرّة تحتفل الكنيسة بهذا الحدث في أوجهه المتعدّدة، يتمحور احتفالها حول قراءة نصوص من الكتب المقدّسة تشير إليه. إنّ هذه القراءة العلنيّة لكلمة الله المدوّنة في الكتب المقدّسة في الإحتفالات الليتورجيّة هي مصدر الإيمان لأنّها تأوّن ما تعلنه الجماعة المؤمنة. أمّا القراءة الشخصيّة لكلمة الله فتعمّق الإيمان إذا كانت قراءة مصلّية ومتأمّلة وتكسب معرفة علميّة لنصّ الكتب المقدّسة إذا كانت قراءة نقديّة مستندة على قواعد علم التفسير التي تحدّدها المدارس التفسيريّة المتعدّدة.

          على ضوء ذلك، يمكنّا القول بأنّ الموارنة قد قرأوا الكتب المقدّسة على مدار السنة في احتفالاتهم الليتورجيّة كما مارسوا القراءة المصلّية والمتأمّلة في الأناشيد التي كانوا يردّدونها في صلوات الساعات وفي الأوساط الرهبانيّة. أمّا القراءة النقديّة لهذه الكتب فلم يصلنا منها شيء ونشكّ في أنّهم قد مارسوها لا سيّما وأنّ هذه القراءة كانت تتمّ في المدارس التي لم يكن لها وجود عندهم إلاّ في العهود الحديثة. لهذا فإنّنا نقتصر في كلامنا على النوعين الأوّلين من قراءتهم للكتب المقدّسة أي في الإعلان الليتورجي وفي الأوساط الرهبانيّة.

قراءة الكتب المقدّسة على مدار السنة الطقسيّة

          عملاً بقول القدّيس بولس (رو 10: 17) وتماشيًا مع الكنيسة الرسوليّة (أع 2: 22-41)، إعتبرت الكنيسة المارونيّة أنّ عليها أن تعلن كلمة الله بالصوت الجهوريّ في احتفالاتها الليتورجيّة لكي تستحضرها بقوّة الروح القدس وتجعلها فعّالة في قلوب المؤمنين الذين يحتفلون بأعمال الربّ يسوع الخلاصيّة على مدار السنة الطقسيّة.

          تقرأ أوّلاً من كتب العهد القديم النصوص التي ترمز إلى الحدث الخلاصيّ الذي تستذكره ثمّ تقرأ من كتب العهد الجديد النصوص التي تدلّ عليه وتظهره محقّقًا بالربّ يسوع وبكنيسته. لقد جمعت هذه القراءات في كتاب سُمِّي “ريش قريان” أي “رؤوس القراءات” في مرحلة أولى عندما كان مجرّد دليل إلى النصوص يسهّل الوصول إليها ضمن مجلّدات الكتب المقدّسة، ثمّ سُمِّي “فورش قريان” أي “قراءات مختارة” عندما كُتِبت هذه القراءات لوحدها في مجلّد واحد. لدينا نسختان عن هذه المجموعة: الأولى نجدها في مخطوط جامعة سلمنكا في إسبانيا نُسِخ سنة 1242 وقد درسه ونشره الأباتي يوحنّا تابت سنة 1988 في منشورات قسم الليتورجيا في جامعة الروح القدس عدد 9 والثانية نجدها مطبوعة في مطبعة قزحيّا سنة 1841 وقد أعادت نشرها مع مقدّمة علميّة الأخت مرسال هدايا سنة 2007 في المنشورات عينها تحت رقم 38.

          يحتوي هذا الكتاب حسب طبعة قزحيّا على 719 قراءة من العهد القديم ما عدا سفر المزامير التي كانت تُقرأ أو تُنشد كلّ يوم وفي أكثر من مناسبة، كما يحتوي على 344 قراءة من العهد الجديد ما عدا الأناجيل الأربعة التي كانت تُدرج في كتاب خاصّ وتُقرأ كلّ يوم على مدار السنة وفي أكثر من مناسبة.

          إذا تفحّصنا هذه النصوص من العهدين كما جاءت في طبعة قزحيّا تظهر لنا بعض خصائص قراءة الكتب المقدّسة في الكنيسة المارونيّة:

أوّلاً: إنّ هذه القراءة تشمل تقريبًا كلّ الكتب المقدّسة من العهد القديم (ما عدا سفر نشيد الأناشيد وسفر الجامعة وعوبديا ونحوم وحبقوق) ومن العهد الجديد. كان الموارنة إذًا يسمعون قراءة سائر الكتب العهدين على مدار كلّ سنة ويتأمّلون بها في أناشيد تردّد هذه النصوص وتفسّرها في نوع من هذيذ روحانيّ في تعابير وألفاظ متشابهة وفي ألحان بسيطة ورشيقة تُشغل الذهن وتملأ القلب وتوحّدهما في الله.

ثانيًا: إنّ توزيع هذه القراءات يشكّل في حدّ ذاته عملاً تفسيريًّا يظهر العلاقة بين العهدين على أساس أنّ العهد القديم يهيّئ في كلامه وأحداثه مجيء الربّ يسوع وأنّ العهد الجديد يحقّق في شخص يسوع المسيح ما جاء في العهد القديم. من يدخل في تفاصيل هذه التفاسير يكتشف معاني متعدّدة تمكّنه من معرفة البناء اللاهوتيّ الذي كوّنه الموارنة حول هذه النصوص الكتابيّة.

ثالثًا: إذا نظرنا إلى هذه القراءات من حيث كمّيّتها وتوزيعها في المناسبات الليتورجيّة، نرى أنّ الموارنة كانوا يقرأون الكتب على مدار السنة وخلال حوالي 200 مناسبة ليتورجيّة يقرأون فيها ستّ قراءات ثلاث من العهد القديم وثلاث من العهد الجديد وهذا يصل بنا إلى حوالي 1200 نصّ إذا اعتبرنا أنّ بعض هذه النصوص تُعاد قراءتها في أكثر من مناسبة لا سيّما بين الأعياد القمريّة والأعياد الشمسيّة. إذا احتسبنا أنّ المارونيّ يسمع قراءة هذه النصوص على مدى 25 سنة من حياته يمكنّا أن نقيّم معرفته للكتب المقدّسة وتشبّعه من معانيها.

          ربّما إنّ هذا الواقع قد دفع بالبطريرك يوسف حبيش (1823-1845) إلى أن يأمر الرهبان اللبنانيّين بنشر هذا الكتاب سنة 1841 في مطبعة دير قزحيّا كردّ على المرسلين الإصلاحيّين (البروتستانت) الذين ادّعوا عند مجيئهم إلى المشرق بأنّ المسيحيّين الشرقيّين، لا سيّما الموارنة منهم، لا يقرأون الكتب المقدّسة لهذا فإنّهم يجهلون حقيقة الإيمان المسيحيّ وقد أتوا هم ليعلّموهم ما يجهلون. وقد شنّ البطريرك المذكور حربًا شعواء ضدّهم (راجع الأباتي بولس نعمان، البطريرك يوسف حبيش وموقفه من الكتابيّين (البيبليشيّين)، “في الذكرى المئويّة الثانية لولادة البطريرك يوسف حبيش سنة 1787” سنة 1992، جامعة الروح القدس الكسليك). وبأنّ البطريرك يردّ عليهم بنشر هذا الكتاب قائلاً: من منكم ومن أتباعكم يقرأ الكتب المقدّسة كلّ سنة كما يفعل الموارنة.

قراءة الكتب المقدّسة عند الرهبان الموارنة

          من الثابت تاريخيًّا أن الموارنة متأثّرين إلى حدّ بعيد بالروحانيّة الرهبانيّة من جرّاء كثرة الرهبان والنسّاك في بلادهم. لقد تكوّنت معظم قراهم حول الأديار وقد كان معظم بطاركتهم وأساقفتهم من الرهبان والنسّاك. كانت أجراس الأديار تزرع نهارهم وليلهم مواعيد لقاء مع الله تذكّرهم بما عمله الله لأجل خلاصهم بتجسّد إبنه الوحيد يسوع المسيح وموته وقيامته. غالبًا ما كانوا يشتركون مع الرهبان في صلواتهم لا سيّما في الصبح وفي المساء. يمكنّا بكلّ تأكيد أن نقول أنّ الرهبان والنسّاك كانوا معلّمين الشعب الماروني ومرشديهم.

          كان الرهبان، علاوةً على سماعهم القراءات الليتورجيّة في مناسباتها، يكرّسون وقتًا من يومهم لقراءة متأمّلة للكتب المقدّسة. إنّ جميع القوانين الرهبانيّة التي وصلت إلينا، لا سيّما في العالم الإنطاكيّ السريانيّ، تلحظ أوقاتًا لقراءة الكتب المقدّسة. هذا ما يسمّيه المطران عبدالله قرعلي مُجدِّد الحياة الرهبانيّة عند الموارنة: “الهذيذ بأقوال الأنبياء والرسل القدّيسين” (المصباح الرهبانيّ في شرح القانون اللبنانيّ ص 299).

          كان على كلّ راهب، في مرحلة الإبتداء، أن يتعلّم قراءة سفر المزامير ليستطيع أن يتلوها كلّ يوم موزّعة على فرض الساعات السبع اليوميّة (راجع في هذا الموضوع الأباتي يوحنّا تابت، كتاب المزامير في الطقس الماروني، منشورات قسم الليتورجيا في جامعة الروح القدس عدد 14، الكسليك 1991). ممّا لا شكّ فيه أنّ جميع النسّاك الموارنة كانوا يتلون الماية والخمسين مزمور كلّ يوم كما كانوا يقرأون أيضًا “من أقوال الأنبياء والرسل القدّيسين”.

          لكي نكوّن فكرة عن الطريقة التي كان يتبعها الرهبان السريان، لا سيّما الموارنة منهم، في قراءة الكتب المقدّسة، نورد ما رسم المعلّم يوسف بوسنايا (+ 979) لتلميذه عندما يدخل الصومعة ليعيش فيها متوحّدًا: “واظب على قراءة العهد الجديد منذ الصباح حتّى الساعة الثالثة (أي التاسعة من النهار) لتطّلع على أعمال ربّنا المتجسّد، وعلى محبّة الله لنا ونعمه الفائقة الوصف التي أغدقها علينا في نهاية الأزمنة. قدّم أوّلاً أمام الإنجيل له السجود عشر سجدات (مطانيات) منتظمة… وأسأل الله أن تركّز أفكارك من الطياشة بما حولك. وأسأل الله متضرّعًا لينير عيون عقلك وقوى نفسك لتفهم القوّة الخفيّة في أقوال ربّنا ورسله القدّيسين، ولترى وتعرف الأسرار الخفيّة فيها التي تراها عيون النفس التي تطهّرت وتنقّت من درن الخطيئة…

          إقرأ في الإنجيل ثلاثة فصول وأنت واقف على رجليك، وفصلين في أعمال الرسل وثلاثة فصول في الرسائل. وفي وسط كلّ قراءة إعمل عشر سجدات. وبعدما تنتهي من قراءة العهد الجديد إعمل عشر سجدات حارّة وركعة ترافقها صلوات خاصّة بها وهي للشكر على أنّ المسيح أهّلك لتقرأ وتهذّ في الأسرار الخفيّة منذ الأزل…

          وعندما تنتهي من صلاة الساعة السادسة (أي الظهر)، عد إلى القراءة إلى حين الساعة التاسعة (الثالثة بعد الظهر). واعلم يا بنيّ أنّك حينما تكون قائمًا في الصلاة فأنتَ تُكلّم الله وتناجيه. وحينما تقرأ في الكتب المقدّسة فالله يكلّمك ويعلّمك، بواسطة المداد والورق، التعاليم الملائمة للحياة. وفي كلتا الحالتين يقتضي لنا إنتباه كثير، سواء حين يكلّمنا الله، أو حين نتكلّم نحن معه… ” (راجع تاريخ يوسف بوسنايا، تعليم تلميذه يوحنّا بن كلدون، ترجمه وعلّق عليه القسّ يوحنّا جولاغ، بغداد 1984، ص 159-161).

          لقد سمّى الرهبان السريان هذه القراءة المصلّية للكتب المقدّسة “هذيذًا” وهو إنشغال الفكر في كلام الله بواسطة الترداد المتواصل حتّى ينفذ إلى أعماق النفس. يقول القدّيس إسحاق السريانيّ (أواخر القرن السابع): “أثبت في الصلاة والكتاب في يديك لكي تمتزج القراءة مع الصلاة فتحلو (؟؟؟) لك الصلاة لأجل القراءة” وهذا ما يقوله المطران عبدالله قرعلي في كتابه المذكور عندما يشرح ماذا يعني الهذيذ بالله (ص 298-299).

خاتمة

          كم نفتقد اليوم هذه المنهجيّة في قراءة الكتب المقدّسة إن في الليتورجيا وإن في الحياة الرهبانيّة لأنّنا خاضعون لسنّة السرعة في عمل كلّ شيء ولسنّة الإنتاج المادّيّ في كلّ ما نعمل. كم مؤمن مارونيّ يمكنه اليوم أن يسمع ستّ قراءات من الكتب المقدّسة في كلّ مناسبة ليتورجيّة وكم راهب مارونيّ يمكنه كلّ يوم الإنصراف إلى قراءة مصلّية ومتأمّلة لهذه الكتب بعيدًا عن ضوضاء هذا المجتمع ليجمع عقله بالله؟


[1] رئيس عام أسبق للرهبانية اللبنانية المارونية. أستاذ سابق للاهوت في جامعة الروح القدس ـ الكسليك، وعميد سابق لكلية اللاهوت الحبرية في جامعة الروح القدس ـ الكسليك، ومدير سابق لقسم الإيمان والوحدة في مجلس كنائس الشرق الأوسط، وله مقالات ودراسات ومحاضرات عديدة في التراث السرياني والمشرقي الرهباني

Scroll to Top